19 ديسمبر، 2024 11:41 م

افطار المسافر بين معنى الحكم ومغزاه

افطار المسافر بين معنى الحكم ومغزاه

في شهر رمضان ، الشهر المبارك الذي ينقطع فيه المسلم الصائم الى ربه عائذا بحرمة هذا الشهر الكريم ، طالبا الفوز برضى الله تعالى وعفوه ، في شهر رمضان الكريم تتوارد الاسئلة فيما يتعلق بقضايا مختلف حولها بين المسلمين ، اختلافا لا يفسد في الود فيما بينهم قضية ، عندما ينظر اليه على انه تعدد رؤيا لا تخدش في قدسية الهدف من الصوم ، ولا تؤثر في نية الصوم المبنية على طاعة الله تعالى ، والامتثال لامره جل وعلا ، بل ان في الاختلاف مصلحة ، لانه يعدد السبل الى الهدف الواحد ، فيحرر المسلم من عسر الخيار الواحد ، ويضعه في يسر الخيارات المتعددة ، المبرئة لذمته من هذه الفريضة الواجبة
من الاسئلة المتواردة في القضايا المختلف حولها سؤال السفر الذي يبيح للصائم الافطار ، فقد اختلف الفقهاء في هل كون الافطار في السفر رخصة ام عزيمة ، فذهب عموم فقهاء الشيعة وبعض السنة الى انه عزيمة ، وهذا يعني ان الافطار واجب على المسافر ، وذهب معظم جمهور فقهاء السنة الى انه رخصة ، وهذا يعني ان المسلم المسافر مخير بين الصوم والافطار ، وقد ساق كل طرف ادلته على ما ذهب اليه ، وهذا يعني ان الذي قال بان افطار المسافر عزيمة ، انما استند فيما ذهب اليه الى ادلة من الكتاب الكريم والسنة الشريفة ، وكذالك فعل من ذهب الى ان افطار المسافر رخصة.
وبما ان الدين يقوم على مبدا لا يمكن مخالفته ، مفاده ان الله تعالى لم يفرض على عباده عبادته فحسب ، بل فرض عليهم ايضا كيفية العبادة ، وهذه الكيفية اما ان تكون قد جاءت مبينة في القران الكريم ، او بينتها السنة الشريفة ، فكان هم المسلم ان يعبد الله تعالى بالكيفية التي امر بها ، سواء كانت هذه الكيفية مبينة في القران الكريم او ان بيانها قد جاء في سنة رسول الله (ص)
وعليه فان الذي اعتقد بان الافطار في السفر عزيمة او رخصة ، وجاء سلوكه على وفق اعتقاده قد برا ذمته ان شاء الله ، فلا الذي يقول بالعزيمة يخطيء الذي يقول بالرخصة ، ولا الذي يقول بالرخصة يخطيء الذي يقول بالعزيمة ، لان كلاهما ، وعلى ما هو ظاهر ، باحث عن الكيفية التي تجعله ممتثلا لامر ربه ، والله تعالى اعلم ، وما هو خلاف ذلك فهو ادعاء لا مرجح له .
لكن العقدة في السفر الملزم او المرخص بالافطار تكمن في المسافة ، فالروايات فيما يتعلق بهذا الامر يمكن حصرها في ثلاثة اتجاهات ، الأوّل هو التحديد بالمسافة ، وتقدر بخمسة واربعين كيلومترا ذهابا وايابا عند الشيعة ، وثمانين كيلومترا عند السنة  ، والثاني هو التحديد بالزمن ، ويقدر ببياض يوم ، اي تكون مدة السفر مقدار نهار او ليل ، ولنقل نصف يوم ، اي اثنتي عشرة ساعة ، والثالث بهما معا ، اي بالمسافة والزمن ، وعندما نتوقف عند التحديد بالمسافة والزمان ، نجد ان التوضيح الذي ينبني عليه التحديد ، يقوم على ان قطع مسافة ثمانية فراسخ تستغرق بياض يوم ، اي من شروق الشمس الى غروبها ، فيبدو ان المقصود من السفر الذي يلزم الصائم او يبيح له الافطار ، هو ليس قطع مسافة مقدرة بثمانية فراسخ ، وانما هو الترحال مدة تقدر ببياض نهار ، ربما يعني طوال النهار ، او طوال الليل ، او نصف يوم ، اي اثني عشر ساعة على اقل تقدير ، لان بياض النهار يعني المدة الممتدة من شروق الشمس الى غروبها ، فعن احد صحابة الامام الصادق (ع) يقول: سألته عن التقصير؟ قال: انّه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً، فقد شغل يومه ، والبريدان ثمانية فراسخ ، فالمغزى من هذه الرواية ان المقصود من السفر الملزم او المرخص بالافطار هو السفر المستغرق للنهار كله .
الى هنا يتضح ان ثمة حكم هو الزام الصائم المسافر او السماح له بالافطار ، اما موضوع الحكم فهو المسافر الذي يستغرق سفره بياض نهار بوسيلة نقل هي الجمل ، كما تحددها الروايات ، فالعبرة بالزمن الذي يستغرقه السفر ، وليس بالمسافة التي يقطعها المسافر ، لان المقصد من الحكم هو التخفيف على الصائم بقوله تعالى 0 يريد الله بكم اليس ولا يريد بكم العسر ) اذ ان الاية الكريمة التي تحدثت عن افطار المسافر هي قوله تعالى في الاية الثامنة والخمسين بعد المائة من سورة البقرة ( شَهْرُ رَمَضـانَ الَّذِي أُنْزلَ فيـهِ القُرآنُ هُدىً لِلنّـاسِ وَبَيِّنات مِنَ الهُـدى وَالْفُـرْقانِ فَمَـنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضاً أَوْعَلى سَفـر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّـام أُخرَ يُريـدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْـرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْـرَ وَلتكمِلُوا العِـدَّة وَلتُكَبّـروا اللّهَ عَـلى مـا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُـمْ تَشْكُرُون ) ، والواقع ان مصداق موضوع هذه الاية ، وهو المسلم الصائم المترحل مدة تقدر ببياض نهار ، وهذا موضوع متحرك ، اما حكمها ، اي الزام المسلم المسافر الصائم او السماح له بالافطار ، فهو حكم ثابت ، وبما ان القران الكريم نص الهي مطلق لا يتوقف عند موضوع ما ، وانما هو فاعل على مستوى كل الموضوعات المتحققة ، فان التوقف به عند مصداق نسبي يسلبه صفة الاطلاق ، وبكلمة اوضح وابسط اننا نرد بايماننا بان القران الكريم نص لا تاريخي ، على كل الادعاءات التي يسوقها القائلون بان القران الكريم نص تاريخي ، نرد بحقيقة ان القران الكريم يقوم على قاعدة الجري والانطباق كما يقول المرحوم العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي ، فتجري احكامه على كل المواضيع التي حدثت وتحدث من لحظة نزوله الى اللحظة التي يحكم بها الله وهو خير الحاكمين ، وان هذا الزمن الممتد من نزول القران الكريم الى ان يحكم الله تعالى هو زمن مليء بالمتغيرات التي سيعالجها النص الثابت ، اما القول بان موضوع الحكم ، اي حكم كان ، هو هذه الحال او تلك ، التي وردت بالروايات والشواهد ، فهذا يعني ان القران الكريم نص تاريخي عالج واقعا ما ذا ملامح مكانية وزمانية محددة تحديدا تاما ، وعلى كل الوقائع التي تاتي ان تستجيب لتلك المعالجة التاريخية بطريقة الاسقاط ، وبهذا نحن نقدم الدليل القاطع سهلا لكل المشككين بثبات القران الكريم واطلاقيته ، ولا سبيل الى الخروج من مازقنا هذا سوى العودة الى القران الكريم نفسه الذي يهدي للتي هي اقوم ، فالحكم المستفاد من النص المقدس حكم ثابت ، لا يتوقف وجوده على توافر الظرف المكاني او الزماني ، ولكن لهذا الحكم موضوعا ، يتوقف وجوده على توافر الظرف الزماني والمكاني ، ومثال ذلك حكم الافطار في السفر ، هو حكم ثابت موجه الى كل صائم مسافر ، اما موضوعه فهو السفر الملزم على وفق قول انه عزيمة ، او المجيز على وفق قول انه رخصة ، للصائم ان يفطر ، فهو موضوع متغير متوقف وجوده على توافر الظرف الزماني والمكاني ، فوسيلة المسافر ليست واحدة ، وانما هي متغيره بحسب الظروف والمسافة التي تحدد الافطار ليست ثابتة ، واذا ما حددت يوما ما بخمسة واربعين او ثمانين كيلومترا ، وهو تحديد فرضه الايقاع البطيء لحركة المسافر ، حيث كانت الوسيلة يومها جمل او ناقة ، او عربة تجرها الحيوانات ، فهذه المسافة المقطوعة بتلك الوسيلة مرهقة ، لا تتفق واليسر الذي يريده الله بعباده ، ولكنها عندما تحدد اليوم على وفق الايقاع السريع لحركة المسافر ، حيث تطور وسائل النقل وسرعتها ، لم تعد مرهقة ، فالمعنى واحد هو افطار المسلم المسافر الصائم ، والمغزى هو التيسير عليه ، بحيث لا يجمع بين مشقتي السفر والصوم ، فمعنى الحكم ثابت ومغزاه متغير ، وتلك هي حقيقة ان القران الكريم نص مطلق او لا تاريخي ، هذا ما افهمه انا ، فان كان صوابا فمن الله تعالى ، وان كان خطا فمني ، واستغفر الله عن كل خطا اخطاته ، واسئلة التسديد .

أحدث المقالات

أحدث المقالات