مرة أخرى نكتب عن تظاهرات شعبنا المكلوم ضد الظلم والفساد الذي تفاقم تحت سمع ونظر المجتمع الدولي بأممه المتحدة ومنظماته الدولية والانسانية والحقوقية في مشهد قاتم من النادر تكراره كثيرا عبر التاريخ، دوامة فوضى فُرضت على الشعب العراقي ليدفع ثمن سياسات غربية شرقية لا ناقة له ولا جمل فيها سوى إن له تاريخا يخافه الجبناء.
قبل أن ندخل في عمق المشكلة السياسية في العراق ومعاناة العراقيين معها علينا ان نوضح بان ما سنتحدث عنه لا ينفي مطلقا حق الشعب العراقي بالمطالبة باسترداد حقوقه المسلوبة عبر سنين ما بعد احتلال العراق، وسندعمه كدأبنا دائما لحين تحرير العراق من القيود السياسية والاقتصادية التي أنهكت العراق وجعلته أسوأ دول العالم حالا في كل المجالات.
مما لا شك فيه فإن عملية القرصنة الامريكية التي بدأت منذ 2003 ولحين الانسحاب الرسمي لجيش الاحتلال في 2011 تحت ضربات المقاومة العراقية قد افضت إلى عمليات سرقة لمقدرات البلد وفساد وقتل وتعذيب وصل مديات أصبح معها حساب خسائر العراق أمرا مستحيلا بسبب تورط الأطراف الدولية والإقليمية في جريمة الاحتلال، كما ساهمت عملية استقطاب اصحاب رؤوس الأموال المسروقة من السياسيين لخارج العراق في إفراغ البلد من أمواله حتى وصل العراق لحافة الأنهيار الاقتصادي مع تردي كبير في الخدمات والكهرباء والماء في بلد يطفو على النفط.
لقد بلغت خسائر العراق خلال 12 عام حوالي تريلون دولار ما بين عقود وهمية ورشاوى وسرقات ومساومات ومشاريع بمليارات الدولارات لم يرى منها العراقي سوى المفخخات والمتفجرات والقصف بالبراميل المتفجرة وصراعات الأطراف السياسية التي تتوافق فيما بينها على سرقة الشعب بينما تعالج نزاعاتها في الشارع ليتلقى الشعب الضربات تلو الضربات، حتى بات العيش في العراق مستحيلا، فتربع العراق على قائمة أكثر شعوب الارض هجرة، بعد أن كان أعزها شعبا.
قرر العراقيين الانتفاض أو التظاهر أو الاعتصام مرات عديدة، حملوا فيها مختلف الشعارات، دينية وعلمانية، وطنية ومناطقية، لكنهم اتفقوا على شيء واحد فقط، عدم الثقة مطلقا بالحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال، وبغض النظر عن اختلاف الرؤى والأفكار والانتماءات، يتفقون على إنهم الضحية والحكومة هي الجلاد.
قامت القوات الأمنية وبتوجيه مباشر من الحكومة العراقية التي كان يرأسها نوري المالكي، رجل إيران الأول في العراق، بقمع كل تلك التظاهرات والاعتصامات وحولت بعضها الى مجازر عندما وصل التهديد إلى عقر دار المافيا السياسية التي تدير البلد، فقامت بضرب ساحات الاعتصام في الأنبار وحرقها وتدبير مؤامرة الخروقات الامنية في المناطق الشمالية الغربية وما ادت إليه من دخول تنظيم الدولة الإسلامية لخط المواجهة وفقدان الحكومة سيطرتها على ثلث مساحة العراق، فضلا عن عمليات القتل ونزوح الملايين بسبب العمليات العسكرية المستمرة والقصف الممنهج من قبل التحالف الدولي على المدن بحجة محاربة الإرهاب.
نعود للتظاهرات التي انطلقت في ست من محافظات العراق طالبت في مجملها بالقضاء على الفساد وتوفير الخدمات المفقودة منذ 12 عام، لكن رد فعل الحكومة لم يكن عنيفا هذه المرة! بل وبقدرة قادر أصبح جميع السياسيين إصلاحيين، وسارعت المرجعية الدينية بدعمها على الفور، وتصدر حيدر العبادي جوقة السياسيين بدعمه للتظاهرات باطلاق حزمة إصلاحات شبه جذرية لم تثبت واقعيتها على الارض لحد الآن بسبب تقاطعها مع الدستور حينا وخلافات داخل البرلمان حينا آخر، لتكون هذه الاصلاحات في النهاية مجرد حبر على ورق لحين اثبات جدية العبادي بتنفيذها.
الإصلاحات المطروحة اليوم لا يمكن بأي حال أن تعبر عن مطالب الشعب العراقي واستحقاقاته المسلوبة لسنين طويلة، لكنها يمكن أن تكون البداية فقط لما يمكن إعتباره تصحيح أخطاء أو خطايا شارك بها المجتمع الدولي، لكن السؤال المهم هنا هل سيكون العبادي الرجل المناسب لهذه المهمة الصعبة والخطيرة وهو يمثل ذات العملية السياسية التي أدت لكل هذا الانهيار في العراق؟ وهل يمكن لشخص مغمور سياسيا في حزب “الدعوة” مثل حيدر العبادي أن يقود عملية تنظيف لقذارة رئيسه المسؤول الأول في الحزب ورجل إيران في العراق نوري المالكي؟
للإجابة على الكثير من علامات الاستفهام حول قدرة العبادي على فعل التغيير الحقيقي والتي ترتبط بشكل مباشر بحقيقة واحدة فقط، وهي إنه لا يمثل نفسه في إطلاق هذه الإصلاحات! بمعنى آخر إنها إصلاحات أكبر من حجمه كثيرا خاصة وإنها ستستفز رؤوس الافاعي في المنطقة الخضراء، أو الحيتان الكبيرة ومافيات السلاح والمخدرات والاتجار بالبشر والاعضاء البشرية وسوق النخاسة وصولا للفساد المالي والإداري، الذين يرتبطون بجهات خارجية دولية وحكومية ومنظمات إجرامية استطاعت ان تشفط كل اموال العراق بينما السياسيين هم الواجهة فقط.
ربما يستغرب البعض من كم الإجرام الذي نتكلم عنه خاصة وإننا لم نذكر عمليات التجسس والخيانة لمصالح الدول الإقليمية والدولية! لكن للإجابة على سؤال; أين ذهبت أوال العراق التي تقدر بترليون دولار خلال 12 عام فسيكون من الواضح بأننا نتكلم عن أموال يمكن من خلالها رفع مستوى دول نامية إلى دول متقدمة، أو رفع دول أخرى من الحضيض إلى مصاف الدول النامية، فكيف انقلبت الموازين في العراق ليتحول من افضل الدول النامية في المنطقة إلى أسوأها في العالم؟ فهل يمكن للعبادي أن يغير كل ذلك؟
الجواب نعم! يستطيع! لكن في حالة واحدة فقط، وهي أن يصدر المسؤول عن كل ذلك الانهيار في العراق أمرا بتصحيح الاخطاء! أو على الإقل بإيقاف عجلة السرقة والنهب لأموال العراق، والمسؤول عن ذلك هنا هو الولايات المتحدة الأمريكية! فهل سيكون العبادي رجل امريكا في العراق في مواجهة المالكي رجل إيران في العراق؟ ذلك هو السؤال الاهم!
مما لا شك فيه ومن خلال تصريحات إعلامية لكبار مسؤولي امريكا وإيران حول العراق فإن هناك صراعا إقليميا خطيرا يجري في الساحة العراقية، ناهيك عن الساحة العربية، وعلى ما يبدو إن المنافسة اليوم على أشدها لبسط السيطرة على العراق بعد أن فاحت رائحة الهيمنة الإيرانية، واصبح من اللزوم أن تعود أمريكا للواجهة لكن من خلال ثقوب العملية السياسية المهلهلة وليس بغيرها، فلا زالت أمريكا مصرة على دعم تلك العملية بكل ثقلها، وتعتبرها الحل الوحيد لاستمرارها بالهيمنة على اقوى دول المنطقة.
هل نقصد من ذلك إن خيوط اللعبة عادت لتكون بيد أمريكا! نعم بكل تأكيد وإن كانت الكثير من المؤشرات لا تشير إلى ذلك، وإنها ربما تؤكد على وصول الشعب لنقطة اللاعودة في تقبلها للواقع المرير، وإن التغيير بات أمرا طبيعا، لكن ليس بغياب الأصابع الأمريكية التي أجبرت كل السياسيين – راغبين أو مجبرين- لركوب موجة التظاهرات دون استثناء! لا احد منهم على الإطلاق وقف ضد التظاهرات في عملية مكشوفة وكأن الفاسدين قد جاؤوا من المريخ!
ختاما نكرر، نحن لا نتحدث عن حق العراقيين بالانتفاض على الحكومة، بل واسقاط عمليتها السياسية الفاسدة، وحقهم بالتغيير وإن تأخر 12 عام، ومن حق هذا الشعب المطالبة بمستحقاته مهما تدنت مستوياتها، فلسنا هنا نحدد ما يحتاجه المظلوم من استحقاقات، لكننا نناقش حجم حيدر العبادي وقدرته على مواجهة وضع ضرب جذوره الفاسدة في العراق، وفيما لو هناك من يدعم إصلاحاته على ارض الواقع، فهو لا يمتلك كاريزما القيادة الحقيقية ليستطيع فرض إملاءاته على حيتان العملية السياسية، لكن يمكن ان يكون حامل الرسالة فقط، ومنفذ محتوياتها، وهذا ما يمكن التثبت منه في قادم الأيام، وليس الشهور.