ربما يكون من الوفاء للحقيقة , ولمصداقية القول بالحفاظ على الوطن العراقي المثقل بجراحه النازفة على مر العقود الخمسة الأخيرة من تأريخه السياسي , اجبارنا على تناول واحدة من أهم القضايا التي تجهلها أو تتجاهلها الكثير من الأوساط اللآهية بالحكم والنفوذ و اكتيال المال العام ..ومن المؤسف أن شرائح واسعة من أبناء العراق قد ساعد ت أعداءه على غرز ساكينهم في جسده , سواء أدركوا أنهم يرتكبون تلك الجرائم بحق وطنهم , أم عكس ذلك !.
لقد كان هذا عامل تعضيد لقوى العداء التقليدي للأمة العراقية.تمثل منذ عام 2003 بتحطيم الدولة العراقية الحديثة ,المنشأة عام 1921 الصامدة بوجه تخريب الحكومات العراقية المتعاقبة على حكم العراق , والمتمثلة بالعسكريين المغامرين, ومن ثم الأحزاب السياسية الناقضة لمهام تحقيق الأهداف القيميّة المفترضة للحزب السياسي الوطني, الهادفة الى بناء تجارب سياسية وإقتصادية , ترفع من شأن البلدان , عبر الحراك السياسي الديموقراطي, وتنافس قوى الشعب على تحقيق الرفاهية العامة ,وبناء مرتكزات قوة البلاد.
ولن يكون من قبيل القول المعاد ,أو الإصطفاف الى المؤمنين بنظرية المؤامرة , قولنا أن كل ذلك قد فتح حدود ألعراق أمام قوى اليمين السياسي الأمريكية والبريطانية ,التي زاوجت أهدافها الدينية الغيبيّة بمقومات النفوذ المعاصر المتمثل ب(الفضاء الإستراتيجي الجيوبوليتيكي) , لتجد مبرراتها المصطنعة لإحتلال العراق في الألفية الثالثة من حياة العالم , حيث تمتعت أصغر وحدات التواجد الإنساني بحريتها !
كما لسنا بحاجة الى التأكيد على محبتنا المتجذرة للشعب الكردي الشقيق حيث تقاسمنا هموم الحياة المشتركة المعمدة بدماء الآلاف من أبناء الشعب العراقي في ظل تناقضات مخطط لها ومفروضة على شعبنا وحكومات العراق المتعاقبة , منها بتأثير ووحي وضغوط اقليمية ودولية , ومنها بسبب من عوامل المراهقة السياسية , أو قصر النظر عن رؤية المصالح العليا للعراق .
ومن الواضح في الأمر , أن المحتل قد رسم لطبقة سياسية مستحدثة سبل السيطرة على الحكم في البلاد , وفق ذات النظرية القديمة ,وقوامها (فرق تسد) المستخدمة من قبل بريطانيا أبان إحتلالها العراق في عام 1914.
تفتيت الشعب
وإذا كانت القوات البريطانية الغازية قد اعتمدت الهنود السيخ والمرتزقة (الكوركة) النيباليين , أدوات بشرية , لإرهاب العراقيين ومقاتلتهم في عام 1914, فإن (الإحتلال المعاصر) أمريكي الهوية , غربي الأهداف , قد إستغل فيما إستغله طموح الأكراد القومي المشروع في عناوينه , والمرفوض في أساليبه وممارساته لجعل العراق أمام أحدى أهم العقبات التي واجهته في تأريخه السياسي الحديث , المتمثلة في تفتيت وحدة الشعب العراقي المتكون منذ فجر التأريخ من أقوام بعرقيات ولغات وثقافات متنوعة تشكل (بلاد ما بين الرافدين) ..وقد وجد المتمتعون بإرث الملا مصطفى البرزاني, وبقية الجناح الناشز في الحركة الكردية المتمثلة بآخر قتلة الشعب العراقي عربا وكردا , قوميون , وشيوعيون في العقود الأربعة الأخيرة , ليشكل (الأخوة الأداء) على بقع الدماء الكردية , تحالفا ما إنفك التهديد بإنفراطه يلوح في الأفق , حيث يختلفون في كل شيء..في تقاسم الثروة والنفوذ , وفي الهيمنة التي أحيوا لها نزعات بائدة ك(السورانية والبهدينية), وهدف ذلك كله يتمثل في تحقيق مناطق نفوذ للسيطرة على اموال الشعب الكردي الكادح !
هواء في شبك !
كل ذلك تحدثنا عنه عبر مئات المقالات والدراسات , كما تحدث عنه كتاب وباحثون مستقلون أدركوا خطورة توجيه الكيان الكردي وفق السياسات المعدة من قبل الدوائر الإمبريالية والصهيونية ,من أجل صيرورته سكينا في خاصرة العراق. , ولايمكن استراتيجيا عزل تلك السياسات عن مخاضات الحراك السياسي في المنطقة , ومن بينها عمليات تغيير الأنظمة التي سيطرت على الحكم في أربع بلدان عربية , لم يكن من المتصور ازالتها , واقامة حكومات يدعى أنها (ديموقراطية)!
لم يكن أمرا مجهولا ,ماتخطط له وتنفذه قيادات (ح.د.ك) بزعامة السيد مسعود البارزاني و(ح.أ.ك ) بزعامة متخلخة للسيد جلال الطالباني الذين يختلفون في كل شيء يتعلق بالسلطة والنفوذ , الا أنهم يتفقون على ذات السياسات والمحاولات للتأسيس, أو حيازة مكتسبات (مشروعة أوغير مشروعة) من أجل توفير المقومات الضرورية لقيام دولة في (كردستان ) العراق , تكون الرائدة في امتداد كيان سياسي يضم الأكراد في كل من تركيا , وايران, والعراق , وسورية .
مشروعية (الحلم ) ومشروعية الوسائل !
وإذا كان هذا الحلم القومي, يبدو في نظرنا ,ونظر كثير من المراقبين حلما مشروعا في اطار القانون الدولي, ومعايير الإختيار وحقوق الإنسان , الّا أنه يتوجب أن يمر من خلال الإعتبارات الدستورية ,ومصالح الكيان السياسي العراقي الراهنة والمستقبلية, ومن دون الإضرار بألأقوام الأخرى في العراق
ولكن الخطير والمثير ,أن السلطات الأمريكية قد بذلت جهدا واسعا في ترجمة سياسات واهداف القادة الأكراد الى مؤشرات بحثية (هذا في العلن .أما ماهو تحت السواهي فلذلك فصول أخرى), تؤسس لتصرفات لاحقة تعزز من المطالبات الكردية ,التي تمزج بين الحق ومحاولة قضم الثروة والأراضي , حيث يجري كل ذلك باستشارات بريطانية وأمريكية , ولا يفيد أحدا بعد اليوم أن يعتبر سياسات القادة الأكراد تقع في اطار المناورات السياسية الظرفية, وتعبر عن (مراهقة سياسية) يتوسلها هؤلاء القادة , إذ ترجمت تلك الاستشارات الخادمة في النتيجة النهائية الأهداف البريطانية الأمريكية , قبل خدمتها مصالح الأكراد.عبر خرائط حديثة عملت على جعلها ذات نسخ متعددة , كل نسخة منها تمثل مرحلة محددة من مراحل الزحف الكردي ,على أراض أو مكامن بترولية .. وقد وضحت لنا خارطة نشرتها ال(C.i.A) مؤخرا تؤشر حقيقة مايسعى اليه الأكراد من استغلال لآبار نفطية بلغ عددها 45 بئرا ,ولم يتوقف الأمر على مكامن الثروة الأكبر (النفط) , بالإضافة الى مكامن الثروات الطبيعية الأخرى , في المحافظات الثلاث (السليمانية) و(أربيل) و(دهوك ),وهي تمثل الأساس الدستوري لمنطقة (اقليم كردستان العراق) , بل تجاوزت ذلك الى (سهل نينوى) بالكامل , وأخطر من ذلك كما تؤشر تلك الخرائط الأمريكية الكردية الإسرائيلية ,ضم اجزا ء من الخارطة الإدارية لمحافظة (نينوى), وكامل خارطة محافظة (كركوك),بالإضافة الى محافظة (ديالى) ,نزولا الى منطقتي (بدرة) و(جصان) في محافظة (واسط) .. حتى أنها لم توفر اراض واسعة في محافظة (الأنبار) والأراضي السورية المحاددة ل(الأنبار) .
يلعبون (بالمكصكص) حتى(يجي الصحيح)
ولم يتوقف الأمر عند اعداد خرائط (جيوبترولية) , بل تعدّت الى مرحلة اجراء استكشافات حول مكامن البترول, والثروات الطبيعية الأخرى ..وينبغي أن لا نستهين بعديد حالات تهريب خامات (الحديد) و(الكبريت) التي تكتشف عند المنافذ الحدودية العراقية ,ونعتبرها محاولات فردية من قبل مهربين ..وهذه ايضا تعد أحدى ملامح افراغ العراق من ثرواته , وهي تقع تماما في إطار تفكيك وتهريب امكانات العراق الاقتصادية, مثلها مثل ما جر في اعقاب الاحتلال الأمريكي الغاشم, كالأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة واعتدتها , بالإضافة الى مكونات المصانع العراقية الأستراتيجية وغير ذلك معرو ف وكثير .
وإذا صحت التقارير الأخيرة المتداولة التي تفيد (أن البارزاني , قد أخرج من دائرة أهدافه ,المناطق التابعة لمحافظة (واسط), مقدما إياها على سبيل الهدية الى المجلس الأعلى الإسلامي, تقديرا للسيد عمار الحكيم) ! فأننا يجب أن ندرك طبيعة نظرة البارزاني الى مثل هذه القضية , على إفتراض أنه (يقدم تلك الهدية ) على سبيل النكتة !
وعلينا الآن الإعتراف بحقيقة , ان دولة كردية, تتمتع بمقومات الدولة المادية , تتكامل اليوم أمام أعيننا, في عملية انسلاخ فريدة من نوعها..فا(لدولة الكردية) خرجت من دائرة الحلم القومي, الى حيز التنفيذ الذي لايعوزه سوى الإعلان ,من خلال استكمال مقوماتها كالأرض والشعب والسلطة والموارد .
ومن المؤكد عبر تصفح الأحداث والوقائع التاريخية, أن الأكراد وان تمتعوا ب(المنطقة الآمنة) بفعل الإختلالات التي حصلت للنظام العراقي السابق, لم يكن في مقدورهم السير بإجراءاتهم التنفيذية لإقامة الدولة الكردية ,لولا احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة عام 2003 الذي خلق الظروف السياسية الملائمة لقيام هذه الدولة , أو حتى ربما غيرها على التراب العراقي, فيما لو توفرت الظروف الموضوعية لبرنامج (التقسيم الناعم للعراق), الموضوعة من قبل خبراء اليمين المسيحي الأمريكي.
واذا كانت القوى السياسية (الشيعية) , التي تسلمت الحكم وعبر مراحل انتقالية قصيرة الأمد, المتحالفة مع بعض الشخصيات السياسية المحسوبة على معارضة نظام صدام حسين, قد كانت مستعدة لأية املاءات او شروط تريدها الولايات المتحدة من أجل تغيير النظام الصدامي , وإقامة نظام بديل, يكون فيه للأكراد كيانهم المتميز من خلال فريّة (الإقليم) تعويضا عن (هولوكوست) كردي , سيبرر حيازة مكاسب قانونية ومادية تؤسس للدولة الكردية .. وبعد حوالي عشر سنوات مرت على الإحتلال الأمريكي.
تركيا ..تخضع للعامل الإقتصادي
والآن ..أصبح من غير الواقعي أن يضع أحدا في اعتباره معارضة تركيا التقليدية لإقامة دولة كردية , إذ فرضت الظروف السياسية الإقليمية والدولية متغيرات جديدة, تبرز فيها أولوية المصالح الاقتصادية ..وفي ذلك صدق حقيقة أن السياسة تخدم الإقتصاد .وهنا يمكن لنا القول ان المصالح الإقتصادية التركية قد غيرت سياسة الدولة الكردية , لجهة قيام كيان سياسي كردي مقايضة باتفاقات مشتركة تركية – كردية وعلى اعتبار أن أولويات التعاون المشترك بين تركيا والأكراد, ذي أهمية استراتيجية للمصالح المشتركة , على وجه الخصوص في مجالات نفط الشمال العراقي (كردستان) المحمل الى المستهلكين من الموانئ التركية .. ولا يمكننا التغاضي عن حقيقة حضور العامل الطائفي, الذي جمع أطرافا سياسية متناقضة تناقضا تقليديا ,عمره عقود الزمن الماضي, بين دويلات خليجية كقطر, ودولة وهابية سنية كالسعودية, في مركب سياسي واحد , حتى لو كان ظرفيا ! خاصة وان اللاقات العراقية التركية تشهد أسوء حالاتها منذ عقود من الزمن.
وأخيرا ..نقول لعلّل محاضرة ( ريختر) وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق ,التي لمّا تزل تداعياتها خاضعة للدراسة والتحليل من قبل الباحثين ومؤسسات الرأي العربية, التي تفصح عن حقائق لا يمكن دحضها, تؤكد ما تذهب اليه التحليلات والبحوث المستمرة, حول أهداف القادة الأكراد في هذه المرحلة ,كما تلقي الضوء على استراتيجية الولايات المتحدة في العراق ..إذ يقول (ريختر)..كما ذكرفي عديد المصادر البحثية أو الناقلة .. (الآن في العراق دولة كردية فعلا، هذه الدولة تتمتع بكل مقومات الدولة أرض ,شعب, دولة ,وسلطة وجيش, واقتصاد بريع نفطي واعد، هذه الدولة تتطلع إلى أن تكون حدودها ,ليست داخل منطقة كردستان، بل ضم (شمال العراق) بأكمله، مدينة (كركوك) في المرحلة الأولى ثم (الموصل) وربما إلى (محافظة صلاح الدين) إلى جانب (جلولاء ) وبالنسبة لنا , لم تكن أهدافنا تتجاوز دعم المشروع القومي الكردي لينتج كيانا كرديا أو دولة كردية ( يقصد بذلك الدعم اللوجستي, الذي بدأ أثر زيارة الملا مصطفى البارزاني في ستينات القرن العشرين الى اسرائيل, والأتفاقات التي حصلت بين الطرفين في تلك الزيارة ). لم يدر بخلدنا لحظة أن تتحقق دفعة واحدة مجموعة أهداف نتيجة للحرب التي شنتها الولايات المتحدة وأسفرت عن احتلاله.. العراق الذي ظل في منظورنا الاستراتيجي التحدي الاستراتيجي الأخطر بعد أن تحول إلى قوة عسكرية هائلة، فجأة العراق يتلاشى كدولة وكقوة عسكرية ,بل وكبلد واحد متحد، العراق يقسم جغرافياً وانقسم سكانياً وشهد حرباً أهلية شرسة ومدمرة أودت بحياة بضع مئات الألوف.
إذا رصدنا الأوضاع في العراق منذ عام 2003 فإننا سنجد أنفسنا أمام أكثر من مشهد
العراق منقسم على أرض الواقع إلى ثلاثة كيانات أو أقاليم رغم وجود حكومة مركزية.
العراق ما زال عرضة لاندلاع جولات جديدة من الحروب والاقتتال الداخلي بين الشيعة والسنة وبين العرب والأكراد. العراق بأوضاعه الأمنية والسياسية والاقتصادية لن يسترد وضعه ما قبل 2003.
نحن لم نكن بعيدين عن التطورات فوق هذه المساحة منذ عام 2003، هدفنا الإستراتيجي مازال عدم السماح لهذا البلد أن يعود إلى ممارسة دور عربي وإقليمي لأننا نحن أول المتضررين.
وبعد..هل نجد من يقول غير ذلك , أو يقلب حقائق موضوعية صارت ساطعة سطوع الشمس ؟ ولكن أين هم الرجال الذين يضعون كل شيء في مكانه ؟وحجمه الطبيعي, بعد ذلك الانبطاح الذي صار سياسيونا عليه , من أجل مصالح حزبية وظرفية وتوافقية , دمّروا من خلالها مصالح العراق, وداسوا على قيمه واعتباراته , وشتتوا أهدافه ,ووفروا الظروف لنهب ثرواته !
……………………………
ورود الكلام ..
خمسة أشهر مضت توقفت عن الكتابة لعدة عوامل موضوعية ,أولها شعوري أننا نكتب من دون أن نقرأ من قبل أصحاب القرار , لإحداث التغيير المستهدف , وثانيها (حوصتي) في استكمال نصوص كتابي تحت الطبع (اوراقي ..في الصحافة والحياة).. وإستجابة لرسائل و(احتجابات) أحبتي , تطل سطوري اليوم لتتضمن بعض (زفرات) صدري , ومتنفسات همومي! .