الحديث عن الوحدة العربية في الوقت الراهن وفي مثل الظروف العامة على النطاقين العربي والعالمي، قد يبدو حديثاً غريباً بل وتعوزه الواقعية ولا فائدة عملية ترجى منه للنضال العربي ككل او بالنسبة لبلادنا العراق.
فهل ان الامر على مثل هذه الصورة حقاً؟
لا بد من الاقرار بأنه يمكن تقديم حجج قوية لصالح ما سبقت الاشارة اليه.. وهو ما يتراءى من النظرة الاولى. ولكن عندما نمعن النظر فيما يدور في اقطارنا العربية وما حولنا من اوضاع عالمية، سيجعل من تقديم اجابة اكثر شمولية وعمقاً لتحليل اوضاعنا القطرية والقومية امراً ممكناً.
سجل انهيار الامبراطورية العثمانية مرحلة جديدة في نضال العرب القومي التحرري، ابتدأت مع تشكل نظام عالمي جديد في العلاقات الدولية تزعمته الدولتان الامبرياليتان –انكلترا وفرنسا- وكرسته معاهدة فرساي – باريس، وجسدته صفقات سايكس – بيكو وغيرها.
اشرت المرحلة الجديدة في النظام الدولي، صفحة جديدة، نوعية، اتخذ نضال العرب القومي خلالها مسارين وفي آن واحد، هما: النضال من اجل اقامة الدولة العربية وبدء تكون الدولة في اقطار المشرق العربي. وكما تأكد من خلال وقائع ذلك التاريخ وتجاربه، فان الامبرياليين التزموا موقفاً واضحاً ضد المشروع القومي الوحدوي للعرب. اما الوعود التي اطلقوها فلم تكن سوى مناورات استهدفت كسب العرب الى جانبها في الصراع ضد الامبراطورية العثمانية المنهارة والاطماع الامبريالية الالمانية المتفاقمة.
وهكذا بدأت مرحلة في النضال القومي العربي اخذ خلالها شعار الوحدة والدولة العربية الموحدة في المشرق العربي يتحول شيئاً فشيئاً الى هدف وأمل قوي تزداد المسافات بشكل مستمر بينه وبين امكانية نقله الى حيز التطبيق. وترسخت هذه الحقيقة وتوضحت ابعاد الموقف الامبريالي ومدياته المستقبلية على نحو واضح وجلي من خلال امرين مهمين:
الاول- التوجه نحو اقامة كيان صهيوني في فلسطين يكون اداة سياسية وعسكرية وعنصرية بيد الامبريالية، تعزل المشرق العربي عن مغربه.
الثاني- الوقوف بمختلف الاشكال بما فيها استخدام القوة العسكرية لقمع التطورات والنضال الوطني في اقطار المشرق العربي، من اجل اقامة دولة وطنية مستقلة، والسعي عند حصول ذلك كأمر واقع، لوضعها تحت هيمنتها باشكال وصيغ متعددة.
لقد سار التوجهان القومي والقطري خلال العقود التي اعقبت الحرب العالمية الاولى جنباً الى جنب، ولكن باتجاهين مختلفين من الناحية العملية، انحسار النضال من اجل تحقيق الوحدة العربية وفشله في تحقيق أية درجة من النجاح عملياً. في حين تمكن النضال القطري عبر تعقيدات وتضحيات جسام من تحقيق نجاحات تجسدت في قيام عدد من الدول القطرية الى جانب قيام الجامعة العربية التي جسدت النظام العربي القائم آنذاك،
ومع ذلك فان جذوة النضال الوحدوي لم تنطفئ بل بالعكس ازداد توهجها خلال العقود اللاحقة، وتحقق خلالها العديد من الخطوات الوحدوية كان اكثرها اهمية وتأثيراً في تاريخ العرب المعاصر وحدة سوريا ومصر رغم انها انتكست في النهاية، ولكنها تركت اثاراً ونتائج ايجابية تمثلت في اعادة الاعتبار الى النظال القومي العربي من اجل الوحدة التي برزت في واقع الحياة السياسية والاجتماعية مرة اخرى، ولكن بمحتوى واهداف اكثر تقدماً وعمقاً، سياسياً واجتماعياً وفكرياً، وفي ظروف دولية وايديولوجية غاية في التعقيد والاهمية بالنسبة لمستقبل البشرية وهي انتقلت الى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين تحت شعارات وحل اشكاليات تناقض البقاء.
أشر عقد الثمانينات من القرن الماضي، ارهاصات يمكن وصفها بأنها نوعية في تناولها اشكاليات النضال القومي الوحدوي العربي، وقد عبرت التحليلات المكرسة لبحث وتحليل خصوصيات هذا النضال وسماته الاساسية وعوامل نجاحه وتطويره عن اصالة عميقة جسدتها في حينها استشرافات بعيدة المدى والنظر لمستقبل التطورات في الاوضاع الدولية وما تطرحه من مهام عملية واستنتاجات فكرية غاية في الاهمية. ومن المهم والمفرح، ان هذه الاستشرافات المستقبلية طرحت من مصادر متنوعة ايديولوجياً وفي اوقات متقاربة، وفي ظروف ازدادت فيه مظاهر النشاط القومي في المغرب العربي على نحو ملحوظ وبارز سياسياً وايديولوجياً.
ومما هو متميز في تلك الاستشرافات، بعيدة النظر، انها بحثت فيما هو قادم من رحم المستقبل باعتباره، من احدى زواياه، يمثل تحدياً خطيراً للحركة القومية العربية ولآمال الامة العربية في الوحدة وتحرير الارض العربية المحتلة، وفلسطين على وجه الخصوص، من الاحتلال الصهيوني وارتباط هذه الاهداف عضوياً بنهضة العرب الحديثة المطلوبة ومدى مساهمة الامة العربية في السياسة العالمية ودورها الحضاري الجديد في العالم.
ان استشعار الاخطار القادمة والبحث في الاستعدادات والضرورات لدور فعال للامة العربية وقواها الحية، اتجه في اساسياته نحو هدف الوحدة القومية، الجزئية والكلية، ليس باعتباره هدفاً قومياً بعيداً نذكره ونتذكره في المناسبات، بل كضرورة حياتية للاقطار العربية وللامة ككل اذا ارادت مواصلة مسيرتها التاريخية استرجاع مجدها التليد بصورته المعاصرة.
ولم يحدث في السابق ان تعمق الوعي لارتباط القطري بالقومي والتفاعل والتأثير المتبادل بينهما في مجالات السياسة والاقتصاد وكل جوانب التطور الشامل على هذا النحو، وبهذه الدرجة من العمق، وانعكس ذلك بتطورات واستنتاجات غاية في الاهمية في المجالات الفكرية..
ان الاساس الذي ينطلق منه الفكر القومي يتجسد في تشخيصه التحديات التي تواجه الامة العربية في ظروف النظام العالمي الامبريالي الذي يراد فرضه على العالم. بمختلف الاساليب. عنوان هذه التحديات هو دور الامة العربية في عالم اليوم والذي يتحدد بقدراتها الروحية والعلمية والعملية لتجاوز اوضاعها الراهنة والدخول الى قلب العمليات الجارية في عصرنا، مسلحة بالفكر وامتلاك ناصية التطور العلمي الرقمي وثورة الاتصالات، والابداع في استثمار الامكانات والثروات الطبيعية لتحقيق قفزة في توفير اساسيات وضرورات الحياة التي تليق بالانسان وهو على اعتاب العقد الثالث من القرن الحالي.
وهكذا، فأن ارتفاع شأـن الامة يمر فقط عبر طريق وحدتها بأعتباره الطريق الوحيد لتنمية امكاناتها المتنوعة ويطلق طاقاتها الخلاقة على كافة الصعد، الانسانية والاقتصادية والعلمية ويزودها باسباب القوة التي تمنع اعتداءات وتطاولات الاعداء.
ان مواجهة التحدي الذي تطرحه الحياة يثير بدوره مسائل في غاية الاهمية- ضرورة تفاعل وتلاحم نضال قوى الامة الحية على اختلاف اتجاهاتها السياسية وعقائدها الفكرية، وتوفير مقومات هذا التلاحم وتصليبه. هذا من جهة، ومن الجهة الاخرى وضع اسس هذا التلاحم وديمومته وتعزيزه بالعلاقة المتينة مع الجماهير. وهذا كله يتطلب بحثاً معمقاً لموضوعة الديمقراطية وما يرتبط بها من حقوق للانسان العربي على المستويين الفردي والعام وما يتعلق بعلاقات القوى الحية للامة العربية.
شهد العقد الثامن من القرن العشرين محاولات علمية جادة للاجابة على التساؤلات التي تطرحها الحياة على الحركة القومية التحررية التي يتعمق الترابط الجدلي بين اهدافها القومية وعلى المستوى القطري، فالقطري يتوضح باعتباره الجسور التي يعبر عليها القومي وكونه الجزء الذي يجسد بصورة ما خصائص القومي الذي هو طريق المرور الاساسي لتطور القطري اقتصادياً واجتماعياً، والارتقاء الى مستوى الفعل النشيط في عالم اليوم.
ان الرؤية الجديدة للحركة القومية التحررية العربية وجدت لها تعبيرات في مراكز عربية فكرية. سياسية متعددة، وسيكون من المفيد بل والضروري استذكار ما قدمته من انجازات فكرية- نظرية. فأن الافكار، مهما كانت درجة طليعيتها وتقدمها يسري عليها قانون التقادم منذ لحظة ولادتها التي هي لحظة بدء هرمها. وهذا يتطلب التركيز على جوهر تلك الافكار وتلمس قدرتها وحيويتها على التجدد والاغتناء واكتسابها طابع المعاصرة من خلال ذلك.
قرن من الزمن مضى منذ ان تعلم العرب درسهم الكبير الاول عن نوايا الامبرياليين وغدرهم وحقيقة اطماعهم في بلاد العرب وثرواتهم وفي مقدمتها النفطية. ثم جاءت المعارك والمواجهات بين جماهير الامة العربية وتلك القوى الامبريالية التي اقامت كياناً صهيونياً عدوانياً توسعياً في قلب المشرق العربي وبعد ذلك جاءت اعمال العدوان اعوام 1956 و 1967 ومعارك 1973 وغزو لبنان و… عرف العرب خلالها عدواً آخر يرتدي الكوفية والعقال والعباءة الى جانب الامبرياليين والانكليز والفرنسيين والامريكان… ثم حدث الزلزال ووقع العدوان على العراق 1991 و 2003.
لقد تعمدت حركة التحرر القومي العربية بالدم والضحايا واستوعبت دروساً كبيرة، ومن خلال تلك التجارب، تلمس العرب حقائق في غاية الاهمية. لقد تعلموا ان النضال من اجل الوحدة يتطلب موقفاً واضحاً من العدو الاول.. الامبريالية، وان الصهيونية احدى اكبر ادواتها الاجرامية، وان الرجعية العربية هي مطية الامبرياليين والصهاينة في بلاد العرب. وان تحرير الارض واستعادة فلسطين والاراضي المحتلة يتطلب احترام حقوق الانسان العربي الفردية، الشخصية والعامة وفي مقدمتها حقه ان يكون من صناع القرار العربي في القتال والبناء او الانتاج، في السلم والحرب، وان الديمقراطية بما تعنيه من تعددية سياسية وفكرية وحريات عامة، هي احدى اهم
اسلحة الشعب لاطلاق طاقاته وتوحيدها. وان الديمقراطية تعني ايضاً وعلى وجه الخصوص مساواة المواطنين امام القانون وضرورة سيادته في الحياة العامة جنباً الى جنب قيام التنظيمات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها التي تشكل مصدراً اساسياً لشرعية النظام العربي.
ان الامة العربية تواجه تحدياً هو الاكبر والاهم من كل معنى، في عالم يعج بالمتغيرات والمتناقضات وبالمصالح المتنوعة. وبمقدار ما تتهيأ هذه الامة وتستعد، ستجد لها المكان الملائم في عالم الغد، مواصلة لدورها الكبير في التاريخ وبناء حضارة الانسان.
واليوم، اكثر من اي زمن مضى، فقد غدا واضحاً ان الوحدة العربية هي مفتاح باب المستقبل الذي يتحدى الامة العربية وطلائعها.. فهل تقبل هذا التحدي وتنتصر.