23 ديسمبر، 2024 2:35 ص

استفتاء كردستان. . والمؤامرة!

استفتاء كردستان. . والمؤامرة!

أجرى إقليم كردستان يوم أمس (25 أيلول 2017) الاستفتاء على الاستقلال (أو الانفصال من العراق) كما عزم عليه السيد مسعود البرازاني على الرغم من كل المعارضة الوطنية والاقليمية والدولية، فحقق مبتغاه ووضع بصمته في التاريخ. فحتى بعض الأحزاب والقوى السياسية الكردية عارضت أجراءه في هذا الوقت لأن الظروف الدولية والمحلية تقف بالضد منه ولم توافق على تنفيذه بهذه الطريقة التي لم يحصل عليها اجماع كردي، أو عراقي، وبالتالي سوف لن يحصل هذا الاستفتاء على الاعتراف الرسمي الدولي على نتائجه، وبهذا سيصبح عبثياً. ولكن كما أشرت في مقالة سابقة في (كتابات) قبل اسبوعين بعنوان (استفتاء كردستان.. أمر لا بد منه!) بأن موضوع الاستفتاء سيُعد بالنسبة لكاكا مسعود إرثه التاريخي، فهو يختص بوازعه الذاتي وسيحسب على أنه إنجازه التاريخي الشخصي. وقد حقق ما أراد. وقد يجادل البعض بأن لهذا الفعل مردودات عكسية على الإقليم وعلى المواطنين الأكراد هنالك قد لا تحمد عقباها، وقد يكون الإقليم في عزلة دولية وسيصبح – فيما لو أصرت القيادة الكردية على تحقيق نتائجه على أرض الواقع – جزيرة معزولة ومحاصرة ومحاطة بثلاث دول إقليمية كبرى تحاول إجهاض ما تحقق. وقادم الأيام هو الذي سينبئنا بعواقبه.
كثيراً ما يشار الى مثل هذه المفاجئات السياسية أو القرارات الصادمة والخارجة عن المألوف والتي لها تأثيرات سلبية على استقرار ووحدة الأوطان والأمم بأنها من صنيعة الدول الكبرى التي تتآمر على الدول الأخرى فتحاول إضعافها أو تفتيها. فهنالك دائما تفسير ضمن منظور “فرضية المؤامرة” لكل الأحداث الدولية بأنها من تبدير وتخطيط الدول المعادية (وخاصة الولايات المتحدة، أو بريطانيا، أو الدول الاستعمارية الغربية، أو كما في منطقتنا العربية دولة اسرائيل). وأنا هنا أطلق عليها فرضية المؤامرة، وليست نظرية، لأنه لا يمكن إثبات صحتها، وفي الوقت نفسه لا يمكن نقضها. ولكن الأسباب يمكن أن تفسر بكلا الاتجاهين، بهذا التوجه التآمري أو في الجانب الآخر على نقيضه تماماً. فالإثبات يتطلب بأن يكون الذي يدعي تفسير المؤامرة على دراية فعلية وتامة بما يحاك في الخفاء وفي “الغرف المظلمة” أو “الدهاليز السرية”.
إن ما يقال بأن قضية الاستفتاء بما حظى به على التأييد القوي والعلني من دولة اسرائيل يمكن أن يفسر بأن هنالك خطة مرتبة بين القيادة الكردية التي دعت الى إجراءه وبين القيادة الإسرائيلية ومخابراتها. وإلا كيف نفسر هذا التأيد الصارخ لإجراء الاستفتاء حتى على لسان رئيس وزارائها، نتنياهو. وبما أن اسرائيل تُعد العدو التاريخي للعرب ولشعوب المنطقة، فإن القيادة الكردية أبدت قلقها لهذه السمعة غير المحمودة التي قد تشوب الإستفتاء وتضع علامة استفهام كبيرة على نتائجه. فهذا الدعم العلني من قبل اسرائيل هو في الواقع غير محبذ به من قبل القيادة الكردية لأنه سيطمغ الاستفتاء بوصمة عار لا تحمد عقباها وسيشكك في دوافعه ويعرقل الآفاق المرتجى من تحقيقها. فالإستفتاء بالنسبة للذين يميلون لتفسير فرضية المؤامرة سوف يضعونه في خانة أحدى المؤامرات التي خطط لها الاخطبوط الصهيوني العالمي.
ولكن مثل هذه التفسيرات تعطي الهاجس – إن شئنا أو أبينا – أن لمثل هذه الدوائر التآمرية الخفية قدرات واسعة ورهيبة تتحكم في مقدرات الدول، وتعطي الإنطباع بأن الشعوب وقيادتها لا حول لهم ولا قوة في السيطرة على مقدراتهم والتحكم في مصائرهم. ولكن يمكنني القول بأن العكس هو الصحيح. فالمتآمرون هو الضعفاء حقاً، كما أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، في وصف القرآن. وبسرد سريع لمجريات الأحداث في حياتنا القصيرة التي نعيشها شاهدنا بأن الخطط الاستعمارية التأمرية لم تستطيع من تحقيق أهدافها في مثلاً وقف التحرك الجماهيري للثورة في ايران وسقوط نظام الشاهنشاه، أو في إنهاء الحرب العراقية-الإيرانية كما أرادوا لها من نتائج، أو في القضاء على حزب الله، أو في رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد أو في القضاء على النظام السوري لبشار الأسد…والامثلة هنا وهنالك عديدة في تاريخنا المعاصر في هذه المنطقة التي نعيش فيها، فكيف على مسرح التاريخ في العالم أجمع!
أن الحكمة تتطلب منا بأن لا نساعد الكيان السياسي الصهيوني بتحقيق مبتغاه، وأن لا نعينه على أن يجني نتائج لم تكن في حسبانه. فقد ساندت بالفعل دولة اسرائيل الاستفتاء بصورة رسمية وإعلامية على الرغم من معارضة المجتمع الدولي بأجمعه له، وهي بهذا قد فازت بحملة العلاقات العامة بين جماهير الأكراد. فسوف تبقى في ذاكرة الأكراد بأن اسرائيل هي الوحيدة في العالم التي أيدت هذا التطلع القومي لهم واعترفت بحق تقرير المصير للأمة الكردية – وفي عقلهم الجمعي الباطني فإنها تستحق جزيل الثناء. وهذا نصر سياسي تاريخي لإسرائيل لم تصرف عليه الأموال الطائلة ولم يكلفها شيئاً على الإطلاق، مجرد تصريح هنا وهناك، ومقالات صحفية ودعم إعلامي بحت. علينا الآن أن نبذل الجهود الكبيرة لمخاطبة الأكراد بأنهم أبناء هذا الوطن الذي يسعهم ولا يمكنهم أن يحققوا أحلامهم ويبنوا مستقبلهم بدون الشراكة معنا يداً بيد في بناء وطننا الجامع لكل قومياته وأطيافه الإجتماعية. فالأعداء يحطينهم من كل جانب، ولا أعضاد لهم ولا أعوان إلا في هذا العراق الشامل للجميع رغم اختلافات ابنائه وتعارض مصالحهم، فيمكننا من خلال الحوار البناء والجدي أن نتوافق على مشتركات جامعة بيننا وأن نبني مستقبلنا معاً. هذا العقد الإجتماعي الجديد (عهد ما بعد الاستفتاء) هو أمر ممكن ، فلسنا بدعاً من الأمم التي مرت بمحن وحروب أهلية ولكنها توافقت على صيغ للعيش المشترك، حتى ضمن كيانات مستقلة أو شبه مستقلة، ولكن ضمن بوتقة نظام سياسي دولي جامع.