من يقرأ كتاب بيتر كالبريث Peter W. Galbraith الذي نشر في 2006 للسفير الأمريكي السابق في كرواتيا في عهد الرئيس كلنتون والعضو في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس للفترة من 1979 – 1993, والإطلاع على زياراته المتكررة لشمال العراق وإبداء النصح والإرشاد إلى القادة الكورد , يدرك وعلى الفور أن القادة الكورد الداعين إلى الانفصال كانوا يمنحون آذانهم إلى مايهمس به كالبريث فيتبعون خطواته العملية Course of action التي كان يرسمها لهم على مدى عشرين سنة مضت , وسيدرك بعد ذلك حجم التآمر على وحدة العراق .
كان الكورد يصرحون أن العراق موحدا فقط على الخارطة وليس على الأرض . هذا التصريح مأخوذ من الناصح كالبريث ومدون في كتابه : نهاية العراق The End of Iraq حيث يقول فيه : العراق في غمرة حرب أهلية دموية , والعراقيون ليسوا أمة موحدة على الأرض, بل مكونات من الناس بعقائد دينية وأهداف سياسية متنافرة .
وهذا الداعية لتفتيت العراق يخاطب أمريكا بقوله : للتسهيل إلى استقلال العراق والانسحاب منه , يتعين على أمريكا أن تدعم وتساعد ما يحدث حاليا ( ويقصد التنافر بين المكونات )وتقسيم العراق إلى ثلاث أقاليم أثنية مستقلة . انطلق هذا الرجل من السياسة التي اتبعتها أمريكا إبان الاحتلال , إذ لم تعط الأهمية إلى حماية البنى التحتية للبلاد عند تعرضها إلى النهب والسلب والتدمير , بل سمحت بذلك , وأنطلق أيضا مما فعله بريمر Premer بتسريح الجيش العراقي وتفتيت وحدة العراقيين .
إذن الأوضاع الجديدة التي تهيأت لكردستان العراق منذ قرار إنشاء منطقة حظر جوى Fly-zone بسبب احتلال الكويت لحماية الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب وتوالت من بعدها الأوضاع الجيدة بعد سقوط الدكتاتورية . فقد تمكن الأكراد بالاصطفاف في منظومة سياسية أتاحت لهم الكثير من مستلزمات الكاريزما السياسية .
فالديمقراطية الجديدة التي جاءت بها أمريكا إلى العراق مهدت لبناء شراكة من اجل فتح صفحة جديدة للسلام بين الكورد وحكومة بغداد المنتخبة من المكونات الأخرى للشعب العراقي. وهذا ما سهّل للكورد أن يبادروا إلى بناء منظومة عسكرية مدعومة من الغرب ومن الأسلحة التي غنمتها من ثكنات الجيش العراقي السابق, فبسطت بها سلطانهم على أراضي الإقليم الكوردي العراقي بما يحمي حقوقهم القومية.
وهذه بالطبع بداية جيدة لم يستطع أي كيان مشابه له في العالم أن يحققه في ظرف سنوات قليلة. ولكن الكورد لم يكتفوا بذلك , بل راحوا يفتشون عن مصادر الثروة العراقية المتمثلة بالنفط ليضعوا عوائده في جيوبهم وثمارها فوق موائدهم بلا إطار من الشرعية الدستورية أو القانونية , وتركوا للعراق الكدر والجلد على الألم فحسب.
ولم يكتفوا بذلك أيضا , فقد دعى قادتهم إلى مد يدهم نحو الغرب لكسب المعونة الاقتصادية والعسكرية وخاصة من ألمانيا وأمريكا اللذان لم يدخرا جهدا ووسعا في ذلك . فقد أرسلت المانيا الكثير من المساعدات العسكرية التي بيع الكثير منها في الأسواق المحلية , وأستحوذ المتنفذين في الإقليم العراقي على الكثير منها بالإضافة إلى واردات الإقليم من النفط طيلة أعوام .
وكما هو الحال في جوانب عديدة من الإقليم , فقد ظهرت ميزة تنافسية للكورد إزاء بغداد لتكون الباعث على جني المكتسبات لهم مستغلين بذلك الأوضاع السياسية والاقتصادية المتقلبة والفساد الإداري الذي بدد الثروات والحرب على الإرهاب وضعف الإدارة للبلاد. فلم تتبنى حكومة كردستان أي التزام مع الحكومة منذ السقوط , ولم تحافظ على أي آصرة للتقارب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي معها .
فسياسة الإقليم انعزالية , مبنية على التوسع ونزع الملكية من القرى العربية المجاورة باستغلال الظروف التي ذكرناها وأتباع سياسة القمع حتى وصلوا إلى مرحلة تهجير العرب من أراضيهم من أجل تغيير طبوغرافية الأرض . وهذا التوسع يمثل أحد أخطر الأمراض في السياسة الكردستانية التي تؤسس إلى غرس بذور لصراع ستمتد جذوره إلى سنين طويلة.
فالأكراد ولكثر حرمانهم والألم الذي تسببت به الحكومات السابقة , ولّد شهوة عارمة للهيمنة على ارض لا تمت بصلة بحكم الساسة الكورد ولا بهم أيضا فالكورد المتباكين ليل نهار على أنفسهم ليسوا سوى أقواما قطنت العراق منذ مئات السنين حالهم حال العرب الذين قطنوا العراق ,
وجبال العراق لم تلدهم أكرادا , ولم يخلق الله آدم للكورد ليستأثروا بالأرض ولا آدم للعرب ليستأثر المعدان بالأهواز فيقيموا دولتهم , ولا فضل للكورد على الجبال ولا على السهول والوديان التي آوتهم دهورا. أما الأرض بقد بناها العراق بماله وشعبه بجميع مكوناته. والله لم يدعو للتوسع على حساب الشعوب أو الانفصال منها , بل قال وهو الحق : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( الحجرات 13) صدق الله العظيم.
البعض من القادة الكورد ينددون , بل يحتقرون ما ذهبت إليه قياداتهم واتهموهم بتمزيق وحدة الشعب الكوردي من أجل أحلامهم الاوليغاركية Oligarchy الّتي يصفها أفلاطون بأن القرار السّياسيّ فيها يخضع لسيطرة طّبقة تشكّل جزءًا صغيرًا من سكّانها، فيجعلون كلّ مقدراتها وآليّات العمل فيها تسير بما يتناسب مع مصالحهم وأهدافهم، ويمكن القول بأنّ أنظمة هذه الدول تختصر في عائلات نافذة معدودة تتوارث النّفوذ والقوّة .
النمط السياسي الذي تبناه الكورد من دون أي نظرية ثورية معلنه , هو نمط شرير يخلق أعداء لهم في المنطقة , بينما يرى أقرانهم من العرب السنة أنهم متساوون في درجة النضال مع حكومة بغداد , بل هم مع سياسة تندد بالاشمتزاز من بغداد ودعوات الانفصال البغيض. أما من الناحية الواقعية , فالكورد لا يميلون إلى تفهّم الأسس الواقعية التي تمر بها بغداد , بل صبّوا اهتمامهم على الكسب غير المشروع والضغط النفسي عليها وإتباع سياسية الاستغلال والمساومة الصريحة التي نصحهم بها الناصح بالتقسيم بيتر كالبريث وبتشجيع من أمريكا وقوى غربية معادية للعراق والعرب .
في أحيان تتلكأ بغداد في تحقيق صفقات الأبتزاز السياسي مع الكورد بسبب الضائقة المالية وحربها على الإرهاب , نرى رقابهم تميل نحو يافطة الاستفتاء فيهددون بها وكأنه صك الغفران الذي سيتيح لهم الدخول إلى جنة عدن ليروا فيها صورة مسعود الدافنشية الألوان بالحجم الطبيعي معلقة على أشجار التين والزيتون كمؤسس ثاني للدولة الكوردية وأمامه البيشمركة وهم يلوّحون بمسدساتهم ومواسير بنادقهم وأعلام الإقليم السليب وطائرات الحلفاء تلقي فوق رؤوسهم بزهور النرجس الجبلية!
لم يتوحد الكورد من خلال هذه السياسة التي تتبعها إلى الآن العائلة البرزانية . فخلال السنوات الماضية كانت هناك مشكلات داخلية ونقص في الوقود والسيولة زادت من الهوة بين الشعب والحكومة السائرة في نهج الدكتاتورية. ولأن رد الحكومة الاتحادية خجول في كل مرة لأسباب تتعلق بعلاقتها مع أمريكا المؤيدة للكورد وبسبب حربها على الإرهاب ما يتطلب إتباع سياسة المرونة والاعتدال في المواقف واللجوء إلى الدستور عند الحاجة الضرورية , إلا أن الكورد سادرين بتغريدة الانفصال لزيادة الضغط على حكومة بغداد على تنفيذ ما يرغبون به من ناحية, ولدعوة الجماهير الكوردية للتهيؤ والاصطفاف في طوابير الاستفتاء من ناحية أخرى لكسب الدعم في سياستهم هذه.
إن الاستفتاء الذي يلوح به الكورد لم يأت من فراغ , بل بدعم من ألمانيا وأمريكا وتركيا ودولة أخرى معروفة , فهم دائما يسعون إلى تقسيم بلدنا , أما التنديد بالاستفتاء من قبلهم فهو محض كذب, بل هو امتصاص لنقمة الشعب العراقي في الوقت الحاضر. أما في النهاية وعند إتمام الاستفتاء سنراهم يقفون طوابير على أبواب كردستان للدفاع عنها كما فعلوا مع البوسنة والهرسك وكوسوفو بحجة الدفاع عن أصدقائهم في المنطقة والوفاء بعهودهم لهم. وهذه اللازمة تتكرر في كل التدخلات العسكرية الأمريكية وحلفائها.
نعم سيقفون إلى جانب القادة الكورد الداعين إلى الانفصال وسيتدخلون عسكريا إن تطلب الأمر عند محاولة بغداد بلورة موقف يؤدي إلى تدخل عسكري في كردستان, كما فعلوا في البوسنة والهرسك عام 1992. وهذا بالطبع من اجل أن تمثل أمريكا وألمانيا بشكل يوازي طموحاتهم في منطقة الشرق الأوسط ولأنه من الأصوب لهم الوقوف مع نظام أكثر استقرارا وقريب من الناحية الجغرافية من إيران التي يرونها مع من يشاطرهم بالمكر والخداع من العرب , بعبعآ خرافيا ودولة مارقة تتطاير منها الصواريخ ليل نهار وتحكمها حفنة من الأشرار وليس دولة مسلمة مسالمة تحكمها نخبة من العلماء وشعب منظم في كل شيء, كما وأن كردستان هي البديل الأفضل عن العراق الموحد على الخارطة والمضطرب بالفوضى المطلقة على الأرض .
هذا الخلط في الآراء والمواقف بين ألمانيا وأمريكا وتركيا التي بظاهرها انقسام وفي باطنها تناغم إنما هي جوهر السياسة الغربية إزاء الشرق الأوسط الغني بالثروات. فهم يدعمون الأسرة الحاكمة في كردستان أسوة بالأسر الخليجية ليصنعوا منهم خداما لهم , بل هم الذين يحرضونهم على الانفصال , وليس مستبعدا أنهم أعدوا كل شيء ليوم الاستفتاء والانفصال معا كما تعد حفلات الأعراس.
وفي جميع الأحوال , فقد تحولت كردستان إلى دمية بيد الغرب التي يمثلها الناصح بيتر كالبريث حتى أوهموهم أنهم مخيرين مابين الانتظار إلى مالا نهاية في تحقيق حلم الانفصال في ظل الديمقراطية والدستور العراقي الذي يقيدهم ومابين الارتماء بأحضان الغرب لتحقيق ذلك الحلم وإعلان دولتهم . وإن دورهم قد حان الآن, لذلك نجد نغمة الانفصال تطربهم كثيرا ويضبطون خطواتهم بها عند الصباح دائما, بينما نغمة التعايش السلمي والالتزام بالدستور فلا وجود لها عندهم رغم أنها النغمة المحببة لدى بغداد وهي تخوض حربها الشرسة مع الإرهاب بشكل خاص , ولدى الشعوب أثناء الحرب والسلم بشكل عام.
أما الإرهاب فقد قدم لهم الكثير من المعطيات وسيقدم لهم الغرب إضافة اليه الكثير في إرساء قواعد نظامهم الجديد لما يتمتع به الإقليم من استقرار وأمن ليلوذ به الكورد تحت المظلة الأمنية المتمثلة بحلف الناتو وكشريك لأمريكا وستحظى بعضوية الأمم المتحدة مستقبلا. فسياسة أمريكا هي : ” إن لم يكن بالإمكان التقارب مع صديقي أكثر , فلا خيار إلا أن أجلس في حضنه أو يجلس هو في حضني” . والجدير بالذكر هو قول الله : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) صدق الله العظيم ( الأنفال 25) .