شهد اقليم كوردستان مؤخرا تسويق فكرة مفادها ان استقلال كوردستان يجب ان يكون بالتفاهم مع بغداد من خلال مفاوضات تجرى بينهما , ورهن اجراء الاستفتاء على حق تقرير مصير الشعب الكوردي بفشل المباحثات تلك مع بغداد . وشجع هذا التوجه ما تلمسه السيد مسعود البارزاني رئيس الاقليم من ردود افعال ايجابية لدى ساسة بغداد حول استقلال كوردستان وتفهمهم له , ما اعطى انطباعا في امكانية التوصل الى نتائج مرضية فيه معها .
وان كان هناك من ايجابية في التحاور مع بغداد فتكمن في انها ستسحب البساط من تحت ارجل دول الجوار في التدخل ومحاولة اجهاض استقلال كوردستان , وستكون بادرة هي الاولى من نوعها في انفصال كيانين عن بعضهما بشكل سلمي ودونما قتال في منطقة تسفك الدماء فيها لاتفه الاسباب .
من بديهيات الوضع العراقي ان بغداد لا تستطيع ان تعيق الطموح الكوردي في الاستقلال , ولا ان تفتي فيه , فهي اضعف من ان تقف ضد استقلال كوردستان , وساستها ليس لديهم خيار اخر سوى الترحيب بهذه الخطوة من باب مجبر اخاك لا بطل , ولكن…. اي كوردستان يقصدون ؟
لا يدخر الساسة في بغداد مناسبة الا ويظهرون تاييدهم لانفصال كوردستان وتحولها الى دولة , لكن على ارض المحافظات الثلاث فقط ( اربيل ودهوك والسليمانية) وبحدودها الادارية قبل الالفين وثلاثة , اما كوردستان بكامل اراضيها ( من ضمنها المناطق الكوردستانية خارج اقليم كوردستان) فتحتاج ( من وجهة نظرهم) الى مفاوضات ومباحثات تستند الى الدستور .. وهنا تطل شياطين التفاصيل برؤوسها لتبعثر تلك النظرة الرومانسية للسياسي الكوردي بشان التحاور مع بغداد .
لقد اثبتت السنوات التي تلت الالفين وثلاثة ان بغداد تتعمد المماطلة والتسويف ومن ثم افشال كل الاتفاقات والتفاهمات التي كانت بينها وبين اربيل , فقد ماطلت لمدة عشر سنوات في تنفيذ المادة 140 من الدستور المتعلقة بالمناطق المستقطعة من كوردستان , وافشلت كل ما اتفق عليه من تفاهمات في ملف النفط الكوردستاني ( عقوده او انتاجه او تصديره) , وكذلك لم تستطع اربيل على مدى عشر سنوات التوصل الى تفاهمات مشتركة مع بغداد فيما يتعلق بحصة الاقليم من الموازنة والتي اصبحت مشكلة سنوية , وحتى في مجال تصدير
المنتجات المحلية من داخل الاقليم الى المدن العراقية الاخرى لم يتم التوصل الى اي اتفاق واضح بينهما… فكيف يمكن للاقليم ان يتوقع نتائج من الحوار بينه وبين العراق حول استقلال كوردستان ؟
هناك بعض النقاط يجب اخذها بنظر الاعتبار في اي توجه للتفاوض مع بغداد حول استقلال كوردستان من بينها : –
– ان التفاوض حول الاستقلال دون استعدادات مسبقة لا يعدو الا ان يكون فخا سيوقع الاقليم نفسه فيه دون مبرر . فبغداد ستحاول في اي مفاوضات خلط الاوراق و تحويل مسار المباحثات نحو موضوع المناطق المستقطعة للمساومة عليها , عارضة بنود الدستور مرة اخرى لحلها , وتدخل بذلك الاقليم الى معمعة تاويلات الدستور وتفاسيرها وستعطي لنفسها فرصة جديدة للتماطل والتسويف لسنوات كما فعلت سابقا في تسويف تطبيق المادة 140 لعشر سنوات . ولان عامل الزمن مهم في موضوع استقلال كوردستان , فان التفاوض بهذا الشكل لن يخدم الاقليم باي حال من الاحوال , اضافة الى ان موضوع المناطق المستقطعة هو موضوع محسوم ومنتهي بالنسبة لكوردستان , لا يمكن النقاش فيه الا على سبيل اقناع الجانب العربي لا للتفاوض عليه . لذلك فالتفاوض مع بغداد يجب ان يكون تحت سقوف زمنية لكل مراحلها ونقاطها يحددها الاقليم وليس غيره .
– اذا ما اصرت بغداد على مناقشة المناطق المستقطعة من كوردستان فيمكن تشكيل لجان موازية تتناقش هذا الموضوع بمعزل عن المباحثات حول الاستقلال كي لا ينحرف مسار التفاوض الرئيس الى اتجاهات اخرى غير منتجة .
– ان الاراء التي بدا بعض الساسة الكورد يصرحون بها في تاجيل عملية الاستفتاء الشعبي حول الاستقلال ورهن اجراءه بفشل المفاوضات مع بغداد هو توجه غير صحيح , فاجراءه قبل بدء الحوار مع بغداد بعطي قوة تفاوضية اكبر للجانب الكوردي .
– في حال اظهار بغداد موافقتها المبدئية حول موضوع الاستقلال بحد ذاته (بمعزل عن التفاصيل) فبالامكان حينها اعلان الاستقلال لاسيما وهو يستند لنتيجة الاستفتاء الشعبي الكوردي (الذي قلنا انه يجب اجراءه قبل الذهاب الى بغداد) , ولا ضير من الاستمرار في التفاوض مع المركز حول المناطق المستقطعة ( اذا تعذر التوصل الى نتائج فيها الى لذلك الوقت ) , فحينها ستكون كوردستان في حل من بنود الدستور العراقي ويحال الموضوع الى المحاكم الدولية للبت فيه وهي منضوية تحت سلطة كوردستان .
تشير مجريات الاحداث الى اننا امام الفصول النهائية لرسم الخريطة السياسية الجديدة في المنطقة , يحاول كل طرف فيها الحصول على اكثر مكاسب ممكنة , ويعتبر الكورد جزءا مهما من هذه الاطراف فيما لو اجاد ساستهم استغلال التطورات واقتناص الفرصة المناسبة لتوظيفها . نعم..التروي مطلوب والحذر مرغوب لكي لا تعاد تجربة جمهورية مهاباد التي اجهضت لسوء التقدير وسوء استغلال الظروف , لكن يجب ان لا يتحول الحذر هذا الى ظاهرة سلبية تؤدي الى ضياع الفرص , فالسياسة تحتاج الى الجراءة احيانا وتكون هي الطريقة الافضل للحصول على مكاسب معينة بعد دراسة السلبيات والايجابيات بشكل دقيق .