تقاطرت دموع الطفلة نور بغزارة وهي تطرق باب بيتها بقوة وترتمي بأحضان أمها مستغيثة من قسوة معلمتها التي انهالت عليها بالضرب دون مبررات مقنعة وعلى ما يبدو إنها لم تكن المرة الأولى إذ باتت تلك الظاهرة هي العلامة المسجلة لأغلب المدارس الابتدائية التابعة لمديرية الرصافة الثانية التي تشكو مدارسها من تزايد أعداد الأطفال في الصف الواحد وبالتالي فهو المبرر الجاهز لمديرات المدارس لاستسهال تلك الطريقة بالتعامل مع الأطفال بحجة عدم السيطرة على خمسين أو ستين طالب في الصف الواحد حتى وان كانت أعمارهم بين الستة والثمانية أعوام .
نور ظلت حبيسة الدار ليومين وهي مسكونة برعب حقيقي من معلمتها التي لم تخبرها عن أسباب الضرب وقررت ترك المدرسة لكن أبويها انصاعوا لرغبة الطفلة وحاولوا مناقشة الموضوع مع الادراة باعتبارهم مختصين بشؤون التربية عسى أن يذكروا المعلمات بتبعات العقاب الجسدي للأطفال بهذه الأعمار وما هي المردودات النفسية السلبية على سلوك الأطفال وانعكاسات ذلك على المجتمع الذي يعاني من مشكلة تفشي ظواهر العنف
لكن الأبوين تفاجئوا بردود مديرة المدرسة التي دافعت عن طريقة المعلمات معتبرة إن ذلك هو الحل الوحيد للسيطرة على الطلبة وكررت عبارات السخرية من أي شكوى ممكن أن يقدمها الأهالي بحق من يمارس هذا النوع من العنف فهذا الأمر الطبيعي حسب قول أهالي الطلبة الذين ملوا طرق أبواب وزارة التربية من اجل نقل استغاثاتهم فاستسلموا للصمت والاستكانة شراءا لراحة البال أو خشية من أن يزيد ذلك من غضب المعلمات فيترجموا انتقامهم من الأهالي بتوجيه اللكمات التي لا ترحم إلى اللأجساد النحيلة الطرية التي يفترض أن تكون في أمان كامل من كل أنواع الاهانة أو القسوة وهم بين جداران المدرسة ذلك المركز التربوي الذي يعرف العاملون به معنى الطفولة وكيفية احترام مشاعر براعم جاءت كي تتعلم وتبتكر وتتلمس طريق الحياة دون أن تتعرض للطرق البدائية التي هجرتها كل مدارس العالم بل باتت تعتبر من الجرائم التي يحاسب عليها القانون
لكن عصا المعلم العراقي لا تريد أن تغادر مقبضه وهو الذي يريد أن يحقق انتصاراته بروح انفعالية لا تمت بأي صلة بما يفترض أن تتسم به روح المعلم والمعلمة من تسامح وقدرة على استيعاب جموح الأطفال في هذه الأعمار
التي يوصي التربيون بها و بأهمية البحث عن كل وسائل الجذب المتاحة من اجل الحيلولة دون هروبهم من المدارس التي باتت بفعل جهل الكثير من المعلمات والمعلمين أشبه بالكابوس المرعب حتى وصلت نسبة التسرب من المدارس الابتدائية إلى ما يقرب من ثلاثين بالمائة وهي النسبة الأكثر في العالم في بلد عرف أولى الحضارات الإنسانية
وما يؤسف له هو غياب أي نوع من المراقبة الحازمة والفاعلة لسلوكيات المعلمين في المدارس إذ إن إدارات اغلب المدارس يتم اختيارها بنفس آليات اختيار كل المسئولين الحكوميين في عراق اليوم عن طريق المحسوبيات لذلك فهي ابعد ما تكون عن أي متابعة او حتى عتاب ويندر إن تأتي لجان تفقدية للتعرف على حال المدارس وطرق إيصال المواد وأساليب التعامل الحضارية مع الأطفال
ومن النادر أيضا أن تقوم وزارة التربية بإجراء ندوات وورش تعليمية للكوادر التدريسية لأجل إيصال مفاهيم التربية الحديثة في تنمية مخيلة الطفل وتأسيس جسور التواصل المعرفي والإنساني معه مع التنبيه من مخاطر التعامل بقسوة لان ذلك يهدد بإنشاء أجيال تدمن لغة العنف والانتقام وتمارس السلوك العدواني بلا شعور نتيجة تراكمات الفعل القاسي وتكرار العقاب الجسدي
ويؤشر علماء النفس ان تكوين مجتمعات مسالمة تؤمن بالعقل وتنشيط الانتاج وحب الوطن تبدأ من التربية السليمة للأطفال من خلال خلق المناخ المثالي وزرع روح المبادرة في المشاركة الجماعية بالنقاش والجدل الحر مع الأصدقاء والمعلمين لا بكتم وقتل هذه الروح من خلال الترهيب والتلويح بالعقاب
كل الذي أتمناه من مدريات التربية في الوزارة هو تحفيز المعلمين على العمل الحقيقي المثمر وتذكيرهم بالمسؤولية الكبيرة الملقاة عاتقهم في تنشئة جيل متعافي من عقد الخوف والإذلال الذي عاشته الأجيال العراقية
وقد يكون حصاد اليوم من التشظي والفوضى وغياب الروح الوطنية وانعدام الضمير المهني هم نتاج طبيعي من
طرق التربية البدائية التي اعتمدت الضرب المبرح والعقاب الجسدي والنفسي لأطفال حملوا في نفوسهم أوجاع الماضي ونمى ذلك الشعور بالحيف الذي يترجم بالانتقام وما أتمناه من متظاهري ساحة التحرير ان يتفقوا على رفع شعار كبير (رفقا بأطفالنا ) عسى أن تحرك وزارة التربية ساكنا وتتخذ الإجراءات الرادعة بحق من يتخذ العنف وسيلة للعمل التربوي والتعليمي .