27 ديسمبر، 2024 12:22 ص

 استهداف القارئ في ..”مقاربات في الشعر والسرد”

 استهداف القارئ في ..”مقاربات في الشعر والسرد”

يقسم الكاتب جاسم العايف كتابه “مقاربات في الشعر والسرد”* إلى ثلاثة أقسام. الأول: يخص الشعر. الثاني السرد. والثالث المسرح، وثمة مقال عن كتاب الراحل( خليل المياح) تحت عنوان “الباحث خليل المياح.. واستقلالية العقل أم استقالته..”؟!. هذه المقاربات التي أشتغل عليها الكاتب جاسم العايف،تنضوي تحت رداء عملَ فيه فعالية المجتهد في مواكبة النصوص والعمل على إيجاد المنافذ كي يدخل كلا النصوص التي أختارها ويصل إلى الهدف المرجو منها. وأرى أن المظهر الأبرز لعمل الكاتب في هذه المقاربات، هو رؤيته التي يمتلكها إزاء النصوص وتكاد تكون مشتركة لما تقدمه، بغض النظر إن كانت هذه الرؤية من الداخل أو من الخارج، أو كانت الرؤيتان متداخلتين. وإذا كان “فرانك أوكونور” يعطي وصفاً لبطل القصة القصيرة ليس باعتباره فرداً بل جماعة: “وهي جماعة تعاني من ألوان الضغوط الاجتماعية، وتسعى جاهدة إلى متنفس أو خلاص”. نجد أغلب الكتابات التي تناولها الكاتب في مقارباته، تزخر بالشخوص الواقعين في لجات المعاناة والمصائر المأساوية. إن اختيار النصوص، قد ساعد على استشراف الأطروحات، على أساس تنوعها. ما بين التوثيق التاريخي الذي يستوجب ذلك في بعض المقاربات وعرض ما كان من سطوة السلطة وقمعها في تلك الفترة. انه يتناول في مقارباته الكثير من الأحداث، فهو الشاهد الأمين لزمن مضي وترك الأسى والحزن. ويعيدنا (العايف) إلى ما جاء به الكثير من الكتاب عن تلك الفترة العصيبة والتعبير عنها بكتابات في الشعر والسرد لتأتي مقارباته ذات توصيفات نتلمس فيها تحركاً دلالياً، ورؤى جمالية.

لوحة الغلاف

لوحة الغلاف تتناثر عليها حروف (Freedom) ونعرف إنها تعني (الحرية)،وحروف الكلمة المتفرقة. تأتي كاملة، وقد لا يستطيع المرء أن يجد لها مفهوماً متكاملاً، لكنها غالباً ما تأتي بصيغ مختلفة،كالخلاص من العبودية، أو الرفض،وربما الاعتراض،وغيرها،وغالباً ما تكون هنا كتقاطعات مابين الفرد والسلطة، فتصادر حريته، وتمتهن إنسانيته.يمكن أن

نجد الحرية في عدة جوانب من التخطيطات المتناثرة على لوحة الغلاف،وهي تريد أن تأخذ أشكالها بحرية تامة. هذه اللوحة للفنان (هاشم تايه) تقع أسفل العنوان ،لتتناغم مع العنوان ويرتقى محتوى الكتاب بها إلى عالم الحرية الفسيح، والتي هي حلم الإنسان في هذا الوجود واشكالياته. لتشكل اللوحة وما في صفحات الكتاب كلاً مترابطاً،وقد كان اختياراً موفقاً لما يضم هذا الكتاب في صفحاته من توقٍ نحو الحرية.

مقاربات الغرائبي واليومي

الكاتب(العايف) يبحث في النص إن كان شعراً أو سرداً ليتقصى ما هو غرائبي وواقعي يومي، ضمن رؤيته، ويحدد تفسيراً، أو تحليلاً ليقترب بقوة مما يريده، أو يطمح إليه، وفي “مهدي محمد علي: شجرة مثمرة ..ومنجز غمرته الظلال” نقرأ: “رسخت تجربته الشعرية منذ بداية السبعينات بتواصله مع النشر، واعتماده ما سمي حينها بـ(القصيدة اليومية)”. ونقرأ:” ثمة حضور يومي للمشاهد، مستقى من بساطة الحياة، ومصادفاتها الغريبة، المدهشة المكتظة”. وفي إقرار ضمني يؤكد العايف: “عام 1973 نشر مهدي في جريدة طريق الشعب قصيدة بعنوان (قصيدة منزلية) عدت من أهم القصائد التي تناولت ربة البيت، وعبودية عملها المنزلي اليومي” (ص15).وفي القسم الثاني، يتابع الكاتب في مقارباته واستكشافاته، في (أوراق جبلية) لزهير الجزائري تحت عنوان، “أوراق جبلية: تجربة ذاتية وتنوع المنظورات الإدراكية”.نقرأ:”لأن السارد/ الجزائري / كان في توجهه الكتابي – السياسي يمثل صوت وصورة المحيطين به، والمشاركين في الإعراب عن وجهة نظره، لذا أبعدهم عن كل ما سبق. وفي الظن إن هذا الجانب أسهم على نحو ما، في تقليل فرص التنوع على المنظورات الادراكية، وأفقد السرد (اليومي) مرونة الحركة بين المواقع المتبدلة للأصوات أو الشخصيات المشاركة” (ص107). ونجد في كتاب المقاربات صوت وصورة الكاتب في الحياة اليومية التي نتمثلها في الواقع المتخيل وتتجلى في الواقع المرئي.وكذلك نقرأ ما جاء عن المجموعة القصصية انكسارات مرئية لياسين شامل، تحت عنوان: (انكسارات مرئية.. محاولة لاختراق المألوف والشائع): “وهذا ما سعى نحوه (في انكسارات مرئية) باعتماده على حركة الحياة اليومية ووقائعها وتجلياتها ومعطياتها والقاص-شامل- يثق ويعتمد على ما قاله (جون

برين):” تذكر دوماً انك تتلمس طريقك إلى ما تكتب مستعيناً بإحساسك..ولذا فعليك أن تكتب لترضي ضميرك أولاً، وان تنقل بأمانة ونزاهة تامّتين،رؤيتك للعالم الذي يحيط بك”.(ص126). وفي (كوكب المسرات): “شهادة جارحة .. تعدد التجنيس” نقرأ: ” فللكاتب سيرته وتجاربه التي يروي فيها مراحل ما في حياته، وقد رواها السباهي بلغة أدبية تمتلك طاقة جمالية وتعبيرية عبر تشكلها وتوجهها السردي، ومع حدتها الجارحة والقاسية، وذات التوجه والمنحى الذي يبدو (غرائبياً) لكثافة واقعيته الفعلية” (ص88).

مقاربات المراثي

أهدى الكاتب(العايف) كتابه إلى زوجته الراحلة. ونجد في اغلب ما طرحه الكاتب حول مهدي محمد علي، ما هو إلا رثاء عميق. وفي موت الشاعر الشاب (مهدي طه) يقول الكاتب عند سماعه الخبر: يا للفجيعة.. أيها “.. …” أما آن لكم أن تعرفوا إن للصبر حدود؟! “. نشعر بعمق المأساة في ذلك الواقع القاسي الذي يحيل الإنسان إلى عدم ويمتهن آدميته، فلم يكن موت الشاعر (مهدي طه) موتاً عادياً، فهو في عمر الشباب، ومات غرقاً وهو يجيد السباحة.وفي بداية هذه المقاربة عن الشاعر مهدي طه يختار الكاتب هذا النص:

“إذا ابتكر النهر ثانيةً لعبةً للغرق

سيضمخ كفي دمي

وسأصرخ من غرقي: أبتعدْ”.

ويوضح لنا (العايف) عمق المأساة، وهي بالحقيقة مأساة العراقيين نتيجة لوجود النظام الشمولي. وتحت سطوته تكون الثقافة، والحياة ،الإنسانية معها، موجهة باتجاه واحدٍ يخدم مصالح النظام ويمجد رأسها وتوجهاتها، ويتعرض للقهر ومن ثم التصفية لمن يحمل رأياً مغايراً ولا يهتف مع الهاتفين. ونقرأ “كان ذلك أول الرحلة التي بدأت عام 1972 حيث ألقى الشاعر قصيدته (صورتان على نافذة..أنجيلا ديفز) لتنتهي نهاية مدوية وفاجعة، عام(1975 ) إذ أنضم إلى قافلة الغياب أصدقاء جدد لمهدي طه.” ص 29. وثمة لفتة جميلة ذات دلالة ، غريبة، حيث يكشفها لنا (العايف)

بأن عمر الشاعر (مهدي طه) قد توقف عند الثانية والعشرين سنة ، وكذلك عدد قصائده كانت أثني وعشرين قصيدة، يا لسر الأقدار، وحمق تلك الأيام، وفاجعة المصير الإنساني للشاعر الشاب(مهدي طه). والكتابة عن المغدورة (أطوار بهجت) هي بحد ذاتها مرثية كبرى، وذلك لهول الفاجعة والمصير الذي حل بها، إذ: “وضوح مشاعرها الوجدانية والإنسانية، وهنا تكمن شجاعة (أطوار) التي تميزت بها وقادتها نحو الغياب المأساوي المادي، الذي سنخضع له جميعاً ذات لحظة ما” (ص40). وكذلك في دراسته المعنونة “جدل الشعر والرسم” عن كتاب الرسام والناقد خالد خضير (قيم تشكيلية في الشعر العراقي). يكفي أن نقول في ديوان “أمير من أور” للشاعر حسين عبد اللطيف” هو رثاء الفنان الراحل شاباً في الغربة (أحمد الجاسم).كل ما طرحناه، وما لم نطرحه، من ملامح المراثي المتناثرة في صفحات الكتاب، يتناغم مع رثاء الإهداء الذي يشكل بؤرة الرثاء وهو أكثر التصاقاً بوجدان الكاتب.

استهداف القارئ

في مجمل المقاربات التي أشتغل عليها الكاتب(العايف) أستهدف فيها القارئ لأخذه إلى منطقة مؤثرة قد يتحقق في ارتداداتها الحلم الإنساني في الوجود، وهذه المنطقة فعالة في عمق الذات نفسها، ولها اشتغالها في الوضع العام.وإن كان الكاتب قد عمل في حدود معالمها بدراية منه، أم دونها، فقد بانت تلك المنطقة ومؤثراتها على المستويين الموضوعي والدلالي. قد نجدها مثل (يوتوبيا)، حلم الوجود الإنساني، وحلم الشباب بتغيير العالم عبر أفكارهم وتطلعاتهم، فالكاتب يريد أن يؤكد للقارئ، إن كل هذه المآسي التي تعرض لها الكثيرون من كتاب النصوص وما دار في النصوص، من استلاب، وظلم وتشظي، وغيرها هي مرفوضة، والكاتب (العايف) يطمح أن يتحقق حلم الإنسان كأغلى قيمة في الوجود، ما هي إلا اجتراح يتماهى مع التاريخ الذاتي للكاتب.وقد يبدو، ما تقدم جلياً حين نقرأ “سقوط الإنسان تحت القسوة والتعذيب، انهيار الأحلام الشبابية والأمنيات الثورية من أجل العدالة الاجتماعية – الإنسانية، تلك (اليوتوبيا) التي تسربت مكابداتها كالماء من بين الأصابع، بفعل الدكتاتوريات المتعاقبة” (ص90). وبما يمتلكه الكاتب من سعة في الاطلاع، وما أكتسبه من خلال التجربة المعرفية و الحياتية، واعتماده المصادر الرصينة، فقد بذل في(مقارباته..) جهداً كبيراً، وأجاد.

*منشورات مجلة( الشرارة) النجف- ط1-2013. الغلاف للفنان هاشم تايه