تَتوالى في العراق منذ ثلاثة عقود، وبدرجات غير مُتوقّعة، مئات الفتن السياسيّة والاجتماعيّة والإعلاميّة، التي تُهدّد كيان العراق وحياة الناس وأمنهم، وحتّى سلامتهم الفكريّة والعقائديّة.
ومِن بين تلك الفتن ضياع هيْبة الدولة، والسلاح الرخيص والمبثُوث، والتناحر الاجتماعيّ والدينيّ والسياسيّ الضارب للسلم المجتمعيّ، وأيضا محاولات الاغتيال المعنويّ عبر الأدوات التقنيّة الحديثة، ومنها التسريبات الصوتيّة والصوريّة، وكأنّنا أمام مرحلة جديدة تَهدف لتصفية حسابات قديمة وقاهرة، وخطيرة، وربّما، مُميتة مع أقرب الرفاق والحلفاء قبل الخصوم والأعداء!
وهنالك سلسلة من التسريبات السياسيّة والأمنيّة والأخلاقيّة وقعت في المراحل الماضية، وجميعها تَمكّنت الحكومات المختلفة التغطية عليها، وتُنهي آثارها، ولكن يبدو أنّ القوى السياسيّة الفاعلة اليوم أمام نوع جديد من التسريبات المُجزّأة والفاعلة، والتي ظهر منها حتّى ساعة كتابة هذا المقال ستّة أجزاء، بحسب ما ذكر ناشرها الإعلاميّ علي فاضل، والمُقيم في واشنطن، وقد سُرّبت كاملة فجر الجمعة 22/7/2022.
وبدأت التسريبات الجديدة منذ الثالث عشر من تمّوز/ يوليو 2022 حيث نُشرت تسريبات صوتيّة مَنسوبة لنوري المالكي زعيم الإطار التنسيقيّ، يتَهجّم فيها على شخصيّات ثقيلة وفي مقدّمتهم مقتدى الصدر وهادي العامري وغيرهما، وتضمّنت اتّهامات نادرة لقيادات وعناصر الحشد الشعبيّ.
وأعتقد أنّ أخطر التسريبات هما الأوّل والرابع، وقد تناول الأوّل الصدر، واتّهمه بعشرات التهم، ومنها أنّه” ألعوبة بيد المخابرات البريطانيّة، ومسعود برزاني، وأنّه سيُقْتَل ويستلم السنة الحُكم، وأنّه عاشق للدم والأموال، ويَعتقد نفسه الإمام المهدي”، وغيرها من الاتّهامات الخطيرة والضاربة لشعبيّة الصدر!
وهَدّد المالكي في الجزء الرابع بمُهاجمة مقرّ الصدر، وبيّن فيه أنّه يتّجه لتسليح مجموعات، وقد أعرب لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي عن جملة من المخاوف، ومِن بينها أنّه “لا يَثق بالجيش والشرطة لحمايته”!
وقد تطوّرت الأمور بعد 72 ساعة من تلك التسريبات حينما أعلن الصدر، الاثنين الماضي، أنّه تلقّى تَهديدات بالقتل مِن ” إسرائيل وأمريكا والإرهابيّين والفاسدين، ولكنّ العجب كلّ العجب أن يأتي التهديد مِن حزب الدعوة المحسوب على آل الصدر ومِن كبيرهم المالكي”!
إنّ أيّ مُحاولة داخليّة، أو خارجيّة، لاغتيال الصدر ستفتح بوّابات الجحيم على الأبرياء، وستكون بداية الخراب الساحق لحاضر البلاد وسلامتها، ومستقبلها!
ومع أنّ المالكي نفى في بيانين صحّة التسريبات إلا أنّ بعض المؤسّسات غير الرسميّة والشخصيّات الإعلاميّة المُختصّة أكّدوا صِحّتها وعدم التلاعب بالأصوات!
وحَصَدت التسريبات تفاعلات سياسيّة وإعلاميّة داخل العراق وخارجه، وبالذات بعد أن طالب الصدر من المالكي: “الاعتكاف واعتزال الحياة السياسيّة أو تسليم نفسه للقضاء”!
وهذه دعوة صدرية صريحة لمحاكمة المالكي زعيم دولة الظلّ في العراق، وجميع هذه المُعطيات دفعت القضاء العراقيّ لفتح تحقيق عاجل في تسريبات المالكي، وكيفيّة تَسريبها، ومَنْ سرّبها وغيرهما مِن الاستفسارات؟
ولا شكّ بأنّه سيكون لتسريبات المالكي بعض التداعيات، ومع ذلك قد تُحاول غالبيّة الكيانات والشخصيّات المُستهدفة بالتسريبات تجاهلها، وتعتبرها جزءا من الحرب الإعلاميّة ضدّ المالكي والعملية السياسيّة، وهذا الاحتمال وارد بقوّة.
أمّا أبرز التداعيات المُتوقّعة وأخطرها، فيتمثّل بأن تكون التسريبات بداية الانهيار الكُلّيّ لتحالف الإطار التنسيقيّ، وانطلاقات المواجهات بين جماهير رفاق الأمس، (الجماعات المسلّحة)، ويَتعزّز هذا الاحتمال مع وجود تسريبات من داخل الإطار باحتماليّة انشقاق شخصيّات كبيرة من التحالف، وأنّ التسريبات لن تتوقّف عند المالكي، وهناك تَسريبات لقيادات سياسيّة مِن جميع الطوائف تتضمّن أوامر بالقتل وصفقات فساد وغيرها.
وتحت ظلّ هذه الأجواء المشحونة بالتفاعلات الجماهيريّة والسياسيّة والإعلاميّة وَقَع تطوّر جديد وخطير، تَمثّل بالهجوم (الغامض) من حيث المصدر والأسلوب، الذي وقع صباح الأربعاء 20 تمّوز/ يوليو 2022 بمخيّم سياحي بمدينة زاخو في محافظة دهوك شماليّ العراق، وراح ضحيّته تسعة مدنيّين وأصيب 23 آخرين!
ومباشرة اتّهمت غالبيّة القوى السياسيّة تركيا بالحادث، وأعلنت الخارجيّة العراقيّة، استدعاء سفير أنقرة، وأكّدت بأنّ الرد على القصف التركيّ ” لن يكون تقليديّا، وأنّهم قدّموا شكوى عاجلة لمجلس الأمن الدوليّ”!
وسارعت الخارجيّة التركيّة لنفي علاقتها بالحادث، وأعلنت بأنّهم مُستعدّون لكشف الحقائق المُتعلّقة بقصف زاخو، ودعوا ” الحكومة العراقيّة للتعاون لكشف الجناة، وعدم الإدلاء بتصريحات تحت تأثير تنظيم “PKK” الإرهابيّ”!
وحتّى الساعة لا أحد في العراق يُمْكنه الجزم بالأدلة عن الجهة المنفّذة للهجوم ممّا يدلّ على ضياع سيادة الدولة الخارجيّة!
ثمّ هل يُعتبر الحادث أحد مُخرجات قمّة طهران والهادفة لإرباك أنقرة، وبالذات مع إصرار تركيا على تنفيذ عمليّتها العسكريّة شماليّ سوريّا والرفض الإيرانيّ والروسيّ لها!
وأخيرا، هل الهجوم رُتّب لصرف الأنظار عن تسريبات المالكي الخطيرة، والتغطية على الانسداد السياسيّ في العراق؟
وبموجب هذه التطوّرات، وتنامي الغليان الشعبيّ والإعلاميّ، تعتبر التسريبات المسمار الأخير في نعش أحلام المالكي للعودة لرئاسة الوزراء!
وتبقى جميع التوقّعات الغامضة مُمكِنة الوقوع، إن لم يتداركوا تداعيات تسريبات المالكي بطريقة توافقيّة أو قانونيّة!
وقد يَتغيّر مسار المركب السياسيّ والأمنيّ العراقيّ بسبب التسريبات، وحينها سنكون على أعتاب مرحلة جديدة أقلّ ما يُقال عنها إنّها بداية الفوضى وتَهشيم العراق!
dr_jasemj67@