18 ديسمبر، 2024 11:28 م

اقتفاء الخطى في رواية خطى في الضباب لذكرى لعيبي

اقتفاء الخطى في رواية خطى في الضباب لذكرى لعيبي

رؤية نقدية
لست بصدد أن أرتدي ثوب النقد، ولكن لأني قارئ لي ذائقتي ،وأيضا لأن لي مساهمة في فضاء الرواية، لهذا يمكنني إبداء وجهة نظري أحيانا، وهذه المرة ستكون من نصيب رواية-خطى في الضباب- للأديبة ذكرى لعيبي، والذي دفعني للكتابة عنها ، هو (عبارة روايتي الأولى .. وربما الأخيرة)، المكتوبة بخط يدها، على النسخة التي قرأتها ،والمهداة للأخ الدكتور جبار ماجد البهادلي.
وقبل كل شيء أود التذكير هنا ،أن الرواية هي جنس أدبي حكائي خاضع لضوابط تركيبية سردية ذات أبعاد دلالية وغير دلالية، تنشأ في قصدية الكاتب وغايته ،وأهم تلك الضوابط هي :الحدث، الشخوص ، البناء،الزمان والمكان .
والحدث أو المتن الحكائي، هو سلسلة متتالية من الأفعال تحدث لشخوص الرواية والحوارات بينهم، لبلورة فكرة معينة يريد الكاتب إيصالها للمتلقي ،عن طريق حبكة تأخذ على عاتقها ترتيب الحوادث وسردها وتطويرها لغاية بلوغ ذروة التوتر السردي أو ما يسمى العقدة،ثم حلحلة هذه العقدة مع نهاية الرواية.
رواية خطى في الضباب جاءت رشيقة فهي ب102 صفحة ، كتبت بلغة رائعة ومبهرة ، ولا سيما أن كاتبتها أصلا شاعرة، وتناولت فيها موضوعات مسكوت عنها، وكذلك الحيف الذي تتعرض له النسوة في مجتمعاتنا الشرقية .
الرواية جاءت بأسلوب الراوي العليم،وأيضا مع حوارات مطولة تنقلنا إلى الأنا في استعراض جميل(عاشت أميرة طفولة مدللة) ؛ ولكن في بعض المواقع يلتبس الأمر على الكاتبة وتنتقل إلى الأنا من دون المرور على بوابة الحوار(حالي مثل حال فاطمة وأميرة)ص 66.
تُدخل لعيبي مبكرا، بطلتها -أميرة-بعلاقة عاطفية مع ابن عم لم تره منذ أمد بعيد،، لكنها وبشكل مبكر، تكشف لنا عن نوايا ذلك القريب،(لهفي يطفئه،غطاء شرعي ،وخلوة ننفض فيها غبار السنين)،ويبدو الأمر وكأنها تطفئ ذلك الحدث؛ لكنها تستمر في دوامة مناجاتها في فصول عديدة حول الموضوع ذاته، دون أن تتنامى الأحداث، أو أن تضع له نهاية (هل مشاعر الحب تغفر هكذا خطيئة،تبيح ممارسة الجنس تحت أغطية متهالكة). ففي ص48 (أغلقت أميرة صفحة كتاب علاقتها بأحمد)، ثم بعدها مباشرة في ص50 تبدأ من جديد(ذات يوم سألته).
وعود على الأحداث ثانية ،فقد كان بوسعها استثمار فقد أميرة لأولادها بعد انتزاعهم منها بخديعة من قبل الجد، بجعله حدثا دراميا رئيسا، يتنامى حتى يبلغ النهاية بلقائها بأولادها ، لكن الحدث تلاشى كذلك.
وهناك موضوع ثالث يصلح لأن يتحول إلى مشهد درامي وهو (الحاج جاسم) ذلك الرجل المحسن -الانتهازي في ذات الوقت، لكنه هو الآخر اكتسحته موجة المناجاة واستعراض الألم في متن الرواية؛ وبذلك بقيت الأحداث تراوح في مكانها إلى أن تصل إلى نهاية مفتوحة. لربما يعود منشأ ذلك، إلى أن لعيبي لم تود الابتعاد عن سرد يلامس سيرتها الذاتية ، بإضافة أحداث متخيلة، تجعل المتلقي يتفاعل مع أحداثها بصورة أكبر.
عنصر الزمان جاء مستوفيا في الرواية ،فثمة تواريخ مرتبطة بأحداث مهمة قد أدرجت مثل(صارت أحداث عام 1991- بما يسمى غزو الكويت)ص 22 وكذلك (الغزوالأمريكي للعراق عام2003)ص35،وأيضا ذكرت أحداثا ، تشير إلى زمن محدد ،كالحصار ، والهجرة الجماعية إلى أوربا .
أما عنصر المكان،فهو وإن جاء مقتضبا كما في وصفها لمدينتها (يقال أنها مدينة الحب والجمال،ومدينة الكنوز التاريخية،من تلك المدن الجنوبية الغافية على دجلة بدلال)ص7،إلا أنها تمكنت من استنطاقه و تحويله في بعض المواضع إلى كائن حي يتنفس وجعا(آه،آه على الأوطان التي يعشق الموت أرضها).
استطاعت ذكرى لعيبي أن تجعل المتلقي يحلق في فضاء لغة سردية رائعة ومشوقة، تتنوع من فصل إلى آخر رغم تكرار المشهد .
ولا أعرف لماذا قفزت إلى ذهني، رواية (الجوع) للنرويجي كنوت همبسون في متتالية جوع يعاني منها البطل، منذ أول صفحة وتتكرر لغاية الإنفراجة في أخر صفحتين منها. استطاع همبسون أن يشعرنا بألم الجوع لدى البطل ويجعلنا متلهفين للوصول إلى تلك الإنفراجة. وأظن أن ثيمة الألم التي تتجلى في رواية ذكرى؛ هي السبب ،فهي تمكنت من إيقاظ مشاعرنا لنشاطر بطلتها (أميرة) ذلك الكم الكبير من الوجع .
نحن أمام رواية مائزة،لكاتبة واعدة ،تستحق تسليط الضوء عليها،وكلي أمل أن تواصل الكتابة في مجال الرواية .