لم يعد الفساد مجرد آفة مؤقتة من آفات المجتمعات الخاضعة لعملية تحديث والتي يمكن معالجتها بالتعليم والتنمية والأخلاقيات العامة. فبالإمكان لمس الآثار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السيئة الناتجة عن الفساد مهما كان حجمه . إن تقديم البرهان على الالتزام بالحكم الوطني ومن ثم التعهد بالإدارة الرشيدة للشؤون العامة لم يعد شرطا ضمنيا بل أصبح الآن شرطا صريحا في برامج الإصلاح التفصيلية (على غرار ما أصدرته لجنة المساعدة الإنمائية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام1997) .
ومن خلال التهديد بوقف التمويل عن البلدان التي لا تتصرف بفعالية للحد من الفساد ( مثلما أعلن عنه البنك الدولي في أيلول/سبتمبر 1997). كما رسمت هذه الوكالات الإطار الكلي والمسائل الكلية للالتزام بالحكم الرشيد والنتائج المترتبة عليه، وأصبح التصدي للفساد العنصر الأساسي لتعزيز القدرة المؤسسية للدولة. و الأشد خطورة حالة البلدان التي تعاني من فساد شديد عابر للحدود بسبب ضعفها السياسي والاقتصادي. فالفساد الداخلي الواسع النطاق , والفقر والضعف السياسي والإداري والتبعية للأسواق الخارجية والتكنولوجيا الأجنبية من شأنه أن يسهل هذه التجاوزات؛ وبمجرد ما يستحكم الفساد العابر للحدود فإنه سيعمل على إبقاء البلد في حالة من الفقر والضعف السياسي. وستؤدي التجاوزات العابرة للحدود والمستفيدة من دعم المسؤولين المحليين الذين يتلقون حصة من الصفقات الفاسدة إلى إعاقة نمو مؤسسات السوق السليمة والحيلولة دون ترسيخ الحقوق الاقتصادية الأساسية الموثوق بهـــا . إذا كان الفساد العابر للحدود شاغلا خطيرا في حد ذاته، فإنه يستحق اهتماما لما له من قدرة على التفاعل مع الفساد الداخلي، مما يؤدي إلى احتدام هذين النوعين من الفساد ويجعل الإصلاح أمرا صعب التحقيق. وللفساد العابر للحدود أوجه تشابه مع الفساد الداخلي سواء من حيث أسبابه أو من حيث عواقبه؛ فالبلدان التي تعاني من مشاكل الفساد الداخلي الخطيرة يحتمل أن تكون أيضا شديدة التعرض لأشكال الفساد العابر للحدود. وبالتالي، يتعين أن تكون استراتيجيات الإصلاح متكاملة بإحكام؛ فإذا كان من العبث السعي إلى مكافحة الفساد داخل الاقتصادات الوطنية وفي إطار الحدود السياسية فقط، فإن العكس يصح كذلك. فجهود مكافحة الفساد العابر للحدود لن يكتب لها النجاح إلا إذا كانت معززة بعمل فعال ضد الفساد الداخلي وكانت منسقة مع هذا العمل.
الفساد الداخلي، يؤدي الى ضعف المؤسسات وسوء إدارتها وإلى قلة المناعة ضد الفساد العابر للحدود. ولبعض مكامن الضعف علاقة بالحدود الدولية وكذلك بالحقائق الجغرافية: فعندما تكون مرتبات موظفي الجمارك مثلا هزيلة ويكون تدريبهم ضعيفا، يكون احتمال حصول الفساد أكبر؛ ويصح هذا لا سيما عندما يكون رؤساؤهم متواطئين في الفساد هم أيضا، ويقيمون شبكات منظمة للرشوة الجماعية وتقاسم المكاسب، مع فرض الانضباط بالتهديد بالطرد أو بالعنف. ومن المؤسسات المعرضة لمخاطر الفساد أيضا الأجهزة العسكرية وأجهزة حماية تطبيق القانون التي تقوم بمهام مراقبة الحدود: فقد تشترى وتباع لتهريب السلع والأموال، ولاستغلال الموارد الطبيعية استغلالا غير قانوني أو مفرطا أو غير مرخص به. فطائفة الممارسات الممكنة واسعة بالفعل. غير أن لها قاسما مشتركا هو كون سلطة مراقبة حدود البلد وسلامته الإقليمية تؤثر على حركة السلع ورؤوس الأموال والمؤسسات التجارية، وبالتالي يمكن تسخيرها لأغراض الحصول على الريع . تتشابه إلى حد كبير الوسائل الممكنة للتصدي للفساد العابر للحدود مع وسائل التصدي للفساد الداخلي، على مستوى من المستويات. فتطبيق القانون تطبيقا فعالا بل وأمينا ومسؤولا؛ والمراقبة السياسية الصارمة للجهاز الإداري؛ وتوفر مؤسسات قضائية وإدارية مستقلة وخالية من كل تعسف سياسي، ومفتوحة ومسؤولة أمام المجتمع أجمعه؛ وشفافية الصفقات العمومية وصفقات قطاع الأعمال؛ والتدريب الملائم وتوفير مرتبات معقولة للموظفين؛ والمشاركة الفعالة للمواطنين؛ وتعهد الإدارة السياسية المستمرة والقيادة على أعلى هرم في السلطة كلها عناصر أساسية في تشكيلة مكافحة الفساد.
كل من يسعى إلى مقاومة الفساد العابر للحدود من الداخل سيواجه أعداء أقوياء، سواء داخل الأجهزة الحكومية أو في القطاع الاقتصادي. وبالتالي يلزم أن تتوفر للقائمين بالإصلاح موارد سياسية وأن تتاح لهم الفرصة لاستخدامها. وعندما تقل تلك إما بسبب الانعدام العام للحريات المدنية والحريات السياسية داخل البلد، أو بسبب كون المسؤولين قد أصبحوا يتعاونون في الفساد مع المصالح الخارجية، فإن الإصلاح يصبح مهمة شاقة للغاية. ويعني انخفاض مستوى التنافس السياسي. أ المسؤلون الفاسدون لا يواجهون إلا احتمالات ضئيلة في أن يحاسبوا في أعقاب صفقاتهم الفاسدة كما أن احتمالات فقدانهم للسلطة بسبب تعسفهم ضعيفة. ويحد ضعف التنافس من حوافز احترام استقلال المحاكم والقضاة، وممارسة الرقابة الصارمة على الإدارة المحلية وعلى أجهزة مراقبة الحدود. وبالفعل، قد يصبح الفساد السياسي والإداري , مستوطنا إذا عمت أدوات الفساد وحوافزه الهياكل السياسية والإدارية. وفي هذا الوضع، فإن الساعين للإصلاح قد يتعرضون للتخويف أو يتم تجميدهم، فتصبح القوانين والأجهزة القائمة لمكافحة الفساد كيانات ليس لها تأثير .
يندرج الاهتمام المتنامي الذي يبديه المجتمع الدولي بالحد من الفساد في إطار إعادة التفكير عموما في وظيفة المعونة الدولية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. فبعد نهاية الحرب الباردة تغيرت موازين القوى ولم تعد ثمة حاجة إلى دعم الأنظمة الفاسدة لأسباب الأمن القومي. وقد أصبح الفساد مشكلة يصعب تجاهلها بسبب تفشى الفساد والجريمة المنظمة في بلدان عدة. وينتج عن الفساد خلل فى الكفاءة الاقتصادية ، نظراً لما ينتج عنه من سوء تخصيص الموارد الاقتصادية وسوء توجيه الاستثمارات ، بالاضافة الى دور الفساد في إعاقة الاستثمارات والتراكم الرأسمالى ، وبذك يقف عائق كبير في طريق عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، واحداث خلل فى توزيع الدخل والثروة بين أفراد المجتمع ، فضلاً عما يترتب عليه من عديد من الآثار السلبية اجتماعياً وسياسياً وتعوق تلك الآثار عمليات الإصلاح ، ولذا أصبحت قضية الفساد من القضايا التى تشغل بال الجميع فى المجتمعات الدولية، لزيادة حجمه واتساع دائرته وتشابك حلقاته وترابط آلياته ؛ مما يهدد مسيرة ومستقبل عمليات الإنماء في الدول .
العلاقة التي تربط الفساد بالإرهاب؛ هي علاقة وطيدة ومتلازمة ؛ فهما وجهان لجريمة واحد من حيث الاعتداء على حقوق وحريات الأفراد بكل تجلياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.. ومن حيث مخاطرهما على الدولة والمجتمع؛ فهما معا يهدّدان استقرار الدولة والمجتمع ولهما تكلفتهما السلبية على الديمقراطية والتنمية. الفساد والإرهاب يشتركان معا في كونهما يشكلان معا خرقا لكل القوانين والضوابط الدينية والأخلاقية.
تعزيز وترسيخ مفهوم المواطنة كاساس حقيقي للعلاقة بين الانسان والدولة، وهي مسألة تبدوا للوهلة الاولى محط تاييد للمجتمع وامر متفق عليه بين افراد جميع المجتمعات من حيث الاطار العام او من حيث الشكل الا ان المسألة ذاتها ليست بالسهولة المرنة التي تبدو على المجتمع عندما ياخذ بنظر الاعتبار تصارع المصالح والارادات بين القوى السياسية.