للأسف الشديد أن المطالبة بالإصلاح في العراق ما تزالُ غير ناضجة وتجري وفق ارهاصات آنية لا تحققُ سوى الفوضى العارمة والحلول المؤقتة . كما أن الطبقة المثقفة ( بشقيها المدني والديني ) ابتعدت كثيراً عن مواجهة المشاكل والمعضلات المواجهة العلمية الرصينة ، وراحت هي الأخرى تتخبط مع المتخبطين في معالجة الأمور الكثيرة من باب المجاملات أو المصالح المتبادلة أو اثبات الوجود حتى لو كان هذا الوجود هشّاً ومُزيفا . وأرى أن الحلول طويلة الأمد ذات الصبغة الاستراتيجية تحتاج الى المكاشفة الصريحة الواضحة دون خوفٍ أو تردّد ، وأن طريق المحاباة والمجاملات لا يجدي نفعاً على الاطلاق لأن منطق الحياة يفرض علينا القبول بالقواعد الأساسية من أجل النهوض والرقي الى أفضل المستويات ، وخلاف هذا فلن يتحققَ أيّ اصلاحٌ حقيقي لا في الحاضر ولا في المستقبل ، ولن تؤدي المظاهرات – حتى لو خرج العراقيون جميعهم – الى التغيير المطلوب الذي يضمن لنا العيش الكريم . وأرى أن أولى الخطوات نحو الاصلاح الشامل تتمثلُ بإصلاح ثقافة المواطن اصلاحاً جذريا ، لأن المواطن العراقي تطبع على ثقافة الاتكال واللامبالاة منذ عقود عديدة نتيجة تغيير مفهوم الولاء المطلق للوطن الى القادة والزعماء . وحين يفقدُ المواطن ولاءه المطلق للوطن يتحولُ الى فرد متمرّد لا يحترمُ الأنظمة والقوانين ، بلْ يصبحُ مواطناً أنانينا لا همّ لهُ سوى البحث عن مصالحه بكلّ الطرق المتاحة له . وعندَ تسليط الضوء بتركيز عالٍ على جميع مشاكلنا الصغيرة والكبيرة وعلى جميع سلبياتنا البسيطة والمعقدة وعلى جميع اخفاقاتنا لوجدنا أن السبب الأول لكل ذلك ثقافة المواطن المتدنية التي فتحت الأبواب على مصاريعها لحصول ما حصل ولحدوث ما حدث . ويرى علماء الاجتماع أن ثقافة المواطن العالية وروح المواطنة النقية المحضة التي لا تشوبها شائبة ضمانةٌ أكيدة لجميع الاصلاحات وفي مختلف المجالات . فحين يرتقي المواطن بثقافته الارتقاء المطلوب ويبتعدُ عن الخصال القبيحة ، ويؤمن ايمانا مطلقاً بالواجبات والحقوق ، ويدركُ جيداً أنه مجرّد فردٍ ضمن مجتمع ، فلن تبقى الأبواب مفتوحة للفاسدين ، بلْ سيتم تضييق الخناق عليهم ومن ثم رفضهم واخراجهم من المجتمع بمنتهى السهولة .
ويتطلبُ اصلاح ثقافة المواطن جرأة عالية ومكاشفة صريحة واضحة معَ رفض الاجتهادات والتبريرات التي من شأنها ابقاء الحال على ما هو عليه . كما يتطلبُ أيضاً اعادة ربط انتماء المواطن بالوطن فحسب وجعل آصرة المواطنة فوق جميع الأواصر الأخرى ( قولا وفعلا ) كما يتطلبُ تنشيط هيبة القوانين والأنظمة وتكاتف الجميع من أجل ذلك . فلا يمكنُ لأي شعب من شعوب الأرض أن يعيش برفاهية دون أن يكون للقوانين والأنظمة هيبةٌ كبرى واحترام شديد والتزام تام بها . أمّا القبول بالتناقضات والتفرعات والتشعبات الطائفية والعشائرية والرضوخ للواقع بكلّ تفاصيله المتخلفة سيحرمنا الآن وغداً من أيّة فرصة حقيقية للعيش الآمن الكريم حتى لوْ تظاهرَ العراقيون من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب . كما أن أيّة حكومة نزيهة مخلصة لا تستطيعُ لوحدها تحقيق الهدف المنشود . فثقافة المواطن مفتاح الاصلاح الشامل في مختلف المجالات والميادين .