18 ديسمبر، 2024 9:48 م

استفتاء كردستان.. أمر لا بد منه!

استفتاء كردستان.. أمر لا بد منه!

في البداية لا بد لي من التلميح بأن موضوع الاستفتاء على الاستقلال هو أمر قد لا يتعلق بالاستقلال الفعلي، ولكن يمكن أن يكون الشرارة أو البداية للتحرك نحوه. فمشروع الاستقلال هو أمر دولي بقدر ما هو شأن وطني داخلي. فتكوين أي دولة ضمن النظام الدولي يتطلب منها أن تحظى بالقبول أو الاعتراف الدولي. ومسألة نشوء الدولة الكردية واستقلال الإقليم الكردي عن العراق سوف يكون له تأثير على الدول الإقليمية المجاورة التي لها أقليات كردية كبيرة في بلدانها. فموضوع الاستقلال هو أمر يتعلق بقبول واعتراف الدول الإقليمية وبالأخص كل من ايران وتركيا. وهذا الموضوع الحساس سوف لا تتدخل فيه المنظمات الدولية لأنه يخل باستقرار الشرق الأوسط بأكمله. فمسألة استقلال كردستان-العراق يجب أن تحظى بإقرار الدول الإقليمية قبل كل شيء لأنه يتعلق بكردستان-ايران وكردستان-تركيا وكردستان-سوريا. فليس هنالك من أي دولة عظمى لديها الوازع أو الإمكانيات أو المصالح الحيوية لتخوض حرباً من أجل استقلال دولة وليدة للأكراد الآن أو في المستقبل المنظور على أقل تقدير. فموضوع الاستقلال أمر قد لا يتعلق بالعراق وحده بقدر ما يتعلق بالدول المجاورة، فهو شأن دولي بحت.
موضوع الاستفتاء في كردستان، المزمع إجراءه في 25 أيلول، أمر داخلي ليس علينا معارضته من ناحية دستورية أو إنسانية. فهو حق طبيعي يقره النظام والعرف الدولي في العصر الحديث. ومعارضته من قبل جميع الأحزاب والقوى السياسية غير الكردية سوف يسبب فجوة نفسية في العقل الجمعي الكردي ستكون كامنة في الأعماق لا يمكن إزالتها لأجيال، وسيهدم كل مشاعر الشراكة المجتمعية التي ترعرعت بين القوى الكردية وغيرها العربية والسنية والشيعية وسوف يقيم جداراً (حديدياً) في النفوس يسبب عزلة الأكراد عن بقية القوى السياسية العراقية، والأخطر منه أن يشكل هذا الجدار حاجزاً مجتمعياً مانعاً بين المكونات بما لا يحمد عقباه. وهذا سوف يسبب خراباً مجتمعياً لا يمكن إصلاحه وخاصة بين الأكراد والشيعة بعد كل أواصر الأخوة والتعاون والشراكة التي قامت عبر أجيال من الكفاح والنضال في العصر الحديث. فلماذا نكون نحن الأولى أو المتزعمين الرافعين لراية “الرفض” من أجراء الاستفتاء في أمر داخلي مجتمعي يخص الأكراد، حتى وإن كانت هنالك مخالفات قانونية أو شكلية في تطبيق الإجراءات الإدارية أو التنظيمية. فلا يمكن التفريط بكل المشتركات التي تربط القوى السياسية الكردية مع القوى السياسية الشيعية التي تعاضدت في النضال من اجل حقوق الإنسان وامتزجت دمائهم في الكفاح العسكري ضد الدكتاتورية وتعاونت في العمل المشترك من أجل إقامة نظام يحفظ حقوق جميع فئات المجتمع في دولة ديمقراطية موحدة. الذي يبدو من التصريحات العلنية للقوى السياسية العربية، والشيعية منها خاصة، بأنهم يعارضون مسألة الاستفتاء بصورة قطعية لأنها سوف تقود الى تفتت الوطن وتؤدي الى عدم الاستقرار السياسي والأمني الوطني وتسبب أزمة اقليمية كبرى لا يمكن تحسب عواقبها. ولكن هذا لا يستدعي الوقوف ضد مسألة الاستفتاء على مستقبل كردستان.
على المستوى السياسي، جميع القوى الكردية والنخب السياسية والثقافية في كردستان جاهدت لما يقارب قرن من الزمان من أجل إقامة وطن قومي للأكراد، ولكن لم تفلح كل محاولاتهم السياسية في إقامة هذا الحلم، وهذا ما أشرنا اليه بأنه أمر دولي وغير خاضع للظروف الداخلية في العراق. يمكن الادعاء بأن هنالك إجماع بين النخب الكردية على إجراء الاستفتاء، أو قد تكون هنالك أغلبية أو حتى أقلية مؤثرة في القرار السياسي في كردستان، ولكن إجراء الاستفتاء هو الذي يعطينا الصورة الواضحة إذا كانت هنالك أغلبية جماهيرية تؤيد هذه الاطروحة أو ترفضها. من قراءتي (وإن كانت محدودة الجانب) أتوقع أن يعارض الجيل الجديد الذي ترعرع ما بعد عام 1992 بعدم تأييد هذا الطرح في الوقت الحاضر، فليس لدى مثل هذا الجيل ذلك الاندفاع والحماس والتجربة التاريخية مثل ما عند آبائه. فهو جيل القرن الواحد والعشرين الذي له توجهات وآمال وتوقعات قد تتجاوز الطرح القومي، فهو أممي الطابع عاش تجربة الحرية والديمقراطية النسبية وليس له تجربة القهر والاضطهاد والقمع العسكري مثل ما واجهته الأجيال الذي سبقته.
ولكن بالنسبة للنخب السياسية الكردية فإن هذا الوقت الذي يتصف بضعف الوضع السياسي للدولة المركزية التي تأن من الأزمات الأمنية والاقتصادية إنما هو فرصتهم التاريخية، فإن لم يقوموا بهذا الاستفتاء فإن الحلم الكردي بتأسيس وطن قومي لهم سوف لن تقوم له قائمة بعد الآن. فالجيل القادم لن يقم بالمطالبة بإجراء هذا الاستفتاء لأن الحسابات الواقعية والظروف الموضوعية قد لا تتسنى له بعد الآن، وخاصة وإن النظام الدولي هو في اندفاعة نحو العولمة والاتحاد الاقتصادي والانصهار الثقافي وذوبان الهويات العرقية والقومية. فبالنسبة لغالبية هذه النخب الكردية التي بيدها الحل والعقد في إقليم كردستان إن الوقت يسير بغير صالحهم، وإنه من الأفضل أن يسعوا لتحقيق حلمهم القومي، ولو بصورة معنوية، إلا وهو إجراء الاستفتاء. فمن التصريحات التي يعلن عنها قادة الأكراد بأن الاستفتاء يمكن أن يكون ورقة سياسية رابحة يمكن الاستفادة منها في الحصول على حقوقهم وضمان مصالح الإقليم في مفاوضاتهم مع الحكومة المركزية والدول الإقليمية والمنظمات الدولية.
يمكنني تفهم الحالة النفسية التي يمر بها رئيس الإقليم السيد مسعود البرزاني في إصراره على إجراء الاستفتاء في الوقت الراهن، على الرغم من المعارضة الحازمة من قبل شركائه السياسيين في الدولة العراقية، أو على الرغم من عدم الحصول على تأييد جميع الدول في المسرح العالمي وحتى من أولئك الذين يوصفون بأن لهم مواقف تاريخية في دعم القضية الكردية. فالسيد مسعود وهو في السبعين من عمره جاهد في جميع مراحل حياته من أجل هذه القضية، وهو سليل الملا مصطفى ومن العائلة التي قضت أكثر عمرها من أجل هذه القضية، وقدمت سخية في سبيلها جل أبنائها من خلال هذا النضال السياسي والعسكري المتواصل لأكثر من ثمانين عاماً. فإذا كان إرث والده هو أنه يُعد “أب الحركة الكردية” فإن السيد مسعود (أتوقع وهذا هو مجرد افتراض تخميني) يريد أن يكون الاستفتاء إرثه التاريخي. فقد تكون في قرارة نفسه بأنه استطاع في آخر سنوات عمره تحقيق ما جاهد في سبيله المرحوم والده وناضل من أجل هذا المشروع جميع أفراد عائلته وفقدت عشيرته العشرات من أبنائها واستشهد الآلاف من الكرد في درب الدموع الطويل هذا. يمكن أن تكون في قرارة نفسه بأن سيشعر بأنه حقق للأكراد وله شخصيا ولعائلته هذا الإنجاز المعنوي الكبير.
يمكن أن يكون استفتاء الاستقلال الكردي فاتحة طريق خيرة لإعادة قراءة العقد الاجتماعي بين مكونات الشعب العراقي. فالنظام “الفيدرالي” بالطريقة التي سُنت في الدستور لم تقطف ثمارها في وضع لبنات الدولة العصرية الجديدة. قد يكون علينا مثلاً من ابتداع نظاماً مغايراً قد يكون نظاماً “كونفدرالياً” مثلاً يلبي طموحات الجميع. لدينا تجربة انفصال بريطانيا العظمى عن الاتحاد الأوربي، وهم الآن يتفاوضون على صيغة جديدة تحفظ مصالح الجميع، ولكن كل هذا لم يكن يحصل إلا عندما صوتت أغلبية المجتمع البريطاني على مشروع انفصال المملكة المتحدة من الاتحاد. يمكننا أن نخطو على نفس النهج بعد إجراء الاستفتاء في كردستان بالتفاوض على كيفية إقامة علاقة الاندماج الكردي ضمن الدولة العراقية، وهنا تكمن شطارتنا. فأنا أتوقع أن تخطوا الدول الإقليمية في تقديم عروضاً للإقليم – قد تكون مغرية- بالاندماج الكونفدرالي للأكراد ضمن أنظمتها السياسية. وهذا ليس ببعيد!