19 ديسمبر، 2024 3:50 ص

اشكالية التخلف والتحديث في الفكر العربي الحديث

اشكالية التخلف والتحديث في الفكر العربي الحديث

* خلفيات الازمة
اعتاد الرأي العام الغربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقريباً، بعد انشاء جامعة الدول العربية، وبالتحديد بعد انفجار قضية فلسطين عام 1948، وما تبعها من سلسلة الحروب المتعاقبة في هذه المنطقة الاستراتيجية الحساسة، الواقعة بين الخليج العربي والمحيط الاطلسي، ان يتحدث عن سكانها بصيغة الجمع التي لا تعني التعدد بقدر ما تعني الغاء الفروق والتمايزات بينهم، فيشير اليهم عبر وسائل اعلامه وتأليفه،، بكلمة (عرب).

بالطبع يختلف الموقف عندما يتعلق الامر بالسياسات والاستراتيجيات التي تتخذها كل دولة من دول الغرب ازاء سكان هذه المنطقة. هنا، تأخذ صيغة الجمع على الفور معنى التعدد، وتظهر التحديدات والتمايزات والفوارق بين الاقطار العربية، حسب المصالح والاهداف والمراحل، فنسمع حديثاً عن مصر او العراق او السعودية او المغرب… وغيرها من الاقطار العربية.

والواقع، ان الرأي العام العربي يكاد يكون مقارباً لذلك ازاء نفسه. فسكان هذه المنطقة الذين يقاربون الآن الـ (400) مليون نسمة، ويكتبون بنفس اللغة، ويملكون تاريخاً مشتركاً على الاقل منذ الفتح الاسلامي، وتجمعهم هموم نفسية واحدة، وتواجههم تحديات سياسية وحضارية واحدة، ويستشعرون في اعماقهم شعوراً باطنياً واحداً- واعياً او غير واع ــــ يجدون في ذلك كله تبريراً كافياً، لأن يتحدثوا عن انفسهم بصيغة الكل في واحد، فيقولون: نحن العرب. ولكن عندما يتعلق الامر بالسياسات الرسمية والمواقف العملية والمسائل الاقتصادية، فان الوضع يختلف.

سوف تطفو على السطح، هنا او هناك، التمايزات والتعارضات في السياسات والممارسات الداخلية او الخارجية، بل سوف تكتشف ان المواطن في قطر عربي لا يستطيع احياناً دخول قطر عربي آخر بدون تأشيرة دخول وبدون ان يكتب اقراراً بما معه من مال، وبدون ان يفتش تفتيشاً دقيقاً، وهي الامور التي اختفت مثلاً في بلدان الاتحاد الاوروبي التي لا يدعي اعضاؤه انهم يشكلون امة واحدة.

في هذه المنطقة اذن، مالذي يمكننا ان نكتشفه الآن من ملامح او سمات او خصائص غير لغتها الواحدة، وتاريخها المشترك، وهمومها ومطامحها المتجانسة؟ وبتعبير آخر، ما الذي يمكن ان نسجل من تلك الملامح والسمات والخصائص خارج اطار قوميتها الواحدة وانتمائها الى الامة الواحدة؟

في البداية، ينبغي ان نسجل الحقيقة الساطعة الاولى، وهي ان هذه المنطقة من العالم، هي مركز اساس من اهم مراكز الطاقة العالمية. ان عالم التكنولوجيا المتقدمة في الغرب يمكن ان تدب فيه البرودة ويغتاله الموت لو لم تمتد اليه تلك الانابيب التي تحمل رحيق الحياة من الارض العربية. غير ان هذه الحقيقة البسيطة

التي يعرفها اليوم المواطن العادي الاوروبي قبل مفكريه وقادته، قد جعلت من الارض العربية محوراً رئيسياً من محاور الصراع الدولي الظاهر والمستند بكل ما يترتب عليه من نتائج تصيب اول ما تصيب سكان هذه المنطقة العربية، لم يكن التمزيق والانقسام وحدهما كل نتائجه، والا فالأي شيء يمكن نرد الحروب الاهلية والطائفية التي استعرت بداخله؟

ان الغرب الذي ساعدت احدى دوله –انكلترا- عند نهاية الحرب العالمية الثانية على اقامة اول شكل تنظيمي سياسي حديث يضم الاقطار العربية وهو الجامعة العربية، مسايرة منها لشعور عربي تولد بدرجة كبيرة من الالحاح اشتداد حركة التحرر الوطني واليقظة القومية في معظم الاقطار العربية ورغباتها في نفس الوقت في احكام قبضتها على الاتجاهات السياسية في المنطقة من خلال توجيه حكوماتها التي يجلس ممثلوها على مقاعد الجامعة…

هذا الغرب يبدو الآن اكثر من اي وقت مضى، بالغ التخوف من أية اتجاهات حقيقية نحو وحدة هذه الاقطار العربية. وقد لا تكون المحاولات الدؤوبة لعزل مصر عن نشاطها الطبيعي داخل الاطار العربي، على الاقل فيما يتعلق بالقضية العربية المركزية وهي قضية فلسطين، هي المظهر الوحيد – الناجح- لهذا التخوف.

كما ان الالحاح الآن في الغرب عموماً وربما امريكا بشكل خاص، على اذكاء النوازع والنزاعات الدينية، والاكتشاف المتأخر –المغرض- لاهمية الحضارة الاسلامية، وعقد المؤتمرات والندوات في الجامعات الامريكية حولها، ومحاولة تصوير التضامن كبديل ممكن عما يدعو اليه الآن القطاع الاكبر من العرب، من وحدة عربية لها كل مقوماتها الطبيعية، ومبرراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والحضارية، قد لا يكون هو ايضاً، على المستوى الايديولوجي بغير مغزى، ذلك لان مركز الطاقة العالمية ينبغي ان يلتهب في داخله بالصراعات والنزاعات التي تستنفذه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كما ينبغي ان توقفت صراعاته ونزاعاته –وهي لسوء الحظ لا تتوقف- ان ينشغل بالسماء عن الارض كي يتدفق النفط بحرية وبسيولة ووفرة، وحتى تدور المصانع في الغرب وتدور المعارك الملتهبة في ارضنا العربية.

ليست منطقتنا العربية الا المعقل الاخير للاستعمار والامبريالية، وبدون ادراك هذه الحقيقة الاساسية سوف يكون من العسير ان نفهم بطريقة صائبة مغزى قيام الدولة الصهيونية في قلبها، وبصرف النظر عما يحب البعض ان يغرقوا انفسهم فيه من فوارق او اختلافات تبدو في بعض الاحيان بين الامبريالية والصهيونية، فان المصالح النهائية واحدة والاهداف العليا على المستوى الاستراتيجي لكل منهما ليست بينها فوارق او اختلافات.

والقضاء على الصهيونية في منطقتنا يعني بدقة القضاء على الامبريالية. ومن هنا تستمد معاركنا ضد الصهيونية والامبريالية كل عنفوانها وشراستها، فلسنا وحدنا الذين نعرف، الامبريالية ايضاً تعرف ان فوق هذه الارض تستمد من باطنها رحيق الحياة لتقدمها الاقتصادي والاجتماعي، سوف يكون قبرها الابدي. ولذلك

تستخدم احدث ما افرزته وتفرزه ترسانتها الايديولوجية، حتى تزيد حجم الغبار في افاقنا الفكرية وتعمق من كثافة الغشاوات على ابصارنا وتفعم الهوات فيما بيننا عمقاً واتساعاً.

لم تعد منطقتنا اذن مسرحاً للصراعات الدولية على الصعيد الاقتصادي او السياسي فحسب، وانما تحولت الى مسرح ملائم للصراعات العالمية الايديولوجية ايضاً.

بطبيعة الحال، لم تكن هي بعيدة عن هذه الصراعات الايديولوجية فيما مضى من سنوات وعيها. ولكن الأمر يختلف اليوم كماً وكيفاً في ظل متغيرات داخلية وعالمية شديدة الأثر وواضحة المغزى والهدف.

غير ان تأثير الاستعمار والامبريالية والصهيونية ليس تأثيراً خارجياً فقط. ومن الخطأ البالغ ان نواصل حصره في ذلك الاطار الخارجي. ذلك لأن هذا التأثير القديم، الجديد، المتواصل، يتجسد في تكوينات وتشكيلات، وبنيات اجتماعية داخلية، لا تسهل للعامل الخارجي القيام بدوره فحسب، ولكنها تقوم هي نفسها بأداء دوره في احيان كثيرة، لانها بحكم ارتباطاتها به وتبعيتها البنيوية له، تعتبر امتداده البنيوي والوظيفي معاً.

من هنا، فان ما يطلق عليه تعبير الازمة في الفكر العربي، ليست مجرد انعكاس لازمات خارجية او ظلال لصراعات عالمية، كما انه ليس وليداً للتكوينات والتشكيلات والبنيات الاجتماعية الداخلية في حد ذاتها، اي بمعزل عن التأثيرات الخارجية. انه في الواقع المحصلة الطبيعية والمنطقية للقاء التأثير الخارجي مع وسط داخلي ملائم ومن تفاعلها معاً يحدث الاختناق، وتنشأ الأزمة.

ولكن ما معنى الازمة؟

الازمة هي وضع تاريخي يضيق فيه اطار بنية اجتماعية ما –او بنية فكرية ما- عن استيعاب وهضم وتمثل مدركات ومعطيات لحظة تاريخية مغايرة. وهذا الوضع التاريخي ليس حالة، ولكنه عملية، او بتعبير ادق هو مرحلة من مراحل عملية تاريخية.

يمكن القول اذن، ان الازمة التي يشار اليها هنا، هي ازمة بنيات عربية متخلفة ومن ثم عاجزة عن استيعاب متغيرات مرحلة جديدة ضمن العملية التاريخية المستديمة. وهي بنفس المعنى ازمة بنيات فكرية –اي ازمة مناهج وادوات ومفاهيم وتصورات- متخلفة ومن ثم عاجزة ايضاً عن فهم وتفسير عناصر المتغيرات الجديدة، وقيادة والهام قوى التغيير. وبهذا المعنى، لا تكون الازمة هي ازمة الفكر العربي، هكذا هلى اطلاقه.

فأي فكر عربي؟

ليس هناك ما يسمى بالفكر العربي الا في اطار التعميم المجرد، لا لأن مضامين هذا الفكر تختلف باختلاف منطلقاته واهدافه الاجتماعية، فحسب، وانما لأن هوية هذا الفكر نفسها لا يمكن اثباتها بادارة هذا الفكر اللغوية وحدها، فثمة معيار اهم واقدر على اثبات هذه الهوية هو بالتأكيد معيار الاستقلال والتبعية او بتعبير آخر معيار الاصالة والاغتراب. ما يسمى بأزمة الفكر العربي، هي في الواقع ازمة الفكر العربي المغترب اذا جاز التعبير، بقدر ما هي في نفس الوقت ازمة بنيات اجتماعية مغتربة.

* جذور التخلف.. محاولات التحديث

ربما كان من السهل ان نستعرض التعريفات المختلفة لظاهرة التخلف او لعملية التحديث، سواء في الادب الاقتصادي السائد الآن او في التصورات الايديولوجية المختلفة لهما. غير اننا نعتقد ان ذلك ليس مفيداً بالنسبة لهذا السياق بقدر محاولتنا تحديد معنى هذا التخلف، وكيف فهم، وكيف فسر في اقطار الوطن العربي بالتحديد، وكيف وجه بالتالي عبر جهود التحديث المتفاوتة في الاقطار العربية المتباينة.

وعلى الرغم من ان هذا الفهم للتخلف، ومن ثم الجهد المبذول لمواجهته، ينطوي بالضروروة على شكل من اشكال التقويم للمشكلة وممارسات تجاوزها، هو في جوهره متماثل او متقارب الى حد كبير منذ ان ظهر الوعي بها، فانه من المفيد ان ننظر اليها في مراحلها التاريخية المتعاقبة، ليس فقط للتمييز بين الاشكال المختلفة للوعي بها وانما ايضاً كي يتأكد ذلك التماثل في الجوهر من جانب، وكي نربط بين هذه الاشكال المختلفة وطبيعة الانظمة الاجتماعية الحاكمة في كل مرحلة من جانب آخر.

ولذلك، فأننا سوف نتابع حركة هذه المشكلة في ثلاث مراحل تاريخية:

الاولى- هي النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

والثانية- هي النصف الاول من القرن العشرين.

والثالثة- هي المرحلة الراهنة التي تبدأ فيما بعد الحرب العالمية الثانية تقريباً، وحتى الآن.

يمكن القول، ان الأثر الذي تركته الحملة الفرنسية على مصر في القيادة الفكرية الدينية التي كان تفكيرها يمثل الايديولوجية السائدة حينذاك، كان متناقضاً. قسم منها وقف الى جانب الفرنسيين مخدوعاً او مبهوراً، ودعا الشعب الى مساندة نابليون، لانه سوف يساعد مولانا السلطان على فتح بلاد (الموسقو) –يقصد بمولانا السلطان العثماني، اما (موسقو) فهي موسكو- بل وذهب بعض افراد هذا القسم الى حد الحديث عن ان مصر وفرنسا تكونان امة واحدة.

اما القسم الأخر، فلقد رفض كل ادعاءات نابليون وكل مزاعم الفرنسيين، واغلق عقله وقلبه حتى عما أتت به هذه الحملة من ثمار الحضارة الاوروبية حينذاك، ولم ير في الفرنسيين القادمين من وراء البحار الا كفاراً خارجين على الملة، ومن ثم اعلن الثورة ضدهم.

غير ان الواقع الاجتماعي الذي جرى تشكله بعد ذلك، ادى ببعض افراد هذا القسم الثاني الى ان يعيدوا التفكير في امرهم وفي امر ما اسموه في ذلك الوقت بانحطاط المجتمع الاسلامي. ورأوا ان الحل للتغلب على ذلك الانحطاط، وهو التعرف على اوروبا واقتباس ما ينفع من افكارها ونظمها في تطوير المجتمع.

ان الشيخ حسن العطار، احد علماء المرحلة الكبار يمكن ان يكون مثالاً بارزاً على ذلك، انه احد المصريين الذين زاروا معهد بونابرت المصري وتعرفوا فيه على شيء من علوم اوروبا. ولعل الطهطاوي قد تعلم من استاذه العطار شيئاً منها.. غير ان فضل العطار الذي يذكره له التاريخ الثقافي لهذه المرحلة دائماً، هو انه

الذي ارسل الطهطاوي تلميذه الى فرنسا على رأس فرقة من فرق الجيش كي يكون اماماً لها في الصلاة اثناء بعثتها الدراسية.

ليس هناك شك في ان الطهطاوي نفسه هو العلامة البارزة في هذه المرحلة كلها، فهو الذي بعد عودته من بعثته الى باريس سوف يبدأ في التشكيل الجديد للفكر في مصر محاولاً ان يقوم بعملية التكييف الضرورية بين قاعدته الاسلامية السلفية وضغط الفكر الاوروبي الذي قرأه، والحضارة الاوروبية التي شاهد آثارها بعينيه.

ان الافكار الرئيسية التي عبر عنها الطهطاوي في كتبه الاساسية، يمكن تلخيصها في اربع افكار:

الاولى- هي فكرة – الوطن المصري- هذه الفكرة الح عليها كثيراً في كتاباته واشعاره وخصوصاً في كتابه الشهير – مناهج الالباب المصرية في مناهج الاداب العصرية/ 1896-.

لم يكن الطهطاوي يملك مفهوماً محدداً عن – المصرية- هذه. وهو لم يستخدم تعبير –القومية المصرية- قط، وهو التعبير الذي سوف يستخدمه بعد ذلك بعض مفكري البورجوازية المصرية. ولكنه ايضاً لم يكن يعكس اي ظل لفكرة العروبة. ان الوطن عنده كان هو الوطن المصري لا الوطن العربي، بل هو مصر وارض مصر بالتحديد.

الثانية- هي فكرة الديمقراطية، ولقد عاصر الطهطاوي في باريس احداث ثورة 1830، وشاهد على حد تعبيره- قيامة أنفس الناس على ملكهم- وهو قد شرح في كتابه –تخليص الابريز في تلخيص باريز- عناصر الديمقراطية البورجوازية كلها، وهو الذي قرأ وترجم بعض فصول –روح القوانين- لمونتسكيو، غير ان الطهطاوي لم يقبل هذه الديمقراطية البورجوزاية كما هي، بل حاول ان يوائم بينها وبين التصور الاسلامي عن الحكم، غير انه ألح على الحد من سلطة الحاكم، وان الشريعة هي فوق الحاكم مستعيناً بتفرقة مونتسكيو بين –السلطات الثلاث-.

ومهما يكن تصوره الذي املته عليه طبيعة نشأته الدينية وظروف البلاد تحت حكم محمد علي باشا، فان الطهطاوي في هذا المضمار قد فتح على الاقل باب الاجتهاد، مؤكداً ان لا فرق بين مبادئ الشرع الاسلامي ومبادئ القانون الطبيعي التي ترتكز عليها قوانين اوروبا الحديثة، وهذا يتضمن القول بامكان تفسير الشريعة الاسلامية تفسيراً يتفق مع حاجات العصر.. وانه يجوز للمؤمن في ظروف معينة ان يقبل بتفسير للشريعة مستمد من مذهب شرعي غير مذهبه.

الثالثة- هي ضرورة تطوير العقلية الازهرية – نسبة الى الازهر الشريف-. ان الطهطاوي في – مناهج الالباب- يريد للازهر ان يضيف الى ما يجب عليه ان يعرفه معرفة بسائر العلوم البشرية المدنية، التي لها مدخل في تقديم الوطنية- بل هو ينظر الى المسألة نظرة ابعد، ويتحدث عن اوروبا التي اخذت هذا العلم من الحضارة العربية، كي يغري الازهريين بدراسته، قد اتجهت الى هذا العلم – كي تفوز بدرجة الكمال-.

ان فكرة تطوير الازهر لم تكن فكرة ثانوية او هامشية. على العكس تماماً، ذلك لأن الازهر كان معقل السلفيين، الحصن الاخير الذي يدافع عن الثقافة التقليدية، خط الدفاع عن مجتمع ما قبل الرأسمالية.

الرابعة- هي التعليم، ان جهود الطهطاوي في هذا الميدان كبيرة الى حد لا يمكن الحديث عنها في هذا السياق المركز بما هي جديرة من استفاضة، ابتداء من انشاء مدرسة الالسن ومدرسة التاريخ والجغرافيا، وغيرهما الى فئات الكتب التي نقلها الى اللغة العربية.

غير انه تجدر الاشارة الى ان الطهطاوي في وقته المبكر ذاك، التفت الى تعليم المرأة ايضاً. والغريب انه ربط تعليمها بأمكانية – ان تتعاطى من الاشغال والاعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر طاقتها وقوتها.. فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة، واذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء ايضاً – كما ذكر في كتابه – المرشد الامين في تعليم البنات والبنين-.

تلك هي الافكار الاربع الرئيسية التي دار حولها اطروحات الطهطاوي بايجاز شديد. ولقد كان ينبغي ان نضيف اليها اتجاهات اختياراته للكتب التي ترجمها كي يتضح أكثر دوره الكبير الاول في محاولات التحديث طبقاً لتأثيرات النمط الاوروبي على تفكيره، وفي حدود ارتباطاته بأصوله الدينية الاسلامية.

ان دراسات كثيرة حول الطهطاوي، قد تكفلت على اية حال بابراز هذا الدور وتأكيده. وما يعنينا هنا فحسب هو تسجيل بداية التطلع لحل مشكلة التخلف عن طريق الاقتباس والتقليد لاوروبا.

ان ثمة مفكراً عربياً آخر قد اتجه نفس الاتجاه تقريباً، وان لم يكن له نفس التأثير الذي كان للطهطاوي. اننا، نقصد خير الدين التونسي.

ان الكتاب الذي وضعه بالعربية بعنوان – اقوم المسالك في معرفة احوال الممالك والذي نشر في تونس عام 1867، واعيد طبعه في اسطنبول بعد ذلك، وترجمت مقدمته الى اللغة الفرنسية بعنوان – الاصلاحات الضرورية للدول الاسلامية – لا يخرج في مضمونه عن الاتجاه العام لفكر الطهطاوي، فيما يتعلق على الاقل باصلاح الاحوال في –الامة الاسلامية-.

الفرق- ولعله مهم هنا- ان الطهطاوي كان يتحدث عن مصر وحدها،مؤكداً بذلك التطور اللامتساوي للبورجوازيات العربية، بينما كان خير الدين التونسي يتحدث عما كان يدعوه بالامة الاسلامية.

غير ان التوجه الفكري، واحد من صميمه، من حيث ان كليهما كان يرى الاصلاح في الانفتاح على ما هو صالح ومنسجم مع الدين الاسلامي من عادات اتباع الديانات الاخرى – على حد تعبير التونسي نفسه. ومن حيث ان كليهما قد اتصل بالمدنية الفرنسية، وحاول ان يدافع عن معنى التحديث الاوروبي بمفاهيم اسلامية تقليدية.

كانت اوروبا قد دخلت الشرق اذن، وكان عالم العرب قد بدأ يعيد النظر في اسسه ومفاهيمه التقليدية من التغلغل الاستعماري الاوروبي. وكان النمط الاوروبي قد بدأ يشكل امام انظار العرب كمثال، رغم ان تبينه الكامل كانت تحد منه البنية الاجتماعية التي لم تكن قد اكتمل تشكيل بورجوازيتها الكولونيالية بعد، بالاضافة الى الايديولوجية السلفية التي كانت تدافع بقوة عن مواقعها.. وهي تتراجع.

* رموز التحديث

على الرغم من ان جمال الدين الافغاني قد هبط الى مصر في عصر اسماعيل، اي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مشكلاً حوله حلقات الاتباع والتلاميذ والمريدين، فأن تأثيره الخفي او الاكبر عبر تلاميذه، ينتمي في الواقع الى المرحلة الثانية التي تبدأ مع بدايات القرن العشرين، وربمابتعبير ادق بعد انتكاسات حركة عرابي.

اننا، نعني بهذا التأثير على التحديد، فكرته الشهيرة عن –الجامعة الاسلامية- والصراع الذي دخلته هذه الفكرة مع فكرة القومية المصرية التي تبناها مفكروا البورجوازية الكولونيالية النامية في ذلك الحين.

ان جمال الدين الافغاني، رجل غامض، ورغم كثرة ما كتب عنه حتى الآن، فأن سره لم ينكشف بعد. لقد اختلف بعض المؤرخين حول مولده، وهل كان في بلاد الافغان او في بلاد فارس. وكثيرون ممن كتبوا عنه، وصفوه بالثائر والمناضل العظيم، وابو الثورات في الشرق، وباعث الفكر العربي من مرقده.. الخ.

غير ان ما يعنينا من ذلك كله في هذا السياق، هو تأثيره في صياغة الحلول لاشكالية التخلف والتحديث، كما بدا في افكاره التي ادلى بها هو نفسه او في آثار هذه الافكار عند تلاميذه.

فكرته الاساسية تتلخص في ايجاز في مواجهة العالم الاوروبي بالعالم الاسلامي. يجب ان نتذكر هنا، ان مصر في ذلك الوقت كانت قد خضعت للاحتلال البريطاني، رغم انها من حيث الشكل كانت وما تزال ولاية عثمانية.

سنقرأ الافغاني يقول- أما والله لو علم العثمانيون مالهم من السلطة المعنوية على رعايا الانجليز، واستعملوا تلك السلطة استعمال العقلاء، لما تجرعوا مرارة الصبر على تحكمات الانكليز وحيفهم في اعمالهم، وتعديهم على حقوق السلطان في مثل المسألة المصرية التي هي في الحقيقة اهم مسألة عثمانية واسلامية.. .

ولسوف يزيدنا جولدسير وضوحاً في هذه المسألة –ان غاية الجامعة الاسلامية الاقتصادية هي ثروة المسلمين للمسلمين وثمرات التجارة والصناعة في جميع المعمور الاسلامي هي لهم يتنعمون بها، وليست لنصارى الغرب يستنزفونها، وهي نفض اليد من رؤوس الاموال الغربية والاستعاضة عنها برؤوس اموال اسلامية.

مهما يكن الامر، فأن الاساس الواقعي لمثل هذه الدعوة لم يكن قائماً بالفعل او لم يكن بوسعه ان يستمر في مواجهة الاستعمار الغربي.

لقد كان الافغاني يدافع عن خلافة عثمانية نخر فيها السوس وتسللت اليها هي نفسها اصابع اوروبا الاستعمارية البازغة. ولم تكن صيحة السلطان عبد الحميد الذي بايعه الافغاني – خليفة اعظم “يا مسلمي العالم اتحدوا” سوى آخر صرخة يطلقها – رجل اوروبا المريض- في الاستانة قبل ان يلفظ آخر انفاسه.

ان محمد عبده الذي كان تلميذاً مخلصاً للافغاني حتى نهاية حركة عرابي المأساوية وصديق –العروة الوثقى- في باريس، سوف يتخلى عن آراء استاذه شيئاً فشيئاً بل وسيصل الى حد القطيعة معه، وقبل ان تحدث

تلك القطيعة اقترح على استاذه –اعتزال السياسة والانصراف الى انشاء مدرسة خاصة تعنى بالشبيبة لمنهج ومقاصد جديدة-.

ان انكسار حركة عرابي وهزيمتها وسيطرة الاحتلال البريطاني على البلاد، سوف يكسر آمال البورجوازية الكولونيالية التي لم تكن تعي ان الارتباط بينها وبين البورجوازية الامبريالية هو ارتباط بنيوي. وسيبدد ذلك كله اوهامها في التطور المستقل بل وحتى في امكانية التقليد الكامل للنظم السياسية السائدة في الغرب، ذلك ان الاستعمار الغربي نفسه في محاولته تشكيل تابع له يشبهه، لم يكن ليقبل ان يمضي التابع الشبيه في لعبة التقليد حتى يصدقها. فالديمقراطية البورجوازية تعبير أصيل عن واقع العلاقات الاجتماعية في البنية البورجوازية الغربية، اما في المستعمرات واشباه المستعمرات، فهي تعبير مشوه عن علاقات اجتماعية مختلفة داخل اطار بنية بورجوازية كولونيالية تشد حركاتها خيوط تمسك بها بورجوازية الغرب.

لقد قنع محمد عبده اذن بانكفاء على الذات، وارتضى لنفسه ان يكون مصلحاً دينياً فحسب، حيث ذكر – ما دخلت السياسة في شيء الا أفسدته-. وألقى بزمام الامور كلها عند قدمي ما كان يسميه بالمستبد العادل. اما تمثيل الشعب في المجالس النيابية على النمط المعروف في البلدان الغربية، فلا معنى له الا اذا اجتمعت كلمة الامة على غاية واحدة.. .

لنقل اذن ان محمد عبده كان يعبر عن خط الدفاع الأخير بهذه الاقوال عن الطبقة البورجوازية الكولونيالية التي كانت تشهد افراز الطبقة الوسطى داخل البنية الكولونيالية نفسها ونسمع ضجيجها الذي يزداد عنفاً من اجل الوصول الى الحكم. ورغم انه تابع طريقه الاصلاحي على طريق الدين، فانه لن يتردد في ان يقول عن الممثل الاول لهذه الطبقة المتوسطة – ان افكار مصطفى كامل افكار غير شرعية وهي لن تصل الى أية نتائج او الى نتائج لن تدوم.

وبالفعل لم يصل مصطفى كامل الى أية نتائج ولكن لغير الاسباب التي كان يتصورها محمد عبده. صحيح ان حياته القصيرة لم تتح له ان يشهد ثمار عمله السياسي ولكن حتى تلك الحياة لو كانت قد استمرت اكثر من ذلك، ما كان بوسعه ايضاً ان يشهد تلك الثمار.

ان ارتباطه التكتيكي بالدولة العثمانية كان قد تجاوزه العصر رغم انه كان يدغدغ المشاعر الدينية في القطاعات التي لم تكن لها مصالح مباشرة مع الغرب – الموظفون، والحرفيون، والطلبة..- كما ان محاولاته للعب على التناقضات بين الامبرياليتين الانكليزية والفرنسية، كان ايضاً قد تخطاه التطور الامبريالي للبرجوازية الاستعمارية الغربية الذي سوف يوحد بينهما في الحرب العالمية الاولى ضد امبريالية تمثل لهما على الدوام مكمن الخطر –الامبريالية الالمانية- ودفعها بعد سنوات قليلة الى عصر –الوفاق الاول- واقتسام الوطن العربي بينهما واطلاق السيطرة الامبريالية من كل قيد.

أتى من بعده الممثل الشرعي للبنية البورجوازية الكولونيالية في مرحلة تطورها الجديدة. انه احمد لطفي السيد.

لا ينبغي ان يخدعنا انتماء لطفي السيد لحزب الامة القديم او انتماءه ايضاً لطبقة كبار الملاك عن دوره الاجتماعي وخصوصاً الايديولوجي عن كونه الممثل الاكثر تعبيراً عن هذه المرحلة الجديدة في تطور البورجوازية الكولونيالية. ان الحدود بين الطبقات ليست صارمة ولا حاسمة في هذه البنيات البورجوازية التابعة.

فماذا كانت الافكار التي يروج لها؟

انها اربع افكار اساسية: القومية المصرية ومعاداة فكرة العروبة، الديمقراطية الليبرالية، مبدأ العقل، مبدأ المنفعة.

ان فكرة القومية المصرية ومعاداة فكرة العروبة –وهناك اكثر من نص في كتاباته واحاديثه يعبر بوضوح عن ذلك – لم تكن تعكس عنده وعند غيره ممن نسجوا على منواله وبينهم طه حسين نفسه، معنى التطور اللا متساوي للبورجوازيات العربية، والمسافة الواضحة بين درجة نمو البورجوازية المصرية والبورجوازيات العربية الأخرى فحسب، وانما كانت تعكس ايضاً معنى لا يقل عن ذلك في اهميته ومأساويته التاريخية، ذلك لان الطبقة المتوسطة التي تولد في رحم البنية البورجوازية الكولونيالية ترفض التسليم بعدم امكانية التطور الرأسمالي طبقاً للنمط الغربي.

ان اوهامها الايديولوجية تدفعها الى تصور ان هذا ممكن، وان العقبة التي تقف امامها هي الطبقة المسيطرة على البنية البورجوازية الكولونيالية – التي ستوصف ابتداء من الآن (وقتها) بانها ارستقراطية واقطاعية- وليست في التبعية البنيوية للبنية البورجوازية الامبريالية.

ومن هنا، يشيع وهم التماثل بين هذه الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة الرأسمالية في الغرب، رغم الاختلاف الجذري في النشأة بينهما والاختلاف البنيوي الكامل بعد ذلك فيما بينهما.

ويحدث نتيجة ذلك، ان تتبنى هذه الطبقة المتوسطة التي تتصارع مع الطبقة القديمة حول الحكم، افكار الطبقات الرأسمالية الاوربية آبان تكونها ونشأتها الاولى.

ان الافكار الثورية للثورة الفرنسية سوف تتردد بقوة في هذه المرحلة، ليس في مصر وحدها وانما في اقطار عربية اخرى عديدة وخصوصاً في الشام، ومعها مبدأ المنفعة الذي ارسته البورجوازية الانكليزية التجريبية الطابع، وهي تشق طريقها الى سلطتها. وستصبح اوروبا هي (النموذج الامثل) الذي ينبغي ان يحتذى لتخطي وتجاوز تخلف الماضي وتحقيق التقدم.

* ازمة الفكر العربي المغترب

يحدد المفكر الاشتراكي جورج لوكاتش، ازمة الفكر الغربي في ست ظواهر اساسية:

1- فقدان الاتجاه والارتداد الى الماضي للبحث عن جذور الفكر المعاصر، كمحاولة تلمس اصول الفلسفة النازية كما صاغها روزنبرغ عند كانط، واصول فلسفة سارتر عند ديكارت.

2- انصراف المجتمع عن قضايا الفكر وابتعاد المثقفين اكثر فأكثر عن ميدان النشاط العلمي، وقصورهم عن كشف حقيقة العلاقات الانسانية التي تحجمها الاساطير.

3- الشعور المتزايد بالاغتراب وانتشار اليأس والتشاؤم بين المفكرين، وضعف ايمانهم بالثورة ( التغيير )، ووقوفهم عند حدود الحماس اللفظي.

4- عجز الفلاسفة المفكرين عن تقديم تفسير نظري يتميز بالتماسك والشمول للعلاقات الانسانية السائدة في مجتمعاتهم.

5- الهجوم على المنهج العلمي والحديث عن عقل انساني قاصر من جانب وحقيقة لا يمكن فهمها الا عن طريق الحدس او العيان المباشر من جانب آخر.

6- انغماس الفلسفة في خلق اساطير تتعدى التفسيرات العلمية للظواهر، بل وتستغل بعض هذه التفسيرات العلمية استغلالاً يخرج بها عن حدودها واطارها الحقيقي، والاستناد الى التطورات العقلية المجردة، واعتبارها حقيقة واقعية بصرف النظر عن مدى ارتباطها بالواقع الموضوعي.

لو تأملنا هذه الظواهر الست التي يعتبرها لوكاتش علامات على ازمة الفكر الغربي، لوجدنا انها تنطبق ايضاً على ما اسميناه الفكر العربي المغترب، خصوصاً في السنوات الأخيرة من حياة الفكر، بل ان انطباقها على ذلك الفكر المغترب يوشك ان يكون كاملاً الى حد اننا نستطيع ان نضرب الامثلة العديدة على تحقق كل مظهر من مظاهرها، من الانتاج الفكري في كثير من اقطارنا العربية.

لقد دأبنا منذ سنوات على نفي فكرة الازمة عن فكرنا العربي المعاصر، في مقابل اولئك الذين لم ينفكوا يلحون على هذه الفكرة ويعممونها تعميماً شاملاً مجرداً. وكانت حجة الذين ينفون الازمة نفياً قطعياً عن فكرنا العربي. ان هذا الفكر يختلف جذرياً عن الفكر الغربي، فأذا كان الفكر الغربي يعاني ازمات البنية الامبريالية في مجتمعه، فان فكرنا- حتى على فرض انه يعاني ازمة فانها ازمة مولده الجديد.

لم يكن هذا التحليل الذي اشاعه عدد من مفكرينا وكتابنا صحيحاً على اي حال. كان يقوم على اساس فرضية مسبقة تعتبر الفكر العربي متمايزاً عن الفكر الغربي بالضرورة، ما دامت البنيتان الاجتماعيتان متمايزتان. كانت الميكانيكية (الآلية) في اساس ذلك التحليل، وهي لا يمكن ان تكشف عن نفسها الا عندما تنكشف امامنا بوضوح علاقة التبعية البنيوية التي تربط بين بعض بنياتنا الاجتماعية العربية والبنية الاجتماعية الامبريالية، حينئذ يمكن لنا ان نفهم في ضوء الاندماج الايديولوجي بين الفوقية الامبريالية، وذلك البعض من بنياتنا الاجتماعية العربية. لماذا يكون من الطبيعي والمنطقي ان تظهر في ذلك الفكر العربي المغترب كل ازمات الفكر الغربي التي كان يبدو لنا ظهورها غير طبيعي وغير منطقي من قبل؟

ليس في الأمر هنا مجرد تقليد لتيارات الفكر ومذاهب الادب والفن في الغرب- وان كان هذا التقليد قائماً بالفعل– كما انه ليس مجرد انفصال الكتّاب والمفكرين والفنانين عن واقعهم –كما دأب البعض منا على القول-

وان كان هذا الانفصال حقيقياً بالفعل، تبدو المسألة اعمق من هذا، ذلك ان وهم التماثل الذي استقر، ومازال مستقراً عند كثير من المفكرين بين البنية البورجوازية العربية والبنية البورجوازية الغربية، لم يؤد فحسب الى تصور امكانية تكرار تجربة التراكم الرأسمالي التي وصل من خلالها الغرب الى ما وصل اليه، وهو تصور وهمي لا يمكن تحقيقه في عالم اليوم وانما الى اعتبار الغرب –وهو الامر الذي يعنينا في هذا السياق- النموذج الحضاري الامثل الذي ينبغي ان يحتذى به، وبين محاولة الاحتذاء بهذا النموذج الكامل والعجز عن تحقيق التطابق معه، يتمزق منتجوا الثقافة العربية المغتربة بين طرفين: الاغتراب والأصالة.

ماذا يعني الاغتراب هنا؟

يذكر علماء النفس الاجتماعي، انه عندما يعمل جماعة من الناس سوياً، يندر ان يظلوا مجرد عدد من (الانوات) المستقلة. ولن يحدث هذا الا تحت ظروف خاصة جداً. واما الذي يحدث بدلاً من ذلك، فهو ان يصبح المشروع العام موضع عنايتهم جميعاً وبالتالي يعمل كل منهم باعتباره جزءاً من كل.

وهناك علماء نفس الاجتماع آخرون، اضافوا تطويراً جديداً للمعنى السابق، فافترضوا حالة سيكولوجية يسميها حالة (النحن) حيث تصبح (الانا) جزءاً من كل، ويظل هذا الكل المتكامل قائماً حتى يبرز في المجال عنصر جديد يهدده ويفقده توازنه، وحينئذ تتحطم حالة الـ (نحن) تصبح (انا) و (آخرين). وفي غياب العلاقة الصحية بينهما، تغدو العلاقة مرضية مختلفة –انا من اجل الآخرين او الآخرون من اجلي انا- الاولى خضوع والثانية سيطرة.

اذا امعنا النظر في العلاقة بين منتجي الثقافات العربية المندمجين في الايديولوجيا الامبريالية، تلك التي تمثل بالنسبة لهم انموذجهم الحضاري الامثل، لوجدنا صورة لتلك العلاقة المرضية التي يتحدثان عنها.

ان العجز عن تحقيق التماثل مع ذلك النموذج الامثل، يحطم ما كان يمكن ان ينشأ في وهمهم او في وعيهم الزائف من حالة الـ (نحن) تصبح العلاقة بينهما اذن غير تكاملية. لنقل علاقة مرضية. من جانب يمارس النموذج الحضاري الامثل علاقة سيطرة، ويمارس النموذج الحضاري المتخلف من جانب آخر علاقة خضوع. اي يمارس الاول علاقة قهر، ويمارس الثاني علاقة تبعية.

فيم تبدو علاقات القهر والتبعية تلك؟

لن يتسع المجال هنا لاستعراض مظاهرها في كل المجالات التي تتجلى فيها. سنكتفي هنا بالاشارة الى تلك المظاهر في ميدان النظرية الاجتماعية فقط، بل ربما كان من المفيد ان نشير الى بعض الانتقادات التي وجهها بعض علماء الاجتماع الغربيين انفسهم لتلك النظريات الغربية، في محاولة منهم لتجاوز انحيازاتها الايديولوجية الامبريالية. ومن هذه الانتقادات:

1- التمركز الحضاري حول الذات الغربية، ويكشف هؤلاء البعض عن بعدين لهذا التمركز، اولهما انتهازي يبغي خدمة مصالح الغرب وابقاء سيطرته على مجتمعات متخلفة عنه. وثانيهما منطقي يقوم على

استخدام ادوات ومناهج البحث السائدة في العلوم الاجتماعية الغربية والتي تتصل اساساً بالدراسات المتعلقة بالمجتمعات الغربية، والاصرار على تطبيقها في الدراسات المتعلقة بالبلدان المتخلفة.

2- غياب النظرة التكاملية الشاملة. فبسبب الاسراف السطحي في التخصص فيما يسمى بالعلوم الاجتماعية لم يعد ممكناً دراسة المجتمع كاملاً، رغم التسليم العام بترابط الظواهر الاجتماعية. فعالم الاقتصاد وعالم السياسة وعالم النفس لم يعودوا يتكلمون لغة مشتركة، وكل منهم يتوجه لدراسة جانب واحد او ظاهرة بعينها في المجتمع، ولكن حصيلة عملهم قلما تعطينا فهماً متكاملاً عن المجتمع كله. واذا كان ذلك جائزاً في المجتمعات الغربية المتقدمة التي استقرت نظمها ومؤسساتها، فانه ليس في مجتمعات العالم المتخلف سوى كارثة كبرى.

3- ان معظم علماء الاجتماع في العالم المتخلف قد تلقوا تدريبهم او دراساتهم في الغرب، او في الاقل تأثروا باتجاهاته ونظرياته الفكرية، ولذلك فان كتاباتهم جاءت نسخاً مشوهة من النظريات الغربية.

سنكتفي بهذا المثال رغم ان ثمة اغراءات لتقديم امثلة اخرى من مجالات اكثر اقتراباً من النشاط الفكري اليومي لحياة الناس. لم يكن الهدف هنا سوى الاشارة فقط الى بعض مظاهر علاقة السيطرة التي تمارسها الايديولوجية الغربية الامبريالية على منتجي الثقافات العربية المندمجين فيها.

ان الاختلاف الجذري بين بنيتين اجتماعيتين لا تجمعهما سوى وحدة التناقض… لوهم التماثل بين البنية الاجتماعية العربية والبيئة الاجتماعية الغربية تارة في اطار التبني السطحي لمقولة (وحدة الانسانية) وتارة في اطار اللهاث العبثي خلف مقولة (العالمية)، وتارة ثالثة انجذاباً اعمى نحو المقولة المجردة التي تسمى (روح العصر). غير ان ذلك التماثل لا يتحقق ابداً، ما يتحقق بالفعل هو المزيد من الاندماج بين البنيتين الفوقيتين: البنية الفوقية للمجتمعات البورجوازية المتخلفة، والبنية الفوقية للطبقات الامبريالية.

ويشتد القهر، وتتأصل التبعية، تختفي الاصالة ويتعمق الاغتراب.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات