كتب البروفيسور جيمس مونتغمري – الاكاديمي المعاصر في جامعة كيمبرج في مقدمة كتابه المعنون : (الجاحظ : في الاشادة بمؤلفاته) ، الصادر في ادنبرة عام2013 والذي جاء بـ 584 صفحة ـ يقول : كم من الكتب تطبع كل عام في وقتنا الحاضر؟ بما فيها الورقية والرقمية في النت والمواقع الشخصية والعامة وفي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة ، فعالمنا يعج بالكلمات. بعضهم يقول:هذا الفعل ينتج معلومات لا تطاق ويسبب ازعاجا وبعضهم الاخر يقول : ان الناس غيروا طرائق تفكيرهم.
وقديما بعد تجاوز منتصف القرن الثالث الهجري بقليل حدث شي شبيه بهذا في بغداد. ( يقصد الحركة الفكرية والمعرفية التي أحدثها المأمون و التي لم يشهد لها مثيل في العالمين العربي و الاسلامي الى يومنا ) . هذا الباحث لم يقل ذلك مجاملة او انه كان مولعا بالكلام الانشائي ولغة الدعاية بل خاض غمار تجربة امتدت على مدى عشرين عاما مع كتابات الجاحظ حيث الثقافة والمعرفة التي انتجت في العصر العباسي . كنا اناسا وكنا بشرا يوم عرفنا ان العلم والمعرفة هما اللذان يبنيان الانسان ولكن مع الاسف كان ابن حنبل لهذه الحركة بالمرصاد فحمل معول الهدم (كما يحمل اسلافه المعاول اليوم لتهشيم حضارة العراق) بمساعدة صاحب المال والنفوذ السياسي الطاغية الجاهل المتوكل ليدخل العالم العربي و الاسلامي في دوامة الاستنساخ والتكرار والشرح لما تم انتاجه في تلك الحقبة فلم يضف جديدا الى يومنا هذا سوى الترقيع والتمجيد بما انتجته تلك الحقبة ، كما قال المستشرق نيكلسون.
لماذا استشهد بأقوال المستشرقين؟ هل اريد ان احصل على موثوقية اكبر ، لانهم المتحضرون والسابقون في العلوم والمعارف ؟ هل يدفعني الغرور الى التظاهر بمقدرتي بوصفي قارئا ومتابعا لما ينتج الغرب وبذلك استحق ان اوصف باني مثقف؟ أم اني افضل سياسة التبعية للآخر بعد شعوري بالعجز حين وجدت نفسي غير قادر على المنافسة ؟ لا ، ليس كل ذلك من يدفعني. وانما الذي يجعلني اميل الى استحضار اقوالهم والاستشهاد بهم لاني وجدت جيلا من المستشرقين الموضوعيين الذين قدروا حق التراث العربي الاسلامي ووضعوه بالمنزلة التي يستحقها بعد ان افنوا حياتهم كلها في البحث وخدمة ذلك التراث ، في حين ينام امراء الأعراب متنعمين بثروتهم النفطية على وسائد من حرير و ارائك من ذهب تاركين الخلق للخالق. وجدت جيلا كان من حقه ان يعيش مترفا متنعما بماله ووقته – مثل الأمراء الأعراب – ويترك ذلك التراث الضخم جانبا ولاسيما انه قد كتب بلغة اقل ما تستحق من الوصف انها صعبة المراس. من هذا الجيل المستشرق براون الذي فضل ان يترك دراسة الطب ويرفض النزول عند رغبة اسرته العريقة الغنية ليكمل دراسته في اللغات الشرقية الاسلامية الفارسية والعربية والتركية. ومنه ايضا نيكلسون ابن الاستاذ الجامعي العالم في جامعة كيمبرج والذي تقاذفت به اروقة كيمبرج باقسامها العلمية و الانسانية في كل حدب و صوب الى ان استقر به المطاف الى ركن هادئ وادع وجد فيه ضالته حيث الاستقرار الروحي والطمأنينة والمعرفة الحقيقية . فدرس لغات العالم الاسلامي الثلاث (العربية والفارسية والتركية).
ثم جاء تلميذه اربري بعده ليمر بالمصير نفسه في تلك الجامعة العريقة فامضى سنتين متنقلا بين اقسام الاداب الكلاسيكية(اللاتينية واليونانية) واللاهوت ، فلم يجد فيها ضالته. ثم اشار عليه احد اساتذته الملحدين ان يذهب الى نيكلسون ربما يجد عنده حلا. جاء اربري الى نيكلسون بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها وخرجت بريطانيا منتصرة في الحرب –كما يروي اربري- لكن الشباب الذي رجع من الحرب وجد دمارا وخرابا يحيط به من كل جانب فضلا عن البطالة . يقول اربري : عشت على افكار العقلانيين من المفكرين حتى وصلت الى نتيجة ان العقل هو المقياس الاول لكل القضايا الوجودية ففقدت ايماني القديم بالمسيحية وعشت شابا متذمرا يبحث عن الحقيقة الى ان تواجهت يوما مع نيكلسون و اقنعني بالانضمام الى قسم الدراسات الشرقية . وقلت في نفسي انني سأستفيد من تجاربي مع العقل والمناهج التجريبية الحديثة في تفنيد مزاعم الاسلام كما فندت تعاليم ومبادئ المسيحية. فقبلت العرض بهذا الدافع وبدأت مشواري في القراءة والبحث وغرقت في خضم تراث اللغات الثلاث. وبعدما قضيت شطرا من حياتي في البحث كانت المفارقة الكبيرة بانتظاري حيث لم اتوقع يوما ان الطريق الذي اتخذته في سبيل التخلص من الدين قادني من حيث لا اشعر الى الايمان بالله.هذا تراثنا يا أمة الجرب اذا ما قرئ بعناية وتدبر وعقل واع فهو يهدي المفكرين والعلماء الى طريق النور والخير والسلام والاستقرار النفسي . واذا ما اسيئ فهمه حيث تتلقاه الادمغة المتحجرة والنفوس الحاقدة والعيون التي اعمتها الشهوات والمادة فهو يهدي الى الضلالة و الالحاد ويأخذ الشباب الى طريق الارهاب والانتحار. وتبا لثقافة الأعراب..