بعد مرور عقد ونيف من الزمن على تغيير النظام السابق، وخروج ابناء الشعب العراقي من قمقم تلفزيون العراق وقناة الشباب المملوكتين للنظام الحاكم حينها، وبضع صحف تخضع لرقابة السلطة الحزبية –الجمهورية والقادسية والبعث- التي يشترط فيها نشر صورة للقائد الضرورة على صفحتها الاولى، ها هو الزمن يعود بنا (flashback) مرة اخرة، لتتجسد سلطوية النظام الحاكم الحالي -رغم وصف البلاد بعد التغيير بـ “العراق الديمقراطي التعددي الفدرالي” القابع تحت مضلة حقوق الانسان ورقابة منظمات المجتمع المدني- بمحاربة الإعلام الحر ووسائله عبر طرق عديدة، اما بشراء الذمم كما حدث للعديد من الصحف والقنوات المحلية التي كانت تتمتع باستقلالية تامة في نقل الحقائق، وصاحبة المبادرات في كشف الحقائق وملفات الفساد من خلال تحقيقاتها الاستقصائية، واما من خلال الترهيب من قبل جهات معلومة ومجهولة، او عن طريق استخدام الثغرات القانونية وعدم وجود قانون لحماية صاحبة الجلالة والعاملين فيها وأقامة الدعاوى القضائية ضد الصحفيين والكتاب.
واليوم جاءت الطامة الكبرى والخبر الصاعق “مجلس الوزراء العراقي يقرر منع تسريب أي وثيقة رسمية لجهات غير رسمية أو نشرها عبر وسائل الإعلام” وهذا عبر كتاب صادر بتاريخ (الـ19 من حزيران 2013) من الأمانة العامة لمجلس الوزراء إلى وزارات الدولة والجهات غير المرتبطة بوزارة كافة، يمنع تسريب أي وثيقة رسمية لجهات غير رسمية أو نشرها عبر وسائل الإعلام وجاء في نص الكتاب “أنه نظراً لما لوحظ مؤخراً من تسريب للعديد من الكتب الرسمية لجهات غير رسمية ونشرها في وسائل الإعلام خاصة منها المرئية، واستعمالها بما يسيء لسمعة الدولة والحكومة، وجه رئيس الوزراء بأن مسؤولية تلك الوثائق ومنع تسريبها تقع على عاتق المسؤول الإداري الذي يتعرض للعقاب في حالة اخلاله بواجباته الرقابية أو تسببه في تسريب تلك الوثائق”.
ومن المتوقع ان القرار جاء ردا حكوميا على تسابق وسائل الإعلام المستقلة –المرئي والسمعي والمكتوب- على كشف عشرات ملفات الفساد الإداري والمالي المتفشي داخل النظام الحاكم ومتغلغلا بمفاصل كافة مؤسسات الدولة، وتمكنت في الوقت ذاته من فضح مسؤولين كبار امام الرأي العام وبكل شفافية.
وجا قرار منع “تسريب الوثائق” في الوقت الذي تعالت فيه اصوات الإعلاميين والناشطين بمنظمات المجتمع المدني لوضع مسودة قانون حق الحصول على المعلومة، والتي تتيح للإعلام الإطلاع على كافة الوثائق داخل الوزارات والدوائر الحكومية بما يضمن شفافية تامة للتعامل مع تلك الوسائل، شريطة الابتعاد عن الوثائق التي يعد تسريبها مساسا بـ “الامن الوطني”، وقد استكملت الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحفيين خلال الاشهر القليلة الماضية مسودة القانون بالتعاون مع العديد من المؤسسات الإعلامية والخبراء القانونيين ومنظمات المجتمع المدني.
ويعد هذا القرار من اخطر القرارات التي اتخذتها السلطة التنفيذية للحد من عمل السلطة الرابعة، لان حق الحصول على المعلومة هو من اساسيات عمل الإعلام والصحافة، وهو من متكاملات الدولة المدنية العاملة بالنظم الديموقراطية الحقيقية، وعملية حجب المعلومات عن الإعلام سيعطي مساحة كبيرة للفاسدين بالعبث باموال الدولة ومقدرات الشعب، حيث ستغيب الرقابة الحقيقية والتي تعتبر اكبر من رقابة (هيئة النزاهة والمفتش العام وديوان الرقابة المالية)، وسيمنح هؤلاء الفاسدون متنفسا للتحرك وفق خطط مدرسة وممنهجة لسرقة اموال الشعب.
لذا؛ وجب لزاما على (نقابة الصحفيين العراقيين والجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحفيين ومرصد الحريات الصحفية وكافة المؤسسات الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني لاسيما العاملة في مجال حقوق الانسان) رفض هذا القرار والعمل به جملة وتفصيلا، وتقديم احتجاجا رسميا لمجلس الوزراء ومجلس النواب والسلطة القضائية، حتى لو اضطرت السلطة الرابعة لوقف نشاطها الإعلامي بشكل كلي حتى يتم التراجع عن هذا القرار، وإلا فستصبح اقلامنا في مهب الريح..!!