اقليم كردستان ينعم بسلطة شبه مستقلة، ويتمتع بفيدرالية نادرة في منطقة الشرق الاوسط، ويتميز باعتراف قانوني مثبت في الدستور الدائم للعراق، وهيكل نظام الحكم شبيه ببنيان اي دولة حيث يتركب من سلطة تشريعية ممثلة ببرلمان كردستان وسلطة تنفيذية ممثلة بالرئاسة والحكومة وسلطة قضائية، وهذا الواقع ترسخ منذ سنة اثنين وتسعين بالرغم من الصراعات الداخلية والحرب الاهلية التي جرت بين مسعود البرزاني وجلال الطالباني في الاقليم، ولكن مع هذا حصل اعتراف قانوني بالكيان الكردي بحكم الامر الواقع من قبل العهد الجديد بالعراق بعد سقوط نظام البعث البائد سنة الفين وثلاثة، وثم حددت ميزانية للاقليم حسب نسبة مخصصة من الميزانية السنوية العامة وتواصلت، ولكن تعرضت للقطع قبل سنوات في ولاية نوري المالكي بحجة اقدام اربيل على بيع نفطها تحت مظلة الاستقلال الاقتصادي، ونتيجة لذلك وقع شعب الاقليم تحت وطأة ازمات اقتصادية ومالية حادة بسبب النهج اللاعقلاني وسياسة الفساد والنهب التي اتبعتها السلطة الحاكمة، ولكن مع هذا بقي ارتباط المواطنين بنظام البطاقة التموينية للحكومة الاتحادية، وهذا العامل ساعد على تخفيف اعباء الازمات الحياتية والمعيشية المفروضة على السكان المدنيين بالاقليم.
واليوم وتزامنا مع دعوة الاستفتاء تقوم سلطة الاقليم باتهام الحكومة الاتحادية والتحالف الوطني الحاكم للاحزاب الشيعية باختراق اكثر من خمسين مادة دستورية، والغاء الشراكة بين المكونات الرئيسية بين الشيعة والسنة والكرد في العملية السياسية، وبالمقابل بغداد ترفض الاستفتاء وتتهم اربيل باختراقات دستورية وسيادية، ولكن مع هذا لم تقطع العلاقات وبقيت بين المد والجزر، والوقائع تقول ان السيف البتار الذي خرب الأوصال هو شهوة الفساد والنهب لسلطة الكيان الفيدرالي للانفراد بالنفط والاستيلاء على مواردها المالية عن طريق تسويقه عبر الانبوب التركي وعبر الصهاريج المتنقلة بعشرات الالوف بين شمال العراق وايران وتركيا، وتحت مظلة مافيات حكومية ورئاسية وحزبية وشخصية وعائلية واقليمية، وفي ظل قرصنة كاملة بعيدة عن رقابة برلمان كردستان وعن الحسابات الحكومية العامة، والاحزاب الكردية اقرت ان ملف النفط والطاقة عبارة عن عملية سرقة عملاقة تجري من قبل مافيا رسمية وبوضح النهار وظلام الليل، ولا صوت ولا قدرة لطرف للوقوف بوجه هذا المارد من الحزبين الحاكمين والمسيطر على كل مفاصل اقليم كردستان.
وكما هو معلوم منذ سنة الانتفاضة وطوال فترة ما بعد سقوط نظام صدام يسيطر البرزاني وعائلته وحزبه على الرئاسة والحكومة والسلطة بالتنسيق والشراكة مع الطالباني وحزبه وعائلته، وطوال هذين العقدين تمت أدارة الحكم وفق اهواء مزاجية شخصية وحزبية وعائلية بعيدة عن الخطط والبرامج والنهج الوطني، وكذلك خلال هذه الفترة لم تقام اية بنية تحتية للقطاعات الأساسية الضرورية لادامة حياة الناس مثل الزراعة والصناعة والموارد المائية وغيرها.
في ظل هذه الظروف السائدة والخالية من المقومات المستقبلية، يدق السيد مسعود البرزاني بمطرقة الاستفتاء والاستقلال على رؤوس كرد الاقليم بشعارات براقة، والدعوة تزرع الشكوك فيها لانها تبغي الى امرار ملفات شخصية وحزبية واقليمية تركية، وذلك لتحقيق مصالح خاصة لأنقرة مع ضمان تواصل الحكم الحالي على مدى سنوات وعقود قادمة، وذلك عن طريق استغلال نتائج التصويت والتحجج بالحاجة للابقاء على دور وقيادة البرزاني لاجتياز مرحلة الاعلان عن الدولة الكردية المزعومة.
ولهذا الغرض تقام حملة دعائية مغرضة لخداع الشعب وتشويه الحقائق، وذلك من خلال رهان البرزاني على تحمل المسؤولية الكاملة في حال فشل العملية، وهذا يعني ان الاصرار على اجراء الاستفتاء نابع من خيار المغامرة، وهذا فعل خطير وبعيد عن المنطق والعقل السليم، وكل ما يستند اليه في خيار المجازفة هو فقط قبول تركي ودعم اسرائيلي حسب تقارير صحفية، والاول معلوم انه مبني على المنفعة السخية المتوفرة لانقرة من النفط الكردي لادامة نظام حكم اردوغان، والثاني متعلق بالمصالح العسكرية والامنية والاستخباراتية لتل ابيب في المنطقة.
والواضح للعيان ان المطرقة المرفوعة تسري في ظل تشتت البيت الكردي وعدم توحد القرار السياسي، حيث تنقل وكالات ان الحزب الديمقراطي منقسم الى جبهتين الأولى تضم البرزاني ونجله مسرور واخرين وهذه تقف وراء الاستفتاء للخروج تماما من الدولة العراقية، فيما ترى الثانية التي تضم نيجيرفان وآخرين أن البقاء ضمن العراق الموحد أفضل، وأن يكون الاستقلال اقتصاديا فقط، وعلى أن يتم التفاهم مع حكومة العبادي لاحقا بشأن المشاكل العالقة، ويعزز هذا التوجه ملاحظة عزوف نيجيرفان عن القيام بحملات دعائية على عكس عمه الذي يعقد لقاءات شبه يومية، ونقل ايضا عن مسؤولين داخل الاتحاد الوطني انقسام الحزب بين جبهتين الاولى تضم هيرو إبراهيم واخرين ضد إجراء الاستفتاء، فيما الثانية تؤيد العملية وتضم كوسرت رسول واخرين، ولاشك ان هذا الانقسام في المواقف داخل قيادات ومكاتب سياسية للحزبين الحاكمين يشكل أرضية لانقسامات جديدة ويشكل مسارا للتحقق من صواب الخطوات المتخذة لتنفيذ اجراءات الاستفتاء التي لا تتمتع باصول القواعد العامة ولا تمتلك بنية تحتية سليمة، والهالة البراقة المشتعلة للجبهة التي تقود الاستفتاء لا يقرأ منها غير طابع التزييف وقلب الحقائق، ومناداتهم لتخوين المعارضين والمنتقدين للعملية فرقعة زائلة لانها الزبد الذي يذهب جفاءا.
وبالمقابل فان سندان الحكومة الاتحادية برئاسة السيد حيدر عبادي يطرق ايضا برؤوس الكرد والسبب ليس رئيس الوزراء، وانما الكابينات السابقة لأن في عهد ولاية المالكي لم تزرع بذور الثقة ولم يطلق مشروع وطني لحل المشاكل والخلافات القائمة بين بغداد وأربيل، وخاصة فيما يتعلق بالبيشمركة والمادة (140) الدستورية والاحصاء العام والنفط والميزانية السنوية، والغريب ان المالكي وحكومته لعبتا دورا ايجابيا في تقوية حكم البرزاني من خلال مد ودعم حزبه الحاكم بأسباب الاحتكار الكامل والاستغلال الشامل للاقليم، وبعد تغيير الأخير وتكليف العبادي برئاسة الحكومة الاتحادية بقي حال الاقليم على واقعه في ظل سيطرة وانفراد بقرار البيت الكردي، والواضح للعيان ان العبادي يتعامل بمرونة مع البرزاني وهذا التعامل المتسم بالهدوء والدبلوماسية ساري بالرغم من ما يجري في اربيل من خطوات انفصالية، والأغرب ان بغداد تواصل في اطلاق يد الحاكم القائم على الاقليم بالرغم من عدم الشرعية وبالرغم من تعطيل برلمان كردستان بأمر شخصي وحزبي، وهذا الغدر السياسي تجاه مجلس النواب الكردي يعتبر وصمة عار بوجه الديمقراطية العراقية.
وكذلك تزامنا مع هذا التعامل المشبوه لابد من الاشارة الى قضية مهمة من الضرورة الكشف عنها بلسان وقلب كردي، وهي ان بغداد ومن خلال حكوماتها السابقة والحالية ومنذ الفين وثلاثة لم تتخد خطوات ملموسة لاحساس كرد العراق بعراقيتهم وانتمائهم السيادي الى الدولة، وغير المواد الموزعة بنظام البطاقة التموينية لا يستشعر المواطن الكردي باي انتماءات تجاه بغداد، وتعامل الحكومة الاتحادية الرافض باحتساب البيشمركة ضمن المنظومة الدفاعية العراقية كان بمثابة السكين الذي قصم ظهر العلاقات بين الطرفين، وللتاريخ نقول لو احتسب القوات الوطنية الكردية ضمن المنظومة العسكرية العامة لقيادة القوات المسلحة تحت قيادة رئيس الوزراء، لما تعرض العراق الى الانتكاسة الكبيرة التي تعرض له من وراء الغزوة العدوانية لعناصر تنظيم داعش الارهابي.
ولهذا نؤكد كل التأكيد على ان الاتحاد بين الحكمة الكردية والحكمة العراقية ضرورة استراتيجية ومسألة حتمية لصالح الطرفين، والتلاقي بين الانتمائين الكردستاني والعراقي مطلب لابد من تحقيقه بقلوب صافية، ولكن خطوات هذه العملية مازالت بعيدة عن تفكير الساسة في اربيل وبغداد، ولابد من تحقيقها بنوايا صادقة وبمبادرات مبنية على الثقة المتبادلة والمصلحة المشتركة ضمن اطار الدولة المدنية الحديثة، وذلك من أجل تحقيق شراكة سياسية حقيقية وفق اتفاق بعيد المدى يحقق للاقليم والحكومة الاتحادية كل اسباب التواصل والاستمرار والاتحاد والاستقرار والازدهار والحرية والكرامة والسعادة والرفاهية، وذلك من أجل بناء عراق جديد مختلف تماما عما عليه الان، عراق يزدهر بديمقراطيته وتعدديته وعدالته وتعايشه الاهلي السلمي وشراكته السياسية، عراق يجلب السلام والخير والسعادة لكل العراقيين ولكل الكردستانيين، والكل يعلم ان رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وعسى ان تكون اول خطوة في هذه الرحلة العراقية من بغداد.