لعلّ ما هو اصعب او ما يوازي قمع المتظاهرين في محافظة السليمانية والأقضية والبلدات التابعة لها بوسائلِ عنفٍ واسلحةٍ مخصصّة لمقاتلة داعش , بالإضافةٍ الى اقتحام وغلق وسائل إعلامٍ كردية واعتقال وخطف صحفيين وبرلمانيين , فهو ما صرحت به حكومة الأقليم بأنّ ما يحدث من اضطرابات واحتجاجات فمؤداه وجود مؤامرة خارجية على سيادة الأقليم وكيانه .! , وهذا هو التخبّط المسرف الذي يجعل ويحمل في فحواه أنّ عشرات الآلاف من المتظاهرين وكأنهم جميعاً عملاء ومتآمرين وأدوات لتنفيذ المؤامرة المزعومة .!
ما جرى خلال الأيام الستة الماضية من حرق مقرات كافة الأحزاب ” برغم أنّ ذلك مرفوض ” , لكنه يدلّ أنّ حركة الأحتجاجات وما صاحبها فهي لا تتبع جهة او حزب سياسي محدد , وانما تعبير تلقائي برفض النظام السياسي السائد في الأقليم وبلوغ حالة التذمّر من سياسته الأقتصادية والسياسية وانتشار الفساد واحتكار السلطة .
وبالعودة الى مسألة حرق المباني و المقرات الحزبية , انما ينبغي الألتفات أنّ المواطن حين يجري حرمانه من مصدر عيشه او رزقه او عدم تسديد راتبه لشهورٍ متكررة او حتى تسليمه جزءاً قليلاً منه , وبالتالي افتقاده القدره لتأمين متطلبات عائلته الغذائية والطبية والأجتماعية , فهذا المواطن يمرّ بحالةٍ سيكولوجية يصعب السيطرة عليها ويغدو اسيراً لردود افعالٍ عفوية وتتملّكه روح الأنتقام وفقدان الأتزان , وهذه الحالة الجمعية التي تجتاح مئات الآلاف من سكّان المدن والقرى في الأقليم , ومن مختلف الشرائح الأجتماعية الكردستانية , فلها ما يبررها او يسوغها علمياً لاسيّما أنّ الجمهور الكردي اضحى على دراية كاملة بأنّ اموالاً طائلة تدخل الى خزينة الأقليم او قيادة الأقليم جرّاء كميات النفط المهرّب بنحوٍ يوميّ , وهذا ما امسى مفضوحاً حتى في وسائل الإعلام الكردستانية . ثُمّ بجانب ذلك تسددّ قوات أمن الأقليم الرصاص على صدور المحتجّين وتقتل من تقتل وتجرح اعداداً بالجملةِ وليس بالمفرد .!
وما يغيض الأخوة الكرد اكثر من سواه , هو رؤيتهم بأنّ رواتب ” الأسايش – الأمن ” وقوات البشمركة , و< الباراستن – وكالة حماية وأمن كردستان > والتي هي في الواقع جهاز خاص لحماية الرئاسة ويتبع لقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني , فتلك الرواتب مؤمّنة وبأنتظام .!
والى ذلك , وبأفتراض وجود ضائقة ماليّة في الأقليم , وبأفتراض عدم وجود ارتال من الشاحنات التي تنقل النفط المهرّب والتي يشاهدوها الكثيرون من مواطني الأقليم والمقيمين فيه متّجهةً الى تركيا او ايران , فعلامَ لا تطلب حكومة السيد نيجرفان البرزاني قرضاً مالياً من فرنسا او المانيا اللتان توجّه لهم الدعوات وتعلن عن دعمها لهم .! بل قبل ذلك لماذا لا يقترضون من اسرائيل ” الحليف الستراتيجي ” قرضاً يمكّنهم من تسديد رواتب موظفي الأقليم .! ولعلّ اسرائيل لا تطلب نسبة فائدة عالية على مثل ذلك .! , قد يغدو هذا التساؤلُ محيّراً الى حدٍّ ما , او أنّ وزارة ماليّة الأقليم لا تجد ضرورةً قصوى في ذلك طالما أنّ عائدات النفط تغطّي المتطلبات الرئاسية والحزبية في ظلّ الوضع المعلّق بين بغداد واربيل .!
هنالك ملحوظة لابدّ لها لتضحى ملحوظة , فهل أنّ حالة الضيق المالي التي تعانيها ميزانية الأقليم تتناسب وتتواءم مع التعنّت الذي تبديه قيادة الأقليم في الأستجابة لشروط الحكومة العراقية , ومما يدفعها للتضحية بقوت الشعب الكردي مقابل الوقوف بالضد من الحكومة المركزية , مهما كانت الجهات او الدول المحرّضة على ذ ذلك .!
إنّ ايّةَ قراءةٍ محايدة ومتجردة لمجريات ومداخلات الوضع الراهن – الساخن في الأقليم , فلابدّ لها من التوصّل الى نتيجةٍ واحدة , بأنّ حكومة كردستان هي التي تدفع بالجمهور الكردي لينطلق في حركة الأحتجاجات والتظاهرات وحتى في الأندفاع لإشعال الحرائق غير المقبولة .
ومن جانبٍ آخر , فكانت معظم انظار الرأي العام العراقي وخصوصاً طبقة الأنتلجنسيا وبتفرعاتها الثقافية الأعلامية والسياسية وحتى العسكرية ” اذا ما كان لها من تفرعات ! ” , فكانت تتملّكها رؤى واستنتاجاتٍ وافكارٍ موضوعية بأنّ السيد العبادي قد يستثمر هذا الوضع المضطرب والملتهب في الأقليم ويزجّ بكل صنوف القوات العراقية والحشد الشعبي للدخول الى اربيل ومعاقل البيشمركة في كل كردستان وينهي ويحسم الوضع المتأزم في كردستان , مع تأمينٍ فوري لدفع رواتب موظفي وعمال الأقليم , ولا بأس لو كان ذلك بتنسيقٍ مع اطرافٍ كرديةٍ معارضة للتوجهات البرزانية .
لكنّ مثل هذه التوقعات غير الخاضعة للأعتبارات العاطفية , لابدّ أنْ تأخذ بنظر الأعتبار المعارضة المحتملة من الجانب الأمريكي لأيّ تحرّكٍ عسكري عراقي , وهذا ما لاتستطيع حكومة العبادي البوح به اعلامياً الى الجمهور العراقي اذا ما هو حاصل بالفعل , وهو أمرٌ فيه مسحة من الأحراج والتي تتطلب المكاشفة والمصارحة مع الشعب , مهما كان .!