من الأخطاء الفادحة التي يقع فيها بعض السياسيين، النظر الى الأوضاع في العراق، كما يتمنون لا كما هي على ارض الواقع. وقد بدا ذلك جليا في الآونة الأخيرة، وعلى وجه التحديد، في الصراع الدائر بين مجموعة الحرامية، المتمثلة في مقتدى الصدر وحلفائه، وبين نوري المالكي واطاره التنسيقي. حيث تفاءلوا خيرا بالشعارات البراقة التي أطلقها مقتدى، حول حكومة الأغلبية والإصلاح ومحاربة الفساد وانهاء المحاصصة، والتدخلات الأجنبية، واعتبارها فرصة ذهبية لإنقاذ العراق من محنته. وعلى العراقيين ان لا يفرطوا بها، او على الأقل الوقوف امامها باهتمام بالغ. في حين نظر اليها عموم العراقيين، وهم على حق تماما، على انها شعارات مضللة تنطوي على كذب مفضوح، وتخفي وراءها حقيقة الصراع الذي يدور حول توزيع المناصب وتقسيم المكاسب ليس الا. او على حد تعبير هؤلاء الأشرار الدارج تقسيم الكعكة العراقية.
ان حقيقة الأوضاع التي تجري في العراق، هي عكس ما تبدو تماما. وهنا بيت القصيد ومربط الفرس. حيث تعاني عملية المحتل السياسية بعد ثورة تشرين، على الرغم من تراجعها، مأزقا خانقا، ليس من السهل الإفلات منه، كما كان يحدث في السابق. بل ان أمريكا الراعي الأول لتلك العملية المقيتة، بدأت تخشى ان يتعرض مشروعها لهزيمة منكرة، اشبه بتلك الهزيمة التي تلقتها في بلاد الأفغان على يد حركة طالبان. فمن جهة وصل متزعمو الأحزاب والكتل الحاكمة وميلشياتها المسلحة الى الدرك الأسفل من السقوط السياسي والأخلاقي والاجتماعي والديني. ومن جهة ثانية انفرط عقد ما يسمى بالدولة العراقية، الى درجة فقدت فيها القدرة على فرض سلطتها او هيبتها، على شبر واحد من ارض العراق، بما فيها المنطقة الخضراء. او الحد ولو قليلا من الفساد الذي شاع في ثناياها، او الحد من تحكم المليشيات المسلحة بمصيرها. يضاف الى ذلك انفلات الامن وانعدام الخدمات، وانتشار المخدرات وجرائم القتل والاختطاف. والقائمة بهذا الخصوص طويلة جدا. ناهيك عن ركوع هؤلاء الاشرار امام المرجعية الدينية، وبالذات المرجع الأعلى علي السيستاني، الذي يحمل الجنسية الإيرانية وابنه محمد رضا.
امام هذا المأزق الخانق شعرت أمريكا قبل غيرها، بان عمليتها السياسية بحاجة شديدة الى خطة جديدة لإنقاذها من السقوط. حيث عم الاستياء في جميع الأوساط العراقية وفئاته وطبقاته الاجتماعية، الى درجة بات ينذر بانتفاضة شاملة، يقودها ثوار تشرين وبأشكال نضالية متطورة، لا يستبعد ان يكون من بينها النضال المسلح. ويبدو ان أمريكا لم تجد سوى زج سلاحها السياسي في عملية الإنقاذ، للالتفاف على الثورة الموعودة، جراء فشل عملائها الأشرار، في انهاء الثورة عن طريق السلاح، وكان اخره سلاح مليشيات مقتدى، المسماة سرايا السلام، التي هي بالأصل مليشيا جيش المهدي، المعروف بقدرته على ارتكاب الجرائم بأبشع الطرق وأكثرها خسة ونذالة. خاصة وان هذا السلاح السياسي قد نجح في تقزيم المقاومة العراقية وهي في عز قوتها عام 2005. حيث تمكنت أمريكا من خلاله اقناع بعض فصائل المقاومة، بالمشاركة في الاستفتاء على الدستور وفي الانتخابات التشريعية، والمشاركة في العملية السياسية، لينتهي هذا السلاح بالنجاح الاهم. ونعني به تشكيل ما يسمى بالصحوات التي طعنت المقاومة في ظهرها وأدت بها الى التراجع والانحسار.
كان نصيب مقتدى من هذا السلاح حصة الأسد. حيث جرى التركيز عليه، ووصفه بالعراقي الأصيل، وابن الحسب والنسب، والعروبي الأول، والكاره الشديد للطائفية، الى جانب امتلاكه قوة شعبية، مقرونة بالإصرار على محاربة الفساد والفاسدين والخونة الذين باعوا العراق للأجنبي الى اخر هذه الترهات التي تدعو المرء للغثيان. ومن اجل ذلك لجات أمريكا، وبالتنسيق مع إيران الى تلوين سلاحها السياسي بعناصر من التشويق والاثارة. على امل اقناع العراقيين بالدخول في خانة مقتدى والانتظار مدة أربع سنوات أخرى، تتمكن أمريكا من خلالها ترميم العملية السياسية وحماية نظام المحاصصة الطائفية والفساد. ومن عناصر التشويق والاثارة. تضخيم الصراع الدائر بين هؤلاء الأشرار، واطالة امده من جهة، ومنحه صفة الوطنية والجدية من جهة اخرى، لخلق حالة من الجدل حول اهمية الصراع وما يفضي اليه من نتائج ايجابية. ولزيادة سقف التشويق والاثارة أدخلت أمريكا وإيران المحكمة الاتحادية في المشهد، باتخاذ قرارات مرة تنصر محور مقتدى ومرة خصمه نوري المالكي. ولم تكن المرجعية الدينية بعيدة عن الاشتراك في هذه المسرحية. حيث لعبت هي الأخرى دور النصير لجهة مقتدى والناصح الأمين لخصومه وهكذا.
دعونا نسترسل أكثر، فأمريكا، ولكي تقدم مقتدى الصدر على انه المنقذ، وليس من الفاسدين من أمثال نوري المالكي، لتسويقه بصور القادر على تخليص العراق من النفوذ الإيراني الذي أصبح ثقيلا على الشعب العراقي. فقد اتخذت من ابعاد ملالي طهران لمقتدى عن موقع المحظية الأولى لديهم، وتقريب نوري المالكي وحاشيته، اتخذته وسيلة لأقناع العراقيين بدعم مقتدى في مسعاه لتشكيل حكومة الأغلبية، التي سيكون من أبرز مهامها انهاء النفوذ الإيراني ونزع سلاح المليشيات الموالية، تحت شعار حكومة لا شرقية ولا غربية.
وفي هذا الإطار اعادت أمريكا انتاج مقولات جرى التخلي عنها، لضعفها وهشاشتها، امام التحليل السياسي الدقيق والمقنع، والمقصود هنا المقارنة بين الاحتلال الامريكي والاحتلال الايراني للعراق، ومن ثم تغليب الخطر الإيراني، وصولا الى مقولة عدو عدوي صديقي. اي التعاون مع المحتل الامريكي ومهادنته لأنهاء الاحتلال الإيراني، على امل الانقلاب على أمريكا لاحقا. وكأن الاحتلال الايراني قد تم اكتشافه هذه الايام، وليس كونه موجودا منذ احتلال بغداد، قبل أكثر من تسعة عشر عاما، وان من فسح المجال لإيران بهذا الامتداد داخل العراق، هي امريكا مقابل الخدمات التي قدمتها إيران لها لغزو العراق.
بالمقابل وعلى الجهة الأخرى، تمكن سلاح أمريكا السياسي من اقناع بعض من يدعون معاداة العملية السياسية، ويطالبون بأسقاطها في وسائل الاعلام المسموعة والمقروءة، وفي المحافل والمؤتمرات السياسية. حيث علت أصواتهم بدعوة ثوار تشرين والمؤيدين لها، لمنح مقتدى فرصة لتحقيق برنامجه الإصلاحي، باعتباره، كما يدعون زورا، شبيه بالمشروع الاصلاحي الذي حمله ثوار تشرين، وناضلوا من اجله وقدموا التضحيات الجسام في سبيل تحقيقه. وتناسى هؤلاء السياسيون جدا، بان سرايا السلام، سلاح مقتدى العسكري، كانت أحد الأطراف التي ساهمت بقتل ثوار تشرين، في ساحة التحرير والسنك في بغداد، والساحات الأخرى في المدن الجنوبية، خاصة في مدينة الناصرية عاصمة الثورة. بل ذهبوا ابعد من ذلك عبر حملتهم، لأقناع العراقيين ببراءة مقتدى من الفساد والسرقات، وتحميلها الى فاسد وحرامي واحد هو نوري المالكي.
ان هذا الخلط المتعمد للمفاهيم السياسية، لا يخدم سوى المحتل وعملائه في المنطقة الخضراء. ونقصد هنا الخلط بين ما يسمح به المفهوم السياسي من مساومات مشرفة، وتقديم تنازلات متبادلة بين القوى الوطنية، في ظل بلد مستقر وامن ومستقل. وبين مساومات مذلة تجري في ظل بلد محتل واحزاب طائفية وعرقية، وساحة تعج بالخونة والعملاء. هنا لا يجوز اطلاقا سلوك ذات النهج وفق المفهوم السياسي العام. وانما يتطلب التمسك بالثوابت الوطنية وعدم المساس بها او المساومة عليها. من قبيل رفض الصيغ السياسية والمبادرات الكاذبة ومحاربتها، والعمل على فضحها بكل الوسائل والسبل. بل رفض اقامة اية علاقة او اتصال او حديث مع أصحابها، او حتى القبول بالجلوس معهم. وبالتالي لابد من التأكيد على ان لا طريق امام العراقيين، سوى الالتفاف حول ثورة تشرين والسير معها حتى النهاية. الامر الذي يعزز سلامة الثورة ومسيرتها بالاتجاه الصحيح، ويحصنها ضد محاولات تقسيمها او الالتفاف عليها، وفي الوقت نفسه، يعزز مواقفها الوطنية والتمسك بمبادئ الثورة المشروعة من جهة، وعدم التفريط بدماء ثوارها من جهة أخرى.
صحيح ان العراقيين شعب له القدرة على التمييز ويصعب تضليله، وانه يدرك زيف وكذب المحتل ودجله، الا ان ذلك لا يعد حصانة كافية لحمايته من مكر المحتل وتأثير الته الإعلامية. خصوصا وان هذا الشعب الجريح قد اوهنت قواه الة الدمار والقتل، الامر الذي يتطلب من جميع الشرفاء ان يحصنوا الثورة وفي الوقت نفسه، فضح مقولات من قبيل ان مقتدى أصبح الخيار الأفضل. الى جانب التنبيه والتحذير من مكائد المحتل الأمريكي ووصيفه الإيراني، واعتبار ذلك مهمة وطنية لا تقبل التأجيل.
قلقنا هو غدر الزمن، فهو كالسيف القاطع، إذا لم نقطعه قطعنا لا محال.
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.