19 ديسمبر، 2024 2:09 ص

اسْتِذْكَارُ وِلاَدَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ(ص) وَقْفَةُ تَأَمُّلٍ لِمَسِيْرَتِنَا – 1

اسْتِذْكَارُ وِلاَدَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ(ص) وَقْفَةُ تَأَمُّلٍ لِمَسِيْرَتِنَا – 1

إِنَّ الاحتِفَالَ بوِلادَةِ الرَّسولِ الأَعظَمِ مُحمَّدٌّ(ص)، لا يُمثلُ بالنِسبَةِ للمؤمِنينَ، بالخَطِّ الرِّسَاليّ، بأَنَّهُ احتفالٌ بولادَةِ إِنسانٍ عَظيمٍ، قَدَّمَ للإِنسانيَّةِ، مَا لَمْ يَستَطعْ غيرُهُ مِنَ البَشَرِ، أَنْ يُقدِّمَ لَها، ما قَدَّمَهُ لَها رَسولُ اللهِ(ص). و إِنَّما الاحتِفَالُ بولادَةِ رَسولِنا مُحَمَّدٍّ(ص)، حَسْبَ المفَاهيمِ  الرّساليّة، يَعنِي احتفالٌ بذِكْرى قَدَرٍ إِلهيّ، و إرادةٍ ربّانيّةٍ، شاءَتْ أَنْ تَختارَ مُحمَّداً بنِ عَبدِ اللهِ(ص)، ليَكونَ حامِلَ رسَالةٍ سَماويَّةٍ، جَوهَرُهَا التَّوحيدُ، و هَدَفُها تَخليصُ البَشريَّةِ،  مِن الظُلمِ و العِدْوان. ليعيشَ الإنسانُ في ظِلِّ قوانينَ الحَقِّ و العدلِ و المُسَاواة.
فالرِّسَالِيّْونَ اليومَ، بأَمَسِّ الحَاجَةِ، لدراسَةِ سِيرَةِ الرَّسولِ(ص)، ليَستنْبِطوا مِن تَجربَتِها، كُلَّ العَناصِرِ الّتي تُمَكِنُهم، مِنَ العَملِ لإِصلاحِ المُجتمَعَاتِ الإِسلاميَّة. و الجَميعُ يَعلَمُ،  أَنَّ مَشاكلَ مُجتمعاتِنا، مُعقَّدةٌ بصورةٍ مُركّبةٍ. و يحتاجُ حَلُّها جُهداً استِثنائيَّاً، على مُستَوى نَوعِ العَملِ الإِصْلاحيّ، و على مُستَوى طريقَةِ تَطبيقِهِ أَيضاً. و يُمكنُ إِجمالُ بعضَ النُقاطِ السَلبيةِ، الّتي تُعانِي مِنها مُجتَمعاتُنا، و الّتي تَقِفُ حَائلاً، دُونَ نُهوضِها و تَقَدُّمِها، حَضاريَّاً و ثقافِيَّاً، فَضلاً عَن عَدَمِ تَقدُّمِها عِلميَّاً و اقتِصَاديَّاً و سِياسِيَّاً؛ و هذهِ النُقاطُ هي :-
1. عَدَمُ فَهمِنَا بصُورَةٍ صَحيحَةٍ و عَميقَةٍ، لتَعَالِيْمِ دينِنَا الصَّحيحَة.
2. اخْتِلاطُ تَعالِيمِ الإِسْلامِ الصَّحِيحَةِ، معَ آراءِ و اجتِهَاداتِ بَعضِ الأَشْخاصِ، الّذينَ تُوَظِّفُهُم جِهاتٌ سِياسِيَّةٌ مُعيَّنَةٌ. فَيَقومُونَ بِتَفْسِّيرِ تَعَالِيْمَ الإِسلامِ، كمَا تَطلُبُ مِنهُم تلكَ الجِهَات. فأَصبحتْ صُورَةُ الإِسلامِ، مُشَوَّشَةً و ضَبابيَّةً، فِي أَذهان غالبيَّةِ أَبناءِ مُجتمعَاتِنا، و خُصُوصَاً فِئَةِ الشَّبابِ مِنهُم، مِنْ ذَوي الثَّقَافَاتِ المَحدُودَة.
3. اختَلَطَ الأَمرُ على الكثيْرِ مِنْ أَبناءِ الإِسلامِ، في التَّفريقِ بيّن المُقَدَّسِ، و غيّرِ المُقَدَّسِ. فغَيّرُ المُقَدَّسِ أُضْفِيَتْ عليهِ، صِبْغَةُ المُقَدَّس. وهذا مَا أَحدَثَ حالَةً مِنَ التَّشْويشِ الذِّهنيّ، و التَّشَتُتِ الفِكْرِيّ، بيّنَ الكَثيرِ مِنَ المُسلِمين. و أَحدُ أَسبَابِ ذلكَ، انعِدامُ رقَابَةِ المؤَسَّسَاتِ الدِّينيَّةِ، لِما يُطرَحُ بعَشّوائِيَّةٍ على المُجتَمع.
4. كَمَا أَنَّ انْعِدَامَ رِقَابَةِ المُؤَسَّسَاتِ الدِّينيَّةِ الإِسلامِيَّةِ، (و مِنها الخَاصَةُ بالمَذْهَبِ الجَعفَريّ)، لِما يُطرَحُ مِنْ أَفكارٍ على أَبناءِ المُجتمَع، جَرّأَ بَعضُ المُعَمَّمِينَ، ادِّعَائَهُم بالأَعلَمِيَّةِ، و هُمْ لَيْسوا بِمستَوى ذلك.
5. الضَّعفُ الكبيرُ فِي جَانِبِ الإِرشَادِ الدِّيني، على مُستَوى النَّوْعِ، و لَيْسَ على مُستَوى الكَمِّ،(فَعلى مُستَوى الكَمِّ، فعدَدُ السَطحيَّينَ الّذينَ يَرتَقونَ المنَابِرَ، حَدِّثْ ولا حَرَجْ). و تَجربَةُ المَرحُومِ الشَّيخِ أحمَدَ الوائلي(طابَ ثَراه)، ظَلَّتْ تَجربَةً فَريدَة. فِي حِينِ المُجتَمَعِ العِرَاقِيّ، بحَاجَةٍ ماسَّةٍ لِتكرارِ، تلكَ التَجربَةِ، لأَهميَّةِ تأْثِيرِها على الجِمْهُور.
6. ظَلَّ الإِرشَادُ الدّينيّ، خَارجَ حُدودِ التَّخطِيْطِ و السَيْطَرَةِ المَركَزيَّةِ، لِذا بَقَتْ النَّتَائِجُ دُونَ مُستَوى الطُّموحِ، فِي تَغيّيرِ أَخْلاقِ المُجتَمعِ، و الارتِقَاءِ بِها إِلى المُستَوى الرَّفيعِ، اللائِقِ بالإنسَانِ المُتَمَدِّنِ، على أَقَلِّ تَقديْرٍ، إِنْ لَمْ أَقُلْ على مُستَوى الِإنسَانِ المُتَحَضِّر.
7. انعدامُ هِمَّةِ التَّغييرِ أَو تَدَنِّيها، إِلى أَدنَى دَرجَاتِ نشَاطِها، و الّتي تكادُ أَنْ تكونَ غَيرُ مُؤَثِرَةٍ في المُجتَمَع.
8. نُدرَةُ بَرامِجَ التّغييرِ، معَ تدَني مُسْتوَى التَّخطِيْطِ، الّتي تَتَطَلَّبُها المرحلةُ الراهنَةُ، فَفقَدَتْ المُجتمَعاتُ الإِسلامِيَّةُ، البَوْصَلَةَ الفِكْرِيَّةَ الّتي تَهدِيها إِلى الطَّريقِ الصَحيح.
9. وجودُ حالةٍ مِن التَّراخِي و التَّقاعُسِ، عندَ غالبيَّةِ المجتمعاتِ الإِسلاميَّةِ. الأَمْرُ الّذي يُسهم ببَقاءِ الأُمورِ، على مَا هِي عليهِ، لِعدَّةِ أَسبابٍ مِنها:
أ‌. أَمّا بسَببِ الظُروفِ السِّياسيةِ، الّتي تَحكُمُهُم و الّتي تَحُدُّ مِن تَحرُكاتِهم.
ب‌.  و أَمّا بسَببِ الخَوّْفِ، مِنَ المُستقبلِ و ما يَحمِلُهُ مِن مُفاجأآتٍ غَيّرِ مُتوقَّعَة.
ج‌. أَو أَنَّ هناكَ قَناعَاتٍ راسِخَةً، فِي ذِهنِيَّةِ الرَأْيّ العَامِّ، للمُجتمعاتِ الإِسلاميَّة، بأَنَّ مَا هُمْ عَليّْهِ الآنَ، أَفضلُ مِن الّذي سيَكون.
د‌. أَو بسَبَبِ عَدَمِ وضُوحِ الرُؤْيَّةِ، لِمَا سَتَؤولُ إِليّهِ أَحوالُهم مُستقبلاً، بسَبَبِ تَفشّي حالَةِ الجَهلِ، و التَّخلُّفِ و قِلَّةِ الوَعي بمُستَوَييّْهِ الفَردي و الجَماعي.
ه‌. و أَمّا بِسَبَبِ هَشَاشَةِ البُنيَّةِ الثَّقافيَّةِ، فِي المُجتَمعَاتِ الإِسلامِيَّةِ، و وقُوعِ تلكَ المُجتمعَاتِ تَحتَ تَأْثِيرِ، ثَقافَاتِ المُجتَمعَاتِ الغَربيَّةِ، الّتي تُسَوِّقُها إِلى مُجتَمعَاتِنَا، وَسائلٌ كثيرةٌ تَقِفُ في مُقدِّمَتها، وسائلُ الإِعلامِ المُوَجَّهَة. و الّتي تُوحي لهُمْ بأَنَّ، سَببَ تَقدُّمِ الغَربِ، يَكمُنُ في تَّخلِّي المُجتمعَاتِ الغَربيَّةِ، عن القِيَمِ الدِّينيَّة، و استبدَالِها بقيَمٍ وضْعِيَّة.    
لقدّْ استَطاعَ نَبيُنَا مُحَمَّدٌ(ص)، بفَضلِ التَّسديدِ الإِلهِي، و امتِيَازهِ بكمَالاتٍ أَخلاقيَّةٍ فَاضِلَةٍ، جَعلَتْ المُقوِّمَاتِ الشَّخصيَّةَ و القُدُرَاتِ الذَّاتيَّةَ الموجودَةِ، لدَيّْهِ(ص)، كَفيلةٌ ليكونَ مُتَحَمِّلاً لأَعبَاءِ المَسؤوليَّةِ الرِّسَاليَّةِ، كإِنسانٍ قَادِرٍ عَلى قِيَادَةِ مَسِيْرَةٍ شَاقَّةٍ، كلَّفَتْهُ الكَثيرَ جداً مِنَ العَنَاءِ و التَّعَبِ و الأَذَى.
كمَا يَجِبُ أَنْ لا تُغفَلَ الاستِعدَادَاتُ النَّفسِيَّةُ الكبِيرَةُ، الّتي تَجَسَّدَتْ فِي شَخصِيَّةِ النَّبِيّ(ص)، لأَنَّهُ كانَ فِي عَيْنِ اللهِ تَعالى. إِضَافَةً لِمَا امْتَازَ بِهِ(ص)، مِن إِيْمانٍ صَادِقٍ عَميْقٍ بالخَالِقِ تَعالى، و صَبْرٍ و شُجَاعَةٍ و جَلَدٍّ و تَحدٍّ. كُلُّ تلكَ العَوامِلِ اجتمَعَتْ، في شخصيَّةِ الرَسُولِ(ص)، كي يَنْجَحَ فِي صِناعَةِ مَرحَلَةٍ إِنسَانيَّةٍ جديدَةٍ، ليَنقُلَ المجتمعَ العَربيّ، مِن حَالةِ التَّوَغُلِ فِي ظُلمَاتِ الجَّاهِليَّةِ، إِلى مُجتَمَعٍ مُتَنَوِّرٍ، خَرَجَ إِلى العالَمِ و هوَ يَحمِلُ مُثُلاً نَبيْلَةً، و قِيَمَاً سَامِيَةً، أَشْعَرَتْ الإِنْسَانَ بقِيْمَتِهِ الآدَمِيَّة. فِي وَقْتٍ كانَتْ فيْهِ الإِنسَانِيَّةُ، لا تَعرِفُ سبيلاً إِليها. لأَنَّها كانَتْ غارقةً في غياهبِ الجَهلِ المَعرفِيّ، و العَقائديّ و الظُلْمِ الإِجتمَاعي، و التمايُزِ الطَّبَقِيّ. لا بَلّْ أَكثرُ مِن ذلك، كانَ الإِنسَانُ يحتَقِرُ مَن كانَ، على غيرِ جِنْسِهِ، كاحتِقَارِ الرَجُلِ للمرأَة. و مَنْ كانَ على غيرِ طبقَتِهِ الإِجتماعيَّةِ، كأحتِقارِ طَبقَةِ الأَحْرَارِ لِطبَقةِ العَبيْدّ. و احتقارُ الأَغنياءُ للفُقرَاءِ. و احتقارُ القَويِّ للضَعيف.
إِنَّ عناصِرَ النُهوضِ العقَائديّ، تَتبَعُها عَناصِرُ النُهوضِ الفِكريّ، و الحَضاريّ، لوجُودِ تَلازُمٍ بيّن عَناصِرِ النَّهضَتيّن. فالنَهضَةُ العَقائديَّةُ تُؤَسِسُ لمجتمَعٍ مُنضَبطٍ، أَخلاقيّاً و سِلوكيّاً و قِيَمِيّاً. بمَعنَى أَنَّ العقيدَةَ الصَّالِحَةَ، هِي الّتي تَصنَعُ الإِنسانَ الصَّالِحَ، و مِن ثُمَّ تَستتّبعُها عناصِرُ النَّهضَةِ الأُخرى. و مِن أَهَمِّ عَناصِرِ النَّهضَةِ العَقائديَّةِ هي:-
أَوّلاً:        وجودُ عَقيدَةٍ صَالِحةٍ، و تَشريعٍ صَالحٍ لبناءِ الإِنسَان.
ثانيَاً: إِمكانيَّةُ تَطبيقِ تَعاليمِ، تلكَ العَقِيدَةِ و أَحكامِها، على أَرضِ الوَاقِع.
ثالثاً:        وجودُ مُجتمَعٍ يُؤمِنُ، بتلكَ العَقِيدةِ و يُخلِصُ لها.
رابِعَاً: أَنْ تتوفَّرَ القِيادَةُ الصَّالِحَةُ للمُجتمعِ، حتّى تَتَولّى تطبيقَ   العَقيدَةِ الصَّالِحَةِ، و تَعاليمِها الّتي تُحقِقُ العَدلَ و المُسَاواةِ و الحريَّةِ في المُجتمع.
خامساً: يُشترطُ فِي هذهِ العواملِ، أَنْ تكونَ مُتَسَايرَةً، مع الظُروفِ الموضُوعيَّةِ للواقِع. و تكونُ دائمَةَ التَّطورِ مع مُستَجدَّاتِ الحَياةِ.
إِنَّ خَاصِيَّةَ الإِسلامِ المَجيدِ، فِي تَركِ مَساحَةٍ، فِي الجَانبِ التَّشريْعِيّ، (الّتي تُمَثِّلُ الرُّوحَ الّتي تَضمِنُ، دَيمُومَةَ بقَاءِ التَّجدِيدِ فِي الإِسلام)، عَن طَريْقِ تَقَبُّلِ مُستَحدَثَاتِ المُستَقبَلِ. فالاسْتِنبَاطاتُ الحُكْميَّةُ، تُلَبّي ما يَستَجِدُّ مِن مَسائلَ حَياتِيَّة. لذا أَصبَحتْ رِسالَةُ الإِسلامِ السمْحَاءِ، صالِحةً لكُلِّ زَمانٍ و مَكانٍ فِي الوجُود. و إِمكانيَّةُ تَطبيقِ الأَحكامِ، الّتي تَضبِطُ النِّظامَ الإِجتمَاعِيّ العَامِّ، وِفْقَ أُسُسِ تَحقيْقِ العَدَالَةِ للجَميع. إِنَّ هذهِ العَناصِرَ الرِّسَاليَّةَ مُجتَمِعَةٌ، هي الّتي بَنى عَليها الرَّسولُ مُحَمَّدٌ(ص)، المُجتَمَعَ الإِسلامي.
كما لا تَقِلُّ عَن عَظَمَةِ هذهِ الرِّسَالَةِ، شَخصيَّةُ حامِلِ الرِّسَالَهِ(ص). فَقَدّْ ظلَّتْ شَخصِيَّةُ الرَسولِ مُحَمَّدٍ(ص)، مُؤثرةً و حيّةً على مَدى التَّاريخ. فَمَن يُريدُ الاهتِداءَ بالإِسلامِ، فعَقِيْدَةُ الإِسلامِ شَاخِصَةُ الوجُودِ، واضِحَةُ الحُدود. و مَن يُريدُ الاقتِداءَ بالمُرسَلِ، فشخصيَّةُ النّبِيّ مُحَمَّدٍ (ص)، صالِحةٌ للاقتِدَاءِ بها أَيضاً.
سأَسْتَكْمِلُ بَحثَ المَوضُوْعِ، فِي الحَلَقَةِ الثَّانِيَةِ، و هي الأَخِيرَةُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. و سأبيّنُ دَورَ الرَّسولِ(ص)، في بنَاءِ المُجتَمَعِ الإِسْلامِيّ، عَقَائِديَّاً و فِكريّاً و سُلوكِيّاً. و مِنَ اللهِ تَعالى استَمِدُّ العَوّنَ و التَّوْفِيْق.
كاتِبٌ وَ بَاحِثٌ عِرَاقي
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات