23 ديسمبر، 2024 2:26 م

اطباء العراق يعملون وسط العنف والضغوط العشائرية

اطباء العراق يعملون وسط العنف والضغوط العشائرية

جريدة ديلي ستار
منذ اشهر ولغاية الان، لا يزال طبيب التخدير بشار طه يعيش في حالة خوف دائم من ردود فعل انتقامية.
يمثل طه البالغ من العمر 38 عاما، يمثل واحدا من فريق طبي اجرى عملية تجميل لانف احدى الفتيات في واحد من المستشفيات في بغداد. لكن تلك الفتاة واجهت مضاعفات جراحية ما بعد العملية بوتيرة استدعت وضعها في العناية المركزة حيث فارقت الحياة هناك. وحسب تقرير تشريح الجثة، تبين وجود بكتريا سامة دخلت جسدها من داخل غرفة العناية المركزة ادت الى وفاتها.

لكن ذلك التقرير لم يكن كافيا لأقناع عائلة الفتاة التي اتهمت طه والجراح المعالج بالتقصير، وطالبتهم بدفع دية عشائرية تعويضا عن مصرع الفتاة. وفي حال رفض الاطباء الانصياع لهذا الكلام، فأن العواقب قد تكون وخيمة بحسب تهديدات العائلة.

فيما يكافح العراق ضمن حربه الضروس ضد تنظيم داعش الارهابي الذي سيطر على مساحات واسعة من البلاد منذ عام ونصف، الامر الذي تسبب بأنزلاق البلاد نحو واحدة من اسوء ازماتها الامنية والسياسية منذ انسحاب الولايات المتحدة نهاية العام 2011، تصاعدت وتيرة التهديدات بحق الاطباء الى حد كبير. وحسب تقرير نشر في مجلة لانسيت الطبية، فأن احصائية خلصت الى مصرع اكثر من 2000 طبيب في العراق منذ الغزو الاميركي لهذا البلد ربيع العام 2003. وخلال العام الماضي، قال الاطباء والعاملون في القطاع الصحي انهم واجهوا مشاكل ومضايقات متزايدة فضلا عن هجمات مستمرة من قبل ذوي المرضى.

ان هذه الظاهرة تعكس تنامي دور النفوذ والقوة العشائرية في عراق يعاني اصلا ضعفا وتدهورا في قوة حكومة البلاد المركزية. وكان من شأن هذا الوضع ان بدأ يدفع الاطباء الى رفض الحالات الطبية او السعي لإيجاد عمل لهم خارج البلاد، الامر الذي ادى بدوره الى تدهور اضافي في وضع البلاد الصحي المتعثر اصلا، والذي يعاني الفساد وسوء الادارة ونقص المستلزمات. لقد توجه طه الى نقابة الاطباء العراقيين وحتى الى رجال الدين، غير انه لم يمكن يؤمن بجدوى اللجوء الى النظام القضائي العراقي الذي يعاني فشلا مقابلا، حيث لم يحصل الا على تلميحات بوجوب توجهه الى زعماء عشائريين بغية معالجة القضية. ولم تنته مشكلة طه والجراح الذي معه الا بعد ان دفعوا مبلغ 50 مليون دينار لعائلة الفقيدة كي يسكت هؤلاء عن تهديداتهم.

يقول طه عن هذا الموضوع معلقا “اننا نعيش في حالة من انعدام القانون حيث ان الحكومة بالكاد تعمل”. واضاف ايضا “لذلك، فقد وجدنا انفسنا مضطرين للدفع بغية حماية انفسنا وعوائلنا، وعلى الاقل كي نحمي انفسنا من احتمال التعرض لهجمات من قبل اناس همجيين في الشارع امام الناس بأسم المطالبة العشائرية”.

يقول نائب رئيس نقابة الاطباء العراقيين، الدكتور مهدي جاسم، ان الهجمات تحصل بمعدل يومي في مختلف المراكز الطبية نتيجة لتراجع الوضع الامني في عموم انحاء البلاد”. ودعا جاسم الى ان تتخذ الحكومة اجراءات عاجلة بغية حماية الاطباء او ان النتيجة ستكون خسارة الجميع”.

منذ الغزو الاميركي الذي ادى الى الاطاحة بنظام صدام حسين، كانت طبقة الكفاءات العلمية ولا تزال محط استهداف الجماعات المسلحة التي تحاول توسيع قاعدة الفوضى، او من خلال العصابات التي تهدف الى ممارسة الابتزاز وجمع الاموال غير المشروعة.

لكن الامر لم يبدأ مع الغزو الاميركي وانما منذ فترة تسعينيات القرن الماضي حينما كانت البلاد تأن تحت وطأة عقوبات اقتصادية اممية قاسية دفعت اكثر من 11000 طبيب عراقي الى الرحيل عن بلادهم، و ان كانت غالبية هؤلاء رحلت بعد الغزو حسب ما تؤكد وزارة الصحة العراقية. وفي هذه الاثناء، فأن المراكز الصحية تعاني قلة الكوادر الطبية الذي تعمل فيها، والتي بلغت ما دون الـ25% من الكادر المطلوب حسب المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة العراقية السيد احمد الرديني.

وبرغم ان الاعداد الدقيقة للهجمات والاختطاف والقتل التي مست الكوادر الطبية غير متوفرة، الا ان الريدني قال ان القضية باتت ظاهرة متفاقمة بدأت تدفع الكثير من الاطباء مؤخرا الى عدم قبول عمليات الجراحات الكبرى جراء المخاطر الكبيرة التي تكتنفها، او انهم يسعون الى البحث عن ملاذ آمن خارج البلاد، الامر الذي يصعب على وزارة الصحة العراقية اقناع هؤلاء الذين توجهوا الى الخارج كي يعودوا من جديد.

يقول جاسم ان كل شهر يمضي يتقدم فيه ما يقدر بـ70-80 طبيبا جديدا للانتساب الى نقابة الاطباء بغية الحصول على الوثائق اللازمة للبحث عن عمل خارج العراق.

اما المتحدث الرسمي بأسم وزارة الداخلية العراقية العميد سعد معن، فقد اكن من جانبه تشكيل لجنة متخصصة بالتنسيق مع وزارة الصحة بشان متابعة هذه الاعتداءات. واضاف معن قائلا “لقد عمدنا الى زيادة عديد الحراس الامنيين الذين يعملون في مؤسسات الصحة، فضلا عن ان المهاجمين سيواجهون اجراءات صارمة”.

كما هو الحال مع باقي ارجاء العالم العربي، فأن الانتماءات العشائرية تلعب دورا كبيرا في المجتمع العراقي. لقد كان دور تلك العشائر اقل صخبا بكثير مقارنة بفترة ما قبل العام

2003، غير ان الامر تغير بعد الاطاحة بالنظام السابق نتيجة للفوضى واستمرار ضعف الحكومات التي ادارت البلاد من حينها.

لذلك، بات العديد من الناس الان يفضلون حل مشاكلهم ونزاعاتهم والقضايا التي يواجهونها مثل السرقة والاعتداءات والقتل من خلال العشائر عوضا عن التوجه للسلطات الرسمية. ومن اللافت ان بعض النزاعات التي احتدمت في مناطق الجنوب تحولت الى صدامات مسلحة وادت الى اراقة دماء بطريقة استدعت حراكا سياسا دفع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الى زيارة المحافظة وارسال قوات اضافية اليها بعد ان شهدت الكثير من هذه الصراعات مؤخرا، وذلك من اجل ضبط الامن والنظام هناك، وهو ما تسبب به عجز القوات الامنية وشلل الدولة بالدرجة الاساس.

ولا تزال العشائر العراقية تتبع اساليب ووسائل وافكار منهجية استمرت منذ قرون طويلة، حيث تقوم العشيرة المطالبة بأرسال وسطاء الى العشيرة الاخرى بغية عقد لقاء في الديوان الذي يعد مكان استقبال الضيوف لدى العشائر بالعادة، وذلك في غضون فترة معينة من الزمن. واذا ما اخفقت العشيرة الاخرى في ذلك، فأن الكثير من افراد العشيرة الاولى يمكن ان يحملوا السلاح ويعمدوا الى اعمال انتقامية معينة ضد العشيرة الاخرى.

ولا يتوقف الامر على المواطنين العاديين عندما يتعلق الموضوع بحل النزاعات وفق الاسلوب العشائري. فقد توسع الموضوع ليشمل حتى اعضاء مجلس النواب العراقي، حيث ان العام الماضي شهد ما لا يقل عن عقد مجلسين عشائريين مع عشائر نواب اثر تصريحات ادلى بها هؤلاء ضد بعظهم البعض في وسائل الاعلام.

من جانبه، كان لآية الله العظمى السيد علي السيستاني موقف ناقد لضعف الدولة الذي افسح المجال للبعض كي يستخدموا نفوذهم وصلاتهم العشائرية وسيلة لمهاجمة اخرين وابتزازهم.

نهاية العام الماضي، لقي شاب يدعى صدام السعيدي مصرعه بعد اجراءه عملية لتقليل الوزن في مدينة البصرة. وقبل ان تظهر نتائج التشريح العدلية، عمدت عشيرة السعيدي الى ادانة وتقصير الطبيب الجراح الذي اضطر بدوره الى الهروب من المدينة بعد كتابة عبارة “مطلوب دم” على جدار منزله وعيادته.

وفي هذا السياق، تحدث شقيق السعيدي المتوفي ويدعى محمد قائلا “ان الوضع الصحي في البصرة مريع جدا. ان الاطباء جشعون ولا يهمهم شيء سوى ملئ جيوبهم، فيما السلطات لا تراقب عملهم ولا تعاقبهم على إساءاتهم”. واضاف كذلك قائلا ” لوان كل تلك السلبيات ما كانت موجودة في العراق، فأني ما كنت لألجأ للعشيرة قط”.

كما اضاف قائلا “اذا ما كان النواب انفسهم يلجؤون الى العشائر بغية حل نزاعاتهم، فكيف سيكون حال الناس العاديين يا ترى؟”.

يقول احد الاطباء الجراحيين من بغداد ان احدى مريضاته توفيت قبل اشهر قليلة بعد خضوعها لجراحة لتخفيف الوزن، الامر الذي دفع عشيرتها للمطالبة بتعويض مالي. وقال الجراح الذي رفض الكشف عن اسمه لكونه لا يزال يسعى لحل القضية, قال ان عشيرة المريضة رفضت حتى مجرد انتظار تقرير تشريح الجثة وحتى انها هددته بالقتل.

وانتقد الجراح موقف الشرطة التي لم تتعامل مع قضيته بجدية حسب وصفه، الامر الذي اضطره في النهاية ان يطلب من عشيرته التدخل، فضلا عن كونه اضطر الى وضع حراس على باب عيادته ومنزله.

وقال الجراح معلقا “انا لست مذنبا ولا اريد حل الموضوع من خلال العشائر”. واضاف انه بمجرد ان يتم حسم الموضوع، فأنه سيسعى الى الحصول على اجازة لعام كامل من دون مرتب بغية البحث عن فرص عمل اخرى خارج العراق.

وختم الجراح ذاته يقول “لقد كان لدي طموح كبير، الا ان كل شيء انتهى الان”.