8 أبريل، 2024 9:37 م
Search
Close this search box.

اشكالية التخلف والتحديث في الفكر العربي الحديث

Facebook
Twitter
LinkedIn

* خلفيات الازمة/الاشكالية

اعتاد الرأي العام الغربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقريباً، بعدانشاء جامعة الدول العربية، وبالتحديد بعد انفجار قضية فلسطين عام1948، وما تبعها من سلسلة الحروب المتعاقبة في هذه المنطقةالاستراتيجية الحساسة، الواقعة بين الخليج العربي والمحيطالاطلسي، ان يتحدث عن سكانها بصيغة الجمع التي لا تعني التعددبقدر ما تعني الغاء الفروق والتمايزات بينهم، فيشير اليهم عبر وسائلاعلامه وتأليفه،، بكلمة (عرب).

بالطبع يختلف الموقف عندما يتعلق الامر بالسياسات والاستراتيجياتالتي تتخذها كل دولة من دول الغرب ازاء سكان هذه المنطقة. هنا،تأخذ صيغة الجمع على الفور معنى التعدد، وتظهر التحديداتوالتمايزات والفوارق بين الاقطار العربية، حسب المصالح والاهدافوالمراحل، فنسمع حديثاً عن مصر او العراق او السعودية او المغربوغيرها من الاقطار العربية.

والواقع، ان الرأي العام العربي يكاد يكون مقارباً لذلك ازاء نفسه. فسكان هذه المنطقة الذين يقاربون الآن الـ (400) مليون نسمة،ويكتبون بنفس اللغة، ويملكون تاريخاً مشتركاً على الاقل منذ الفتحالاسلامي، وتجمعهم هموم نفسية واحدة، وتواجههم تحديات سياسيةوحضارية واحدة، ويستشعرون في اعماقهم شعوراً باطنياً واحداًواعياً او غير واع ــــ يجدون في ذلك كله تبريراً كافياً، لأن يتحدثوا عنانفسهم بصيغة الكل في واحد، فيقولون: نحن العرب. ولكن عندمايتعلق الامر بالسياسات الرسمية والمواقف العملية والمسائلالاقتصادية، فان الوضع يختلف.

سوف تطفو على السطح، هنا او هناك، التمايزات والتعارضات فيالسياسات والممارسات الداخلية او الخارجية، بل سوف تكتشف انالمواطن في قطر عربي لا يستطيع احياناً دخول قطر عربي آخر بدونتأشيرة دخول وبدون ان يكتب اقراراً بما معه من مال، وبدون ان يفتشتفتيشاً دقيقاً، وهي الامور التي اختفت مثلاً في بلدان الاتحادالاوروبي التي لا يدعي اعضاؤه انهم يشكلون امة واحدة.

في هذه المنطقة اذن، مالذي يمكننا ان نكتشفه الآن من ملامح اوسمات او خصائص غير لغتها الواحدة، وتاريخها المشترك، وهمومهاومطامحها المتجانسة؟ وبتعبير آخر، ما الذي يمكن ان نسجل من تلكالملامح والسمات والخصائص خارج اطار قوميتها الواحدة وانتمائهاالى الامة الواحدة؟

في البداية، ينبغي ان نسجل الحقيقة الساطعة الاولى، وهي ان هذهالمنطقة من العالم، هي مركز اساس من اهم مراكز الطاقة العالمية. انعالم التكنولوجيا المتقدمة في الغرب يمكن ان تدب فيه البرودة ويغتالهالموت لو لم تمتد اليه تلك الانابيب التي تحمل رحيق الحياة من الارضالعربية. غير ان هذه الحقيقة البسيطة

التي يعرفها اليوم المواطن العادي الاوروبي قبل مفكريه وقادته، قدجعلت من الارض العربية محوراً رئيسياً من محاور الصراع الدوليالظاهر والمستند بكل ما يترتب عليه من نتائج تصيب اول ما تصيبسكان هذه المنطقة العربية، لم يكن التمزيق والانقسام وحدهما كلنتائجه، والا فالأي شيء يمكن نرد الحروب الاهلية والطائفية التياستعرت بداخله؟

ان الغرب الذي ساعدت احدى دولهانكلتراعند نهاية الحرب العالميةالثانية على اقامة اول شكل تنظيمي سياسي حديث يضم الاقطارالعربية وهو الجامعة العربية، مسايرة منها لشعور عربي تولد بدرجةكبيرة من الالحاح اشتداد حركة التحرر الوطني واليقظة القومية فيمعظم الاقطار العربية ورغباتها في نفس الوقت في احكام قبضتهاعلى الاتجاهات السياسية في المنطقة من خلال توجيه حكوماتها التييجلس ممثلوها على مقاعد الجامعة

هذا الغرب يبدو الآن اكثر من اي وقت مضى، بالغ التخوف من أيةاتجاهات حقيقية نحو وحدة هذه الاقطار العربية. وقد لا تكونالمحاولات الدؤوبة لعزل مصر عن نشاطها الطبيعي داخل الاطارالعربي، على الاقل فيما يتعلق بالقضية العربية المركزية وهي قضيةفلسطين، هي المظهر الوحيدالناجحلهذا التخوف.

كما ان الالحاح الآن في الغرب عموماً وربما امريكا بشكل خاص،على اذكاء النوازع والنزاعات الدينية، والاكتشاف المتأخرالمغرضلاهمية الحضارة الاسلامية، وعقد المؤتمرات والندوات في الجامعاتالامريكية حولها، ومحاولة تصوير التضامن كبديل ممكن عما يدعو اليهالآن القطاع الاكبر من العرب، من وحدة عربية لها كل مقوماتهاالطبيعية، ومبرراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والحضارية،قد لا يكون هو ايضاً، على المستوى الايديولوجي بغير مغزى، ذلك لانمركز الطاقة العالمية ينبغي ان يلتهب في داخله بالصراعات والنزاعاتالتي تستنفذه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كما ينبغي ان توقفتصراعاته ونزاعاتهوهي لسوء الحظ لا تتوقفان ينشغل بالسماء عنالارض كي يتدفق النفط بحرية وبسيولة ووفرة، وحتى تدور المصانعفي الغرب وتدور المعارك الملتهبة في ارضنا العربية.

ليست منطقتنا العربية الا المعقل الاخير للاستعمار والامبريالية،وبدون ادراك هذه الحقيقة الاساسية سوف يكون من العسير ان نفهمبطريقة صائبة مغزى قيام الدولة الصهيونية في قلبها، وبصرف النظرعما يحب البعض ان يغرقوا انفسهم فيه من فوارق او اختلافات تبدوفي بعض الاحيان بين الامبريالية والصهيونية، فان المصالح النهائيةواحدة والاهداف العليا على المستوى الاستراتيجي لكل منهما ليستبينها فوارق او اختلافات.

والقضاء على الصهيونية في منطقتنا يعني بدقة القضاء علىالامبريالية. ومن هنا تستمد معاركنا ضد الصهيونية والامبريالية كلعنفوانها وشراستها، فلسنا وحدنا الذين نعرف، الامبريالية ايضاًتعرف ان فوق هذه الارض تستمد من باطنها رحيق الحياة لتقدمهاالاقتصادي والاجتماعي، سوف يكون قبرها الابدي. ولذلك

تستخدم احدث ما افرزته وتفرزه ترسانتها الايديولوجية، حتى تزيدحجم الغبار في افاقنا الفكرية وتعمق من كثافة الغشاوات علىابصارنا وتفعم الهوات فيما بيننا عمقاً واتساعاً.

لم تعد منطقتنا اذن مسرحاً للصراعات الدولية على الصعيدالاقتصادي او السياسي فحسب، وانما تحولت الى مسرح ملائمللصراعات العالمية الايديولوجية ايضاً.

بطبيعة الحال، لم تكن هي بعيدة عن هذه الصراعات الايديولوجية فيمامضى من سنوات وعيها. ولكن الأمر يختلف اليوم كماً وكيفاً في ظلمتغيرات داخلية وعالمية شديدة الأثر وواضحة المغزى والهدف.

غير ان تأثير الاستعمار والامبريالية والصهيونية ليس تأثيراً خارجياًفقط. ومن الخطأ البالغ ان نواصل حصره في ذلك الاطار الخارجي. ذلك لأن هذا التأثير القديم، الجديد، المتواصل، يتجسد في تكويناتوتشكيلات، وبنيات اجتماعية داخلية، لا تسهل للعامل الخارجي القيامبدوره فحسب، ولكنها تقوم هي نفسها بأداء دوره في احيان كثيرة،لانها بحكم ارتباطاتها به وتبعيتها البنيوية له، تعتبر امتداده البنيويوالوظيفي معاً.

من هنا، فان ما يطلق عليه تعبير الازمة في الفكر العربي، ليستمجرد انعكاس لازمات خارجية او ظلال لصراعات عالمية، كما انه ليسوليداً للتكوينات والتشكيلات والبنيات الاجتماعية الداخلية في حدذاتها، اي بمعزل عن التأثيرات الخارجية. انه في الواقع المحصلةالطبيعية والمنطقية للقاء التأثير الخارجي مع وسط داخلي ملائم ومنتفاعلها معاً يحدث الاختناق، وتنشأ الأزمة.

ولكن ما معنى الازمة؟

الازمة هي وضع تاريخي يضيق فيه اطار بنية اجتماعية مااو بنيةفكرية ماعن استيعاب وهضم وتمثل مدركات ومعطيات لحظة تاريخيةمغايرة. وهذا الوضع التاريخي ليس حالة، ولكنه عملية، او بتعبير ادقهو مرحلة من مراحل عملية تاريخية.

يمكن القول اذن، ان الازمة التي يشار اليها هنا، هي ازمة بنياتعربية متخلفة ومن ثم عاجزة عن استيعاب متغيرات مرحلة جديدةضمن العملية التاريخية المستديمة. وهي بنفس المعنى ازمة بنياتفكريةاي ازمة مناهج وادوات ومفاهيم وتصوراتمتخلفة ومن ثمعاجزة ايضاً عن فهم وتفسير عناصر المتغيرات الجديدة، وقيادة والهامقوى التغيير. وبهذا المعنى، لا تكون الازمة هي ازمة الفكر العربي،هكذا هلى اطلاقه.

فأي فكر عربي؟

ليس هناك ما يسمى بالفكر العربي الا في اطار التعميم المجرد، لالأن مضامين هذا الفكر تختلف باختلاف منطلقاته واهدافهالاجتماعية، فحسب، وانما لأن هوية هذا الفكر نفسها لا يمكن اثباتهابادارة هذا الفكر اللغوية وحدها، فثمة معيار اهم واقدر على اثباتهذه الهوية هو بالتأكيد معيار الاستقلال والتبعية او بتعبير آخر معيارالاصالة والاغتراب. ما يسمى بأزمة الفكر العربي، هي في الواقعازمة الفكر العربي المغترب اذا جاز التعبير، بقدر ما هي في نفسالوقت ازمة بنيات اجتماعية مغتربة.

* جذور التخلف.. محاولات التحديث

ربما كان من السهل ان نستعرض التعريفات المختلفة لظاهرة التخلفاو لعملية التحديث، سواء في الادب الاقتصادي السائد الآن او فيالتصورات الايديولوجية المختلفة لهما. غير اننا نعتقد ان ذلك ليسمفيداً بالنسبة لهذا السياق بقدر محاولتنا تحديد معنى هذا التخلف،وكيف فهم، وكيف فسر في اقطار الوطن العربي بالتحديد، وكيف وجهبالتالي عبر جهود التحديث المتفاوتة في الاقطار العربية المتباينة.

وعلى الرغم من ان هذا الفهم للتخلف، ومن ثم الجهد المبذول لمواجهته،ينطوي بالضروروة على شكل من اشكال التقويم للمشكلة وممارساتتجاوزها، هو في جوهره متماثل او متقارب الى حد كبير منذ ان ظهرالوعي بها، فانه من المفيد ان ننظر اليها في مراحلها التاريخيةالمتعاقبة، ليس فقط للتمييز بين الاشكال المختلفة للوعي بها وانماايضاً كي يتأكد ذلك التماثل في الجوهر من جانب، وكي نربط بينهذه الاشكال المختلفة وطبيعة الانظمة الاجتماعية الحاكمة في كلمرحلة من جانب آخر.

ولذلك، فأننا سوف نتابع حركة هذه المشكلة في ثلاث مراحل تاريخية:

الاولىهي النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

والثانيةهي النصف الاول من القرن العشرين.

والثالثةهي المرحلة الراهنة التي تبدأ فيما بعد الحرب العالمية الثانيةتقريباً، وحتى الآن.

يمكن القول، ان الأثر الذي تركته الحملة الفرنسية على مصر فيالقيادة الفكرية الدينية التي كان تفكيرها يمثل الايديولوجية السائدةحينذاك، كان متناقضاً. قسم منها وقف الى جانب الفرنسيين مخدوعاًاو مبهوراً، ودعا الشعب الى مساندة نابليون، لانه سوف يساعد مولاناالسلطان على فتح بلاد (الموسقو) –يقصد بمولانا السلطان العثماني،اما (موسقو) فهي موسكوبل وذهب بعض افراد هذا القسم الى حدالحديث عن ان مصر وفرنسا تكونان امة واحدة.

اما القسم الأخر، فلقد رفض كل ادعاءات نابليون وكل مزاعمالفرنسيين، واغلق عقله وقلبه حتى عما أتت به هذه الحملة من ثمارالحضارة الاوروبية حينذاك، ولم ير في الفرنسيين القادمين من وراءالبحار الا كفاراً خارجين على الملة، ومن ثم اعلن الثورة ضدهم.

غير ان الواقع الاجتماعي الذي جرى تشكله بعد ذلك، ادى ببعضافراد هذا القسم الثاني الى ان يعيدوا التفكير في امرهم وفي امر مااسموه في ذلك الوقت بانحطاط المجتمع الاسلامي. ورأوا ان الحلللتغلب على ذلك الانحطاط، وهو التعرف على اوروبا واقتباس ما ينفعمن افكارها ونظمها في تطوير المجتمع.

ان الشيخ حسن العطار، احد علماء المرحلة الكبار يمكن ان يكون مثالاًبارزاً على ذلك، انه احد المصريين الذين زاروا معهد بونابرت المصريوتعرفوا فيه على شيء من علوم اوروبا. ولعل الطهطاوي قد تعلم مناستاذه العطار شيئاً منها.. غير ان فضل العطار الذي يذكره لهالتاريخ الثقافي لهذه المرحلة دائماً، هو انه

الذي ارسل الطهطاوي تلميذه الى فرنسا على رأس فرقة من فرقالجيش كي يكون اماماً لها في الصلاة اثناء بعثتها الدراسية.

ليس هناك شك في ان الطهطاوي نفسه هو العلامة البارزة في هذهالمرحلة كلها، فهو الذي بعد عودته من بعثته الى باريس سوف يبدأ فيالتشكيل الجديد للفكر في مصر محاولاً ان يقوم بعملية التكييفالضرورية بين قاعدته الاسلامية السلفية وضغط الفكر الاوروبي الذيقرأه، والحضارة الاوروبية التي شاهد آثارها بعينيه.

ان الافكار الرئيسية التي عبر عنها الطهطاوي في كتبه الاساسية،يمكن تلخيصها في اربع افكار:

الاولىهي فكرةالوطن المصريهذه الفكرة الح عليها كثيراً فيكتاباته واشعاره وخصوصاً في كتابه الشهيرمناهج الالبابالمصرية في مناهج الاداب العصرية/ 1896-.

لم يكن الطهطاوي يملك مفهوماً محدداً عنالمصريةهذه. وهو لميستخدم تعبيرالقومية المصريةقط، وهو التعبير الذي سوفيستخدمه بعد ذلك بعض مفكري البورجوازية المصرية. ولكنه ايضاً لميكن يعكس اي ظل لفكرة العروبة. ان الوطن عنده كان هو الوطنالمصري لا الوطن العربي، بل هو مصر وارض مصر بالتحديد.

الثانيةهي فكرة الديمقراطية، ولقد عاصر الطهطاوي في باريساحداث ثورة 1830، وشاهد على حد تعبيرهقيامة أنفس الناس علىملكهموهو قد شرح في كتابهتخليص الابريز في تلخيص باريزعناصر الديمقراطية البورجوازية كلها، وهو الذي قرأ وترجم بعضفصولروح القوانينلمونتسكيو، غير ان الطهطاوي لم يقبل هذهالديمقراطية البورجوزاية كما هي، بل حاول ان يوائم بينها وبينالتصور الاسلامي عن الحكم، غير انه ألح على الحد من سلطةالحاكم، وان الشريعة هي فوق الحاكم مستعيناً بتفرقة مونتسكيو بينالسلطات الثلاث-.

ومهما يكن تصوره الذي املته عليه طبيعة نشأته الدينية وظروف البلادتحت حكم محمد علي باشا، فان الطهطاوي في هذا المضمار قد فتحعلى الاقل باب الاجتهاد، مؤكداً ان لا فرق بين مبادئ الشرعالاسلامي ومبادئ القانون الطبيعي التي ترتكز عليها قوانين اوروباالحديثة، وهذا يتضمن القول بامكان تفسير الشريعة الاسلاميةتفسيراً يتفق مع حاجات العصر.. وانه يجوز للمؤمن في ظروف معينةان يقبل بتفسير للشريعة مستمد من مذهب شرعي غير مذهبه.

الثالثةهي ضرورة تطوير العقلية الازهريةنسبة الى الازهرالشريف-. ان الطهطاوي فيمناهج الالبابيريد للازهر ان يضيفالى ما يجب عليه ان يعرفه معرفة بسائر العلوم البشرية المدنية، التيلها مدخل في تقديم الوطنيةبل هو ينظر الى المسألة نظرة ابعد،ويتحدث عن اوروبا التي اخذت هذا العلم من الحضارة العربية، كييغري الازهريين بدراسته، قد اتجهت الى هذا العلمكي تفوز بدرجةالكمال-.

ان فكرة تطوير الازهر لم تكن فكرة ثانوية او هامشية. على العكستماماً، ذلك لأن الازهر كان معقل السلفيين، الحصن الاخير الذييدافع عن الثقافة التقليدية، خط الدفاع عن مجتمع ما قبل الرأسمالية.

الرابعةهي التعليم، ان جهود الطهطاوي في هذا الميدان كبيرة الىحد لا يمكن الحديث عنها في هذا السياق المركز بما هي جديرة مناستفاضة، ابتداء من انشاء مدرسة الالسن ومدرسة التاريخوالجغرافيا، وغيرهما الى فئات الكتب التي نقلها الى اللغة العربية.

غير انه تجدر الاشارة الى ان الطهطاوي في وقته المبكر ذاك، التفتالى تعليم المرأة ايضاً. والغريب انه ربط تعليمها بأمكانيةانتتعاطى من الاشغال والاعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر طاقتهاوقوتها.. فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة، واذاكانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حقالنساء ايضاًكما ذكر في كتابهالمرشد الامين في تعليم البناتوالبنين-.

تلك هي الافكار الاربع الرئيسية التي دار حولها اطروحات الطهطاويبايجاز شديد. ولقد كان ينبغي ان نضيف اليها اتجاهات اختياراتهللكتب التي ترجمها كي يتضح أكثر دوره الكبير الاول في محاولاتالتحديث طبقاً لتأثيرات النمط الاوروبي على تفكيره، وفي حدودارتباطاته بأصوله الدينية الاسلامية.

ان دراسات كثيرة حول الطهطاوي، قد تكفلت على اية حال بابراز هذاالدور وتأكيده. وما يعنينا هنا فحسب هو تسجيل بداية التطلع لحلمشكلة التخلف عن طريق الاقتباس والتقليد لاوروبا.

ان ثمة مفكراً عربياً آخر قد اتجه نفس الاتجاه تقريباً، وان لم يكن لهنفس التأثير الذي كان للطهطاوي. اننا، نقصد خير الدين التونسي.

ان الكتاب الذي وضعه بالعربية بعنواناقوم المسالك في معرفةاحوال الممالك والذي نشر في تونس عام 1867، واعيد طبعه فياسطنبول بعد ذلك، وترجمت مقدمته الى اللغة الفرنسية بعنوانالاصلاحات الضرورية للدول الاسلاميةلا يخرج في مضمونه عنالاتجاه العام لفكر الطهطاوي، فيما يتعلق على الاقل باصلاح الاحوالفيالامة الاسلامية-.

الفرقولعله مهم هناان الطهطاوي كان يتحدث عن مصروحدها،مؤكداً بذلك التطور اللامتساوي للبورجوازيات العربية، بينماكان خير الدين التونسي يتحدث عما كان يدعوه بالامة الاسلامية.

غير ان التوجه الفكري، واحد من صميمه، من حيث ان كليهما كانيرى الاصلاح في الانفتاح على ما هو صالح ومنسجم مع الدينالاسلامي من عادات اتباع الديانات الاخرىعلى حد تعبيرالتونسي نفسه. ومن حيث ان كليهما قد اتصل بالمدنية الفرنسية،وحاول ان يدافع عن معنى التحديث الاوروبي بمفاهيم اسلاميةتقليدية.

كانت اوروبا قد دخلت الشرق اذن، وكان عالم العرب قد بدأ يعيد النظرفي اسسه ومفاهيمه التقليدية من التغلغل الاستعماري الاوروبي. وكانالنمط الاوروبي قد بدأ يشكل امام انظار العرب كمثال، رغم ان تبينهالكامل كانت تحد منه البنية الاجتماعية التي لم تكن قد اكتمل تشكيلبورجوازيتها الكولونيالية بعد، بالاضافة الى الايديولوجية السلفية التيكانت تدافع بقوة عن مواقعها.. وهي تتراجع.

* رموز التحديث

على الرغم من ان جمال الدين الافغاني قد هبط الى مصر في عصراسماعيل، اي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مشكلاًحوله حلقات الاتباع والتلاميذ والمريدين، فأن تأثيره الخفي او الاكبرعبر تلاميذه، ينتمي في الواقع الى المرحلة الثانية التي تبدأ مع بداياتالقرن العشرين، وربمابتعبير ادق بعد انتكاسات حركة عرابي.

اننا، نعني بهذا التأثير على التحديد، فكرته الشهيرة عنالجامعةالاسلاميةوالصراع الذي دخلته هذه الفكرة مع فكرة القومية المصريةالتي تبناها مفكروا البورجوازية الكولونيالية النامية في ذلك الحين.

ان جمال الدين الافغاني، رجل غامض، ورغم كثرة ما كتب عنه حتىالآن، فأن سره لم ينكشف بعد. لقد اختلف بعض المؤرخين حول مولده،وهل كان في بلاد الافغان او في بلاد فارس. وكثيرون ممن كتبوا عنه،وصفوه بالثائر والمناضل العظيم، وابو الثورات في الشرق، وباعثالفكر العربي من مرقده.. الخ.

غير ان ما يعنينا من ذلك كله في هذا السياق، هو تأثيره في صياغةالحلول لاشكالية التخلف والتحديث، كما بدا في افكاره التي ادلى بهاهو نفسه او في آثار هذه الافكار عند تلاميذه.

فكرته الاساسية تتلخص في ايجاز في مواجهة العالم الاوروبيبالعالم الاسلامي. يجب ان نتذكر هنا، ان مصر في ذلك الوقت كانتقد خضعت للاحتلال البريطاني، رغم انها من حيث الشكل كانت وماتزال ولاية عثمانية.

سنقرأ الافغاني يقولأما والله لو علم العثمانيون مالهم من السلطةالمعنوية على رعايا الانجليز، واستعملوا تلك السلطة استعمال العقلاء،لما تجرعوا مرارة الصبر على تحكمات الانكليز وحيفهم في اعمالهم،وتعديهم على حقوق السلطان في مثل المسألة المصرية التي هي فيالحقيقة اهم مسألة عثمانية واسلامية.. .

ولسوف يزيدنا جولدسير وضوحاً في هذه المسألةان غاية الجامعةالاسلامية الاقتصادية هي ثروة المسلمين للمسلمين وثمرات التجارةوالصناعة في جميع المعمور الاسلامي هي لهم يتنعمون بها، وليستلنصارى الغرب يستنزفونها، وهي نفض اليد من رؤوس الاموال الغربيةوالاستعاضة عنها برؤوس اموال اسلامية.

مهما يكن الامر، فأن الاساس الواقعي لمثل هذه الدعوة لم يكن قائماًبالفعل او لم يكن بوسعه ان يستمر في مواجهة الاستعمار الغربي.

لقد كان الافغاني يدافع عن خلافة عثمانية نخر فيها السوس وتسللتاليها هي نفسها اصابع اوروبا الاستعمارية البازغة. ولم تكن صيحةالسلطان عبد الحميد الذي بايعه الافغانيخليفة اعظميا مسلميالعالم اتحدوا سوى آخر صرخة يطلقهارجل اوروبا المريضفيالاستانة قبل ان يلفظ آخر انفاسه.

ان محمد عبده الذي كان تلميذاً مخلصاً للافغاني حتى نهاية حركةعرابي المأساوية وصديقالعروة الوثقىفي باريس، سوف يتخلىعن آراء استاذه شيئاً فشيئاً بل وسيصل الى حد القطيعة معه، وقبلان تحدث

تلك القطيعة اقترح على استاذهاعتزال السياسة والانصراف الىانشاء مدرسة خاصة تعنى بالشبيبة لمنهج ومقاصد جديدة-.

ان انكسار حركة عرابي وهزيمتها وسيطرة الاحتلال البريطاني علىالبلاد، سوف يكسر آمال البورجوازية الكولونيالية التي لم تكن تعي انالارتباط بينها وبين البورجوازية الامبريالية هو ارتباط بنيوي. وسيبددذلك كله اوهامها في التطور المستقل بل وحتى في امكانية التقليدالكامل للنظم السياسية السائدة في الغرب، ذلك ان الاستعمار الغربينفسه في محاولته تشكيل تابع له يشبهه، لم يكن ليقبل ان يمضيالتابع الشبيه في لعبة التقليد حتى يصدقها. فالديمقراطية البورجوازيةتعبير أصيل عن واقع العلاقات الاجتماعية في البنية البورجوازيةالغربية، اما في المستعمرات واشباه المستعمرات، فهي تعبير مشوهعن علاقات اجتماعية مختلفة داخل اطار بنية بورجوازية كولونياليةتشد حركاتها خيوط تمسك بها بورجوازية الغرب.

لقد قنع محمد عبده اذن بانكفاء على الذات، وارتضى لنفسه ان يكونمصلحاً دينياً فحسب، حيث ذكرما دخلت السياسة في شيء الاأفسدته-. وألقى بزمام الامور كلها عند قدمي ما كان يسميه بالمستبدالعادل. اما تمثيل الشعب في المجالس النيابية على النمط المعروف فيالبلدان الغربية، فلا معنى له الا اذا اجتمعت كلمة الامة على غايةواحدة.. .

لنقل اذن ان محمد عبده كان يعبر عن خط الدفاع الأخير بهذه الاقوالعن الطبقة البورجوازية الكولونيالية التي كانت تشهد افراز الطبقةالوسطى داخل البنية الكولونيالية نفسها ونسمع ضجيجها الذي يزدادعنفاً من اجل الوصول الى الحكم. ورغم انه تابع طريقه الاصلاحيعلى طريق الدين، فانه لن يتردد في ان يقول عن الممثل الاول لهذهالطبقة المتوسطةان افكار مصطفى كامل افكار غير شرعية وهي لنتصل الى أية نتائج او الى نتائج لن تدوم.

وبالفعل لم يصل مصطفى كامل الى أية نتائج ولكن لغير الاسبابالتي كان يتصورها محمد عبده. صحيح ان حياته القصيرة لم تتح لهان يشهد ثمار عمله السياسي ولكن حتى تلك الحياة لو كانت قداستمرت اكثر من ذلك، ما كان بوسعه ايضاً ان يشهد تلك الثمار.

ان ارتباطه التكتيكي بالدولة العثمانية كان قد تجاوزه العصر رغم انهكان يدغدغ المشاعر الدينية في القطاعات التي لم تكن لها مصالحمباشرة مع الغربالموظفون، والحرفيون، والطلبة..- كما ان محاولاتهللعب على التناقضات بين الامبرياليتين الانكليزية والفرنسية، كانايضاً قد تخطاه التطور الامبريالي للبرجوازية الاستعمارية الغربيةالذي سوف يوحد بينهما في الحرب العالمية الاولى ضد امبريالية تمثللهما على الدوام مكمن الخطرالامبريالية الالمانيةودفعها بعدسنوات قليلة الى عصرالوفاق الاولواقتسام الوطن العربي بينهماواطلاق السيطرة الامبريالية من كل قيد.

أتى من بعده الممثل الشرعي للبنية البورجوازية الكولونيالية في مرحلةتطورها الجديدة. انه احمد لطفي السيد.

لا ينبغي ان يخدعنا انتماء لطفي السيد لحزب الامة القديم او انتماءهايضاً لطبقة كبار الملاك عن دوره الاجتماعي وخصوصاً الايديولوجيعن كونه الممثل الاكثر تعبيراً عن هذه المرحلة الجديدة في تطورالبورجوازية الكولونيالية. ان الحدود بين الطبقات ليست صارمة ولاحاسمة في هذه البنيات البورجوازية التابعة.

فماذا كانت الافكار التي يروج لها؟

انها اربع افكار اساسية: القومية المصرية ومعاداة فكرة العروبة،الديمقراطية الليبرالية، مبدأ العقل، مبدأ المنفعة.

ان فكرة القومية المصرية ومعاداة فكرة العروبةوهناك اكثر من نصفي كتاباته واحاديثه يعبر بوضوح عن ذلكلم تكن تعكس عنده وعندغيره ممن نسجوا على منواله وبينهم طه حسين نفسه، معنى التطوراللا متساوي للبورجوازيات العربية، والمسافة الواضحة بين درجة نموالبورجوازية المصرية والبورجوازيات العربية الأخرى فحسب، وانماكانت تعكس ايضاً معنى لا يقل عن ذلك في اهميته ومأساويتهالتاريخية، ذلك لان الطبقة المتوسطة التي تولد في رحم البنيةالبورجوازية الكولونيالية ترفض التسليم بعدم امكانية التطورالرأسمالي طبقاً للنمط الغربي.

ان اوهامها الايديولوجية تدفعها الى تصور ان هذا ممكن، وان العقبةالتي تقف امامها هي الطبقة المسيطرة على البنية البورجوازيةالكولونياليةالتي ستوصف ابتداء من الآن (وقتها) بانها ارستقراطيةواقطاعيةوليست في التبعية البنيوية للبنية البورجوازية الامبريالية.

ومن هنا، يشيع وهم التماثل بين هذه الطبقة المتوسطة والطبقةالمتوسطة الرأسمالية في الغرب، رغم الاختلاف الجذري في النشأةبينهما والاختلاف البنيوي الكامل بعد ذلك فيما بينهما.

ويحدث نتيجة ذلك، ان تتبنى هذه الطبقة المتوسطة التي تتصارع معالطبقة القديمة حول الحكم، افكار الطبقات الرأسمالية الاوربية آبانتكونها ونشأتها الاولى.

ان الافكار الثورية للثورة الفرنسية سوف تتردد بقوة في هذه المرحلة،ليس في مصر وحدها وانما في اقطار عربية اخرى عديدة وخصوصاًفي الشام، ومعها مبدأ المنفعة الذي ارسته البورجوازية الانكليزيةالتجريبية الطابع، وهي تشق طريقها الى سلطتها. وستصبح اوروباهي (النموذج الامثل) الذي ينبغي ان يحتذى لتخطي وتجاوز تخلفالماضي وتحقيق التقدم.

* ازمة الفكر العربي المغترب

يحدد المفكر الاشتراكي جورج لوكاتش، ازمة الفكر الغربي في ستظواهر اساسية:

1- فقدان الاتجاه والارتداد الى الماضي للبحث عن جذور الفكرالمعاصر، كمحاولة تلمس اصول الفلسفة النازية كما صاغها روزنبرغعند كانط، واصول فلسفة سارتر عند ديكارت.

2- انصراف المجتمع عن قضايا الفكر وابتعاد المثقفين اكثر فأكثر عنميدان النشاط العلمي، وقصورهم عن كشف حقيقة العلاقات الانسانيةالتي تحجمها الاساطير.

3- الشعور المتزايد بالاغتراب وانتشار اليأس والتشاؤم بين المفكرين،وضعف ايمانهم بالثورة ( التغيير )، ووقوفهم عند حدود الحماساللفظي.

4- عجز الفلاسفة المفكرين عن تقديم تفسير نظري يتميز بالتماسكوالشمول للعلاقات الانسانية السائدة في مجتمعاتهم.

5- الهجوم على المنهج العلمي والحديث عن عقل انساني قاصر منجانب وحقيقة لا يمكن فهمها الا عن طريق الحدس او العيان المباشرمن جانب آخر.

6- انغماس الفلسفة في خلق اساطير تتعدى التفسيرات العلميةللظواهر، بل وتستغل بعض هذه التفسيرات العلمية استغلالاً يخرج بهاعن حدودها واطارها الحقيقي، والاستناد الى التطورات العقليةالمجردة، واعتبارها حقيقة واقعية بصرف النظر عن مدى ارتباطهابالواقع الموضوعي.

لو تأملنا هذه الظواهر الست التي يعتبرها لوكاتش علامات على ازمةالفكر الغربي، لوجدنا انها تنطبق ايضاً على ما اسميناه الفكرالعربي المغترب، خصوصاً في السنوات الأخيرة من حياة الفكر، بل انانطباقها على ذلك الفكر المغترب يوشك ان يكون كاملاً الى حد اننانستطيع ان نضرب الامثلة العديدة على تحقق كل مظهر من مظاهرها،من الانتاج الفكري في كثير من اقطارنا العربية.

لقد دأبنا منذ سنوات على نفي فكرة الازمة عن فكرنا العربي المعاصر،في مقابل اولئك الذين لم ينفكوا يلحون على هذه الفكرة ويعممونهاتعميماً شاملاً مجرداً. وكانت حجة الذين ينفون الازمة نفياً قطعياً عنفكرنا العربي. ان هذا الفكر يختلف جذرياً عن الفكر الغربي، فأذاكان الفكر الغربي يعاني ازمات البنية الامبريالية في مجتمعه، فانفكرناحتى على فرض انه يعاني ازمة فانها ازمة مولده الجديد.

لم يكن هذا التحليل الذي اشاعه عدد من مفكرينا وكتابنا صحيحاًعلى اي حال. كان يقوم على اساس فرضية مسبقة تعتبر الفكرالعربي متمايزاً عن الفكر الغربي بالضرورة، ما دامت البنيتانالاجتماعيتان متمايزتان. كانت الميكانيكية (الآلية) في اساس ذلكالتحليل، وهي لا يمكن ان تكشف عن نفسها الا عندما تنكشف امامنابوضوح علاقة التبعية البنيوية التي تربط بين بعض بنياتنا الاجتماعيةالعربية والبنية الاجتماعية الامبريالية، حينئذ يمكن لنا ان نفهم فيضوء الاندماج الايديولوجي بين الفوقية الامبريالية، وذلك البعض منبنياتنا الاجتماعية العربية. لماذا يكون من الطبيعي والمنطقي ان تظهرفي ذلك الفكر العربي المغترب كل ازمات الفكر الغربي التي كان يبدولنا ظهورها غير طبيعي وغير منطقي من قبل؟

ليس في الأمر هنا مجرد تقليد لتيارات الفكر ومذاهب الادب والفن فيالغربوان كان هذا التقليد قائماً بالفعل كما انه ليس مجرد انفصالالكتّاب والمفكرين والفنانين عن واقعهمكما دأب البعض منا علىالقول

وان كان هذا الانفصال حقيقياً بالفعل، تبدو المسألة اعمق من هذا،ذلك ان وهم التماثل الذي استقر، ومازال مستقراً عند كثير منالمفكرين بين البنية البورجوازية العربية والبنية البورجوازية الغربية، لميؤد فحسب الى تصور امكانية تكرار تجربة التراكم الرأسمالي التيوصل من خلالها الغرب الى ما وصل اليه، وهو تصور وهمي لا يمكنتحقيقه في عالم اليوم وانما الى اعتبار الغربوهو الامر الذي يعنينافي هذا السياقالنموذج الحضاري الامثل الذي ينبغي ان يحتذىبه، وبين محاولة الاحتذاء بهذا النموذج الكامل والعجز عن تحقيقالتطابق معه، يتمزق منتجوا الثقافة العربية المغتربة بين طرفين: الاغتراب والأصالة.

ماذا يعني الاغتراب هنا؟

يذكر علماء النفس الاجتماعي، انه عندما يعمل جماعة من الناسسوياً، يندر ان يظلوا مجرد عدد من (الانوات) المستقلة. ولن يحدث هذاالا تحت ظروف خاصة جداً. واما الذي يحدث بدلاً من ذلك، فهو انيصبح المشروع العام موضع عنايتهم جميعاً وبالتالي يعمل كل منهمباعتباره جزءاً من كل.

وهناك علماء نفس الاجتماع آخرون، اضافوا تطويراً جديداً للمعنىالسابق، فافترضوا حالة سيكولوجية يسميها حالة (النحن) حيثتصبح (الانا) جزءاً من كل، ويظل هذا الكل المتكامل قائماً حتى يبرزفي المجال عنصر جديد يهدده ويفقده توازنه، وحينئذ تتحطم حالة الـ(نحن) تصبح (انا) و (آخرين). وفي غياب العلاقة الصحية بينهما،تغدو العلاقة مرضية مختلفةانا من اجل الآخرين او الآخرون مناجلي اناالاولى خضوع والثانية سيطرة.

اذا امعنا النظر في العلاقة بين منتجي الثقافات العربية المندمجين فيالايديولوجيا الامبريالية، تلك التي تمثل بالنسبة لهم انموذجهمالحضاري الامثل، لوجدنا صورة لتلك العلاقة المرضية التي يتحدثانعنها.

ان العجز عن تحقيق التماثل مع ذلك النموذج الامثل، يحطم ما كانيمكن ان ينشأ في وهمهم او في وعيهم الزائف من حالة الـ (نحن) تصبح العلاقة بينهما اذن غير تكاملية. لنقل علاقة مرضية. من جانبيمارس النموذج الحضاري الامثل علاقة سيطرة، ويمارس النموذجالحضاري المتخلف من جانب آخر علاقة خضوع. اي يمارس الاولعلاقة قهر، ويمارس الثاني علاقة تبعية.

فيم تبدو علاقات القهر والتبعية تلك؟

لن يتسع المجال هنا لاستعراض مظاهرها في كل المجالات التيتتجلى فيها. سنكتفي هنا بالاشارة الى تلك المظاهر في ميدانالنظرية الاجتماعية فقط، بل ربما كان من المفيد ان نشير الى بعضالانتقادات التي وجهها بعض علماء الاجتماع الغربيين انفسهم لتلكالنظريات الغربية، في محاولة منهم لتجاوز انحيازاتها الايديولوجيةالامبريالية. ومن هذه الانتقادات:

1- التمركز الحضاري حول الذات الغربية، ويكشف هؤلاء البعض عنبعدين لهذا التمركز، اولهما انتهازي يبغي خدمة مصالح الغرب وابقاءسيطرته على مجتمعات متخلفة عنه. وثانيهما منطقي يقوم على

استخدام ادوات ومناهج البحث السائدة في العلوم الاجتماعية الغربيةوالتي تتصل اساساً بالدراسات المتعلقة بالمجتمعات الغربية،والاصرار على تطبيقها في الدراسات المتعلقة بالبلدان المتخلفة.

2- غياب النظرة التكاملية الشاملة. فبسبب الاسراف السطحي فيالتخصص فيما يسمى بالعلوم الاجتماعية لم يعد ممكناً دراسةالمجتمع كاملاً، رغم التسليم العام بترابط الظواهر الاجتماعية. فعالمالاقتصاد وعالم السياسة وعالم النفس لم يعودوا يتكلمون لغة مشتركة،وكل منهم يتوجه لدراسة جانب واحد او ظاهرة بعينها في المجتمع،ولكن حصيلة عملهم قلما تعطينا فهماً متكاملاً عن المجتمع كله. واذاكان ذلك جائزاً في المجتمعات الغربية المتقدمة التي استقرت نظمهاومؤسساتها، فانه ليس في مجتمعات العالم المتخلف سوى كارثةكبرى.

3- ان معظم علماء الاجتماع في العالم المتخلف قد تلقوا تدريبهم اودراساتهم في الغرب، او في الاقل تأثروا باتجاهاته ونظرياته الفكرية،ولذلك فان كتاباتهم جاءت نسخاً مشوهة من النظريات الغربية.

سنكتفي بهذا المثال رغم ان ثمة اغراءات لتقديم امثلة اخرى منمجالات اكثر اقتراباً من النشاط الفكري اليومي لحياة الناس. لم يكنالهدف هنا سوى الاشارة فقط الى بعض مظاهر علاقة السيطرة التيتمارسها الايديولوجية الغربية الامبريالية على منتجي الثقافات العربيةالمندمجين فيها.

ان الاختلاف الجذري بين بنيتين اجتماعيتين لا تجمعهما سوى وحدةالتناقض لوهم التماثل بين البنية الاجتماعية العربية والبيئةالاجتماعية الغربية تارة في اطار التبني السطحي لمقولة (وحدةالانسانية) وتارة في اطار اللهاث العبثي خلف مقولة (العالمية)، وتارةثالثة انجذاباً اعمى نحو المقولة المجردة التي تسمى (روح العصر). غير ان ذلك التماثل لا يتحقق ابداً، ما يتحقق بالفعل هو المزيد منالاندماج بين البنيتين الفوقيتين: البنية الفوقية للمجتمعات البورجوازيةالمتخلفة، والبنية الفوقية للطبقات الامبريالية.

ويشتد القهر، وتتأصل التبعية، تختفي الاصالة ويتعمق الاغتراب.

[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب