23 ديسمبر، 2024 2:49 ص

اغتيال آثارنا وتاريخنا

اغتيال آثارنا وتاريخنا

تعرضت الأماكن التاريخية والمواقع الأثرية في مختلف المدن والبلدات التركمانية بالعراق، منذ عقود، للتدمير والتخريب والإهمال بشكل متعمد تارة على يد نظام البعث، وتارة أخرى على يد عنصريين ومتطرفين، كان آخرها أعمال التدمير والتخريب التي مارستها التنظيمات الإرهابية.

إن القضاء على شعب ما، يكون عبر تصفية قياداته، والقضاء على لغته وإضعافها، وتدمير آثاره ومعالمه الحضارية، وتشريد أفراده. وقد تم تنفيذ كل تلك الإجراءات الظالمة بشكل منظم وممنهج بحق تركمان العراق منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي ولغاية يومنا هذا.

ففي عام 1980 تم إعدام خيرة قيادات التركمان في العراق على يد نظام البعث، أعقب ذلك حملات إغلاق المدارس التركمانية، وإضعاف المؤسسات والصحف والمجلات التركمانية، وإفراغها من كواردها الحقيقية، وتعيين أشخاص فاشلين وموالين لحزب البعث على رأسها، وفرض قيودٍ على استخدام اللغة التركمانية في الدوائر الحكومية في مناطق توركمن إيلي، وحظر على شرح الدروس بالتركمانية أيضاً.

أصدر حزب البعث قرارات تعسفية شملت تغيير أسماء المدن، والبلدات، والقرى، والأحياء التركمانية الأصلية، واستبدالها بأسماء عربية ذات طابع حزبي، إلى جانب تهجير سكان العديد من القرى التركمانية، وسلبهم أراضيهم، ومنحها لسكان عرب، تحت مسميات وذرائع مختلفة.

لم يكتفِ نظام البعث بهذا، بل أقدم في مطلع تسعينيات القرن الماضي أيضًا على تدمير قلعة كركوك وسط المدينة، وتهجير سكانها التركمان، بحجج واهية.

لا يمكن تصور قيام حكومة ما في أي بقعة من العالم، بتدمير مناطق أثرية تعود تاريخها إلى آلاف السنين وتسويتها بالأرض!. أعتقد أن هذه الجريمة التي تستهدف البشر والحجر، الحاضر والماضي والمستقبل، لا نظير لها في أرجاء المعمورة. ففي الوقت الذي تعتز كل دول العالم بمواقعها الأثرية، وأماكنها التراثية، وتسعى إلى ترميمها وتطويرها وحمايتها، وجعلها مقصداً للسياح، لجأت حكومة نظام صدام حسين إلى هدم قلعة كركوك التي بنيت قبل أكثر من ألفي عام.

في الواقع، إن قلعة كركوك لم تكن كأي قلعة، بل كانت حاضرة تاريخية تعج فيها الحياة، كانت تضم أحياءً سكنية مكتضة. لقد عمد نظام البعث على تشريد سكانها، وتم تدمير بيوتاتها التراثية، وهدم مدارسها ومساجدها وكنائسها ومعالمها التاريخية، التي لطالما وقفت شامخة لتروي عبق وثراء حضارات أرض الرافدين.

وفي مدينة كفري التركمانية، تعرض سوقها المسقوف لتدمير واسع، فيما لا تزال أطلال ذلك السوق تقف شاهدة على عراقة المدينة، وقد لحق الهدم والخراب عشرات المطاحن الحجرية العتيقة وجداول المياه التي كانت تروي المدينة، وجرى هدم القشلة العثمانية، وتدمير البساتين والبيوت التراثية المبنية من الحجر، وتسوية المساجد التاريخية بالأرض. وفي الوقت التي لا تزال فيه بعض الأحياء القديمة في المدينة تحافظ على النذر اليسير مما تبقى من البيوت المقببة وأجزاء من السوق المسقوف، تستنجد المدينة الخيرين والواعين لأهميتها من أجل ترميمها ولاستعادة ما تبقى من ألقها والحفاظ على آثار الأجداد ووجه المدينة المشرق بمعالمها.

لقد طال الدمار والإهمال العديد من الأثار التركمانية في المدن والبلدات التركمانية، ففي مدينة قزلرباط مثلاً تم هدم بيوتها التاريخية، وحمامها العثماني. ورغم قدرة بعض البيوت على الوقوف بوجه الزمن وأعمال التخريب، إلا أنها تعاني من الأهمال، رغم نضالها من أجل الحفاظ على إرث المدينة.

ومع ظهور تنظيم “داعش” الإرهابي، شهدت معظم المناطق التركمانية دماراً لا مثيل له، فقد نزح مئات آلاف التركمان من مناطقهم في ديالى والموصل وكركوك وتلعفر ومنطقة البيات. كما تعرض مرقد النبي يونس والنبي شيت للتدمير، من خلال تفجيرهما بالقنابل على يد إرهابيي داعش، وتعرضت أثار مدينة نمرود التاريخية للنسف والنهب، ودُمّرت محتويات متحف الموصل، ونسف التنظيم مسجد النوري الكبير ومنارته الحدباء التي بناها السلطان نورالدين زنكي قبل نحو تسعة قرون، وهو ثاني مسجد يتم بناء في الموصل.

لقد طال الدمار الممنهج الذي مارسه تنظيم داعش الإرهابي، قلعة تلعفر التاريخية، فقد أقدم التنظيم على نسف القلعة وتدميره بالكامل. ولحق الدمار بقشلة كركوك العثمانية، بسبب الأهمال، فقد سقطت أجراء منها بسبب الظروف الطبيعية والإهمال وعدم ترميمها منذ سنوات.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 تعرض السوق القيصرية المسقوف في كركوك إلى حريق هائل، التهم محلاته التاريخية وحولها إلى رماد. ولم يُعرف سبب الحريق على وجه التحديد، رغم ورود أنباء عن قيام مجهولين بافتعال الحريق، وذلك استنادًا لوجود علبة مشروبات غازية موضوعة أمام كاميرا المراقبة الموجودة عند مدخل السوق.

إن ما تم ذكره أعلاه، ما هو إلا أبرز الاغتيالات التي طالت الآثار والأمكان التاريخية في المناطق التركمانية، والقائمة تطول فيما لو قمنا بذكر المواقع الأثرية التي تعرضت للتدمير، كلّ على حدة.

إن الحفاظ على تاريخنا وتراثنا من الدمار والضياع مسؤولية كل تركماني، ومسؤولية الدولة العراقية، والسلطات المحلية في مناطق ومدن توركمن إيلي.

ومن هنا، أدعو جميع المثقفين التركمان وكافة المنظمات والمؤسسات التركمانية، لعقد مؤتمر دولي يتناول واقع الأماكن والمواقع التاريخية والأثرية في مناطق توركمن إيلي بالعراق، وبحث سبل حمايتها وترميمها وإعادة بناء المدمر منها.

كما أتوجه بالدعوة إلى الوزارات العراقية المعنية، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو”، والمنظمات الدولية المهتمة بالمواقع الأثرية والتراثية في العالم، من أجل تسليط الضوء على واقع الأماكن الأثرية والتراثية في مناطقنا، ووضع آليات المحافظة على ما تبقى من آثار أجدادنا، والمعالم الحضارية لمناطقنا.