18 ديسمبر، 2024 10:47 م

استقالة فلين والمكارثية المزدوجة

استقالة فلين والمكارثية المزدوجة

المكارثية (McCarthyism) لمن لا يعرفها هي اصطلاح أطلق في الولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات القرن الماضي على الاتهامات التي وجهها عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف مكارثي لعدد من الاشخاص بأنهم شيوعيون ويعملون لصالح الاتحاد السوفيتي، بدأ مكارثي حملته باتهام 205 شخص يعملون في الخارجية الأمريكية ثم توسعت اتهاماته لتشمل جميع فئات المجتمع الأمريكي فكان نتيجة ذلك أن زج بالمئات من الاشخاص في السجون وطرد آلاف الاشخاص من وظائفهم فضلاً عن الاتهام والتنكيل بآخرين ووضعهم في قائمة سوداء شملت شخصيات علمية كأينشتاين مثلاً وشخصيات أدبية وفنية وغيرها.

تبين لاحقاً إن الأدلة التي تم الاستناد عليها لم تكن ناهضة وتم إيقاف الاجراءات المكارثية خصوصاً مع موت مكارثي نفسه مبكراً.

حالياً يتم تعريف المكارثية بأنها :”اتهام بالتخريب أو الخيانة دون النظر السليم في الأدلة”.

يبدو أن المكارثية بشكلها الثاني الموسع أي الاتهام بالتخريب أو الخيانة دون النظر السليم في الأدلة، لم تنتهي يوماً في المجتمع الأمريكي وغيره، ومن امثلتها في المجتمع الأمريكي حالياً مكارثية ترامب تجاه المسلمين والسود.

كما إن ترامب تصرف بمكارثية تجاه المسلمين والسود فقد تصرف خصومه معه بمكارثية ولكن ليس وفق التعريف الثاني الموسع بل وفق التعريف الأول والأصلي للمكارثية أي الاتهام بالعمل لصالح الاتحاد السوفيتي-روسيا حالياً- وقد بدأت هذه المكارثية مبكراً في السابق الانتخابي وبانت أكثر في المناظرات على لسان المنافسة الديمقراطية لترامب هيلاري كلنتون، ثم تلتها اتهامات أوسع بتزوير الانتخابات أو المساعدة في ذلك من قبل روسيا لصالح ترامب طبعاً!

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد رغم إنه اكبر تهمة بل استمر وتعداه إلى فريق ترامب نفسه وتجاوز الاتهام إلى التجريم، فكان مايكل فلين مستشار الأمن القومي لدى ترامب وأحد اكثر المتحمسين له والمنادي بسياسة متشددة مع إيران ناعمة مع روسيا أول ضحاياها، حيث أتهم بتجاوز القانون الأمريكي لاتصاله بالسفير الروسي سيرغي كيسلياك عدة مرات قبل توليه منصبه رسمياً والقانون الأمريكي يحظر على المواطنين العاديين تولي مهام دبلوماسية.

استقال فلين لاحقاً من منصبهمما مثل لدى البعض أول جولة انتصار للإعلاميين أو للمحافظين الجدد في المواجهة مع ترامب بعد جولة انتصار القضاء.

هناك من يعد الأمر مجرد تتبع صحفي وهناك من يعده جهداً مخططاً له يحسب للمحافظين الجدد للحفاظ على استقلالية الاستخبارات والأمن عن سطوة ترامب، وهو في كلتا الحالتين إحياء وتوظيف للمكارثية قد يطال آخرين، والمكارثية هنا تعني بدقة رهاب روسيا -أو بوتين بالدقة- أو التلويح بذلك لغايات أخرى.
ويكيليكس وصف ما جرى مع فلين بأنه حملة يشارك فيها جواسيس أمريكيين وديموقراطيين إضافة إلى وسائل الإعلام!
رغم إن روسيا رسمياً قالت إن استقالة فلين شأن داخلي أمريكي إلا إن الهدف من فرض الاستقالة لم يكن خافياً على المسؤولين الروس، فقد كتب مثلاً عضو البرلمان الروسي  ألكسي بوشكوف في تغريدة على تويتر بأنه “فلين غادر ليس بسبب زلته، بل بسبب الحملة الشرسة التي اتضحت.. استهداف فلين ما هو إلا العمل الأول، والآن الهدف هو ترامب نفسه” واصفاً الحملة تلك بأنها حملة “صيد الساحرات”!

فيما قال قسطنطين كوزاشيف، رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشيوخ الروسي: “إن قبول استقالة فلين بسبب اتصالاته مع السفير الروسي يعكس ذعراً مجتمعياً يسود المجتمع الأمريكي وظاهرة عدائية متأصلة ضد روسيا”.

وهذه المرة لم تبقى المكارثية حبيسة الداخل الأمريكي بل عبرت الأطلسي لتلقي بظلالها على العلاقات مع حلف الناتو والاتحاد الأوربي وانعكست بتصريحات واضحة التأزم من قبل قادة في الحلف ومن قبل قيادات أوربية مهمة-ألمانية في الغالب.

فهل ستتوسع المكارثية هذه لتطيح بترامب أو خططه لاحقاً أو تحد منها، خصوصاً وإنه لا راعي معلن لها لتتأثر بموته؟

أم سيتم تدارك الأمر من قبل ترامب فيميل نحو المحافظين-عد البعض قبوله السريع لاستقالة فلين خضوع للمحافظين الجدد فعلاً وتخلي عن شخص وقف معه بقوة- ويتجه نحو الناتو و أوربا ويكون كل ما سبق مجرد زوبعة؟
المؤشرات الأولية ومنها التخوف الأوربي الواضح وطبيعة شخصية ترامب العنيدة تشير إلى الاستمرار في الغالب ولكن يصعب التكهن عما سينتج عن ذلك سواء على الداخل الأمريكي أم على العلاقة مع الناتو و أوربا.