في مقالنا “تقهقر المشروع الطائفي الإيراني بعد الاتفاق النووي” ذكرنا بأن ليس هناك قوة في المنطقة مهما كانت مسمياتها يمكن أن تشكل خطراً على أميركا وإسرائيل كمشروع دولة خليجية عربية إسلامية يدعو إلى وحدة اقتصادية وعسكرية، وأن اميركا ستسعى إلى إلغاء أسباب الحاجة إلى هذا المشروع بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران. لقد بدأت المملكة العربية السعودية تُمارس دورها كقوة عربية إسلامية في المنطقة بعد أن استفاقت سياستها من سبات طويل على قرع طبول الحرب.
لم تكن المحنة التي مرت بها السعودية، بعد تمرد مواطنها أسامة بن لادن (زعيم تنظيم القاعدة) على سياستها الداخلية والخارجية، عابرة ويمكن تجاوزها بالإرث التاريخي لعلاقات العائلة المالكة مع الغرب. لقد تمكنت الجهادية السلفية، الفقيرة مادياً ومعنوياً، والتي نشأة وترعرعت في مصر، من استقطاب الشاب السعودي، الوهابي الثري، والمقرب من العائلة المالكة، وتوريطه في زعامة تنظيم يتبنى أفكارها الجهادية المسلحة من أجل التغيير. وبغض النظر إذا كان تورط أسامة بن لادن بالسلفية الجهادية، فكرياً تلقائياً، أو محاولة من قيادات التنظيم لاستثمار ثروته وعلاقاته مع العائلة المالكة، فأن نتائج أحداث العنف والإرهاب التي أعلن مسؤولية تنظيم القاعدة عنها، قد انعكست تأثيراتها السلبية بشكل واضح على سياسة السعودية الداخلية والخارجية، خاصة وأن حكومتها استجابت لحاجة تنظيمات السلفية الجهادية ودعمتها مادياً ومعنوياً في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان.
لم تجد المملكة العربية السعودية التي تتبنى الفكر الوهابي كمنهج ديني رسمي، حرجاً دولياً في دعم السلفية الجهادية في أفغانستان، فكلا المنهجين الإسلاميين، الوهابي والسلفي الجهادي، يستمدان أفكارهما من فتاوى ابن تيمية وابن القيم الجوزي في طبيعة نظام الدولة الإسلامية وفي قضايا الجهاد. كذلك التقاء مصالح القطب الرأسمالي الأميركي الغربي ضد القطب الاشتراكي السوفيتي فتح آفاق التعاون المشترك بينه وبين السعودية في دعم تنظيمات السلفية الجهادية ومنها تنظيم القاعدة. لم تكن، في ذلك الوقت، فتوى أو فقرة الثورة المسلحة على نظام الحكم وتكفير الحاكم التي تبنتها السلفية الجهادية في مصر واغتالت على اثرها الرئيس أنور السادات تشكل خطراً على الملك والعائلة الحاكمة في السعودية. لم تكن كارثة اجتياح صدام حسين للكويت وما تلاها من احداث قد وقعت بعد. لم يرَ الملك في اسامة بن لادن خصماً له، ولم يتهدد أمن المملكة بإرهاب تنظيم إسلامي متطرف يقوده مواطنها قبل حرب الخليج الأولى والثانية.
ما تسبب به أسامة بن لادن للمملكة العربية السعودية ربما أكثر خطراً مما تسبب به لأميركا. ظلل أسامة بن لادن تهمة الإرهاب عن السلفية الجهادية التي نشأت في مصر ورسخ فكرة ارتباطها بالسعودية. وجه أنظار الرأي العام العالمي القلق من الإرهاب باتجاه بلاده وفتح ثغرة تهدد أمنها، سرعان ما تضخمت وكبرت بعد أن استغلها خصمها في قطر وأعداء العرب في إيران وأعداء الإسلام في اسرائيل.
عندما يحمل مواطن جنسية دولة لها ثقلها العربي والإسلامي ويصنف بأنه زعيم تنظيم إرهابي فانه بالنتيجة لا يضع بلاده في موقف الدفاع الحرج، ولكن يمنح اعدائها ذريعة لمهاجمتها والنيل منها.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وضع تنظيم القاعدة السياسة الداخلية والخارجية للمملكة في حيرة لم يكن من السهل على حكومتها إيجاد حالة من التوازن لها، خاصة بعد أن قسمت اميركا العالم إلى محور للخير يضم المؤيدين لسياستها الاحتلالية الجديدة ومحور للشر من الرافضين لها. مارست المملكة في موقفها من عدوانية الصقور في البيت الأبيض ضد العراق حالة من الازدواجية في سياستها. في الوقت الذي أيدت فيه اميركا في حربها واحتلالها للعراق، لم تتخذ إجراءات صارمة ضد مواطنيها الذين بدأت أفكار السلفية الجهادية تسيطر على عقولهم، أو المروجين لها من رجال الدين. ومرة أخرى لم تتعامل مع الخطر المتربص بها بما يكفي من الجدية والحسم وإنما اكتفت بأبعاده خارج حدودها من خلال اهمال هجرة الجهاديين إلى العراق لقتال اميركا والشعب العراقي. ربما كانت حالة من الخمول السياسي أو خلل فرضته سرعة الأحداث وتقلبات السياسة العالمية.
لم تضع المملكة في حساباتها السياسية خطر المشروع الطائفي للجمهورية الإسلامية في إيران، وتسلقه على كل ما يمكن أن يؤهله للعبور من العراق إلى الوطن العربي. لم تضع في حساباتها السياسية بأن إيران في مقدمة الدول التي بَارَكْت السلفية الجهادية في مصر حتى انها أطلقت اسم منفذ عملية اغتيال الرئيس السادات، خالد الإسلامبولي، على احدى شوارعها في طهران. من الصعب التكهن بطبيعة التعاون بين تنظيمات السلفية الجهادية وبين الجمهورية الإسلامية في إيران، وليس من الحكمة التوكل على الاستنتاجات، لكن الواقع شهد تحولا خطيرا بين العام 1999-2004. تنصلت، خلال هذه الفترة، السلفية الجهادية لتنظيم القاعدة من تأثرها بافكار سيد قطب والمودودي وتبنت السلفية الجهادية التكفيرية للشيخ محمد بن عبدالوهاب. في تقرير منسوب لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، حدث عام 1999 جدل وخلاف اثناء اللقاء الأول بين ابو مصعب الزرقاوي وأسامة بن لادن في أفغانستان بسبب اعتراض الثاني على الطبيعة الإجرامية للزرقاوي الذي يكفر المسلم لتبرير قتله، وكان من تبعات الخلاف طلب الزرقاوي المساعدة المادية من أسامة بن لادن لإقامة معسكر خاص بجماعته في المنطقة الحدودية بين افغانستان وإيران. لم يكن معروفا في ذلك الوقت إذا كان معسكر الزرقاوي لتدريب جماعة جند الشام التي ينتمي إليها أو لتشكيل تنظيم جديدة أطلق عليه بعد تنقلاته بين أفغانستان والعراق عن طريق إيران “التوحيد والجهاد”. إذا كانت الغاية من اختيار الزرقاوي للاسم وتكفيره للشيعة وباقي المذاهب تعاون مخابراتي مع إيران لإشعال الفتنة الطائفية في العراق والزحف من خلاله إلى المنطقة بعد سرقته من اميركا واحكام السيطرة عليه، أو إذا كان من الاجتهاد العقائدي الخاص بالزرقاوي. في كلا الحالتين نجحت إيران باستغلال التحول الذي احدثه الزرقاوي في مفهوم الجهاد والعودة به إلى مرحلة ما قبل إعلان الملك عبدالعزيز آل سعود عن المملكة العربية السعودية. وإذا كان وجود أسامة بن لادن ضمن تنظيم “التوحيد والجهاد” من ضروريات تحقيق الأهداف لإيران الإسلامية في شل السياسة الداخلية والخارجية للسعودية بتهمة الإرهاب الوهابي التكفيري، أو إذا كانت ثروته وشبكة علاقته من ضروريات نجاح التنظيم الجديد، فأن المبايعة التي تمت بين الزرقاوي وأسامة بن لادن في عام 2004 قد حققت إنجازاً كبيراً لخصوم المملكة وأعدائها.
مع هذا لم تدرك المملكة حجم الخطر الذي يزحف باتجاهها واقتصرت سياستها على ترويض الجماعات الإرهابية في الداخل أو التغاضي عن هجرتهم، وسياستها الخارجية على موقف الحياد وعدم التدخل. لا يخفى على احد الدور الذي مارسته قطر إعلامياً من خلال قناة الجزيرة في الترويج لتنظيمات الجهاد السلفي التكفيري في المنطقة لتكون ورقة ضغط تساعد قطر في حل أزماتها مع المملكة بما يخدم مصالحها.
ربما هي وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز وتولي الملك سلمان بن عبدالعزيز الحكم، وربما هو خطر التهديد الذي تتعرض له المملكة من صالح والحوثي في اليمن والمليشيات التابعة لإيران في سوريا والعراق، والمجاميع الإرهابية من مواطنيها، وقطر وتصعيدها الإعلامي مع الإخوان، أو هو الاتفاق النووي الإيراني والغزل السياسي والاقتصادي بين أميركا والغرب وإيران، أو نزيف الدم العربي، أو غليان المنطقة على صفيح داعش الساخن، أو ربما هي جميع الأسباب معاً، تلك التي دفعت السعودية لكسر أغلال الحياد في سياستها والعودة إلى ممارسة دورها بما ينسجم مع حقيقتها كقوة خليجية عربية إسلامية في المنطقة.
بعد أن استعاد الملك سلمان وحكومته ثقة الشعوب العربية بانتشال مصر من الهاوية الاقتصادية والتصدي العسكري للمشروع الإيراني الطائفي في اليمن، وجد بأن دور المملكة في سوريا يخضع إلى معادلة عالمية معقدة تتشابك فيها مصالح الدول العظمى وتلعب على حبالها الداعشية إيران وقطر وتركيا. دخلت السعودية كطرف في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش لتخلق حواجز صلبة بين توجهات المملكة الدينية وبين توجهات التنظيم، خاصة فيما يتعلق بمفهوم الجهاد. تمسك موقفها الرسمي بمفهوم جهاد الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر الذي طوق به الملك المؤسس عبدالعزيز التكفير والعنف عند الشيخ محمد بن عبدالوهاب واتباعه. استغلت ثقلها في أسواق النفط لإرباك الاقتصاد العالمي، ودفعت إيران الفارسية على محاصرة إيران الإسلامية وتحجيم دورها في قيادة البلد بما يخدم مشروعها التوسعي الطائفي. دخلت بين قطر وتركيا وفككت العلاقات الإخوانية التركية القطرية باتفاقات اقتصادية مع تركيا العلمانية. بعد زيارة الملك سلمان إلى تركيا إتخذت قطر بعض الإجراءات التي يمكن وصفها بإرتجاجات صدمة التعاون السعودي التركي كالتغيير الوزاري وفتح آفاق التعاون مع روسيا حليفة الأسد وإيران. أما حزب التنمية والعدالة الحاكم في تركيا فدخل في أزمة داخلية يبعد فيها الشبهات عن قياداته في التعاون مع تنظيم داعش والعودة بمنظومة العلمانية التركية إلى السلطنة.
لكن ماذا عن نظامها الداخلي وكيف يمكن للملك ايجاد معادلة توازن سياسة المملكة الداخلية والخارجية، وتحفظ أمنها من استغلال اعدائها للتكفيريين من مواطنيها؟
في الثاني من يناير 2016، نفذت السعودية حكم الإعدام ضد 47 من مواطنيها، وكان من أبرز الأسماء التي تم الإعلان عن تنفيذ حكم الإعدام فيها رجل الدين الشيعي نمر النمر والمنظر الشرعي لتنظيم القاعدة في السعودية فارس الشويل الزهراني. كلا الرجلين نمر النمر وفارس الشويل متهمان بالإرهاب والتحريض على قلب نظام الحكم في المملكة، ولكن الأول وفق متطلبات مشروع الفقيه الإيراني والثاني وفق متطلبات مشروع الجهاد السلفي التكفيري. وجهت القيادة السعودية من خلال تنفيذ حكم الإعدام في نفس الزمان والمكان رسالة إلى شعبها بعدم تهاونها مع العابثين بأمنها وأمانها من مواطنيها، مهما كانت انتماءاتهم الطائفية أو توجهاتهم العقائدية، ورسالة إلى العالم بأنها دولة قانون ترفض الإرهاب الديني بجميع اشكاله، وعدم مسؤوليتها تشريعياً عن الأحداث الإرهابية التي يتعرض لها العالم وأن كان بعض مرتكبيها ممن يحملون جنسيتها. لقد تمكنت السعودية بهذا الحدث ان تتبرأ من الإرهاب امام الرأي العام العالمي، وساعدها في توصيل الرسالة التصريحات اللامسؤولة لقيادات إيران الإسلامية وهجوم المتشددين على سفارتها في إيران. استفز الهجوم على السفارة السعودية في ذاكرة العالم حدث الهجوم على السفارة الأميركية في طهران عام 1979. عادت إيران بين ليلة وضحاها إلى تصنيفها السابق كدولة إرهابية، وكاد الحزب الديمقراطي الأميركي في البيت الأبيض يخسر إنجازه في توقيع الاتفاق النووي معها، لولا حدث احتجاز إيران للبحارة الأميركيين ودخولها مع الخارجية الأميركية في مفاوضات حسن النية والمعاملة الحسنة قبل إطلاق سراحهم، رغم أن الحدث لم يكن مقنعاً بما يكفي للتصديق بحقيقته لا فبركته.
اخيراً، تشهد الساحة السياسية العراقية تحركات دبلوماسية للملكة، تبدو تعبيراً عن رغبتها في مساعدة البلد وشعبه بوقف نزيف الدم وعودة الاستقرار الذي يحفظ سلامة حدودها من إرهاب داعش والمليشيات التابعة لإيران. ورغم أن تصريحات سفيرها السيد ثامر السبهان قد تم استقطابها من قبل إعلام الخدمة للمشروع الطائفي الإيراني، للضغط على حكومة السيد العبادي وتطويق تدخل المملكة في الشأن العراقي، إلا أن تصريحاته اثارت نوعا من الارتياح والأمل في نفوس العراقيين، خاصة السنة الذين يتعرضون لإبادة جماعية على يد الميليشيات التابعة لإيران والشيعة العرب الذين مازالت ذاكرتهم تحتفظ بدور المملكة في الخلاص من الدكتاتورية. لكن إذا كان تدخل المملكة في الشأن العراقي فقط لأجل حماية السنة، يجب على السنة رفض هذا التدخل الطائفي ومطالبتها بالتدخل بذات الدور الذي قامت به لأجل تحرير الكويت. العراق وشعبه يحتاج من المملكة، كقوة خليجية عربية إسلامية، استنفار المجتمع الدولي وتدويل قضية العراق لتحريره من الاحتلال الإيراني والأميركي معاً. هكذا يكون الاعتراف بالعراق كدولة عربية مستقلة ذات سيادة مطلوب من الجميع احترامها.