23 ديسمبر، 2024 8:08 ص

اطلبوا العلم من الصين ولكن!

اطلبوا العلم من الصين ولكن!

بين الأسئلة المثارة هنا واجوبتها المرة كمٌ هائل من الاحداث في حقبة زمنية تزيد قليلا على سبعين عاما، بين مجموعتين من دول العالم في منطقتين متباعدتين، لكنهما متقاربتين في التكوين الاجتماعي والارث الحضاري، هذه الاسئلة التي تبحث عن خلل بنيوي يتعلق بجملة من المرتكزات الأساسية في البناء والتركيبات التربوية والاجتماعية وربما العقائدية وما يلحق بها ممن عادات وسلوك متوارث، ناهيك عن التأويلات والتفسيرات لكثير من النصوص والعقائد والنظريات في مجتمع قبلي وأسري يرتبط عضوياً بالبداوة والزراعة وما يتعلق بهما من قوانين وضوابط وارتباطات، ولذلك ذهبنا إلى محاولة لمقاربة مجتمعات هي الأقرب في ظروف تكويناتها وطبيعة تركيباتها الاجتماعية والاقتصادية رغم ادراكنا لمرارة الأجوبة والفرق الشاسع في اسلوب التفكير والتطبيق، لكنه ومن باب استخراج مكنونات العلل للوصول الى نصف التشخيص على الأقل انطلقنا من عام 1949م حيث سجل التاريخ السياسي والاجتماعي للشعوب حدثاً مهماً في قارة آسيا، وهو انطلاق الثورة الصينية العارمة بقيادة الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ، والتي احدثت زلزالا اجتماعيا واقتصادية في سدس العالم على الأقل، ولم تمضِ إلا ثلاث سنوات بعدها حتى شهدت قارة أفريقيا حدثاً كبيراً قاده أحد الضباط الثوريين عام 1952م، في انقلاب عسكري ربما الأول من نوعه في المنطقة وفي واحدة من أقدم ممالك العالم ألا وهي مملكة مصر وارثة ممالك الفراعنة التي أسقطها الزعيم القومي جمال عبد الناصر، ورغم ان الفرق شاسع بين الحدث الأول الذي جاء افقيا وبين الحدث الثاني الذي استهدف رأس النظام عموديا، الا انه أي انقلاب مصر كان حدثا غير وجه الشرق الأوسط برمته، بل وجه أفريقيا وحركاتها التحررية فيما بعد، والمثير أنّ الحدثين الصيني والمصري يصنفان على يسار الحركة السياسية في العالم آنذاك، وهناك الكثير من التشابهات بين الدولتين والشعبين فيما يتعلق بالتاريخ والحضارة التي تمتد في كليهما إلى عدة آلاف من السنين، إضافةً إلى التشابه في نسبة الأمية والفقر العالية قياساً لكثافة السكان، مع انخفاض مريع لإنتاجية الفرد والمجتمع إبان قيام الثورتين، وما حدث بعدهما بسنوات ليست طويلة إثر قيام الثورة العراقية في تموز 1958م والكثير من التشابهات بين هذه الدول وأنظمتها الاجتماعية المحافظة وما جرى فيها خلال عدة عقود من الزمن المزدحم بالإنجازات في بعضها والمتقهقر في بعضها الآخر.
لقد خاضت حكومات وشعوب تلك الدول حروباً وصراعات وانقسامات وانقلابات وثورات كثيرة متشابهة أحياناً ومختلفة إلى حدّ ما في أحيان أخرى، لكنها رغم ذلك وبعد ما يزيد على سبعين عاماً بقليل استطاعت أن تُحدث تغييراً نوعياً كبيراً في مسار تقدمها وشكل ومضمون حضارتها، وبالذات في الصين العظمى والصغرى في تايوان والأصغر في هونغ كونغ، وما حصل من تطور مذهل في كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورا، وإزاء ذلك علينا أن نتساءل عن الفروقات بينهم وما حصل خلال ذات الحقبة الزمنية من تقهقر مريع وحصاد هزيل في بلداننا، وكيف غدت دول مثل مصر والعراق وسوريا ومن ماثلهم من أنظمة ودول بقياسات زمنية واجتماعية وسياسية متقاربة قياساً إلى ما حدث في الصين الصغيرة منها والعظمى، وما نتج في كوريا وكثير من بلدان جنوب شرق آسيا التي لا تختلف كثيراً عن دولنا وشعوبنا.
أين مراكز القوة في المجموعة الأولى لكي تقدم هذا المنتج المذهل خلال هذه السنوات وتصل إلى ما هو عليه الآن من تقدم مبهر في كل من الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة؟
وفي الطرف الآخر، أي في مجموعتنا هنا في الشرق الأوسط عموماً، وحصرياً في دول الحضارات القديمة مصر والعراق وسوريا، أين تكمن نقاط الضعف والخلل التي تسببت في هذا الانهيار والتقهقر والانكفاء؟
هل هو الفرق بين الثورة الحقيقة والانقلاب العسكري، أم انها تراكم هائل من الافكار والسلوك والتطبيق؟
الأسئلة كثيرة ومؤلمة لكنها مثيرة أيضاً رغم آلامها، فهي تبحث عن تحديد مكامن الخلل بجرأة وشفافية، وكما يقول الأطباء فإن التشخيص نصف العلاج، خاصة عند إجراء مقارنة بين الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وبقية هذه المجموعة مع مصر والعراق وسوريا التي تتشابه كثيراً في طبيعة المجتمعات وأوضاعها ونقطة الشروع فيها، وبذلك ربما ننجح في وضع خارطة طريق للأجيال القادمة لا تعتمد ذلك الكم الهائل من الموروث المربك والمعيق وما يلحقه من عادات وتقاليد ونظريات وتأويلات اجتماعية ودينية أثبتت فشلها على أرض الواقع، بل كانت السبب الرئيس لفشل كل أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويبقى السؤال الأهم: هل ما يزال طلب العلم متاحا من رفاقنا أهل الصين، أم انه كفر والحاد!