جميع دول العالم وحكوماتها ، مع استثاءات نادرة ، تكافح من اجل الحفاظ على مصالح شعوبها وتحقيق مكاسب جديدة . التحالفات ، بأشكالها المختلفة ، والنزاعات والصراعات العسكرية او السياسية ، والتنافس على النفوذ و الهيمنة ، تندرج معظمها في اطار رؤية المصالح تلك ، والخروج على هذه القاعدة لايأتي الا من أنظمة او سلطات تدور في فلك التبعية لدول اخرى ، اما بسبب عدم الاستقرار وتبلور نظام سياسي وطني واضح ، او نقص في عناصر السيادة الوطنية لأسباب مختلفة .
العراق ، ومنذ العام 2003 لم يغادر دائرة الاستثناء هذه ، عدا المحاولات الجادة في عهد حكومة الدكتور اياد علاوي التأسيسية ، والتي لم تتجاوز في عمرها السنة الواحدة .
يتضح غياب رؤية المصالح هذه في خطط وسياسات الحكومات العراقية المتعاقبة ، بغض النظر عن الخلفيات والدوافع ، في فشلها على مستوى ادارة ملفات مصالح البلاد الداخلية والخارجية ، فقد افضى غياب الرؤية والإرادة الوطنية الى شل التقدم في قضيتي المصالحة الوطنية في الداخل ، واعادة تأهيل انخراط العراق في المجتمع الدولي ، سيما العالم الحر ، وكذلك عمقه الجيوسياسي الطبيعي الممثل بالعالم العربي والاسلامي .
ان تحقيق المصالحة الوطنية ، المعطلة بفعل تغييب رؤية المصالح الستراتيجية ، ينتهي حتما الى بسط الاستقرار وحفز التنمية ، وينهي حالة التدخلات الخارجية ، ويفرض سلطة القانون عبر المؤسسات الشرعية ، وهو مايتعارض اولا مع ارادة الهيمنة الاقليمية ، ويقضي على سطوة الميليشيات المسلحة وجماعات الجريمة وكل مظاهر الانفلات ، والتي تصب في مصلحة جهات اقليمية ودولية اضافة الى امراء الحرب وتجار السياسة.
لقد اتخذ منهج تعطيل المصالحة عبر السنوات المتلاحقة اشكالا عديدة وتحت ذرائع مختلفة ، ولعل تأجيج الطائفية السياسية على الصعيدين الوطني والاقليمي اسهم بشكل حاد في الدفع بمبررات التعطيل المستمر ، بل وشكل احيانا ذريعة وجيهة
للتشكيك بصحة المصالحة كمبدأ وكمشروع ، وتبريرا لإستهداف رموزها بالتصفية الجسدية ومحاولات الاغتيال والاعتقالات والتسقيط السياسي والقفز على الاستحقاقات الانتخابية كما هو حاصل مع السيد اياد علاوي وفصيله السياسي .
لقد نجح التحالف الخارجي – الداخلي ، من خلال تبادل الادوار والدعم ، في التراجع عن تكليف السيد علاوي بادارة ملف المصالحة بعد تنصل الحكومة عن التزامها بهذا الشأن ، بل والقفز على استحقاق الوطنية الانتخابي في الحكومة الحالية في مناصب نائب رئيس الجمهورية والوزارة والاجهزة الامنية والهيئات المستقلة ، بهدف ابعاد الطيف الوطني عن المشاركة في صناعة قرارات الحكومة والتي باتت مقسمة على اسس من الطائفية السياسية .
ان اعادة طرح ملف المصالحة مجددا ، وان يمثل مبدأ مقبولا ، الا انه محكوم بالفشل المسبق ، والمقصود ربما ، بتغييب اجراءات بناء الثقة وقرارات المصالحة الجادة والرمزية المقبولة والادارة الفعالة والجادة ، فالمصالحة ليست مؤتمرات ولا لجان عندما تفرغ من النوايا الصادقة والقرارات الفاعلة .
ومجددا ، يتجلى غياب الرؤية والارادة الوطنية المستقلة والفاعلة عن سياسة العراق الخارجية ، فالحكومة لم تنجح في دمج الدولة الديمقراطية الفتية في العالم الحر ، واختارت تكبيل البلد في محاور طائفية زادت من الاحتقانات والتوترات في المنطقة وحفزت التدخلات الخارجية في الشأن الوطني بعد ان خسرت تعاطف ومساعدة العالم الديمقراطي ووضعت البلاد تحت رحمة قوى الارهاب والتطرف الفكري .
ان عدم اعتماد ستراتيجية متكاملة للسياسة الخارجية تنبني على مصالح العراق وقيمه كدولة من العالم الحر ، تقف وراء تخبط سياسة الحكومة الخارجية وتعدد مراكز القوى فيها ، واتسامها بطابع ردات الفعل اكثر من المبادرات الاصيلة ، كما انها باتت صدى لارادات ومصالح خارجية اكثر من كونها انعكاسا لمصالح العراقيين وقضاياهم ، وما الانغماس غير المدروس في المحاور والاحلاف والاتفاقات السرية والتنصل منها والمواقف من التجاوزات على السيادة العراقية والتدخل في شؤون الدول الأخرى او السماح بتدخلاتها الا تجسيد لهذا الاضطراب في الرؤى والمواقف .
ان اعادة رسم السياستين الداخلية والخارجية لمواجهة المشاكل والازمات ، وبلحاظ تطورات الاوضاع السياسية والامنية والاقتصادية في المنطقة والعالم والمتغيرات القادمة ، ومن منطلقات مصلحة العراق الوطنية العليا وسيادته واستقلاله ووحدة شعبه وتكريس النظام الديمقراطي فيه ، هي اهم التحديات المصيرية التي تواجه الحكومة والشعب العراقي معا والتي لاخيار سوى النجاح فيها .