كثرت التعليقات ووجهات النظر حول صفقة الأسلحة الروسية للعراق ، الصفقة التي توجت زيارة رئيس الوزراء العراقي، السيد نوري المالكي ، والوفد المرافق له إلى روسيا وجمهورية الشيك . وتدور تلك التعليقات حول عدة محاور : ا- اتسمت التصريحات الرسمية ، ونصف الرسمية، بالضبابية والتناقض بين التأكيد على التوقيع الرسمي على الصفقة ومن ثم نقضها أو تأجيلها ، مما يدل ، في أحسن الأحوال، على ارتباك في صلب الإدارة العراقية الحالية وانعدام ملحوظ للشفافية في تعاملها مع الرأي العام والمجتمع في قضايا حساسة تتعلق بمستقبل الأمن في عراق منهك القوى بسبب الإرهاب الممنهج الذي يعيث فيه ( وكنا قد سمعنا من السيد المالكي أن هذه الأسلحة ستستعمل لمواجهة الإرهاب.)
٢- مخاوف الإدارة الكردستانية في أربيل من إمكانية استعمال هذه الأسلحة ضدها في المستقبل ، باعتبار أن انعدام العلاقة المباشرة بين الأكراد وروسيا ، على عكس وجود مثل هذه العلاقة وبقوة مع الولايات المتحدة الأمريكية، يقلل من إمكانية ضبط استعمال الأسلحة لأهداف لا علاقة لها بالإرهاب . ( ويجدر بنا أن نذكر أن السيد المالكي عدة مرات قد قال أن الأسلحة هذه هي لمكافحة الإرهاب فقط وأنها لا تشمل أسلحة هجومية من صواريخ ومدفعية. )
٣-الكلام حول العمولات المدفوعة أو التي ستدفع كجزء من الصفقة والبالغة مئات الملايين من الدولارات على ما يقال. وسواء صح هذا أم لا ( وهو ليس بالبعيد عن الوضع العراقي الحالي أو عن العمولات/السرقات في عهد الحكومات المتعاقبة منذ ٢٠٠٣ ، أو حتى في معظم الحكومات العربية ) فان تزامن الكلام حول عمولات من هذا الوزن مع الإقالات والتنقلات في المنظومة العسكرية الروسية أخيرا يبعث السؤال عن صحة التصريحات العراقية الرسمية حول هذا الموضوع. ويجدر الإشارة هنا أن تعامل الإدارة الروسية مع الإعلام والشعب الروسي لا يفترق بشكل جذري عنه في الإدارة العراقية، فكلاهما له جذور عميقة في عشرات السنين من الاستبداد السوفيتي والصدامي .
٤- والسؤال الاستراتيجي هنا هو التحول ، ولو جزئيا ، في التجهيز العسكري للقوات العسكرية العراقية ، من الأسلحة الغربية ، والأمريكية بالذات . ويتساءل بعض المراقبون أن كان هذا الاتجاه الجديد ، وما يعنيه من منظومة متكاملة من أجهزة ومدربين و بعثات وغير ذلك من مستلزمات التسليح الحديث ، قد أتى من باب تنويع مصادر السلاح خوفا من تقلبات السياسة الأمريكية في المستقبل ، كما حدث مثلا في الخمسينات من القرن الماضي عندما اضطر الرئيس جمال عبد الناصر من جلب السلاح من الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا اثر رفض الأمريكان ، بضغط من الإنكليز ، بتزويده أسلحة حديثة. أو أن المالكي قد اقتنع فعلا بان التجهيز الأمريكي يخضع لمراقبة وموافقة الكونجرس مما يعني تأخر وصول الأسلحة مدة طويلة، كما قال في مقابلة صحفية قبل أسابيع . وأي كان السبب الحقيقي للصفقة (الموجودة في الواقع كما يؤكد الروس ووزير الدفاع العراقي بالوكالة ، أو الملغاة كما يقول الناطق الرسمي لحكومة المالكي ) فإنها تشكل بادرة لها دلالتها في بلد لا يزال يأن من هجوم إرهابي منظم يكاد يختار توقيته وأهدافه بدون أي اعتبار لقوات مسلحة تتجاوز نصف مليون فرد في بلد سكانه ثلاثين مليون .
وتاريخ الجيوش العربية الحديث ، مهما كانت مصادر سلاحها ، يؤكد بما لا يقبل الشك أنها لم تفلح بتحرير ارض أو أن تدافع عن مواطني هذه الأرض، بل كانت في الواقع الأليم سلاحا يستهدف الشعوب التي يقتطع من طعامها لتسليح تلك الجيوش وليس بتاريخ القذافي وصدام ، والأسدأن الأب والابن ، ببعيد. وحتى لو اقتنعنا بحاجة العراق الآن لتلك الأسلحة للحد من سطوة الإرهابيين ، وحضورهم في الساحة العراقية لا يحتاج لبرهان، فيجدر بحكومة المالكي أن لا تتورط بعقد صفقات من هذا النوع أو من نوع الطيارات المقاتلة الأمريكية ف-١٦ قبل أن تقوم بدراسة موسعة حول الحاجة لهذه الأسلحة وانعكاسآتها طويلة المدى على الوضع الداخلي ( الحساسات الكردية مثلا ) والعلاقات الإقليمية ، وان يشارك مجلس النواب ، وحتى الأوساط الأكاديمية ، بهذه الدراسة بكل شفافية لكي يأتي القرار النهائي ممثلا لإرادة الشعب وليس لمصالح أفراد قلائل أو مصالح الدولة المصدرة.
نعود لعنوان المقال. كان ذلك في عام ١٩٦٩ عندما ذهب وفد عراقي رسمي إلى الاتحاد السوفيتي لمفاوضة السوفيات على تطوير حقل الرميلة الشمالي ، احد الحقول النفطية العملاقة في العراق والتي أممها عبد الكريم قاسم وأصبحت من ضمن اختصاصات شركة النفط الوطنية. وضم الوفد فيما ضم نائب الرئيس العراقي صالح مهدي عماش ورئيس شركة النفط الوطنية سعدون حمادي ووزير النفط والمعادن رشيد الرفاعي ، كما ضم فنيون مثل ناظم حمندي من دائرة الجيوفيزياء وزوزك الراوندوزي من الدائرة القانونية وكاتب هذه السطور من دائرة الجيولوجيا في شركة النفط.
وفي موسكو وفي الكريملين بالذات أقام رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي الكسي كوسيجين حفل استقبال للوفد العراقي الضيف . وجدنا انفسنا في هذه القاعة الضخمة والفخمة ، والتي تمتلئ برهبة الأحداث التاريخية التي مرت بها، نحن الشباب الصغار يحتفي بنا رئيس وزراء إحدى الدولتين العظمتين في عالم القرن العشرين. وكنا جميعا وقوفا ، الجانب العراقي المكون من نائب الرئيس والوزراء في صف أمامي يتليه المرافقون وطيار الطائرة الرئاسية ورجال الأمن ثم، في الصف الأخير ، نحن المهنيون. وفي واجهتنا وقف السيد كوسيجين وأندريه جروميكو وزير الخارجية ومجموعة كبيرة من الروس. وكالعادة في هذه المناسبات الرسمية ابتدأ المضيف كوسيجين الحفل برفع كأس من عصير البرتقال وشربه نخبا للعراقيين . ووقف بقربه مترجمه الذي سبق وان تعرفنا به عند استقبالنا في المطار الخاص بالوفود الرسمية وعلمنا انه يتكلم العربية الفصحى بلهجة مصرية إذ كان قد حصل على الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة القاهرة.
وإذ انتهينا من شرب العصير ، بدا السيد كوسيجين بخطبة ترحيب طويلة تناولت فيما اذكر تاريخ العلاقات العراقية-السوفيتية منذ سقوط العهد الملكي وتطرقتً إلى الحكومة العراقية الجديدة ( البكر/صدام) ثم تحدثًًت عن النفط وتمنى لنا رئيس الوزارة السوفيتية محادثات ناجحة مع بلده وذكر أننا سنزور فيما بعد أذربيجان وحقول النفط في باكو….والواقع انه أطال الحديث حتى كدت أنا والراوندوزي الواقف بقربي أن نغفوا ونحن واقفين .. وفجأة سمعنا شيئا أيقضنا من غفوتنا بسرعة البرق. سمعنا المترجم يقول أن الدول الإمبريالية قد نهبت خيرات العراق في ولكن الاتحاد السوفياتي لن يفعل ذلك أبدا. بل أن أولئك الامبرياليون قد ” استضرطوكم “. وهنا لم نتمالك انفسنا ، أنا والراوندوزي ، فاندفعنا بقهقهة عالية الصوت . ولا حظنا بسرعة خاطفة السكوت الذي أطبق على الحفل والارتباك والتساؤل الذي بدى على الوجه المتجهم في العادة للسيد كوسيجين الذي التفت لمرتجمه الذي اصفر وجهه وارتبك بدوره.
وبعد لحظات من الوشوشة بين الروس والتململ بين العراقيين ( وكانت وجوههم تدل على شخصياتهم فسعدون حمادي بقى متجهما كعادته وكأنه في موكب عزاء بينما اتسمت بقايا ابتسامة على محيا عماش ) أكمل كوسيجين خطابه بدون عائق رغم أن المترجم المسكين تلعثم عدة مرات. وبعد ذلك وخلال الزيارة التي امتدت لأسابيع لم نرى ولم نسمع من ذلك المترجم السئ الحظ وإذ سألنا عنه واردنا الاعتذار منه لتصرفنا الصبياني، وان كان عفوي ، قالوا لنا انه نقل من منصبه وانه سيرسل إلى دورة تدريبية في جديدة في اللغة العربية ، الفصحى والعامية.
خلاصة القول أن تاريخ العراق الحديث حافل بالاستغلال المنظم للعراق من قبل مختلف الدول ، الكبرى والإقليمية معا، وان الضمانة الوحيدة للتقليل من هذا الاستغلال تكمن في إشراك الشعب عن طريق ممثليه في مجلس النواب والهيئات المدنية ومراكز البحوث في التخطيط لمثل هذه المشتريات ذات الأبعاد الاستراتيجية، مما يضمن أيضاً شيئا من الشفافية والقضاء على إمكانية الرشوة والعمولات .