23 نوفمبر، 2024 4:25 ص
Search
Close this search box.

اشكالية الحرية بين نزوع الذات واكراه الموضوع   

اشكالية الحرية بين نزوع الذات واكراه الموضوع   

في الحديث عن مفهوم الحرية نادرا”ما يتخطى المرء أو يتجاوز حواجز ذاته ، وغالبا”ما يجهل أو يجاهل شروط وجوده ، بحيث يتحدد ادراكه لها وتعامله معها ضمن حدود ما تمليه عليه ارادته المتعالية وما توحيه له رغباته الدفينة . وهو ما يسوقه للتصرف على نحو يوحي بتحرّره من روابطه الاجتماعية وتجرّده من قيمه الاخلاقية وتخليه عن طبيعته الانسانية ، وكأنه بذلك يجسّد ما قاله (سارتر) من ((اننا لا ننفصل عن الأشياء سوى بالحرية)) . والحقيقة التي لا مراء فيها هي ان معظم الناس الذين فقدوا طعم الاحساس بالذات وعجزوا في التعبير عن الأنا ، يودون لو يمارسوا طقوس حياتهم الخاصة ويعبروا عما يجيش في دخيلتهم الحميمة ، خلافا”لمألوف الجماعات التي ينتمون اليها ويعتمدون عليها ويحتمون بها ، ليس لأنهم جبلوا على حب المشاكسة لقواعد السلوك المعياري والتعلق بما هو مخاف للتواضع العرفي ، بقدر ما أرهقتهم وطأة الاكراهات التي يخضعون لها ، وأمضّتهم قيود التابوات المكبلين بها . ولهذا فقد أصاب المفكر (عبد الله العروي) كبد الحقيقة حين ألمح الى أن الحرية ((تتضخم في التفكير بقدر ما تضمر في الواقع)) ، أي ان التوق الذاتي للتخلص من الزامات الواقع الموضوعي بمستوياته المتعددة وأبعاده المختلفة ، هو ما يعظّم الشعور بقيمة الحرية ويجسّم الحاجة لفضاءاتها المشرعة . ومن الضروري ، لكي نحظى بمقاربة منطقية ، ألا نتعاطى مع مفهوم الحرية كما لو انها تتويج لمبدأ (الهبة الطوطمي) الشائع لدى الأقوام البدائية ، الذي لا يعفي فقط المتسيّد في ظاهرة (البوتلاج) العشيري من ضريبة الالتزام الأدبي / الأخلاقي ازاء أفراد العشيرة المغلوبة في هذا المهرجان التنافسي فحسب ، بل ويتيح للحائز عليها امتياز التنصل من الاكراهات الموضوعية التي تلازم الاغيار/ المهزومين كظلهم من جهة ، والتفلت من قيود المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتقه ، بصفته الانسانية من جهة أخرى . بحيث يتحدد مضمونها على وفق تصور الفيلسوف الفرنسي (فولتير) الذي مؤداه ((ان الحرية الصحيحة هي حرية الاقتدار . فحين أستطيع أن أفعل ما أريد فتلك حريتي)) . وهو الأمر الذي يفضي الى الخلط ما بين نزوع الذات لاشباع رغباتها النهمة من جهة ، وبين عوامل الاعاقة الموضوعية التي تحول دون تحقيق تلك الرغبات من جهة أخرى ، مما يستتبع ان حصيلة فهم وادراك مفهوم الحرية ما أن يخرج عن نطاق التصورالذاتي حتى يتشظى الى غابة من المعاني والدلالات ، التي لا تلبث أن تؤسس لسيادة الفوضى بدلا”من النظام والعبودية بدلا”من الحرية . بحيث يتعذر على رهط المشتغلين بالانتاج الفكري / الثقافي طرح موضوعة الحرية بصورة مجردة ، فضلا”عن التعاطي مع مضامينها المتنوعة وسبر أبعادها المختلفة ، دون أن يصار الى استحضار دلالات ما يناقضها من مفاهيم مغايرة ومصطلحات مفارقة ، لاسيما وانها (= الحرية) ستبقى دريئة لكل طاعن ومطية لكل راكب . ذلك لأن (( الحرية المطلقة – كما يجادل الفيلسوف كارل ياسبرز – هي في النهاية أمر لا معنى له ، فان الحرية تصبح خاوية اذا لم يكن ثمة شيء يضدّها )) . والحال انه اذا ما تبنينا طروحات هذا المنظور الاشكالي ، سيتاح لنا فهم معنى النظام بدلالة الفوضى ، وتقدير قيمة الديمقراطية بدلالة الشمولية ، واستيعاب شروط التقدم بدلالة التخلف ، ومعرفة خصائص العلم بدلالة الخرافة ، وادراك ضرورة الوعي بدلالة الاسطورة . والأمر ذاته ينطبق على مفهوم الحرية وما تنطوي عليه من تصورات ورؤى ، شريطة أن نضع باعتبارنا ماهية الحقل أو طبيعة المجال الذي نقصده ونرمي اليه . فالحديث عن مغزى الحرية القانونية يستلزم التذكير بضدها النوعي ظاهرة (العبودية) ، على وفق ما تضمنته وجهة نظر المستشرق (فرانز روزنتال) القاضية بأن (( أصل مفهوم الحرية ينبغي البحث عنه في النطاق القانوني وفي عصور ما قبل التاريخ ؛ فالانسان الحرّ كان من الوجهة القانونية مختلفا”عن العبد الذي كان ملكا”له )) . كما ان النقاش حول مضمون الحرية السياسية يشترط حضور واقعة الاستبداد ، من منطلق (( ان من المحال – يضيف ياسبرز – ظهور أية عظمة دون توفر الحرية السياسية )) . هذا في حين ان التفلسف عند تخوم الحرية الفكرية يقتضي الدخول الى عوالم المحرّمات الدينية والممنوعات الايدويولوجية ، من باب (( ان لا حرية عند الناس دون حرية التعبير عن الفكر )) كما استخلص ذلك (فولتير) على نحو عام ، أو (( ان الحرية تتألف من المقدرة على اختيار رأي فلسفي أو معتقد ديني )) كما أوضح ذلك (البير بايه) بشكل محدد . واذا ما دلفنا رواق الحرية بمعناها الفلسفي فاننا سنجازف بولوج متاهات لا مخرج لها ، لا تلبث أن تعيدنا من حيث بدأنا ولكن (بخفي حنين) كما يقال ، اللهم الا اذا جعلناها مقترنة بمبدأ (الضرورة) الطبيعي ونظيره الميتافيزيقي ، الذي كان وما يزال الشغل الشاغل لأرباب الفلسفة والمنخرطين بشعابها . وهنا تتبوأ الماركسية صدارة القول بأن (( الحرية لا تستقيم في حلم الاستقلال عن القوانين الطبيعية ،  بل في معرفة هذه القوانين ، وفيما تمنحه هذه المعرفة من امكانات تشغيل تلك القوانين ، بصورة منهجية في اتجاه أهداف محددة . وان هذا لينطبق سواء على قوانين الطبيعة الخارجية أم على القوانين التي تسير الوجود الجسماني والذهني للبشر أنفسهم )) . والواقع ان الذي يجعل اشكالية الحرية ملتبسة ومركبة ليست فقط كونها اشكالية مستديمة الطرح وراهنة التداول على صعيد القول / الخطاب أو على مستوى الفعل / القوة ، سواء لمن هم في السلطة أو المعارضة فحسب ، بل لأنه ما من مفهوم من مفاهيم النظرية الاجتماعية تعرض للتشويش الفكري والتقميش السياسي من لدن المؤيدين له أو المتحاملين عليه ، مثلما تعرض له ولحق به مفهوم (الحرية) ، بحيث أمسى تميمة لفظية تتقاذفها أمواج الصرعات الايديولوجية وبضاعة استهلاكية تتداولها أسواق المساومات السياسية ، دون أن تراعي له حرمة أخلاقية أوقيمة انسانية ، للحد الذي أفقده كل ما يحتكم عليه من فضائل واسقط عنه كل يحتويه من مزايا . ولهذا فقد أعتبر المفكر (العروي) ان من (( المهم في قضية الحرية هو أن تبقى دائما”موضوع نقاش ، بوصفها نابعة عن ضرورة حياتية ، لا بوصفها تساؤلا”أكاديميا”)) . ولكي نتجنب الوقوع في مآخذ الاطناب ومرذول الاطالة ، فقد يكون من المفيد مقاربة اشكالية الحرية من زاوية ما يحرك الانسان من دوافع شعورية وما يثيره من نوازع لاشعورية من جهة ، وما يحول دون ارتواء الأولى من اكراهات موضوعية وما يقمع اشباع الثانية من ممانعات ذاتية من جهة أخرى . بمعنى انه وان صحّ القول– مع ما ورد في القاموس الفلسفي الصادر في شتوتجارت- (( ان الحرية هي امكانية التصرف وفق ما تريد )) ، بحيث تتفلت من قيود الروابط الاجتماعية وتتنصل من الزامات الضوابط المناقبية ، التي قد تشعر بأنها تعارض رغباتك الذاتية وتعترض توجهاتك الشخصية . بيد أن ما يصحّ أكثر من ذلك هو الايمان بأن (( الحرية الشخصية لا تكون ممكنة الا في الجماعة )) كما أوضح (ماركس) . بمعنى ان كل ما يمتلكه الانسان من رغبات مكبوته ويختزنه من طموحات مقموعة ، ليست في واقع الأمر الا نتاج مكثف من نتاجات الواقع التاريخي الذي ينبت فيه ، وحصيلة مستخلصة لطبيعة البيئة الحضارية التي ينغرز فيها . وهو ما تبرهن عليه معطيات الاختلاف الحاصل ، لا في مفهوم الحرية الذي تتمثله هذه الجماعة أو تلك ، ولا في معنى الدلالة التي يمحضها اياه هذا المجتمع أو ذاك ، وانما كذلك لجهة تنوع الانماط القيمية التي تسبغ عليه من لدن نفس تلك الجماعة أو ذلك المجتمع ، ولكن في اطار مرحلة تاريخية أخرى أو ظروف اجتماعية مغايرة . ولهذا ينبغي على كل من يروم أن يدلو بدلوه بخصوص هذه الاشكالية ، أن يبادر بالكشف عن أي مجتمع يتحدث ، وفي اطار أية مرحلة تاريخية يجادل ، ومن منطلق أية ايديولوجية يحلل، والا أصبح حديثه مجردا”من أي معنى وخاليا”من أية دلالة ، لاسيما وان كل خطاب – كما يكتب ميشيل فوكو – (( يخفي داخله القدرة على أن يقول غير ما قاله ، وان يغلف أيضا”عددا”كثيرا” من المعاني : وهذا ما يسمى بوفرة المدلول بالنسبة للدال الواحد والوحيد . وعليه ، فان الخطاب ، امتلاء وثراء لا حدّ لهما )) . وعلى أية حال فانه من الصعوبة بمكان الوصول الى منابع الحرية العميقة والوقوف على مصادر الهامها للروح الانسانية ، دون استحضار تلك الاكراهات والممانعات التي تنتصب حاجزا”- غالبا”ما يصعب تجاوزه أو الالتفاف عليه – أمام نزوع الأنا لبلوغ مآربها وتحقيق صبواتها ، عبر تشققات بنى الواقع وتمزقات نسيج المجتمع . 

أحدث المقالات

أحدث المقالات