23 ديسمبر، 2024 8:43 م

اصول الاستبداد العربي

اصول الاستبداد العربي

يشكل الاستبداد اعلى مراتب النفي الذاتي للشعوب على مستوى العالم ككل وعلى المستوى العربي بشكل خاص، فحالة الشعور بالقمع المتجسد في الذات من قبل الآخر تعيق التقدم وتسبب ضموراً في الانتاج وبالتالي فان الاستبداد يساوي الجمود بجميع صوره الفكرية والابداعية والانتاجية، ويصادر حرية الافراد تحت ذرائع ومسميات تبريرية عديدة.
وقد شغل مفهوم الاستبداد حيزاً هاماً لدى الفلاسفة والمفكرين على مر التاريخ، فهو لم ينوجد في مكان دون آخر بل استفحل في بقاع المعمورة كافة، وعليه فقد ظهر صراع بين الحاكم والمحكوم منذ وجد الحكم وما زال يشغل حيزاً في التفكير للخروج من هذا المأزق الذي تعانيه الانسانية.
يمارس الاستبداد من قبل الفرد او الجماعة على السواء. فالحاكم المستبد يدير ظهره للمحكومين من غير اكتراث لمصالحهم، لانه يهتم ببقائه واستمراريته. فهو فوق القانون بل القانون نفسه، فيحاسب ولا يحاسب. كما ان المستبد يتصرف في الحكم بشكل مطلق، وهذا يؤدي الى العسف والتحكم والاستبداد والسيطرة التامة على المحكومين.
والاستبداد يتدرج في تجسده، فكلما مر زمن على التحكم بالسلطة، تسلط الحاكم واستبد وبالتالي فان ديمومة الاستبداد تنبع من استمرارية وجود الحاكم الذي يصبح فاقداً للأهلية. ولأنه يعاني نقصاً في شخصيته ما يؤدي الى اشتداد الاذى على المحكومين. ويُلجأ الحاكم المستبد كثيراً الى الحكم المطلق من خلال المخزون الالهي، فهو يقدم نفسه على انه خليفة الله على الارض، وبخاصة عندما ينحو منحى الحكم المطلق من مبدأ الحق الالهي، وهذا يزيد من التعسف، لأن ارادته من الله وبالتالي لا يستطيع احد محاسبته، لانه فوق ذلك.
لقد بينت التجربة التاريخية، ان الشعب وجد من اجل خدمة الحاكم، في حين يقتضي المنطق الاخلاقي وضرورات التعاقد السياسي والاجتماعي، انه يجب ان يكون الحاكم في خدمة الشعب والا خرج الامر عن اساس التعاقد، وعندها ينتفي مبرر وجود الامير، كما يؤسس اصحاب نظرية العقد الاجتماعي والتعاقد السياسي. ولذا، فان حالة تقديس الحاكم التي يظن الكثيرون انها الوضع الطبيعي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم على نمط السيد والتابع ليست الا تجلياً لظاهرة الاستبداد.
 لقد اثبتت التجربة التاريخية، ان مجرد تغيير حاكم مستبد لا يلغي الاستبداد، وهذا يعود الى وجود جذور للاستبداد تصعب خلخلتها. وهنا لا يكمن الخلل في الحاكم المستبد وحسب بل في المحيط العام الذي خرج منه. لذا ثمة حاجة الى معرفة اصول الاستبداد العربي بصورته التراكمية.
ثمة اشكاليات ذات صبغة انتقالية بدأت بالحقبة ما قبل الاسلامية التي تعرف بالجاهلية، ثم الحقبة الاسلامية، واخيراً الحقبة المعاصرة، وهذه المراحل كلها غنية بالتراكمات التي عززت الاستبداد رغم الخلط الذي يكتنف كثيراً من الدراسات حول مفهوم الاستبداد، وفاعله، وموضوعه.
وعليه، بحث الكتاب الممهدات الاساسية التي تبحث في ثناياها عن الارضية العامة للاستبداد العربي ومنابعه… فبحث في طبيعة العلاقة ما بين العرب والامبراطوريتان التي وجدت في المنطقة العربية. فحالة التأثر العربي بالجوار الامبراطوري بلغت حد التبعية في كثير من الاحيان، حيث مثلت الممالك العربية الذراع العسكري للفرس والروم وما انعكس على طبيعة الحكم في هذه الممالك التي اصطبغ حكمها بالاستبداد، كما هو الحال عند الفرس والرومان.
لقد تبين من استعراض الكتاب لبعض انظمة الحكم في معين، وسبأ، ومملكة حمير، انها في مجملها كانت تمارس الحكم الاستبدادي في ظل الواقع القبلي، وقد كان ذلك نتيجة التأثير بالامبراطوريتين. وفي الجانب الآخر من المنطقة العربية كانت مكة ذات التوجه القبلي. فالقبيلة مثلث بما تحمل من العصبية ذات الالتزام الصارم بين افراد القبيلة الحامية لمصالحهم وحياتهم. يأتي ذلك في ظل الصراع العصبوي بين القبائل. فالعصبية الاقوى هي التي تخضع الاضعف وتحافظ على مكتسباتها.
ومع ظهور الاسلام الذي نفى التفرد بالحكم والاستبداد الا ان ذلك لم يعف ادلجة الخلافة في اطار السلطة المطلقة تحت غطاء العقيدة التي جسدت في قريش المتجسد مسبقاً في ثناياها السيادة القبلية ضمن المفهوم التقليدي، وهذا فتح الباب لكثير من الجدل فيما بعد، كما نثر بذور الاستبداد والبطانة المنظرة له بشكل اوضح وبخاصة مع قدوم عثمان بن عفان الى السلطة.
الكتاب اعتبر بيعة السقيفة نقطة انطلاق لتبلور نظرية العصبية القبلية وآليات ما رافقها من جدل داخل السقيفة وخارجها، والتطرق الى طبيعة حكم الخلفاء الاوائل وتتبع آلية وصولهم الى الحكم، والخطوط العريضة التي قاموا عليها.
ان احداث السقيفة تمثل حالة عابرة من الصراع السلطوي، ذلك انها تمثل نقطة اساسية من استمرار هذا الصراع. ففي الوقت الذي يجهد فيه الانصار لاقحام الدين في معادلة المفاضلة بين الفرقاء السياسيين، كانت قريش تسعى لابقاء الواقع القبلي على حاله، فقد تم اختيار الخليفة بالطريقة التي اعتادوها في ظل غياب نصوص قرآنية تبين ذلك، اللهم الا بعض اجتهادات ابي بكر المبنية على ما قال النبي محمد (الائمة من قريش) وهو ما لم يسمع به احد من قبل ذلك.. وهكذا غاب الدين عن مسرح الاحداث السياسية وليس ذلك استخفافاً به، فالدين هو الذي اوصل ابي بكر الى الحكم، رغم انه من اصغر بطون قريش، ولكن طبيعة المرحلة وفي ظل سيطرة القبيلة، كان لابد من ذلك حسب ما رآى ابي بكر ومن معه، وقد كان ذلك للخروج من مأزق رفض القريشيين الآخرين لحكم ابي بكر الذي تمسك بخطى النبي محمد، وهذا ما اظهر حركة الردة النابعة من المفاهيم القبلية وليس الدينية لأن القبائل التي خضعت للنبي محمد رأت ان ذلك تم من اجل الدين، اما الخضوع ووقع الزكاة لأبي بكر، فيعني الذل والضعف.
مع بداية عهد الخليفة عثمان، تشكلت بطانة فاسدة من حوله، واغرق الاموال عليها، فكانت البذرة لتكوين طبقة من المستفيدين والفاسدين… فأدى ذلك الى تصاعد وتيرة النقد الموجه له ولبطانته، ما ادى الى مقتله، وهو ما اعطى بني امية، فرصة استرجاع السلطة المفقودة بعد الاسلام، فكان الانقلاب الذي قاده معاوية ضد علي بن ابي طالب بحجة المطالبة بدم عثمان، في حين كان المال والخديعة الاساس في حسم الخلاف ووصول معاوية الى الحكم.
سعى معاوية منذ اعتلاء سدة الحكم، الى تعزيز ركائزه واستمرارية بقائه. ولهذا منح ولاية العهد لأبنه يزيد، وقد اظهر هذا الامر حالة من الرفض لدى المعارضين لحكمه والموالين لـ علي، ما ادى الى ظهور الامامة التي قامت بالاساس نتيجة  الصراع على السلطة، حيث اخذت بعداً ميتافيزيقياً، فأصبح الائمة عند الشيعة بمرتبة النبي بل في بعض الاحيان اعلى درجة، ووضعت في بعض الاحيان درجة تفرده وتأهله وما كان ذلك كله الا ردة فعل على الحكم الاستبدادي الاموي الذي مورس واستمر حتى مع معارضيهم العباسيين.
مثل الصراع الفكري حول السلطة السياسية، اعلى درجات الاحترام مع تعزيز معاوية لحكمه المستبد، فهو الذي دعم حكمه بمبدأ الجبر القائم على ان الله هو العاطي ولا اعتراض على من ولمن اعطى. وعليه، فالمحكومون يجبرون على الخضوع لحكمه لأن مشيئة الله تريد ذلك، ولانهم خلفاء بني امية (خلفاء الله على الارض). ولكن مبدأ الجبر الاموي لم يكن الى ما لا نهاية. فهو يقف عند الحد الادنى الذي يمكن ان يعرض حكمهم للخطر، ولهذا نجد بني امية حاربوا- جهم بن صفوان- لانه قاتلهم. فمبدأ الجبر هو ما يحقق استمرارية الحكم المستبد دون اعتراض.
رافق الاستبداد داعمين له فكرياً وفقهياً بما يناسب القيام بالممارسات الاستبدادية واظهارها مقبولة بحجة حماية الدين حيناً او تبجيل الحاكم المستبد كحق مكتسب حيناً آخر، وهذا الامر طرح من خلال بطانة الحاكم التي تبلورت منذ ايام عثمان واخذت تتغلغل بشكل كبير للتأثير في مجريات الاحداث فيما بعد. وهو ما شكل اطاراً لتبرير الحكم القائم والبحث عن الشرعية المفقودة باستمرار.
لقد مارس الفقهاء الفقه السياسي بما يؤدي الى تضييق الحرية وتعزيز الاستبداد وثم تم استيراد الاداب السلطانية وتم تطعيم الدين بفكر مستورد.. وهذا ما عزز الاستبداد واعطاه بعداً دينياً.
لقد ظهر من دعم الحكم الاستبدادي العربي من الفقهاء والحاشية ومثقفي السلطة. فالفقهاء رأوا في الحكم الاستبدادي افضل من الفتنة، وان الحكم هو حامي الدين وبالتالي لا يمكن ابقاء المجتمع دون حكم حتى لو كان مستبداً، وهذا يعني ابقاء الوضع على ما هو عليه.
واما بطانة الحاكم من بين اطرافها مثقفو السلطة خدام الاستبداد، لانهم صنيعة هذا الحكم، وعليه فانه حتى لو زال الحاكم المستبد فانه سيأتي حاكم مستبد يمكن ان يكون اكثر استبداداً من سابقه بسبب التراكمات الاستبدادية، لان مساعديه يتغلغلون في كل مكان. فالامر ليس قائماً على شخص بحد ذاته بل يتحمل المجتمع المسؤولية الكبرى
في ابقاء هذا الواقع، كما هو منذ مئات السنين (كما تكونوا يول عليكم).
ان بطانة الحاكم ما زالت حتى اليوم تمثل المخارج الاساسية للاستبداد، فقديماً كان واضعوا الاداب السلطانية يقومون بذلك واليوم يقوم به المثقفون، والمقصود هنا ما يمكن تسميته بالمثقف الذي يكون بخدمة الحاكم ويعزز استبداده، فهذا المثقف الاسلامي كان يصيب جل اهتمامه على تقديس السلطان مهما كان دوره ومهما كانت اعماله وهذا عبارة عن تجويف سياسي، وبالتالي اخلاقي للدولة، فليس الهدف عقلنة الدولة بقدر ما هو منع تداول السلطة. ومن هنا فان الحاكم المستبد لا يستطيع ممارسة الاستبداد وحده بل في الغالب يوجد من يعززه ويساعده على
ذلك .
ان المثقفين، كما يصفهم الكتاب- كأحد اطراف بطانة الحاكم هو اكثر تأثيراً وتكريساً للاستبداد. وهم ما زالوا حتى اليوم يقومون بهذا الدور. ففي حين ظهر المثقف الاسلامي كخادم للحاكم، وميسر له في استبداده، كان هناك مثقفون يمثلون واقع المحكومين ويدافعون عنهم وعن مصالهم، ولكن لقلتهم فهم اكثر عرضة للقمع والاضطهاد، واقل تأثيراً في مساحات واسعة. يعود السبب الى البنية الاساسية التي خلق فيها دور مثقف السلطة عربياً، فهو الاداة التي تأتي بعد السيف بعدما يستريح حيث يحتاج الحاكم الى من يروج لحكمه المجيد مع انه في قمة الاستبداد. وهنا يمثل هذا المثقف البطانة غير المباشرة التي تسعى باستمرار لايصال صوتها الى الحاكم كي يرضي عنها ويقربها.
وعليه، فان المفاهيم والاختراعات التي يقوم بها مثقف السلطة احد الادوات التي تعزز الاستبداد وتؤصله، ومنها المستبد العادل الذي يمثل احد جوانب ديمومة الاستبداد، ولكن باسم العدل هذه المرة.
قد يكون مثقف السلطة من اخطر بطانة الحاكم ولكنه ليس الوحيد، فالبطانة متشعبة في جميع الاتجاهات منها المباشرة، كالندماء والاقرباء والجيش والمخابرات…. وغير المباشرة، كالاعلاميين والكتّاب الذين هم امتداد لكتّاب الدواوين يقومون جميعاً بخدمة السلطات وحكمه المستبد.
ان العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة مضطربة تقوم على فرض الطاعة تلبية لخدمة الحاكم واخضاع المحكومين لارادته ومتطلباته دون الاخذ في الاعتبار مصالحهم ولا طبيعية التعاقد الانساني ما بين الطرفين. ولذا ما زالت الانظمة العربية تمارس القمع والاستبداد كحق لها تستنفر قواها دائماً حفاظاً على وجودها، لانها تعلم انها فاقدة للشرعية، فهي تمارس الاستبداد باسم الامن العام والمصلحة العليا للوطن. وهذا لم يأت من فراغ، فقد كان هناك تراكمات واصول اسهمت في ديمومة الاستبداد العربي اليوم.

* الكتاب: اصول الاستبداد العربي، تأليف – زهير فريد مبارك، ط1، الانتشار العربي، بيروت، 2010، 300 صفحة.
[email protected]