19 ديسمبر، 2024 12:49 ص

شمس مشرقة تدعو للتفاؤل. خطواتي تقودني بطريقة آلية الى حيث عملي في هذا القسم البهي الذي قضيت نصف عمري فيه فصار بيتي الأول ومستودع ذكرياتي مع المئات من وجوه بريئة لتلاميذ وطلبة مروا فيه بأنشطة شتى كموهوبين أو ناشطين في المجالات الرياضية وفي الرسم والتشكيل، في الادب بشتى صنوفه.. وفي الموسيقى والتمثيل. حين أنهيت الممر الكونكريتي صحوت من أفكاري على جلبة وأصوات لجدال بأصوات غاضبة عرفت بعضا منها. وأذ ألتفت عرفت بعض زملائي مجتمعين حول رجل أنيق في العقد الخمسين من العمر. تباطأت خطواتي لكنني لم أتوقف خشية أن أكون فضولية. أو ربما يكون أمرا خاصا.. أو مشكلة ما فرحت أتابع سيري لكنني بعد خطوات رأيت كل زملائي وزميلاتي هناك.. في الحديقة ويفترشون الساحات.. اتجهت نحوهم وألف سؤال يسبقني

صباح الخير.

أي خير يرتجى ؟ ألم تعلمي بعد؟  ردت إحدى زميلاتي بصوت متهدج، الألم والوجع سمة الوجوه. والغضب يتصاعد في أصواتهم.

سألتهم: ماذا هناك؟  رد عليّ أكثر من صوت: باعونا خردة ويا للحسرة

لم أستوعب الجواب.. لم أفهم.. لكن وجوههم أخرستني..

اتجهت الى معاون القسم. رجل يتسم بالحكمة والهدوء.. اقتربت منه وبهدوء أيضاً قلت: صباح الخير أستاذ.. ماذا يجري؟

رد التحية وبصوت ملؤه المرارة أخبرني قائلاً: حضر أحدهم.. يبدو مستثمراً غير عادي وهو يحمل أمراً بإزالة حدائق وملاعب قسمنا.. ومخازن الكتب العائدة لدائرة مديرية التربية.. فوراً..وفق صفقة استثمار أبرمها مع محافظة بغداد ووزارة التربية.. الرجل يريد البدء بعمله اليوم.

صدمني الخبر. أستاذ.. كيف ذلك؟

الأرض عائديتها لوزارة التربية.. ونحن (قسم النشاط الرياضي والمدرسي) أحد أقسامها مستفيدون منها، هي ليست فائضة.. ولا هي مساحات ترفيهية.. أنما نحتاجها حقاً.. الا تعلم الوزارة أن مثل قسمنا يقيم معسكرات كشفية؟ ومعارض فنية؟ ومهرجانات طلابية؟ كيف يعرضونها للاستثمار؟ كان الأولى بهم تطويرها ببناء قاعة مسرح أو قاعة فنون تشكيلية للطلبة.. اليس كذلك يا أستاذ؟ أنصت لسيل أسئلتي وانفعالاتي.. ثم أجابني: هذا لو كان منهج الدولة يشجع ويرعى الفن والرياضة.. هذا لو كان فكر الدولة يعني بالجيل الجديد والطفولة.. ولكن..

قاطعته بحدة قلت ل: لم نرضخ لنهجهم.. سنوات ونحن نعمل بلا دعم.. لكننا آخر المقاتلين.

استدركت وسألته.. لماذا هذه الأرض؟ ولأي جهة منحت؟

أجابني.. لان هذه الأرض تقع في قلب المنصور.. كل هذه الأرض تقع بين إعدادية المنصور للبنين وروضة المنصور وقسم النشاط الرياضي والمدرسي.. منحتها هيئة الاستثمار في محافظة بغداد لجهة مدرسة أيشق بغداد التركية.. قلت: لماذا هنا؟ في قلب مدارسنا وليس في أي مكان آخر؟ في معسكر الرشيد مثلاً؟ أو في أطراف بغداد؟ لماذا يقتطعون منا فضاءنا،نحن رئة مدارسنا بطلبتها وكوادرها يتنفسون من خلال هذا المكان وحديقته.. الا تعلم الوزارة بذلك؟ لم يجبني.. كان الوجع سمة المكان وكانت عيناي تطوفان في المكان.. كأنهما تقبلان الزرع والأشجار والفضاء.

سنوات ونحن نزرع هذه الأرض التي كانت عبارة عن مساحات متروكة يلعب فيها أحيانا طلبة الإعدادية. ومنذ لحظة موافقة المديرية على الاستفادة منها.. زرعناها ورصفنا الممرات.. تذكرت زملائي الأساتذة وهم يحضرون في الصيف القائظ كل مساء ليرووا الزرع ويعتنوا بالشجيرات. افتقدت صوت مديرنا.. سألت أين هو؟ قالوا ذهب الى الوزارة وهو في طريق العودة. بلا حل بالتأكيد بلا حل.. وزارة كوزارة التربية بلا وزير، ومحافظة بلا محافظ. ومحافظ سابق أبرم صفقات قبل تنحيه. ووزير يستعجل آخر الصفقات قبل أنهاء وزارته.. فوضى واضطراب ولا استقرار، أسمع صوت محركات ثقيلة.. التفت شمالاً وإذا بالجرافات تدخل كالأفاعي.. كالوجع.. كالموت.. هرول الجميع نحوها رجالا ونساءً.. توقفوا أمامها.. صرخوا في وجه السائقين.. فتوقفوا هؤلاء بلا نقاش.. هم ليسوا سوى عمالا لا يعرفون عن الامر شيئاً.. تحرك المستثمر نحونا.. صرنا حوله.. كان هادئاً مطمئناً مسيطراً.. أجابنا باسترخاء: أخواني.. أيها الأساتذة.. هذا القرار أصولي وحقيقي.. لا نفع من انفعالاتكم.. ولا جدوى من النقاش أنتهى الأمر أستمر الموظفون بالنقاش والجدال.. بكى البعض.. وغص آخرون بعبراتهم.. استمر الجدال لثلاث ساعات مستمرة، تعبنا وبحت أصواتنا.. لم ندع جهة الا واتصلنا بها. لم ندع مسؤولا الا وأوفدنا أحدهم اليه.. كان كابوساً ثقيلاً.. والرجل يتهادى بيننا.. يفتعل التعاطف معنا حينا، وحينا يلتزم الصمت.. عرفنا أنه ممثل عن الجهة المستثمرة.. سمعنا بعض ملابسات القضية، بعضها حقيقي وبعضها متخيل.. وفي النهاية.. أصر الرجل أن ينفذ الامر اليوم لان لديه أوامر عليا.. قال لنا.. أعطيتكم وقتا لتتأكدوا من صحة الأوامر. ووقتا لتتأكدوا أن لا حل الا في التجريف.

تفرق البعض، ودخلت الجرافات واثقة فجرفتنا.. بقسوة.

*مشرف في النشاط الرياضي والفني– تربية بغداد / الكرخ الاولى