23 ديسمبر، 2024 6:48 م

اسْتِذْكَارُ وِلاَدَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ(ص) وَقْفَةُ تَأَمُّلٍ لِمَسِيْرَتِنَا – 2

اسْتِذْكَارُ وِلاَدَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ(ص) وَقْفَةُ تَأَمُّلٍ لِمَسِيْرَتِنَا – 2

في الحَلَقَةِ الأُوْلى، مِنْ هَذا الموضُوعِ، تَناوَلْتُ فِكَرَةَ تَخَلُّفِ مُجتَمَعاتِنَا الإِسْلامِيَّةِ، و الأَسبَابُ الّتي تَقِفُ وَرَاءَ ذلك. و فِي هذهِ الحَلَقَةِ سَأُنَاقِشُ تَأْثِيرَ شَخصِيَّةِ الرَّسولِ مُحَمَّدٍ(ص)، فِي المُجتمَعِ، و مَدَى نَجَاحِهِ(ص)، فِي غَرسِ القِيَمِ الأَخلاقِيَّةِ النَّبيلَةِ فِيه. فأَقوْل:
و كَمَا الإِسلامُ قَدَّمَ للإِنسانيَّةِ، عَقيْدَةً و تَشريعاً، كذلك قَدَّمَ الرَّسولُ الكَريمُ(ص)، نَموذَجَاً مُتكامِلاً، مِنَ الخُلُقِ الإِنسَانِيّ الرفيعِ، الّذي بالإمكانِ تَطبيقَهُ (كحالَةٍ سِلوكِيَّةٍ بشَريَّةٍ)، حتّى فِي المُجتمَعاتِ، الّتي لا تَعتَنِقُ الإِسلامَ دِيْنَاً لَها. و هُنا تَكمُنُ جلالَةُ و عَظَمَةُ شخصيَّةِ المُصطَفَى(ص).
و إِذا أَخَذنَا مِنْ رَسولِ اللهِ(ص)، الجَانِبَ التَّربويّ و السُلوكيّ و الأَخلاقِيّ، الّذي قدَّمَهُ(ص) للمُجتمَع. نَجِدُ أَنَّ آثارَ هذهِ الأَخلاقِيَّاتِ و السُلوكيَّاتِ، صَنَعَتْ مِنَ المُجتمعِ الجَاهليّ، المتَّصِفِ بالخُشونَةِ و البِدائيَّةِ، بعضَ النَماذِجِ البَشريَّةِ. مِنها مَا لَمْ و لَنْ يَستَطِعْ التَّاريخُ، أَنْ يُكرِرَها مُطلقاً، و هُم الأَئِمَّةُ المَعصُومينَ(ع). أَو تَضِيْقُ على التَّاريخِ بشَكلٍ عَسيرِ، إِمكانيَّةُ تقديمِ نَماذِجَ بَشريَّةٍ (مِن غيرِ المَعصُومينَ(ع))، كالّتي أَعدَّها رَسولُ اللهِ(ص)، لِمُهِمَّةِ تَرسيخِ مَبادِئ الإسلامِ عَمليّاً. 
وَ كمِثَالٍ على شَخصِيَّاتٍ مَعصُومَةٍ، دَرَّبَها رسولُ اللهِ(ص) على التَّقوَى و الحِكمَةِ. فالإِمَامُ عليٌّ بن أَبي طالبٍ(ع)، و فَاطِمَةُ الزَّهراءُ(ع)، و الإِمَامَانِ الحَسَنُ و الحُسَيّنُ(ع)، مِن أَوَّلِ تَلامِذَتِه. و تَتَوَضَّحُ لنَا صُورَةَ التربيَةِ النَّبويَّةِ، لهذهِ الشَّخصِيَّاتِ، عِنْدَما تَتَصَرفُ مَعَ مُجتَمَعِها، بصورَةٍ فَريدَةٍ مِنَ الاستِقامَةِ، و التَّواضُعِ و التَّفَاعُلِ معه.  و لنأخُذَ سُلوكَ نَموذَجينِ، مِن النَّماذجِ الّتي رَبّاهَا، النَّبيُّ مُحمَّدٌ(ص). الأَوَّلُ مِنَ الأَئِمَّةِ المَعصومينَ. و الثّاني مِنْ بَعضِ الصَّحابَةِ(رض).
 النَّموذَجُ الأَوَّلُ:-
  عندمَا مَرِضَ الإِمامَانِ الحَسَنُ و الحُسَيّنُ(ع)، نَذرَ الإِمامُ عليٌّ و فاطمَةُ الزهراءُ(عليهما السلام)، أَنْ يَصوما ثَلاثَةَ أيّامٍ للهِ تَعالى، تَوسلاً به سبحانه ليَشفِي ولدَيّهِما. و عِندَما استجابَ اللهُ تعالى لَهُما، صَامَا أَوَّلَ يَوّمٍ إيفاءً لنِذرَيهِما(و صامَتْ معهُمَا (فِضَّةٌ)، المرأَةُ التي كانت تُساعدُ فاطمةَ(ع)، في إِدارةِ شؤونِ البَيّت).
و عندَ الإِفطارِ طرقَ البابَ طارقٌ، وكانَ مِنْ أَحدِ المَساكينِ، فَحمَلَ الإِمامُ عليٌّ(ع) الإِفطَارَ، و كانَ خَمسَةُ أَرغفةٍ مِن خُبزِ الشَّعيرِ، و أَعطاها للمِسكين. و أَفطرَ الإِمَامُ و أَهلُ بيتِهِ، على المَاءِ فَقَطّْ. و فِي اليَوّمِ الثّانِي تَكرَّرتْ، نَفسُ القَضيَّةِ معَ يَتِيم. فقَدَّمَ الإِمامُ عليٌّ(ع) كُلَّ إِفطارِ العائِلَةِ إِليه، و أَفطَرَ الجميعُ، لليَوّمِ الثَّانِي على المَاءِ فَقَطّْ. و فِي اليَوّمِ الثَالثِ تكرَّرتْ الحَادِثَةُ معَ أَسيرٍ. و أَيضاً قَدَّمَ الإِمامُ عليٌّ(ع)، كُلَّ الإفطارِ إِليه، و أَفطرَ الجميعُ، لليَوّمِ الثالثِ على الماءِ فَقَطّْ.  فأَنزلّ اللهُ تعالى قولَهُ: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( 8 )* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9))(سورة الانسان).
و السؤالُ هلّْ مِنَ المُمكِنِ الآنَ، أَنْ تَتَكررَ مِثلُ هذهِ الشَّخصيّاتِ، بهذهِ الشمائلِ الطيّبَة؟.
 النَّموذَجُ الثَّانِي:-
و أَمّا إِذا أَخذنَا نمَاذِجَ رساليَّةً، مِنْ غيرِ المَعصومينَ(ع)، الّتي رَبّاها رَسولُ اللهِ(ص)، على الإِيمَانِ و العِفَّةِ و الزُهدِ، و الذَّودِ عَن الحَقِّ، نَجدُ شَخصِيَّاتٍ، بَقَتْ ماثِلَةً فِي ذَاكرةِ التَّاريخِ، كالصَّحابَةِ؛ أَبي ذَرٍ الغِفاريّ، و عمّارِ بن ياسرٍ، و سلمانَ المُحمَديّ(رض)، و غيرِهِم مِنَ الشَّخصِيَّاتِ المُؤمنَةِ، الّتي صَمَدَتْ أَمامَ إِغراءِ الدُّنيا. و مثَالُنا هُنا هوَ أَبو ذَرٍ الغَفاري(رض). 
فقَدّْ عُرِضَتْ على أَبي ذَرٍ الغِفاري(رض)، الأَمَوالُ (و هو بأَمَسِّ الحاجَةِ إِليها)، مِنْ أَجلِ تَغيّيرِ مَوقِفٍ مِن مواقِفِهِ، الّتي كانَتْ تُزْعِجُ بَعضَ المُتَنَفِذِين. إِنَّ الأمرَ مجرَّدُ تغيّيرِ موقفٍ واحدٍ لا أَكثر، و الموقِفُ المطلوبُ مِنْ أَبي ذَرٍ، أَنْ يَسْكُتَ فَقَطّْ، لا أَكثرُ مِنْ ذلك. و لَو أُعطِيَ عُشرَ المبلغِ المُقَدَّمِ لأَبي ذَرٍ، لشَخصيَّةٍ مِن الدُّنْيَويّينَ، مِن شَخصِيَّاتِ ذلكَ المُجتمعِ، الّتي لَمْ تَتأَثَّرْ، بتربيَّةِ رَسولِ اللهِ(ص)، لأَعطاهُم أَلفَ مَوقِفٍ، بدلاً من موقِفٍ واحدٍ، و كمَا يُريدونَ أَيضاً.
لكنَّ إِصرارَ أَبو ذَرٍ الغِفاري(رض)، على مُعارضَةِ المواقِفِ غَيْرِ الصَّحيحَةِ، جَعلتْ تلكَ الجَماعَةُ، الّتي يَختلِفُ مَعهَا أَبو ذَرٍ(رض)، تُقرِرُ نَفيَهُ إِلى صَحراءِ الرَّبذَةِ، ليَسْكُنَ فِي منفاهُ معَ ابنَتِهِ الوَحيْدَة. و لَمّا سَارَ أبو ذرٍ(رض) إلى مَنفَاهُ، وَدَّعَهُ رفيقُ دَربِهِ الإِمامُ عليٌّ(ع)، و قالَ لَهُ الإِمامُ(ع):
(يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّه فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَه، إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْه، واهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْه، فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ، ومَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ. وسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً والأَكْثَرُ حُسَّداً، ولَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً، ثُمَّ اتَّقَى اللَّه لَجَعَلَ اللَّه لَه مِنْهُمَا مَخْرَجاً. لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ، ولَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ. فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لأَحَبُّوكَ، ولَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لأَمَّنُوكَ)(نهج البلاغة/ الخطبة 130).
هذهِ بعضُ النَّماذِجِ النِّضاليَّةِ الرِّساليَّةِ، الّتي رَبّاها الإِسلامُ، و رعاهَا و عَلَّمَها نَبيُّ الإِسلامِ(ص). و الّتي سَتَظَلُّ ذِكراهَا تَملأُ الخَافِقَينِ، إِلى يومِ يُبعثون.
لقدّْ درَسَ الكثيرُ مِن عُلماءِ الإِجتماعِ و المُفكرينَ، و المؤَرخينَ و الأُدَباءِ الغَربيّينَ، شخصِيَّةَ النَبيِّ مُحَمَّدٍ(ص)، كمَا بَحثوا سِيرَتَهُ بتَفاصِيلِها الدَّقِيقَةِ. و لكوْنِ هؤلاءِ الدَّارسينَ، مُتَأَثِّرينَ بالجَانبِ العَقائِديّ، الّذي يُؤمنونَ بهِ، فإِنَّ ذلكَ كانَ يقفُ حائِلاً، دُونَ القَوّلِ بِأَنَّ نبيَّنا مُحَمَّدٍ(ص)، هُو نَبيٌّ مُرسَلٌ مِنَ اللهِ تَعالى.
و هُناكَ فريقٌ آخرَ مِنهُم، آثَرَ الدَّسَ و الَّلمْزَ، و وَضْعِ الشُكوكِ، حَوّلَ شَخصيَّةِ الرَسُولِ(ص). فَقَدّْ صَنَّفَ (مايكل هارت)، نبيَّنَا(ص)، وِفْقَ معاييرٍ وضَعَها، لتَقيّْيمِ بَعضِ الشَخصِيَّاتِ المُهمَّةِ فِي التَّاريخِ. بأَنَّ الرَّسولَ(ص)، هوَ الإِنسانُ الأَكثرُ، تأثيراً فِي العَالَمِ. فقالَ: (المثالُ الملفتُ للنظرِ هو ترتيبي لمُحَمَّدٍ أَعلى مِن المَسيحِ، ذلكَ لاعتِقَادِي أَنَّ مُحَمَّداً كانَ لهُ تأثيرٌ شخصيٌّ في تَشكيلِ الدِّيانَةِ الإِسلاميَّةِ، أَكثرَ مِن التَّأثيرِ الذي كانَ للمسيحِ في تَشكيلِ الدِّيانَةِ المَسيحِيَّة. لكنْ هذا لا يَعني أَنَّني أَعتقدُ أَنَّ مُحَمَّداً، أَعظَمُ مِن المَسيح) (مايكل هارت مؤلف كتاب/ المئة – (ترتيب أكثر الشخصيات تأثيراً في العالم))(انتهى).
إنَّ إِجراءَ مُراجعَةٍ سَريعَةٍ للنَصِّ المَذكورِ آنِفاً، نَجِدُ الجُملَةَ التَّاليَةَ، الّتي تُفصِحُ عَنْ المَقصَدِّ: (….لاعتِقَادِي أَنَّ مُحَمَّداً كانَ لهُ تأثيرٌ شخصيٌّ في تَشكيلِ الدِّيانَةِ الإِسلاميَّةِ، أَكثرَ مِن التَّأثيرِ الذي كانَ للمسيحِ في تَشكيلِ الدِّيانَةِ المَسيحِيَّة)(انتهى).
للوَهلَةِ الأُولى، عِندَما يَقرأُ شَخصٌ مُسْلِمٌ، بَسيْطُ الثَّقَافَةِ، النَصَّ أَعلاه، فإِنَّهُ يَشعُرُ بالارتياحِ. لا… بَلّْ رُبَّما، يَحِسُّ بالانْبِهَارِ، و يُعجَبُ أَيَّمَا إِعجَابٍ بهذا الكلامِ، الّذي قالَهُ شَخْصٌ غيرَ مُسْلِمٍ، بحَقِّ نَبيِّ الإِسلامِ(ص). فَهذا الشَخْصُ قَدّْ مَجَّدَ، نبيَنا مُحَمَّدٍ(ص)، و أَعطَاهُ أَعلى مراتِبِ التَّقيّيم، بيّنَ الشَخصيَّاتِ التَّاريخيَّةِ.
لكنَّ التَّعمُقَ في مَقاصِدِ الآخرينَ، يَكشِفُ أَنَّ التَّشْكِيكَ واضحٌ، و مكشوفٌ بِشَكلٍ سَافرٍ، بأَنَّ الإِسلامَ دينٌ مِن اختراعِ (مُحَمَّدٍ) (كمَا يُسَمْيّهِ الغَربيُون). و أَنَّ النَّبيَّ مُحَمَّدٌ(ص)، لَيسَتْ لهُ أَيَّةُ علاقَةٍ، باللهِ سُبحانَه، إِنَّهُ مُجرَّدُ إِنسانٍ مُبدعٍ لَيسَ إِلاّ.
و إِنْ كانَ الرَّسولُ(ص)، لا يَحتاجُ إِلى تَقيّيمِ أَحَدٍ، فَهو المبعوثُ مِنَ اللهِ تعَالى، رَحمَةً للعَالمينَ كافَّة. لكنَني أَلمَسُ فِي هذا التَّقييمِ، تجريْحاً بالإِسلامِ. كما أَرى أيضاً، مِنَ الضَروريّ أَنْ يَنْتَبِهَ المُسلِمُونَ، لمثلِ هذهِ التَّخَرُصَّاتِ. و إِنْ كُنْتُ أُؤْمِنُ بأَنَّ بَعضَ المُسلمينَ، أَشَدُّ إِساءَةً لرَسُولِ اللهِ(ص)، مِن غَيرهِم، الّذينَ لا يُديْنُونَ بدِيْنِ الإِسلام. و هذا يُوجِبُ على المُثَقَّفِيْنَ الوَاعيْنَ، إِدرَاكُ مَا نَحنُ فيهِ، مِنْ مَأْزَقٍ أَخلاقَيّ، يتَطلَّبُ مُضَاعَفَةَ الجُهودِ، و تَظَافُرِ الطَّاقَاتِ، مِنْ أَجلِ إِحدَاثِ التَّغيّير، فِي مُجتَمعَاتِنَا الإِسلامِيَّةِ، لنتَخَطّى حَالَةَ اليَأسِ و البُؤْسِ، عَلَّنَا أَنْ نَسْتَدْرِكَ، مَا يُمكِنُ استِدراكُهُ، فَمَا لا يُدرَكُ كُلُّهُ لا يُترَكُ جُلُّه.