عندما نشرت موضوعي (الخصخصة الذكية لوزارة الإتصالات) أرسل لي أحد موظفي الوزارة قائلاً فيها (مشكلة وزارة الإتصالات ليست بالخصخصة، فقد كانت رابحة زمن النظام البائد) فأجبته وبتصرف:عزيزي المشكلة ليست مشكلة وزارة الإتصالات، بل هي مشكلة إقتصاد البلد بأجمعه، هي مشكلة الترهل في كل مؤسسات الدولة، إنتاجية الموظف العراقي هي ١٨ دقيقة في اليوم، نقص أسعار النفط ولد أزمة كبيرة، كيف يعيش الناس في الأردن، وكيف يعيشون في تركيا، ،كيف يعيشون في ماليزيا، وكيف يعيشون في البلاد التي لا تمتلك موارد طبيعية ويعيشون حياةً أفضل من حياتنا بعشرات المرات، أنا لا أفكر بوزارة الإتصالات فحسب، بل أن تكون وزارة الإتصالات هي الرائدة للنهوض بإقتصاد البلد الطفيلي الذي يعتمد إعتماداً كلياً على النفط، وإذا ما توقف النفط لمات الناس من الجوع، يجب أن نفكر بالنهوض بألبلد، حتى لا نخشى من هبوط أسعار النفط، وننهض ببلدنا على جهدنا وعلى إنتاج الفرد العراقي وليس على موارد النفط، حينها يمكننا الإعتماد على أنفسنا وأن نعيش أفضل حياة من سكان الأردن وسكان تركيا وسكان ماليزيا، لأن الشخصية العراقية والشعب العراقي إن لم يكن بمصاف شعوب هذه الدول وشخصيات أفرادها فهو أفضل، بإمكاننا أن نكون مثلهم وافضل منهم، وسنكون يوماً هكذا بمشيئة الله، ويقيناً سنكون هكذا لأن هذا هو إستحقاقنا، فيجب إبتداءً إزاحة المفسدين عن قيادة البلد ويجب تولى المصلحين أمر البلد وحينها فقط نستطيع أن نضع سياسة سليمة وواضحة مبنية التخطيط الصحيح لبلوغ أهداف محددة، وليس ترك الأمر كما هو الآن تخبط من دون وضوح ومن دون هدف والنتيجة الطبيعية هي الفشل….
هذا التخبط والفشل لم يكن وليد اليوم، بل من عدة عقود، نعم كنا قبل ستين عاماً دولة متطورة لها أسس سياسية راسخة، لو فسح لها مجال الإستمرار لبلغنا أعلى المراتب، ولما تمكن مجموعة من الحثالات حكم البلد خلال العقود السابقة فأوصلونا إلى ما نحن عليه اليوم..تشكل الحلف الرباعي في خمسينات القرن الماضي بين تركيا وأيران والباكستنان والعراق للوقوف أمام المد الشيوعي الأحمر في ذلك الوقت، لقد كانت كل دولة من الدول الثلاث غير العراق مساحتها وسكانها أضعاف مساحة العراق وسكانه، ولكن سمي الحلف بحلف بغداد لأن العراق كان هو الجوهرة من بين هذه البلدان، بجلال رجالاته الحاكمين وبنظامه السياسي المميز وبمستوى ثقافته وبدرجة تطوره، إني لا أدافع هنا عن حلف بغداد، بل عن رجالات العراق في ذلك الوقت ودرجة تطور البلد.
لقد أخبرني عمي المرحوم عبد المجيد علاوي الذي كان وزيراً في عدة وزارات في ذلك العهد وعضواً إجرائياً في مجلس الإعمار أن٧٠٪ من موارد النفط كانت تصرف على مجلس الإعمار، من السدود الضخمة إلى الجسور إلى السكك الحديدية ومحطات الكهرباء وتصفية المياه ومد الطرق داخل المدن وخارجها ومشاريع الإسكان والمصانع المختلفة والمستشفيات وغيرها، وذكر لي هذه الحادثة الجديرة بالتأمل، حيث كان وزير الإعمار هو المسؤول عن ألإجراءات التنفيذية لمجلس الإعمار ومنها إستيراد المواد الأولية لهذه المنشآت الضخمة وبالذات مادة السمنت، وكان وزير الإعمار في حينها هو المرحوم عبد المجيد محمود في الوزارة الثانية عشر لنوري السعيد التي تشكلت في أواسط عام ١٩٥٤، لقد أخطأ وزير الإعمار في إحتساب أجور نقل السمنت، حيث عرض عليه سعران، سعر واصل على ظهر الباخرة (FOB) وسعر واصل إلى الرصيف (C&F)، فظن الوزير أن سعر على ظهر الباخرة سيكون أوفر حيث يمكن تفريغ الحمولة للرصيف بسعر مناسب، ولكن تبين في الواقع أن السعر الواصل إلى الرصيف (C&F) كان أرخص، فقال لي المرحوم عمي، تحدثت في مجلس الإعمار وقلت له أنك لم تتحمل مسؤوليتك كوزير، وقصرت في عملك وكلفت خزينة الدولة بضعة مئات من الدنانير، وإنك لا تملك هذا المال لتعويض خزينة الدولة، لذلك أنت لست أهلاً لتحمل هذه المسؤولية، فقام رئيس الوزراء نوري السعيد في ذلك الحين بتوجيه اللوم إليه وكذلك باقي الأعضاء، وطلب رئيس الوزراء نوري السعيد منه تقديم إستقالته من وزارة الإعمار لأنه لم يكن بمستوى مسؤوليته، وفعلاً قدم إستقالته من الوزارة عام ١٩٥٥ ولكنه أبقي وزيراً بلا وزارة حفظاً لماء وجهه وعين وزير العدلية محمد علي محمود وزيراً للإعمار بالوكالة .
هكذا كان رجالات العراق، نزاهة مطلقة، وكانوا بمستوى المسؤولية، وهمهم الأساس حماية البلد وحماية كل دينار من موارده والعمل بشكل كامل لمصلحة الوطن والمواطن، وفي نفس الوقت كانت هناك خطط صحيحة ومدروسة، لو قيض لها المجال لكان كل الشعب في بحبوحة من العيش ويسر وسعادة ورخاء وأزدهار وتقدم.ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نسأل ألله أن يزيح كل فاسد ومفسد من السياسيين المتصدين، لكي يمكن وضع التخطيط الصحيح وبناء البلد وتطويره، وتقليل معاناة المواطنين على يد المخلصين لبلدهم ولشعبهم، إنه سميع مجيب…..