في الحديث عن مفهوم الحرية نادرا”ما يتخطى المرء أو يتجاوز حواجز ذاته ، وغالبا”ما يجهل أو يجاهل شروط وجوده ، بحيث يتحدد ادراكه لها وتعامله معها ضمن حدود ما تمليه عليه ارادته المتعالية وما توحيه له رغباته الدفينة . وهو ما يسوقه للتصرف على نحو يوحي بتحرّره من روابطه الاجتماعية وتجرّده من قيمه الاخلاقية وتخليه عن طبيعته الانسانية ، وكأنه بذلك يجسّد ما قاله (سارتر) من ((اننا لا ننفصل عن الأشياء سوى بالحرية)) . والحقيقة التي لا مراء فيها هي ان معظم الناس الذين فقدوا طعم الاحساس بالذات وعجزوا في التعبير عن الأنا ، يودون لو يمارسوا طقوس حياتهم الخاصة ويعبروا عما يجيش في دخيلتهم الحميمة ، خلافا”لمألوف الجماعات التي ينتمون اليها ويعتمدون عليها ويحتمون بها ، ليس لأنهم جبلوا على حب المشاكسة لقواعد السلوك المعياري والتعلق بما هو مخاف للتواضع العرفي ، بقدر ما أرهقتهم وطأة الاكراهات التي يخضعون لها ، وأمضّتهم قيود التابوات المكبلين بها . ولهذا فقد أصاب المفكر (عبد الله العروي) كبد الحقيقة حين ألمح الى أن الحرية ((تتضخم في التفكير بقدر ما تضمر في الواقع)) ، أي ان التوق الذاتي للتخلص من الزامات الواقع الموضوعي بمستوياته المتعددة وأبعاده المختلفة ، هو ما يعظّم الشعور بقيمة الحرية ويجسّم الحاجة لفضاءاتها المشرعة . ومن الضروري ، لكي نحظى بمقاربة منطقية ، ألا نتعاطى مع مفهوم الحرية كما لو انها تتويج لمبدأ (الهبة الطوطمي) الشائع لدى الأقوام البدائية ، الذي لا يعفي فقط المتسيّد في ظاهرة (البوتلاج) العشيري من ضريبة الالتزام الأدبي / الأخلاقي ازاء أفراد العشيرة المغلوبة في هذا المهرجان التنافسي فحسب ، بل ويتيح للحائز عليها امتياز التنصل من الاكراهات الموضوعية التي تلازم الاغيار/ المهزومين كظلهم من جهة ، والتفلت من قيود المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتقه ، بصفته الانسانية من جهة أخرى . بحيث يتحدد مضمونها على وفق تصور الفيلسوف الفرنسي (فولتير) الذي مؤداه ((ان الحرية الصحيحة هي حرية الاقتدار . فحين أستطيع أن أفعل ما أريد فتلك حريتي)) . وهو الأمر الذي يفضي الى الخلط ما بين نزوع الذات لاشباع رغباتها النهمة من جهة ، وبين عوامل الاعاقة الموضوعية التي تحول دون تحقيق تلك الرغبات من جهة أخرى ، مما يستتبع ان حصيلة فهم وادراك مفهوم الحرية ما أن يخرج عن نطاق التصورالذاتي حتى يتشظى الى غابة من المعاني والدلالات ، التي لا تلبث أن تؤسس لسيادة الفوضى بدلا”من النظام والعبودية بدلا”من الحرية . بحيث يتعذر على رهط المشتغلين بالانتاج الفكري / الثقافي طرح موضوعة الحرية بصورة مجردة ، فضلا”عن التعاطي مع مضامينها المتنوعة وسبر أبعادها المختلفة ، دون أن يصار الى استحضار دلالات ما يناقضها من مفاهيم مغايرة ومصطلحات مفارقة ، لاسيما وانها (= الحرية) ستبقى دريئة لكل طاعن ومطية لكل راكب . ذلك لأن (( الحرية المطلقة – كما يجادل الفيلسوف كارل ياسبرز – هي في النهاية أمر لا معنى له ، فان الحرية تصبح خاوية اذا لم يكن ثمة شيء يضدّها )) . والحال انه اذا ما تبنينا طروحات هذا المنظور الاشكالي ، سيتاح لنا فهم معنى النظام بدلالة الفوضى ، وتقدير قيمة الديمقراطية بدلالة الشمولية ، واستيعاب شروط التقدم بدلالة التخلف ، ومعرفة خصائص العلم بدلالة الخرافة ، وادراك ضرورة الوعي بدلالة الاسطورة . والأمر ذاته ينطبق على مفهوم الحرية وما تنطوي عليه من تصورات ورؤى ، شريطة أن نضع باعتبارنا ماهية الحقل أو طبيعة المجال الذي نقصده ونرمي اليه . فالحديث عن مغزى الحرية القانونية يستلزم التذكير بضدها النوعي ظاهرة (العبودية) ، على وفق ما تضمنته وجهة نظر المستشرق (فرانز روزنتال) القاضية بأن (( أصل مفهوم الحرية ينبغي البحث عنه في النطاق القانوني وفي عصور ما قبل التاريخ ؛ فالانسان الحرّ كان من الوجهة القانونية مختلفا”عن العبد الذي كان ملكا”له )) . كما ان النقاش حول مضمون الحرية السياسية يشترط حضور واقعة الاستبداد ، من منطلق (( ان من المحال – يضيف ياسبرز – ظهور أية عظمة دون توفر الحرية السياسية )) . هذا في حين ان التفلسف عند تخوم الحرية الفكرية يقتضي الدخول الى عوالم المحرّمات الدينية والممنوعات الايدويولوجية ، من باب (( ان لا حرية عند الناس دون حرية التعبير عن الفكر )) كما استخلص ذلك (فولتير) على نحو عام ، أو (( ان الحرية تتألف من المقدرة على اختيار رأي فلسفي أو معتقد ديني )) كما أوضح ذلك (البير بايه) بشكل محدد . واذا ما دلفنا رواق الحرية بمعناها الفلسفي فاننا سنجازف بولوج متاهات لا مخرج لها ، لا تلبث أن تعيدنا من حيث بدأنا ولكن (بخفي حنين) كما يقال ، اللهم الا اذا جعلناها مقترنة بمبدأ (الضرورة) الطبيعي ونظيره الميتافيزيقي ، الذي كان وما يزال الشغل الشاغل لأرباب الفلسفة والمنخرطين بشعابها . وهنا تتبوأ الماركسية صدارة القول بأن (( الحرية لا تستقيم في حلم الاستقلال عن القوانين الطبيعية ، بل في معرفة هذه القوانين ، وفيما تمنحه هذه المعرفة من امكانات تشغيل تلك القوانين ، بصورة منهجية في اتجاه أهداف محددة . وان هذا لينطبق سواء على قوانين الطبيعة الخارجية أم على القوانين التي تسير الوجود الجسماني والذهني للبشر أنفسهم )) . والواقع ان الذي يجعل اشكالية الحرية ملتبسة ومركبة ليست فقط كونها اشكالية مستديمة الطرح وراهنة التداول على صعيد القول / الخطاب أو على مستوى الفعل / القوة ، سواء لمن هم في السلطة أو المعارضة فحسب ، بل لأنه ما من مفهوم من مفاهيم النظرية الاجتماعية تعرض للتشويش الفكري والتقميش السياسي من لدن المؤيدين له أو المتحاملين عليه ، مثلما تعرض له ولحق به مفهوم (الحرية) ، بحيث أمسى تميمة لفظية تتقاذفها أمواج الصرعات الايديولوجية وبضاعة استهلاكية تتداولها أسواق المساومات السياسية ، دون أن تراعي له حرمة أخلاقية أوقيمة انسانية ، للحد الذي أفقده كل ما يحتكم عليه من فضائل واسقط عنه كل يحتويه من مزايا . ولهذا فقد أعتبر المفكر (العروي) ان من (( المهم في قضية الحرية هو أن تبقى دائما”موضوع نقاش ، بوصفها نابعة عن ضرورة حياتية ، لا بوصفها تساؤلا”أكاديميا”)) . ولكي نتجنب الوقوع في مآخذ الاطناب ومرذول الاطالة ، فقد يكون من المفيد مقاربة اشكالية الحرية من زاوية ما يحرك الانسان من دوافع شعورية وما يثيره من نوازع لاشعورية من جهة ، وما يحول دون ارتواء الأولى من اكراهات موضوعية وما يقمع اشباع الثانية من ممانعات ذاتية من جهة أخرى . بمعنى انه وان صحّ القول– مع ما ورد في القاموس الفلسفي الصادر في شتوتجارت- (( ان الحرية هي امكانية التصرف وفق ما تريد )) ، بحيث تتفلت من قيود الروابط الاجتماعية وتتنصل من الزامات الضوابط المناقبية ، التي قد تشعر بأنها تعارض رغباتك الذاتية وتعترض توجهاتك الشخصية . بيد أن ما يصحّ أكثر من ذلك هو الايمان بأن (( الحرية الشخصية لا تكون ممكنة الا في الجماعة )) كما أوضح (ماركس) . بمعنى ان كل ما يمتلكه الانسان من رغبات مكبوته ويختزنه من طموحات مقموعة ، ليست في واقع الأمر الا نتاج مكثف من نتاجات الواقع التاريخي الذي ينبت فيه ، وحصيلة مستخلصة لطبيعة البيئة الحضارية التي ينغرز فيها . وهو ما تبرهن عليه معطيات الاختلاف الحاصل ، لا في مفهوم الحرية الذي تتمثله هذه الجماعة أو تلك ، ولا في معنى الدلالة التي يمحضها اياه هذا المجتمع أو ذاك ، وانما كذلك لجهة تنوع الانماط القيمية التي تسبغ عليه من لدن نفس تلك الجماعة أو ذلك المجتمع ، ولكن في اطار مرحلة تاريخية أخرى أو ظروف اجتماعية مغايرة . ولهذا ينبغي على كل من يروم أن يدلو بدلوه بخصوص هذه الاشكالية ، أن يبادر بالكشف عن أي مجتمع يتحدث ، وفي اطار أية مرحلة تاريخية يجادل ، ومن منطلق أية ايديولوجية يحلل، والا أصبح حديثه مجردا”من أي معنى وخاليا”من أية دلالة ، لاسيما وان كل خطاب – كما يكتب ميشيل فوكو – (( يخفي داخله القدرة على أن يقول غير ما قاله ، وان يغلف أيضا”عددا”كثيرا” من المعاني : وهذا ما يسمى بوفرة المدلول بالنسبة للدال الواحد والوحيد . وعليه ، فان الخطاب ، امتلاء وثراء لا حدّ لهما )) . وعلى أية حال فانه من الصعوبة بمكان الوصول الى منابع الحرية العميقة والوقوف على مصادر الهامها للروح الانسانية ، دون استحضار تلك الاكراهات والممانعات التي تنتصب حاجزا”- غالبا”ما يصعب تجاوزه أو الالتفاف عليه – أمام نزوع الأنا لبلوغ مآربها وتحقيق صبواتها ، عبر تشققات بنى الواقع وتمزقات نسيج المجتمع .