23 نوفمبر، 2024 4:31 ص
Search
Close this search box.

استعصاء الإصلاح في العقل العراقي : مقاربة حول المعوقات والتوقعات

استعصاء الإصلاح في العقل العراقي : مقاربة حول المعوقات والتوقعات

لقد أثبت مسلسل الانهيارات الدراماتيكية في المجتمع العراقي ، عقب لحظة التغيير السياسي العنيف والسقوط المدوي للدولة ولحد كتابة هذه السطور ، إن واقع هذا المجتمع كان – ولا يزال – يعدّ من أضعف حلقات سلسلة مشاريع الإصلاح التي عمّت ربوع العالم العربي ، بعيد فترة حصول أقطاره على ما يسمى بالاستقلال السياسي ، وما تمخض عنها من آمال وترتب عليها من توقعات ، سواء جاءت – تلك المشاريع – من جانب التيارات القومية / الليبرالية ، أو الاشتراكية / العلمانية ، أو الدينية / الإسلامية . بيد إن ملاحظة هذا الملمح لم يكن ناجما”فقط عن عوامل خارجية (= نظرية المؤامرة) ، كما قد يتبادر إلى الذهن التقليدي المعلب بالمسبقات التاريخية والمحشو بالترهات الإيديولوجية رغم أهمية دور ووظيفة مثل تلك العوامل فحسب ، بل إن الأسباب الداخلية والديناميكيات البنيوية قد لا تقل خطورة عن الأولى إن لم تكن تتفوق عليها في بعض الأحيان . لذلك فقد جادل الأكاديمي والباحث (هشام شرابي) حول واقعة إن (( الخطر الذي يجابه المجتمع العربي اليوم لا يرد من مصادر خارجية فحسب ، بل كذلك من الداخل ، من التفكك العربي والانهيار الداخلي والحروب الأهلية التي يمكن وقوعها في عدد من البلدان العربية . وما من قوة تستطيع حماية المجتمع العربي وتمنع انهياره وتفككه إلاّ وعليها أن تنبع من داخله ))(1) . صحيح إن مشاريع الإصلاح السياسي والاقتصادي ، فضلا”عن محاولات التحديث الاجتماعي والتنوير الثقافي ، التي شهدتها دول المنطقة استمرت تعاني التعثر في معطياتها والهزال في مردودها ، إلاّ إن المتابع يستطيع أن يلمس وجود بعض المظاهر والمؤشرات التي تدل على إن الجهود التي بذلت في هذا الاتجاه قد تركت آثارها هنا أو هناك ، وهو الأمر الذي لم تتردد معه مؤسسات الدول المعنية وأجهزتها الإعلامية من العزف على أوتاره والتغني بمآثره ، لتعزيز شرعيتها على المستوى الداخلي من جهة ، وتلميع صورتها على المستوى الخارجي من جهة أخرى . إذ إن ((كل المشاريع المسماة نهضوية كانت تسعى إلى إعطاء تبرير لمشروعية السلطة ، لأنها من صنع السلطة وبإيحاء منها ))(2) . ولكن ما لا يقل صحة عن ذلك ؛ انه خلافا”للمجتمع العراقي الذي برغم اعتباره من أوائل المجتمعات العربية التي قطفت ثمار استقلالها السياسي (1932) ، إضافة إلى حيازته على خزين هائل من الثروات الطبيعية المتنوعة ، ناهيك عن توفره على مقومات أخرى مادية ومعنوية لا يستهان بها ، كان يمكن أن تتيح له ولوج ميادين الإصلاح من أوسع الأبواب وأرحب الفضاءات . إلاّ إن كل الخطط والمشاريع التي وضعت لتحديث بناه وعصرنة أنماطه ؛ ابتداء من مخططات (مجلس الاعمار) في العهد الملكي وانتهاء بهيئات ولجان (إعادة الاعمار) في العصر الأمريكي الجديد ، لم تتمخض عن أي حصيلة يمكن الاعتماد عليها في تقييم أسس الإصلاح المنتظر وتشخيص مرتكزات النهضة المزعومة . والغريب في الأمر إن هناك ممن يكتبون التاريخ بمنظور خطابي مؤدلج ، لا يتورعون من غمط هذه الحقائق بالغة الوضوح أو التعتيم على ملابسات تفاصيلها خشنة الملمس ، ربما خشية الاتهام بالإفراط في تجريد الواقع الاجتماعي من كل إيجابياته وحسناته أو التفريط بالمكتسبات التاريخية والمنجزات الحضارية التي تحققت في هذا الجانب أو ذاك ، مما يسوقهم إلى تبني طروحات تبسيطية واستنتاجات مبتسرة لا ترقى إلى مستوى البحث التاريخي المعمق والتحليل الاجتماعي النقدي ، الذي يمكن أن يفتح أمامهم آفاق لا حدود لها من استقصاء الحقائق الموضوعية واستنباط الأحكام العقلانية التي تتعلق بترسبات تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والثقافي ، ومن ثم الكشف عن تلك المعوقات التي حالت وتحول دون ولوجه مضامير الإصلاح في أطر علاقاته والنهضة في أنساق فكرياته والحداثة في بنى مرجعياته . ولهذا فقد تطوع أحد الباحثين العراقيين الجدد لإبراز ما يراه معروفا”(( إن العراق الحديث ، شأنه شأن بقية الدول العربية التي نشأة سياسيا”في القرن العشرين ، كان قد ولج عالم التجارب الإصلاحية على نحو مبكر ، سواء على صعيد الفكر أم على صعيد الممارسة ))(3) . ولكي يجد ما يدعم به رأيه ويقوي حجّته لا يتردد في الاتكاء على بعض مأثورات الخطاب الديني الذي تصدى بعض أقطابه لموضوعة الإصلاح من منطلقات طائفية ، لا علاقة لها لا من بعيد ولا من قريب بمفهوم الإصلاح الحضاري الذي يتأسس على زحزحة اليقينيات التقليدية الرابضة في طيات الوعي الاجتماعي المتكلس ، وفكفكت الاعتقادات الخرافية التي ما برحت شغالة في منظومة السيكولوجيا الشعبية المؤسطرة من جهة ، والشروع بإحداث نقلات نوعية في طريقة التفكير الجماعي وإدارة العلاقات البينية وأسلوب التحولات القيمية من جهة أخرى . ولهذا فقد روج الباحث المذكور لفكرة إن (( عملية نقد الفكر الإصلاحي أو نقد الخطاب الإصلاحي كانت قد ظهرت سياقاتها في العراق الحديث على نحو مبكّر ؛ ومن خلال ما أقدم عليه الشيخ جعفر كاشف الغطاء عام 1795 عندما تصدى لنقد الأصول التي أستند عليها الخطاب الوهابي بوصفه خطابا”دينيا”إصلاحيا”كما يحلو وصفه من قبل أهل ذاك الخطاب أنفسهم ، وذلك في رسالته الشهيرة (منهج الرّشاد لمن أراد السّداد) . وامتد الهاجس النقدي على مدى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما تصدى الشاعر جميل صدقي الزهاوي مطلع ذاك القرن إلى نقد الخطاب الوهابي وذلك في كتابه (الفجر الصادق) عام 1905))(4) . وهنا كما هو واضح يختلط السجال الديني المؤدلج بفكرة الإصلاح الديني المؤطيف كما يؤمن بها ويشيع عنها أصحاب المذاهب الدينية من منطلقات ذاتية مجيشة ، لا تمت لموضوعة الإصلاح الحضاري ودلالاته التنويرية وحمولاته الثقافية بصلة . ولتضمين هذا المسعى (الإصلاحي) بعدا”تاريخيا”يموضعه ضمن سياقات مرحلية كانت اصلاحات الوالي (مدحت باشا) باكورته ، فأنه يعرج مستشهدا”بما قاله المؤرخ العراقي (محمد مهدي البصير) ضمن كتابه ؛ تاريخ القضية العراقية الذي أعتبر فيه انه (( لولا اصلاحات مدحت باشا لكان من الصعب أن نرى في البلاد شيئا”يذكر ؛ واليه يرجع الفضل بإنشاء طبقة متنوّرة في بغداد ، مهما كان عدد رجالها قليلا”، وعلمهم ناقصا”، ومهما كانوا مقصرين على الارتزاق بالتوظيف عدا زمرة قليلة العدد ))(5) . والحقيقة انه بالرغم من وجاهة هذا الرأي واقترابه من الصواب ، إلاّ إن هناك من المطلعين ممن يرى إن ثمرة تلك الإصلاحات كانت ((فاشلة وأدت إلى نتائج معاكسة لنواياه الطيبة على حد قول لونكريك))(6) . وهكذا فان فكرة الإصلاح في المجتمع العراقي تحديدا”، لا يمكن ابستارها واختزالها على النحو التبسيطي بحيث تبدو وكأنها مجرد رؤى وتصورات هذا الداعية الديني أو المصلح الاجتماعي أو ذاك ، للحدّ الذي نبيح لأنفسنا الادعاء (( أن الإصلاح امتدّ لأكثر من قطاع وميدان ، وطال أكثر طبقات المجتمع العراقي ؛ كالعشائر والقبائل وبقية التكوينات الأخرى ، كما انه تميز بالبعد الإنساني والمدني والثقافي والتعليمي ، وفضّل التفاعل مع المجتمع وعدم الانعزال أو الانطواء ضمن الإطار النخبوي ))(7) . ولتجنب الوقوع في مزالق الإطناب في تقصي المثالب المنهجية وتسقّط المآخذ البحثية لدى هذا الكاتب أو ذاك ، مما يقصر مهمة الدراسة على حالات استعراض النصوص وفحص الخطابات المعنية – وما أكثرها –  من خلال موشور الحفر التاريخي والنقد الاجتماعي والتفكيك الثقافي ، فإننا نؤثر أن نؤسس لمخارج عقلانية جديدة تتيح لنا الإفلات من خانق الثنائيات / المزدوجات الكلاسيكية ؛ الأصالة – المعاصرة ، الماضي – الحاضر ، الدين – العلمانية ، التاريخ – الأسطورة .. الخ ، التي استنفدت طاقات الفكر العربي وأربكت معطياته ، للحدّ الذي أفرغت جعبته من كل عناصر الحيوية والإبداع القمينة بجعله يرقى إلى مستوى استيعاب جدليات الحاضر واستشفاف تخوم المستقبل . وقبل أن نشرع باستخلاص ما نعتقده أهم المعوقات التي جعلت من حالة الاستعصاء / الممانعة التي يعانيها العقل العراقي حيال فكرة الإصلاح – ناهيك عن الحداثة –  وكأنها لعنة ميتافيزقية لا سبيل إلى تخطيها أو تجاوزها ، حريّ بنا أن نبتدأ بتقديم جردة مختصرة لأبرز المرتكزات التي تجعل من الفعل الإصلاحي أمرا” واقعا”؛ إجرائيا”وليس تنظيريا”، سوسيولوجيا”وليس ايديولوجيا”.  
أولا” – معايير الإصلاح : من الشعارات إلى الممارسات
لكي تغدو بيئة الواقع الاجتماعي مهيأة لاستقبال بذور الإصلاح واحتضان أجنته وتحفيز مكوناته على الإنبات والنمو ، ناهيك عن النضوج والإثمار ، فانه لابد من توفر جملة من الشروط المادية والمقومات الروحية التي من دونها يصبح الحديث عن (الإصلاح) ضربا”من التعمية الفكرية والتضليل الإيديولوجي . لاسيما وان اللغة المستخدمة في التعبير عن معطيات الإصلاح في المنظور التقليدي ، قد تتعامل مع الواقع الاجتماعي بصورة مغايرة لطبيعة أوضاعه وخصائص أنماطه وحمولات قيمه ، مما يستتبع أن تسطّح عمقه وتجزئ شموليته وتختزل تفاعلاته ، من منطلق الجهل بأن (( الكلمات لها تاريخ – كما يقول المفكر الجابري –  ومن لا يختزن في وعيه تاريخها نوعا”من الاختزان يسهل عليه القفز فيها وبينها وإحلال الواحدة منها محل الأخريات . وتاريخ الكلمات ليس فقط ذلك الذي تسجله القواميس الحديثة ، بل إن الكلمات عندما تتحول إلى مفاهيم تصبح تاريخا”آخر أوسع وأغنى . إن المفاهيم كائنات فكرية تولد بفعل ظروف معينة ترتبط بها وتحيل إليها ، وتكتسي منها مضمونها التصوري وقوتها المفاهيمية التي تنقلها من مجال الاصطلاح اللغوي المجرد ، البارد الميت ، إلى مجال (الواقع الحي) ، العلمي أو الإيديولوجي ))(8) . ذلك لأن عملية الإصلاح كمفهوم حضاري شامل لا تعني – كما روجت له وأشاعت عنه أغلب الدراسات المعبرة عن توجهات بلدان العالم الثالث –  مجرد الاحتفاء بمظاهر تعبيد الطرق وبناء المدارس وتشييد الجسور وإنشاء المجمعات السكنية وشق الأنهر وإقامة السدود وزيادة معدلات الاستهلاك الغذائي والكمالي للرعايا المحرومين(9) . بل الأحرى إن واقعة الإصلاح الحقيقي تتطلب بالدرجة الأولى الشروع بتعمير هياكل البنية التحتية للشخصية الاجتماعية الممزقة إلى أشلاء ، وترميم منظومات الوعي الاجتماعي المخترقة من جميع الجهات ، وحرث التصورات المنمطة وتغيير القناعات المتكلسة حول وقائع السياسة وحقائق التاريخ وعلاقات الاجتماع وديناميات الثقافة وارشيفات الذاكرة ، والا فنحن نسهم بتأبيد الكوارث وإدامة الفواجع من حيث أريد لنا تخطي عواقبها وتجاوز آثارها . ولهذا فقد أعتبر الباحث الفرنسي (كلود فوراستييه) (( إن بوسع البلاد المتخلفة ماديا”أن تجتاز هوة تأخرها . ولكن تحقيق هذا الامكان تحقيقا”فعليا”من الناس يتوقف على حدوث تغيير جذري في العقليات والفعاليات الإنسانية ))(10) . وبمساوقة هذا المسار التاريخي والاجتماعي والثقافي المقرون بالطابع العقلاني / النقدي ، يمكننا رصد واستخلاص محاور / مرتكزات الإصلاح على النحو التالي :
 1. بلوغ الدولة مرحلة التمأسس في الواقع والتجذر في الوعي ؛ ليس هنالك من خطر جدي يتهدد مفهوم الإصلاح ويقوض دلالاته ، بل ويشوه معانيه ويحرّف مقاصده ، بحيث يتحول من خصائص الانتظام في العلاقات والانضباط في المسؤوليات والتعقلن في الخيارات ، إلى صفات الفوضى في التعاملات والتسيب في الالتزامات والتزعرن في الرهانات . مثلما يفضي تردي كيان الدولة إلى ما دون مستوى التمأسس فوق حراك الواقع الاجتماعي ، كمؤسسات وآليات تستهدف ضبط إيقاع المجتمع وتردع انفلات مكوناته وتحول ، من ثم ، دون انفراط عقده الجماعي وتشظي مدماك ولاءاته من جهة ، وفي بنى الوعي الجمعي كضرورات قيمية وسلوكية تستبطن رموز الجماعة وتجتاف مرجعياتها من جهة أخرى . وفي هذا الإطار فقد جادل الفقيه الفرنسي (جورج بوردو) بأنه (( إذا أقرينا بدور الدولة الأساسي هو ضبط النضال السياسي ، بشكل تحفظ فيه إدارة شؤون الجماعة كيانها وذلك بالتجديد الدائم لطريقة كينونتها ، من الواضح إن هذا الدور ، لا تستطيع الدولة أن تسانده إلاّ إذا كان سلطة بالمعنى الكامل للكلمة . يقتضيها أن تتمتع ، لكي تفرض قواعد اللعبة ، بطاقة مستقلة ، أي متميزة في الواقع عن قدرة الأحزاب ))(11) . وبقدر ما تسمح الدولة بتداول سلطتها بين القوى التحتية للمجتمع ، وتبيح لمكوناته الفرعية حيازة الحق الشرعي باستخدام القوة بالأصالة أو بالنيابة ، بقدر ما تتنازل عن دورها وتتخلى عن وظيفتها ، وتعطي للمتربصين بها المسوغ للاستخفاف بقدرتها ، وتمنحهم ، بالتالي ، فرصة الانقضاض عليها كمحصلة نهائية متوقعة . على وفق الأطروحة الخلدونية التي مفادها (( إن الأوطان الكثيرة القبائل ، قلّ أن تستحكم فيها دولة . والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء ، وان وراء كل رأي هوى وعصبية تمانع دونها فيكثر الانقضاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت ، وان كانت ذات عصبية لأن كل عصبية تقع تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة ))(12) . وهو الأمر الذي يجعل من مغزى فكرة الإصلاح أمرا”نافلا”أصلا”، حتى وان كان على مستوى الكلام العابر والحديث المتندر .
2 . حصول التمفصل والتنافذ بين حقول السياسة ومجالات الاجتماع ؛ لعلّ في توطّن القطيعة المستدامة بين حقول المجتمع السياسي (الدولة ومؤسساتها والسلطة ورموزها) وبين مجالات المجتمع المدني (الأحزاب والمنظمات والجمعيات) ما يسوغ الرفض لأي خطاب يطرح المزاعم ويروج الادعاءات حيال إمكانية حصول الإصلاح وانغراس معاييره ، فضلا”عن نجاح المساعي الرامية إلى تبيئة شروطه وتعميم خصائصه ، بصرف النظر عن ماهية العلاقة المفترضة بين أوضاع السياسة وظروف الاجتماع ، سواء أكانت قائمة على صيغ التوافق والتمفصل والتنافذ أو التفارق والتنائي والتنابذ . والواقع إن هذا المنحى من التفكير الطفولي أفضى على نحو موجع ، ليس فقط إلى تزوير فكرة الإصلاح التي طالما تم مسخ مضامينها وازدراء آلياتها في الخطابات الراديكالية المؤدلجة ، كونها تعتبر الضد النوعي لنزعة الاجتثاث الثوروية / اليعقوبية فحسب ، بل وقاد إلى تحطيم أي بادرة تستهدف الحفاظ على المواريث الفاعلة في التاريخ والشغالة في الوعي ، كما وقاد إلى نسف أي مجهود يرتأي صيانة التراكم البنيوي لتجارب المجتمع والتنضيد المعرفي لخبراته . وهكذا فقد (( بات دعاة الإصلاح والتغيير – كما يقول المفكر علي حرب – جزءا”من المشكلة ، بمذاهبهم الثلاثة : الاستراتيجي الإمبراطوري ، والداعية الأصولي ، والمثقف النخبوي . وهم مطالبون قبل غيرهم بإصلاح ذواتهم ، بالعمل على تغيير سياساتهم الفكرية وأنظمة قتاعاتهم . وهذا هو الرهان ؛ مواجهة المشكلات في الداخل بنقد الذات والارتداد على الثوابت والمسلمات . فما نعتبره المثال والنموذج أو القيمة والمعيار ، في التحديث والتطوير أو في النجاح والازدهار ، قد يكون هو مصدر الخلل والعطب ، أو هو على الأقل قد استنفد طاقته وفقد مصداقيته وفاعليته . والا كيف نفهم ما يعتمل وينفجر من التناقضات والصراعات أو يفاجئ ويصدم من التراجعات والانهيارات ))(13) . وإذا كان الهدف من عمليات الإصلاح هو ؛ تحسين العلاقة بين أرباب السلطات ورعايا السلطنات ، وتطوير سبل التواصل بين الأفراد والجماعات ، وتحديث أنماط التفاعل بين القيم والثقافات ، وتغيير أساليب التعاطي مع الرموز والمرجعيات ، واجتراح الحلول المناسبة لدرء الكوارث والأزمات ، والسعي لتلطيف حدّة الاحتقانات واستئصال شأفة النزاعات . فان السماح للمجتمع السياسي بالاستحواذ على مجمل فعاليات المجتمع المدني ، عبر إقصاء مؤسساته واحتواء نشاطاته واخصاء قدراته ، لكي يمارس نقد السياسات الخاطئة وتصويب المواقف المنحرفة ، قمين بتضخيم شبح الدولة التوتاليتارية وتنامي نوازعها التسلطية(14) . وهنا ينقلب فعل الإصلاح وإرادة التحديث إلى نوع من أنواع تدوير مظاهر العنف السياسي والتخلف الاجتماعي والفساد الاقتصادي والانحطاط الثقافي على مستوى الداخل من جهة ، واستفحال ظواهر التبعية المركبة والارتهان المضاعف لارادات القوى الاقليمية والدولية على صعيد الخارج من جهة أخرى . بالمقابل فان تحجيم سيادة الدولة وتقليص نفوذ الحكومة وإضعاف هيبة القانون ، مرجح  له أن يطلق العنان لقوى الفوضى والتخريب لكي تحيل المجتمع إلى حلبة دموية لتصفية الحسابات العنصرية والطائفية والدينية والقبلية ، وتدمغ بطابع ثقافتها الهامشية وقيمها الرثّة منظومات الوعي الاجتماعي الهزيلة أصلا”. وبالنتيجة استحالة بلوغ مأرب الإصلاح والإخفاق في التأسيس لمشاريع النهضة والحداثة .
3 . شروع التكوينات المجتمعية بتحييد ثقافاتها الفرعية ؛  لا ريب في أن فكرة الإصلاح ذاتها تحتوي ضمنيا”على حق التكوينات المجتمعية ، ليس فقط أن يكون لها ثقافاتها الخاصة التي تعبّر عن خصوصيتها القومية وفرادتها الحضارية ، ضمن واقعها الاجتماعي والتاريخي والجغرافي فحسب ، بل ويستلزم هذا الحق أن تدخل مضامين تلك الثقافات في حوار مفتوح وتواصل منتج مع بقية الثقافات الأخرى ، على سبيل اغناء بنى الوعي الاجتماعي وتعميق مشاعر الولاء الوطني وتقوية روابط الانتماء للجماعة . أما ما يقع خارج نطاق هذه المهام أو يتخطى حدود تلك الغايات ، فهو يتعارض كليا”مع قيم الإصلاح  ومبادئ التحديث ، ذلك لأنه من متطلبات الإصلاح الحضاري المرتجى سريان أفاعيله أفقيا”وعموديا”، وانثيال معطياته كليا”وجزئيا”، وتدفق مظاهره ماديا”ومعنويا”. بمعنى أن الإجراءات التي يتم اتخاذها بهذا الاتجاه ، لا تستثني منطقة دون أخرى ، أو قطاع دون أخر ، أو شريحة دون غيرها ، أو نظام دون سواه ، وإذا كان لابد من حصول اختلاف أو تغاير فأنه يطال الفعل بالدرجة وليس بالفكرة ، والا لانتفت فكرة الإصلاح من الأساس . ولما كان منحى الثقافات الفرعية / التحتية ميال بطبيعته نحو إيثار مصالح الذات / الأنا على حساب حقوق الآخر / الغير ، والنزوع صوب تهميش المختلف وإقصاء المغاير ؛ إما بوضعه تحت حكم الدونية القومية ، أو الوصاية الدينية ، أو الهرطقة الطائفية . وإما دفعه باتجاه التماهي مع ما هو مسيطر من أفكار سياسية حتى وان بدت مناهضة لمصالحه ، أو التماثل مع ما هو سائد من اعتقادات قيمية حتى وان ظهرت متعارضة مع توجهاته ، بحيث إن أي بادرة تتوخى التأكيد على الخصوصيات الاثنية أو التمايزات الثقافية ، سرعان ما توصم بالخروج على الإجماع القومي (الشعب ، الأمة) في أحسن الأحوال ، أو بالخيانة الوطنية والعمالة للأجنبي في أسوأها . ولذلك فقد أشار المفكر السوري (برهان غليون) إلى إن المشكلة الحقيقة (( تبدأ عندما يصبح لهذا التمايز الثقافي وجود سياسي مميز ، أي تصبح الأقلية أو الطائفة حزبا”سياسيا”وقناة للسلطة . وتتعقد المشكلة أكثر عندما ترتبط هذه الجماعة بقصد الدفاع عن نفسها أو لأسباب تاريخية موضوعية خارجة عن إرادة كل فرد فيها بسلطة استبدادية أو بدولة خارجية أجنبية مهيمنة عالميا”))(15) . نقول لما كان الأمر كذلك ، فان الضرورة الحضارية تقتضي – لكي يكون للإصلاح معنى في التصور ومبنى في التجربة – أن يعمد أرباب تلك الثقافات الجانبية ، ليس فقط إلى الامتناع عن توظيف رموزها في المجال السياسي المضطرب وتجييش مرجعياتها في المتخيل الجماعي الهش فحسب ، بل والسعي إلى تحييد نزوعها الاستحواذي وترويض تطرفها الاستعلائي أيضا”. بحيث يتحقق الحدّ الأدنى من التوافق الوطني والإجماع القومي ، حيال فكرة إن المجتمع الذي ينشد الإصلاح في بناه والتحديث في أنساقه والتجديد في منظوماته لا ينبغي لجماعاته أو مكوناته التفريط بثوابتها الجامعة وقواسمها المشتركة على مذبح الخصوصيات الاقوامية أو التنوعات الثقافية أو الاختلافات المذهبية ، والا استحال الأمر إلى تعميق هوة ما بينها من خلافات ، وتوسيع شقة ما يفصلها من تناحرات ، على خلفية الاثرة في المكاسب والمفاضلة في المطالب والمغالبة في المآرب . 
4 . توطين فكرة القبول بالاختلاف والرضا بالتنوع ؛ مما لا شك فيه إن من جملة ما تستهدفه مشاريع الإصلاح في المجتمع ليس مجرد استبدال البالي من المعدات والعتيق من المؤسسات والمتقادم من الأواليات فحسب – فذاك على أية حال الشرط المادي / المظهري للإصلاح –  بل إن المهم في تسلسل الأولويات وترتيب الضروريات هو ؛ إزاحة المتخلف من العادات ، وزحزحة المسبق من القناعات ، وتحريك المبتسر من التصورات ، وتفكيك المتكلس من المسلمات . تلك التي تتمحور حول أوهام نقاء السلالات وصفاء الأرومات ، وانفصال الأصوليات وانعزال الذهنيات ، بحيث يتاح لمختلف عناصر المجتمع المعني ومكوناته فرصة إعادة تقييم أنماط علاقاتها بذاتها وبالآخر (الجواني والبراني) ، ومن ثم ، الوقوف على حقائق إن مطلب التجانس القومي / الاثني ، والديني / المذهبي ، والثقافي / اللغوي ، إن لم يكن نادر الوقوع في ماضي المجتمعات ، فهو متعذر الحدوث في حاضرها ، من واقع إن (( جميع الأمم الحديثة هي كيانات هجينة ))(16) . وذلك نتيجة لحشد هائل من العوامل والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية والتاريخية والحضارية ، التي أصبحت من معالم العصر وملامح الكوننة من جهة . وان انتهاج ممارسات الصهر القومي والاحتواء الثقافي والتطهير الديني للأقليات المستهدفة قمين ، ليس فقط بإحياء أساطيرها العنصرية وبعث خرافاتها المذهبية ، بل ودفعها إلى التطرف في مواقفها والعنف في سلوكها من جهة أخرى . باعتبار إن (( التطرف – كما يشير المفكر الجابري –  كغيره من الظواهر الاجتماعية والثقافية لا يكون من لا شيء بل هو في الأغلب الأعم عبارة عن رد فعل ضد تطرف آخر يجري في جسم المجتمع ، إما في شكل ظلم اجتماعي أو في صورة حيف اقتصادي أو قمع ثقافي أو طغيان سياسي وإيديولوجي ))(17) . ولذلك فان أولى المهام الملقاة على عاتق القائمين بالإصلاح هي ؛ الشروع باهتبال كل الفرص وانتهاج جميع السبل التي من شأنها توطين فكرة القبول بالاختلاف القومي / العرقي ، والرضا بالتنوع الثقافي / اللغوي ، والتسليم بالتعدد الديني / الطائفي ، لاسيما وان التواضعات العرفية التي يتغيا الإصلاح تغييرها في المجتمعات المتخلعة سوسيولوجيا”والمتضعضعة انثروبولوجيا”، لم تبرح تمسك بخناق الأفراد والجماعات ، وتتحكم بنظام القيم والتصورات ، وتؤطر أنماط السلوك والعلاقات . وهو الأمر الذي وضعه في دائرة الضوء العالم السوسيولوجي (آلان تورين) حين أشار إلى أن ((المسألة لم تعد مسألة إلغاء الفروقات المجتمعية والثقافية بموجب إرادة عامة ، بل بالعكس ، مسألة رفع التنوع الداخلي في مجتمع ما إلى أقصى الدرجات الممكنة ، والتقدم باتجاه إعادة تركيب ترمي إلى إيجاد عالم جديد والى استعادة ما هو منسي ومهمل . لم تعد المسألة أيضا”مسألة إلغاء الماضي من أجل بناء غذ مشرق ، بل مسألة تمكين أنفسنا من العيش في أكبر عدد ممكن من الأزمنة والأمكنة ، واستبدال مونولوغ العقل أو التاريخ أو الأمة بحوار الأفراد والثقافات ))(18) .
5 . تعميم مبادئ العقلنة وتسييد قيم المواطنة ؛ سوف يبقى الفرد أسير أوهام تخيلاته النكوصية ، وتستمر الجماعات رهينة الاعتداد بدعاوى خرافاتها العصبوية ، ويقع المجتمع ضحية تمسكه بنظام أعرافه القبلية ، ويواصل ، بالتالي ، تمرغه برزايا العنف السياسي والتطيلّف الاجتماعي والتخلف الثقافي والتطرف الديني ، ما لم يحتكم إلى تعميم مبادئ العقلنة في أنساق وعيه ، وتسييد قيم المواطنة في أطر علاقاته . والواقع إننا تعمدنا استعمال مفهوم (العقلنة) بدلا”من (العقلانية) بغية التأكيد على الطابع العملي / الفعلي الذي يوحي به الأول ، مقابل الطابع النظري / المنهجي الذي يفضي إليه الثاني ، وذلك لبيان أهمية مشاريع الإصلاح التي تنتظر إنجازها شعوب البلدان المفجوعة بتخلفها ، بعد أن أضنتها الخطابات الرنانة وأرهقتها الوعود الكاذبة . فعلى الرغم من هشاشة وهزال بعض المشاريع الإصلاحية التي تبنتها بعض الأنظمة (التقدموية) في غمرة اكتساحها المشهد السياسي والإيديولوجي ، إلاّ إن آثارها سرعان ما اندرست ومخلفاتها تلاشت ،  تحت وطأة غياب التفكير العقلاني النقدي واستحكام ترهات السيكولوجيا الاجتماعية من جانب ، وطغيان نوازع الفردية الأنانية واستشراء دوافع المصلحة الشخصية ، التي تعدّ من أبرز خصائص المجتمعات في بلدان العالم الثالث من جانب آخر . ولذلك ينبغي إن يتم (( بناء الفرد – كما يجادل المؤرخ والفيلسوف مارسيل غوشيه –  من الآن فصاعدا”، ولفترة قادمة طويلة ، عبر إعداد نظام للمرجعيات يفرض عليه دوره إن يكون على أكبر قدر ممكن من الادراكية ، وعلى أن يشتمل على قدر كبير من التوسّع والتعمّق ))(19) . والحقيقة أن هذا المطلب الجوهري لا يتحقق بمعزل عن شعور الفرد بأن رأيه أصبح موضع اهتمام في القضايا العامة ، وان صوته بات له صدى في شؤون الجماعة ، وان حقوقه أضحت مصونة بموجب القوانين والأنظمة المؤسسية . وهو ما يعكس له أهمية أن يحظى بمناقب المواطنية ويتمتع بفضائلها التي طالما أقتصر مفهومها ، في عرف الأنظمة السياسية القمعية ، بالحصول على بطاقة (الجنسية) والسماح بالإقامة فوق إقليمها الجغرافي(20) ، بحيث يتاح لها ، متى شاءت ، إسقاطها عمن ترى في تململه (حقوقه) خرقا”لخطوطها الحمراء وتخطيا”لأفكارها السوداء وتجاوزا”لنرجسينها الصفراء ، ووضعه ، بالتالي ، بين شقي رحى ؛ إما الرضوخ والإذعان لنزق السلطات وإهمال المؤسسات وتدهور العلاقات ، أو النزوح نحو بلدان المهاجر والمنافي بحثا”عن الملاذ الآمن والسكينة المغمسة بأوجاع الغربة وتيه الأوطان . ولذلك فقد أولت مباحث الديمقراطية معالجات ضافية لهذه المسألة الحيوية ، وقدمت لها الحلول الواقعية على وفق خصائص المجتمعات المعنية ؛ من حيث ظروفها السياسية وطبيعتها القومية ومستوياتها الحضارية ومراحلها التاريخية ، لاسيما تأكيدها على حقيقة إن (( المواطنية ليست الوطنية (أو الجنسية) ، حتى ولو كانت بعض البلدان لا تميّز قانونيا”بين هاتين المقولتين فالوطنية تدل على انتماء المرء إلى دولة قومية ، في حين إن المواطنية تمنح الحق بالاشتراك في تسيير المجتمع تسييرا”مباشرا”أو غير مباشر . الوطنية تخلق تضامنا”في أداء الواجبات ، بينما المواطنية تمنح حقوقا”))(21) . 
ثانيا”-  معوقات الإصلاح : من الخارج إلى الداخل :
لما كانت سياسات الإصلاح البنيوي قد أبصرت النور بعيد حصول البلدان المستعمرة على استقلالها السياسي وقيام حكومات (وطنية) على إدارة أعمالها وتصريف شؤونها ، فأنه لطالما جرى التأكيد على إن معضلة إخفاق ذلك الإصلاح التي لم تبرح تعاني وطأته تلك البلدان ، ناجم في معضمه عن مواقف الدول وسياسة الحكومات الاستعمارية ، التي لم تفتأ تصطنع الصعوبات وتختلق العراقيل أمام أي جهد إصلاحي يستهدف محو آثار الحقبة الاستعمارية المظلمة ، ويتخطى حاجر التبعية الاقتصادية والارتهان السياسي . وانك لواجد في هذا الباب العشرات ، لا بل المئات من البحوث والدراسات التي تنظّر لهذه القضية وتحلل ملابساتها ، دون أن يفطن أصحابها إلى عيوب اجترار نفس الطروحات وتكرار ذات المعلومات ، حتى باتت ظاهرة التناص من أبرز ملامح تلك المؤلفات(22) . والحقيقة التي لا مراء فيها إن بعضا”من تلك الدراسات ، كان لها دورا” كبيرا”واسهاما”جليلا” بتعميق مسار الوعي الوطني وشحذ الذاكرة القومية ، ولكنها ، مع ذلك ، قصّرت دون الكشف عن النوابض الداخلية والإفصاح عن القوى العميقة التي أتضح أنها المسؤولة بالدرجة الأولى عن تلك الإخفاقات الإصلاحية والردّات الحضارية والانهيارات الرمزية . وهو الأمر الذي أثار امتعاض المفكر (محمد جابر الأنصاري) الذي كتب تحت عنوان ( الشيء الوحيد الذي لا نبحث فيه) قائلا”(( في خضم مشكلاتنا وأزماتنا وتراجعاتنا العربية تكلم كتابنا ومفكرونا العرب عن كل شيء تقريبا”إلاّ شيئا”واحدا”. تحدثوا عن الإمبريالية والصهيونية والشيوعية وتحدثوا عن التنمية والنفط وعلوم الفضاء وثورة الكومبيوتر وأهملوا شيئا”واحدا”، شيئا”أساسيا”، جوهريا”، محوريا”، هيكيلا”، في تكويننا العربي الاجتماعي التاريخي . هو في الواقع – كما تكشف الأحداث كل يوم –  أساس مشكلاتنا وتراجعاتنا وإخفاقاتنا في حياة العصر والتقاتل والتدمير . هو مدى احترامنا لقيم العمل والإنتاج والنظام ، أو بالأحرى عدم احترامنا لها ! هذا الشيء الأساسي هو خصائص ذاتنا العربية الاجتماعية التاريخية في تشكيلاتنا العشائرية والطائفية والإقليمية ، وما القوانين والظواهر التي تحكم سلوك هذه الذات الجماعية ، وما السبل والوسائل الكفيلة بتصحيح هذه التركيبة المعوقة المعرقلة بشكل ناجع وليس بالمسكنات ؟ ))(23) . ولعل طبيعة بحثنا هنا تتساوق مع منطلقات وأدوات هذا المنهج الاجتماعي والتاريخي النقدي الذي يستهدف تفكيك مداميك البناء السوسيولوجي ، وتعرية مخلفات القاع الانثربولوجي ، باستثناء جنوحه نحو واقع المجتمع العراقي على وجه التحديد ، باعتباره يشكل النموذج الأبرز والمعيار الأكمل للحالة التي شخصها ولفت الانتباه إليها المفكر (الأنصاري) على مستوى الواقع العربي عموما”(24) . وفي ضوء ذلك فقد تكونت لدينا حصيلة واقعية لأبرز معوقات الإصلاح في العقل العراقي التي أسهمت بإنضاجها أوضاع الواقع المعاش وظروف التجربة الملموسة : –
1 . مصلحتي أولا .. وأبدا” : لأنجو أنا وليكن من بعدي الطوفان ؛ لقد دلل تواتر النوائب وانثيال المصائب التي عصفت رياحها بتاريخ العراق السياسي والاجتماعي ، عمق الشرخ الوجداني الذي يستوطن سيكولوجية الفرد العراقي حيال روابطه بالمكان / الجغرافيا وإحساسه بالزمان / التاريخ . للحدّ الذي ما أن ينداح صدى الأزمات الوجودية ، أو تلوح بوادر الانعطافات المصيرية ، حتى يهرع الغالبية العظمى من العراقيين للبحث عن ملجأ آمن يقيهم دوامات العواصف أو ملاذ محصن يجنبهم أهوال الأعاصير ، دون أن يبدوا علائم المقاومة أو يظهروا إرادة التحدي . وهو ما يفسّر أنهم واقعون تحت تأثير هواجس مدمّرة تتعاطى مع العراق (التاريخ والجغرافيا) وكأنه أشبه بالسفينة التي تمخر عباب المجهول وهي مشرفة على الغرق ، دون أن يكون لها مرفأ تتجه إليه أو تخوم تحط رحالها فيها . مما يبيح لهم البحث عن أية مهارب / منافذ تعصمهم من الغرق بأي ثمن من جهة ، وتمكنهم ، من جهة أخرى ، حمل ما خفّ وزنه وغلا ثمنه من أسلاب تلك السفينة وبقايا أمتعة ركابها الذين آثروا الإبحار فيها ؛ إما أملا”بالنجاة أو إحساسا”بالكبرياء . وذلك فقد ذهبت أدراج الرياح كل المحاولات الإصلاحية – رغم تواضعها وسطحيتها – التي بادر الحكام المتعاقبين إدخالها إلى فضاء الدولة المخترقة وربوع المجتمع المستباح ؛ ابتداء بإصلاحات (مدحت باشا) التي أراد من خلالها كسر شوكة التمردات القبلية التي أدمنت مناهضة السلطات والخروج على شرعيتها ، فضلا”عن إجبار الرعايا من سكنة الحواضر على
الإذعان لهيبة النظام ومأسسة الولاء للسلطنة ، وانتهاء بإصلاحات (النظام السابق)(25) التي تركت بصماتها فوق كل مرفق وعند كل مستوى ، باستثناء البنية التحتية للإنسان العراقي التي فضح سقوط الدولة مدى خواء مضمونها وهشاشة بنيانها . هذا من ناحية ، أما (( من ناحية أخرى ، فقلد كان جهد سكان العراق بدوره عاجزا”عن المطالبة بأية تغييرات جذرية . وكانت بعض الفئات تعارض الإصلاحات خشية تهديد مصالحهم الراسخة في النظام القديم . وكان البعض الآخر يرفض التجديد لأنه ضحية الجهل والتعصب البعيدين عن جوهر الفهم الحقيقي للأمور . بالإضافة إلى ذلك فلقد كان الشعب يفتقر إلى الإحساس بالوحدة حيث كانت الطائفية والعشائرية أقوى من المشاعر الوطنية والقومية ))(26) . 
2 . القطيعة المستدامة بين الدولة والمجتمع ؛   نادرا”ما يعثر المرء على نموذج تتجسد فيه ومن خلاله حالة القطيعة البنيوية بين مجالات الدولة وحقول المجتمع ، للحدّ الذي تغدو فيه (القوة الغاشمة) الوسيلة الوحيدة للحوار بينهما ، مثلما يقدمه ، بكامل مواصفاته ، المثال العراقي للقطيعة الكائنة بين المجتمع العراقي من جهة ، وبين الدولة العراقية التي يفترض أنها تمثل إرادته وتصون مصالحه ، بموجب عقد اجتماعي هما احد طرفيه ومصدر إنشائه من جهة أخرى . وإذا ما تجاوزنا ظاهرة استحكام العداء بين الدويلات السلطانية التي تعاقبت على حكم العراق بمختلف عصوره ، وبين مكونات المجتمع العراقي بمختلف أطيافه ، على خلفية طابع الغربة لتلك الدويلات المنغرسة في غير بيئتها عبر مظاهر الغزو والاحتلال والضّم . فإن مظاهر الخوف والعنف التي ميزت العلاقة الملتبسة بين المجتمع السياسي الذي بزغ حديثا”(1921) وبين عناصر المجتمع المدني ، الذي قلما بلغ مرحلة النضج والاستقلالية ، جعلت من مسألة القطيعة بينهما وكأنها ضرب من قدر ميتافيزيقي ينبغي القبول به والتعايش معه والرضوخ له . وهنا ينبري أغلب الكتاب العراقيين الذين تؤطر أبحاثهم وتنمذج دراساتهم مشاعر البغض والكراهية لسياسات النظام السابق من افتراض إن هذا الأخير كان السبب المباشر – إن لم يكن الوحيد –  لإيصال تلك القطيعة إلى حدود اللاعودة ، عبر آليات القمع السياسي والردع النفسي والترويع الاستخباراتي ، علاوة على تقطيع أواصر التضامنات المحلية ، وتمزيق نسيج العلاقات الاجتماعية ، وتفكيك وحدة الولاءات الوطنية . وكعينة على هذا النمط من المعالجات الشائعة ، فقد اعتبر الباحث العراقي هيثم الجنابي إن (( الخراب في العراق ، بوصفه النتاج المباشر وغير المباشر للتوتاليتارية والدكتاتورية ، قد أدى إلى سحق بنية الدولة وتشويه التركيبة الاجتماعية وهدم الهوية الوطنية فيه . وفي هذا يكمن سر الشرخ العميق للتجزئة الجهوية والطائفية والقومية فيه ))(27) . هذا في حين إن أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة أكستر (جاريث ستانسفيلد) وجد إن مصدر (( فشل الدولة العراقية على امتداد القرن العشرين هو فشل (بناة) هذه الدولة في إشادة معمار ، على قدر من الديمومة ، يزيد عن مجرد تجميع ثلاث ولايات أساسية . وشهد القرن العشرون كثرة من الحركات (الأولية) التي تحدّت هيمنة الدولة السنيّة تحديات متفرقة ، بدءا” من التمردات الكردية والشيعية في عام 1919 وعام 1920 ، وقد استمرت التحديات بلا هوادة على امتداد العقود اللاحقة . وبالطبع ، فان صدام حسين لم يخلق هذه الكراهية للسلطة المركزية ، فقد كان هذا البغض ضعفا”بنيويا”ملازما”للدولة ذاتها منذ أن قدمها العثمانيون ثم البريطانيون لاحقا”إلى العراقيين التعساء ،رغم أن البريطانيين برهنوا أنهم بارعون في استنساخ الممارسات المؤثرة بقوة . وان كل ما فعله صدام هو التعاطي مع هذا الضعف البنيوي الملازم للدولة بأسلوب فاق في قسوته وفاعليته (الدامية) كل ما عداه ، بل انه تلاعب بمواطن الضعف التي اعتورت المجتمع المتشظي تلاعبا”أتاح له تقوية نظام حكم البعث باعتباره الكيان السياسي الموحّد حقا”))(28) . ولكي لا نرهق القارئ بتكديس الإحالات ومراكمة الاستشهادات لكتاب عراقيين وعرب ، بل وحتى أجانب ، تتضمن نصوص واضحة وإشارات بليغة حول خلفيات تلك القطيعة المزمنة وملابسات استمرارها ، فإننا سنكتفي بعرض تفاصيل اللوحة السوسيولوجية التي صاغها المؤرخ الاجتماعي الراحل (حنا بطاطو) ضمن سفره القيّم عن تاريخ العراق الحديث ، والتي لخص من خلالها حقائق وقائع وحقائق ذات مغزى تؤكد انه (( على امتداد الجزء الأكبر من الفترة التي بدأت بسقوط المماليك عام 1831 وانتهت بانهيار الملكية عام 1958 ، لم تكن الحكومة في بغداد تجد نقطة إسنادها في القوى الاجتماعية المحلية . فالقرارت السياسية الهامة كان يتخذها أشخاص غير عراقيين أو كانت تتخذ خارج حدود البلاد . وفي هذا يكمن مفتاح سر حقيقة انه كثيرا”ما لم يكن هناك توافق بين التوزع المحلي للثروة والتوزع المحلي للسلطة ))(29) .
3 . القوة الغاشمة : لوثة السلطة ودائها العضال ؛ ليس هنالك من يعترض على لجوء الدولة إلى استعمال الإجبار المادي والإكراه المعنوي ، لحمل الأفراد والجماعات المنضوية في حقلها المؤسسي على مراعاة تحاشي التدخل بشؤون السلطة والعبث بهيبة القانون والتشكيك بشرعية النظام ، فضلا” عن الإخلال بالأمن العام والاعتداء على حقوق الآخرين ، فتلك مسألة من البداهة بحيث لا يختلف حولها اثنان . وعليه فان ((سلطة الإكراه – كما لاحظ عالم السوسيولوجيا السياسية روبرت ماكيفر- سلطة تملكها الدولة لكنها لا تشكل جوهرها . صحيح انه لا يمكن أن تقوم لأية دولة قائمة إن لم تكن ثمة قوة تفرضها . ولكن صحيح أيضا”إن اللجوء إلى العنف ليس هو ما يكون الدولة))(30) . بيد انه ما أن تشرع بقمع المعارض سياسيا”، والتنكيل بالمغاير فكريا”، واضطهاد المخالف دينيا”، وإقصاء المفارق مذهبيا”، وتهميش المباين قوميا”، حتى تتحول من دولة قانون ومؤسسات ترتكز على قواعد الشرعية السياسية والمشروعية القانونية ، إلى وحش (لويثيان) ينتهك الأعراف والقوانين ويستبيح الحقوق والحريات ، معتمدا”بذلك على ترسانة العنف الرمزي(31) التي بحوزته وذخيرة القوة الغاشمة التي طوع بنانه ، حيث تنقلب من كيان يمتلك (قوة الحق) إلى شيطان يغويه (حق القوة) . ولما كانت الدولة هي الطرف الحائز شرعيا”على تبرير استخدام العنف المجرد ، وتسويغ اللجوء إلى القوة العارية ، ضد خصومها الواقعيين والافتراضيين ممن يشاطرونها الوجود ضمن فضاء الحقل الاجتماعي ، على خلفية كونها (( البنية أو التجمع السياسي الذي يدّعي بنجاح احتكار الإكراه المادي المشروع ))(32) ، فان ذلك لا ينبغي أن يسوقنا إلى قبول فكرة انه طالما كان العنف / القوة هما من خصائص تكوين الدول في المجامعات عموما”، فلماذا إذن يا ترى دائما”نسارع إلى وضع علامة استفهام أمام إسراف الدول في بلدان العالم الثالث خصوصا”باللجوء إلى ممارسة هذا (الحق الشرعي) ، ضد من تعتقد أنهم يشكلون خطرا”على مجالها السيادي الشامل ، ويسعون إلى تهديد حقها في الولاء السياسي المطلق؟  الواقع إن ما يبيح لنا إثارة مثل هذا التساؤل ؛ هو إن الدول التقليدية التي أشادت مركزية سلطتها السياسية وفرضت هيبة سلطانها المؤسسي ، عبر سبل مختلفة وأساليب متنوعة تتراوح ما بين القوة المشرعنة إلى العنف المقنع ، في المضمار السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، لم تتخلى عن أو تتهرب من الإجراءات الرامية إلى إشاعة قيم العقلنة وتعميم مبادئ التحديث في المجالات الثقافية والنفسية والدينية . وهو الأمر الذي أفضى ، لاحقا”، إلى تقليص الاعتماد على آليات القسر المادي والإكراه المعنوي ، بعد أن أدرك أعضاء المجتمع أهمية أن يمارسوا حياتهم الطبيعية تحت ظل دولة المؤسسات ويحفظون حقوقهم بالانصياع لسلطة القانون . وهو ما أهملت فضيلته وتجاهلت ضرورته دول ما بعد مرحلة الاستقلال ، لدواعي كثر الحديث عنها وحولها دون طائل . وإذا كانت الدولة العراقية قد اشتركت مع بقية دول العالم المتخلف ببعض السمات السلبية ؛ كالمنشأ الخارجي ، والارتهان السياسي ، والتبعية الاقتصادية والعسكرة الاجتماعية والطابع البوليسي ، وتبعا”لذلك ، الضعف البنيوي وفقدان الشرعية . إلاّ أنها ، بالإضافة لذلك تتفوق عليها ببعض الصفات الأخرى ؛ مخلفات الإرث التاريخي الموصوم بالانقسامات والصراعات الداخلية من جهة ، والحروب والغزوات الخارجية من جهة أخرى . إضافة إلى ركام التصدعات النفسية والتمزقات الاجتماعية التي كانت الدولة (البرانية) سببا”في إبقائها في الذاكرة وإذكائها في الوعي بين مكونات المجتمع العراقي ، على خلفية تنوع أقوامه وتباين أعراقه وتعدد أديانه واختلاف مذاهبه ، بحيث استمرت هواجس الخوف البيني ناشطة وعوامل الشك المتبادل فاعلة ، لكي تتجنب عواقب إحساسها بالغربة عن المجتمع الذي تحكم إرادته وتتحكم بمصيره ، وتتخطى تبعات هزال قدرتها على ضبط تفاعلاته وردع هيجاناته وهو ما سيجعل ملاحظة المفكر (العروي) صائبة تماما”حين قال (( إن ضعف الدولة ، بسبب انعدام الشرعية ، هو ضعف يواكبه بالضرورة تضاعف العنف ))(33) . وهذا ما كانته الدولة العراقية طيلة تاريخها القديم والحديث والمعاصر بامتياز .
4 . صراع الأنا التحتي / الفرعي ضد الأنا الفوقي / الجمعي ؛ من المعالم البارزة في المجتمع العراقي ، استمرار مكوناته الاقوامية والطوائفية والقابئلية ليس فقط تمسكها بمنتوج ثقافاتها الفرعية والمحافظة على رموز قيمها التحتية فحسب ، بل والسعي إلى تسويق تلك الثقافات والقيم على مستوى الواقع الاجتماعي العام / الكلي ، عبر ادعاءات لا تاريخية ومزاعم لا علمية وتوجهات لا إنسانية ؛ تتجلبب بغطاء الأكثرية القومية تارة ، أو بالأفضلية الدينية تارة ثانية ، أو بالاحقية الطائفية تارة ثالثة ، أو بالأقدمية القبلية تارة رابعة ، وهكذا . وهذا الأمر إن دلّ على شيء ، فإنما يدلّ على إن الدولة العراقية لم تتمكن – رغم باعها الذي امتدّ إلى ثمانية عقود –  لحد الآن من بلورة ثوابت عليا وتصورات فوقية ، تعبّر عن المشترك الوطني الذي يجمع شتات تلك الجماعات ويلم شعث عناصرها ، تحت سقف الانتماء العابر للعصبيات الماقبل اجتماعية والولاء المتخطي للنعرات المادون وطنية . ولذلك فقد وجد الباحث الانثروبولوجي في المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية (( إن عجز الدولة عن القيادة هو الذي حفز الأفراد على العودة إلى شرائح ما دون الدولة . وهذا ما يسميه (برتراند بادي) الفضاءات الاجتماعية الفارغة ، أي المجالات الاجتماعية التي لا تصلها سلطة الدولة ))(34) . ولعل هذه الواقعة تفسر لنا سرّ نوطن ظاهرة الصراع المستديم بين الدولة ومؤسساتها المتضخمة من جهة ، وبين المجتمع ومكوناته المتشظية من جهة أخرى ، مما استتبع احتكام الأولى إلى فيصل القوة لفرض نزوعها إلى الاستحواذ والهيمنة ، ولجوء الثاني إلى خيار العنف للتعبير عن لواعجه المشروعة وغير المشروعة ، لاسيما في مضمار المشاركة في توزيع امتيازات السلطة السياسية ، واقتسام مغانم الثروة الاقتصادية . ولأن الدولة العراقية استمرت عنينة شرعيا”وعاجزة سياسيا”لجهة خلق إجماع قومي يتحلى بإرادة وطنية موحدة – لعمري إن مهمة كهذه ترقى في ظروف العراق إلى الاستحالة – يجسّد إرهاصات تلك الجماعات ويستجيب لطموحاتها ، فقد أصبحت كل الرموز والمرجعيات المعبرة عن علوية الأنا الفوقي / الجمعي هدفا”سائغا”للنقد والتجريح ، ليس من باب ضخ الحياة في أوصالها المحتضرة وبعث الحيوية في نسغها الذاوي ، وإنما من منطلق تحطيم اعتبارها في الوعي الفردي وتشويه صورتها في المتخيل الاجتماعي . فضلا”عن اعتباراها مصدرا”لضياع الحقوق وهدر الثروات واستنزاف الطاقات ، عبر الانغماس بالحروب السياسية والولع بالصراعات الإيديولوجية والانشغال بالتدخلات الاجتماعية التي أتت على أخضر البلاد ويابسها . هذا وقد رصد الباحث العراقي (فاضل الربيعي) هذه الحالة المأساوية حين كتب يقول (( كنت قد توقفت طويلا”في الكتاب السابق (من أيقظ علي بابا) عند مسألة العنف كمكون أصيل في الشخصية العراقية ، ولاحظت أن طاقة العراقي وميوله ونزعاته المجتمعية ، تتجه إلى ممارسة أقصى درجة من العنف الداخلي ، بينما تتراجع هذه الطاقة وتتراخى الروح الوطنية أمام مواجهة العنف الخارجي ))(35) . والملاحظ إن هناك شبه قانون سوسيولوجي مفاده ؛ انه كلما تآكلت شرعية الدولة وضعفت سلطتها وانحسرت رموزها ، كلما لجأت إلى مظاهر القوة العمياء واستعراض الشراسة الطائشة ، لاستعادة مركزيتها الآفلة وفرض هيبتها الزائلة . ولكن هيهات ، ذلك لأن صدور أية بادرة تنم عن الوهن والتراخي من جانب الدولة قمين بإشعال لهيب الترسبات السوسيولوجية والتراكمات السيكولوجية والمواريث الانثروبولوجية ، التي غالبا”ما أسقطت الدول وقوضت المجتمعات .
5 . الاستزلام العصبوي والاستتباع المصلحي ؛  لا يكاد يخلو / ينجو مجتمع من المجتمعات البشرية من آثار ظواهر الاستزلام العصبوي والاستتباع المصلحي ، طالما إن قواعد الاختلاف في الأصول العرقية ، والتنوع في المصادر الثقافية ، والتباين في المرجعيات الدينية ، والتناشز في الجذور اللغوية ، لا زالت تحكم الديناميات الاجتماعية وتتحكم بالسيرورات الحضارية ، على خلفية استمراء الدولة التسلطية اللعب بالتوازنات والانشغال بالافضليات والتلاعب بالصراعات . بيد إن انتحاء تلك الظواهر للهيمنة – كما لو أنها قانون حديدي –  على سائر تمفصلات المجتمع العراقي ؛ لجهة تأطير العلاقات ، وتحديد الولاءات ، وترسيم الانتماءات ، وبرمجة الذهنيات ، ونمذجة السلوكيات ، وتنميط الشخصيات ، تغدو مسألة فيها نظر . لا تستوجب المعالجة السريعة  والمداخلة العاجلة فقط – حيث لا دواء جاهز لمثل هكذا داء –  وإنما تتطلب دراسة الأسباب المغيبة وتحليل الدوافع المخفية واستدعاء النوازع المنسية ، فضلا”عن امتلاك الجرأة لنكأ جروح الممنوع القول عنه والممتنع التفكير فيه ، والا سنبقى نسبح بحمد الخطابات الإيديولوجية المستهلكة ، والشعارات الطوباوية المجيشة ، والدوران ، بالتالي ، في حلقات فراغ المعنى من حياتنا كشعب وضياع المغزى من وجودنا كأمة . وإذا كانت مظاهر العلاقات القبلية والاستقطابات المذهبية والالتزامات العشائرية ، قد وسمت أنماط الحياة الاجتماعية لشعوب بلدان المحيط العربي ، حتى لفترة ما بعد التحرر من السيطرة الكولونيالية ، إلاّ أنها لم تلبث أن تراجعت في قسم منها إلى مجرد شعائر شكلية وطقوس تقليدية ، تعبر عن خصوصيات هذا الطرف الاثني أو ذاك وهذه الجماعة الدينية أو تلك . هذا في حين تحولت عند القسم الآخر إلى شكل من أشكال الفولكلور الوطني ومعطى من معطيات الذاكرة التاريخية وهو الأمر الذي سرّع آليات ولوجها إلى ميادين الإصلاح البنيوي والتحديث السياسي ، بعد أن آثرت فكرة الاحتكام إلى نظام المؤسسات بدلا”من فوضى العصبيات ، والاعتبار لهيبة القانون بدلا”من العرف القبلي ، والانخراط بالمواطنية بدلا”من الفردية الانعزالية ، وتقلصت ، من ثم ، مراحل انتقالها من طور الانتماء العشيري إلى طور الولاء الوطني . وخلافا”لذلك فان المجتمع العراقي بدلا”من أن ينتهج هذا السبيل الإصلاحي / النهضوي ، واللحاق بأقرانه من المجتمعات العربية الأخرى ، فإذا به ينتكص على عقبيه ويرتدّ إلى مرابع جاهليته الأولى ، التي يبدو انه لم يغادرها قط ، بالرغم من كل المزايا الحضارية التي يتشدق بامتلاكها والأفضليات التاريخية التي يتبجح بحيازتها(36) . إذ لا زالت معظم مكوناته الاثنية والدينية والمذهبية والقبلية ، تفضل البقاء ضمن حصونها الجهوية ومعازلها العنصرية وغيتواتها الطائفية ، بدلا”من الشروع بترميم العلاقات الخربة وردم الفجوات المتقادمة وتجسير الانقطاعات المزمنة ، باتجاه خلق شروط وتهيئة مقومات (الشخصية الاجتماعية) التي لم تبرح مجرد فكرة غامضة تبحث عن واقع ملموس . كما وأنها ترجح الاحتماء باصولها البدائية حين يشتدّ وطيس الأزمات ويتفاقم ضجيج الانهيارات ، بدلا”من الانتحاء صوب ثوابتها الوطنية ومرجعياتها العراقية أو (السيادة العليا) كما يسميها المفكر (محمد أركون)(37) . وهو الأمر الذي أفضى –  ولا يزال يفضي – إلى التضحية بمعايير الولاء الوطني والانتماء العراقي ، على مذبح تقاطع ارادات الاستزلام العصبوي وتعارض علاقات الاستتباع المصلحي ، بوازع من منطوق (الحكمة) الشعبية التي مفادها ؛ إن الشجرة التي لا تظلل أهلها ينبغي قطعها والتخلص منها .  
6 . تديين الوعي وتسييس المقدس ؛  ثمة فاصلة معرفية بين محتوى السيكولوجيا الشعبية(38) المنتجة للأساطير والمستهلكة للخرافات من جهة ، وبين مضمون الوعي الاجتماعي المسؤول عن وقعنة التصورات وحضرنة السلوك من جهة أخرى . وما لم يتدارك المجتمع المعني تخطي عتبة حيز الأولى باتجاه رحاب الثاني ، فانه سيبقى يتمرغ في حضيض أوهامه عن ذاته وأباطيله عن الآخر ، فضلا”عن كونه سيغدو أرضا” بكرا” وحقلا”خصيبا”لاستنبات زؤان النوازع الظلامية والنوايا المتوحشة . ومن مساوئ استنقاع المجتمع التقليدي في حمأة السيكولوجيا الشعبية والرضوخ لإيحاءات رموزها المؤسطرة ، سهولة إغراء مكوناته للوقوع ضحية الخطابات التعصبية المتسربلة بجلباب المقدس الديني ، وبالتالي سرعة اختراق ممانعتها الوضعية إزاء الاستسلام لحالات التجييش والتعبئة الطائفية . ولما كان الوعي الديني يحتل حيزا”مهما”ضمن منظومة الوعي الاجتماعي ، لاسيما في المجتمعات التي لم تخلع بعد نير ماضيها المتحجر والإفلات من سطوة تاريخها الخرافي ، فان طقوس تغليب منقول الأول على معقول الثاني ، غالبا”ما تحمل بين طياتها دوافع ذاتية ومآرب مصلحية ، مستغلة بذلك (( توق الناس إلى التعالي الذي تمثله السماء ، بجعلهم يشعرون بامكان الهرب من الوضع الإنساني الضعيف والارتقاء إلى ما يقع وراءه ))(39) . ولأن العامل الديني يعدّ من أكثر الرموز فاعلية في الوجدان البشري ، إن لم يكن مصدرها الوحيد في الحياة الاجتماعية ، لاسيما وان ظاهرة التقديس كانت وستبقى من أبرز مقوماته ثباتا”وديمومة(40) . فقد لجأت مختلف النظم السياسية التي توالت على حكم العراق قديما”وحديثا”إلى توظيف رصيد تلك الطاقة الهائلة وعلى نطاق واسع وبصورة مكثفة ، ليس من منطلق وقعنة قيم الدين المتعالية وتحيين مبادئه المفارقة ، للحدّ من مظاهر التعصب في الحوار بين الأديان والكفّ عن مشاهد التطرف في العلاقات بين الطوائف ، سيما وان المجتمع العراقي يعتبر من المجتمعات التي تمتاز بتعددها الديني وتنوعها المذهبي واختلافها الطائفي . وإنما – وهنا مكمن الخطر – لتديين بقايا جيوب الوعي الاجتماعي الذي طالما كان – أصلا”-  ذا طابع هش بنيويا”وضعيف المناعة عقلانيا”، حيال مظاهر الانحراف باتجاه التعصب القومي والانجراف نحو التطرف الديني  ، بحيث تتحول تلك الجيوب إلى معاقل للرفض وحصون للممانعة وهو ما يمحض أصحابها قسطا”من الواقعية الاجتماعية والعقلانية الفكرية في التعامل مع سيولة الواقع والتعاطي مع حراك المجتمع . على خلفية إن (( الدين بحسب طبيعته – كما يقول المفكر الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله – هو حالة ترتبط بالقضايا المقدسة للإنسان ، فتلامس شعوره قبل أن تلامس عقله ، لذلك فان أي نوع من أنواع الاختلاف ، حتى الذي لا يصل إلى موقع التحدي ، يخلق حالة شعورية حادة تتمظهر بكل الوسائل التي يملكها هذا الإنسان ))(41) . الأمر الذي يفضي ، إن عاجلا”أم آجلا”، إلى وضع المقدس الديني في خدمة المدنس السياسي ، وتظهير رصيد لاهوت الغيب لحساب ناسوت الشهادة ، بعد أن يجرد  الجمهور المضلل بمتخيله الديني المتطيف – وهو ما سيقوده إلى التطرف لا محالة –  من كل صلة له بالواقع المعاش / المزري ، وتشل إرادته الإنسانية وتعطل ملكاته المعرفية على مقاضاة حكامه ومساءلة مستبديه ، وبالتالي المطالبة بتحسين أوضاعه الاجتماعية ، وتأمين حاجاته الاقتصادية ، وضمان متطلباته الثقافية ، وتحصين قواعده النفسية  ، ويختزل كيانه الشخصي إلى مجرد فرد هلامي كسيح الإرادة وعديم الوعي ، يجتر الترهات التي يعضونه بها رجال الدين الذين امتهنوا ألاعيب السياسية ، ويزدري الأكاذيب التي يقدمونها له رموز السياسة الذين ارتدوا جلباب الدين . ولهذا تراهم (( يلجأون إلى التعالي بالسياسة لجعل حكمهم يعلو على كل شرعية بشرية . وخطورة هذا النوع من التطرف ليس فقط كونه يقوم على تزييف وعي الناس عن طريق الكذب الإيديولوجي الصراح ، بل أيضا”، وهذا أخطر ، لأنه يدفع إلى ردود فعل مضادة من النوع نفسه ترتفع إلى مستوى العقيدة وتكتسي صورة تسييس التعالي ))(42) . 
7 . ترييف المدينة وتطييف المجتمع ؛  ليس هنالك من يناهض فكرة إن بواكير الحضارة ابنثقت على تخوم الحواضر والمدن ، ولعل المسعى الذي يرمي إلى اشتقاق مفهوم الحضارة من عبارة (الحواضر) قمين بأن ينال الرضا ويحظى بالمصداقية . ولذلك فليس من الغرابة في شيء أن يصادف المرء توافق الإشارة إلى هذه العلاقة العضوية ، لدى كل من بحث هذه المسألة أو تطرق إليها تصريحا”أو تلميحا”. ولهذا فقد أشار (كلود جوليان) إلى أن (( فكرة المدينة وثيقة الارتباط بمفهوم التقدم ؛ فالمدن هي محرك الحضارة ، والأرياف مكبحها ))(43) ، مضيافا”في مكان آخر إن (( هناك عرف راسخ يضع المعادلة المزدوجة التالية : المدينة = التقدم ، والريف = مذهب المحافظة ))(44) . ومن منطلق هذه الحقيقة التاريخية ، فانه من الطبيعي أن يتبادر إلى الذهن افتراض مفاده ؛ انه طالما كانت المجتمعات القديمة قد قطعت أشواطا”واسعة في مضمار البناء الحضاري ، لاسيما في المراحل الأولى من تكوينها (العراق ومصر مثلا”) ، فان المدن التي نشأت في ربوعها وتطورت بين جنباتها ينبغي أن تكون على مستوى من التمدن والتحضر ، لا في مجال العمران المادي / المظهري فقط ، بل – وهو الأساس –  وفي العمران الإنساني / القيمي أيضا”. بيد أن الواقع الفعلي سيضعنا أمام مفارقة سوسيولوجية غريبة وهي ؛ إن المدن التي لا يتخطى تاريخ نشوئها في أوروبا حدود القرن الثاني عشر(45) ، أصبحت في غضون فترات وجيزة بمثابة الداينمو الذي فجر مكامن الحضارة الغربية وأشعل فتيل جيشانها بتلك المعطيات العجائبية من التقدم العلمي / الصناعي ، والتطور الفكري / المعرفي ، والتطلع السياسي / الاستراتيجي ، والتفوق التكنولوجي / العسكري ، التي لا تزال معالمها ساطعة تبهر الأنفاس وتخلب الألباب . هذا في حين إننا نلاحظ انه برغم قدم تاريخ انبثاق المدن في العالم العربي – وفي المقدمة منها العراق – الذي يمتد لآلاف السنين ، بحسب معظم المصادر التاريخية والحضارية التي أرخت لتلك المجتمعات ، إلاّ انه ، ومع ذلك ، لم تمتلك ذلك الزخم النوعي الفاعل الذي كان ينبغي أن تمارسه ، لا في ميادين تغلغل آثار الحضارات التي احتضنتها وتوطين مظاهر التمدن التي أنتجتها فحسب ، وإنما أخفقت في الحفاظ على منجزاتها من الضياع وشواخصها من الاندثار . ونحن إذ نبرز هنا عيوب المدينة العربية – واستطرادا”العراقية – لا نتغيا من وراء ذلك وضع أوزار هذه الحالة / الواقعة على ما تمتاز به طوبوغرافية تلك المدن بحدّ ذاتها ؛ من حيث الموقع الجغرافي والتنظيم الإداري والطابع العمراني والنمط الايكولوجي ، بقدر ما نعتزم الكشف عن مسؤولية الظروف السياسية المزرية التي عصفت بها ، والأوضاع التاريخية الشّاذة التي خضعت لها ، والصراعات الاجتماعية المتواصلة التي نشبت فيها ، والانصهارات الحضارية المستمرة(46) التي حدثت عليها ، بحيث كانت من العوامل الجوهرية التي عززت هذا الضرب من العجز في التحديث وتلك العطالة في النهوض . وكثيرا”ما أشير ، من جانب بعض المؤرخين ، إلى أن المدينة العربية / العراقية حظيت إبان العصور الإسلامية بكل أسباب الاستقرار السياسي والاقتدار العسكري والتطور الاقتصادي والتآلف الاجتماعي والتجانس الثقافي ، وهو الأمر الذي شجع على قيام (مدن حضارية) عامرة ، استقطبت كل ذوي السلطان من جهات الشرق والغرب للإطلاع عليها والتعلم منها والإقتداء بها (بغداد ودمشق والقاهرة كأمثلة) . والواقع انه إذا كان هذا القول يمثل أحد أوجه الحقيقة التي طالما جرى التأكيد عليه والتعبير عنه ، كجزء من إيديولوجيا الخطاب القومي / الديني في سجاله مع كل من أراد إيقاع السوء بالمصالح العليا للقومية العربية ، سواء أكانت من جانب الاستعمار أو الصهيونية أو الشعوبية ، فان الوجه الآخر لتلك الحقيقة قد تم حجبه والتعتيم عليه مرارا”وتكرارا”، دون أن يصار إلى إدراك مخاطر مثل هذا الموقف المنافي للواقع والمجافي للصواب ، فيما لو كشف التاريخ موجودات أرشيفه ودلقت الذاكرة محتويات مخزونها . ولذلك فقد أشار بعض المستشرقين الذين تخصصوا بدراسة تواريخ وحضارات الشعوب العربية والإسلامية إلى (( انه بالرغم من إن الشعور بالوحدة كان قائما”إلاّ إن المدينة الإسلامية لم تكن وحدة عضوية بأي حال . فالتنظيم الاجتماعي الذي شكله الضغط السياسي والاقتصادي ثم أعيد تشكيله وتجددت حيويته بفعل المؤثرات الدينية ، كان تنظيما”مشلولا”مكتفيا”بذاته ، يكاد يتكون من مجموعات تحكم نفسها بنفسها ، ولا تخضع إلاّ للسلطة الطاغية التي تباشرها السلطات العلمانية والروحية الممثلة في الحكام وضباط الأمن والقضاة ))(47) . وعلى خلاف ما هو شائع في الأدبيات السياسية والاجتماعية ، فان شيوع ظاهرة ترييف المدن لم تكن حصيلتها ناجمة (لوحدها) عن سوء طباع الإنسان الذي يسكن الريف ويستبطن قيم البداوة ، بحكم خضوعه لأنماط من العلاقات وأنساق من الثقافات تحتم عليه أن يبدي ممانعة ملحوظة حيال مظاهر التمدن وأساليب التحضر ، التي من شأنها تهذيب السلوك الطائش وتشذيب التصورات الفجة ، وهو ما لا نألفه عند سكان الريف الذين اعتادوا حياة القسوة في التعامل والخشونة في التواصل . بل كان لانحراف السياسات وانعدام الخدمات وتشويه الإصلاحات وتتريث الثقافات وتخريب النفسيات ، الدور الأكبر والقول الفصل في استشراء هذه الحالة المدمرة وتفاقم افرازاتها المهلكة ، على عيد تمزيق وحدة المجتمع المدني وتطييف مكوناته ، التي لا يندر أن تكون في معظمها ذات انحدار ريفي وأصول قبلية ، بعد أن دفعتهم ظروف الفاقة الاقتصادية وتردي الأحول المعيشية ، فضلا”عن انسحاقهم بين أضلاع مثلث التخلف ؛ الفقر والمرض والجهل إلى مغادرة مرابضهم الريفية المعتمة صوب بهرج المدينة وإغراءاتها الجاذبة . لاسيما وان (( التعارض القائم في كل مجتمع بين أهل الريف وأهل المدينة لم يكن واضحا”بشكل يندر أن نجد له مثيلا”قدر ما كان في العالم الإسلامي . ففي هذا المجتمع لم يكن الأمر مجرد تعارض بين العزلة والمجتمع ، بين اقتصاد القرية المشتت واقتصاد المدينة المركّز ، بين الإملاق المضطهد والحرية والثروة النسبيتين ، بين المنتج والمستهلك ، بل انه كان تعارضا”بين حضارتين))(48) . ولذلك فمن الخطأ أن يتصور البعض وجود علاقة ترابطية ما بين ظواهر ترييف المدينة من جهة ، وبين مظاهر تمدين الريف من جهة أخرى ، معتمدين بذلك على وقائع انتقال بعض منتوجات المدينة العصرية وانسياح أنماطها الاستهلاكية بين سائر شرائح المجتمع الريفي ، وما يوحيه ذلك من تقارب في المستويات المعيشية ، وتماثل في التصورات الذهنية ، وتجانس في العلاقات الاجتماعية . وهو الأمر الذي سوغ للباحث والأكاديمي اللبناني الدكتور (خليل أحمد خليل) استخلاص الاستنتاج الذي مفاده (( إن تداخل الريف والمدينة في العالم العربي لا يني يتواصل ، ويشي دوما”بترييف المدينة ، وتمدين الأرياف ))(49) ، إلاّ انه لم يلبث أن استدرك إن (( الجمهور الريفي موجود بكثافة وبقوة في المدن العربية الكبرى ، ولا يتبرجز أو يتبلتر ، كما هو حال سكان المدن الأصليين ، إلاّ عبر مسارات تحول اجتماعي طويلة الأمد ))(50) . وإذا كانت هذه الظاهرة قد شهدت انحسارا”لها في بعض المدن العربية ، لاسيما على أثر حصول أقطارها على الاستقلال الوطني وما ترتب عليه استئناف مشاريع إصلاحية معطلة وبرامج تنموية مؤجلة ، فان نصيب المدينة العراقية من ذلك لم يكن فقط شحيح المردود وهزيل النتائج حسب ، بل وكذلك فاقم معدلات وقوعها بين فكي كماشة ترييف قيمها الحضرية وتطييف مكوناتها الديموغرافية ، لا بل أنها تقهقرت إلى حدود قصوى من التوحش في السلوك والتبربر في الأعراف ، بحيث فقدت كل ما كان بحوزتها من مظاهر الأصالة التاريخية والعظمة الحضارية والأبهة العمرانية . وهكذا – كما لا حظ المفكر البحريني (محمد جابر الأنصاري) ما أن حلّ (( عصر الاستقلال الوطني وتحتم على المجتمع المديني العربي (=العراقي) حكم نفسه حتى تكشفت هشاشته التاريخية من حيث قدرته على توليد القوة السياسية والسلطوية اللازمة لحكم نفسه والمجتمع المحيط به . وسرعان ما تصاعد مدّ القوة الريفية المهملة والمحرومة ، هذه المرة ، فاجتاحت المدينة – كما كانت تجتاحها القوى البدوية القديمة – متخذا”اجتياحها في البداية شكل الانقلابات العسكرية عن طريق العناصر الريفية التي سيطرة على الجيش ، ثم عن طريق الحركات الشعبوية المباشرة ذات المنشأ الريفي والقواعد الريفية الكاسحة بايديولوجيتهاالأصولية ))(51) . واليوم إذ تشهد مدن العراق قاطبة ليس فقط ارتفاع موجة الترييف لقيمها الرمزية والتطييف لمكوناتها الاجتماعية ، على خلفية الاستباحة المسعورة لشتى أصناف الأقوام المتخلفة والأجناس المتطرفة والطوائف المتعصبة فحسب ، بل وأنها مرشحة لأن تفقد ما أحرزته على مدى عقود شاقة ومخاضات مؤلمة ، من مظاهر التمدن في عمرانها والتحضر في اجتماعها والتعقلن في وعيها ، لتيمم  وجهها شطر مدن الآثار البائدة والحواضر المندرسة .  
8 . اختلال العلاقة بين المراكز والأطراف ؛  في كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية حتى ، لابد من وجود مراكز تتصدر واجهات البنى التحتية والمؤسسات الفوقية من جهة ، وتهيمن ، من جهة أخرى ، على مصادر إنتاج الرموز والمرجعيات ، للحد الذي لا يبيح لها فقط التمتع بالقدرة على تشريع محاور الاستراتيجيات ، والصلاحية بإصدار القرارات ، والدراية بتوجيه المسارات فحسب ، بل وكذلك التحكم بآليات اشتغالها الذاتي وضبط مجالات تفاعلها الموضوعي أيضا”، بحيث تأتي النتائج الموضوعة مسبقا”متوائمة مع التوجهات الآنية ومتوافقة مع التوقعات المستقبلية . وإما بغير هذا النمط من العلاقة العمودية بين الأعلى والأدنى ، والأفقية بين المركز والهامش ، على نحو يضمن سلاسة التمفصل بين الإدارات والسلطات ، والتناضح بين المدخلات والمخرجات ، فان الحصيلة لا مناص من أن تكون كارثية على كل صعيد وعند كل مستوى . وإذا ما أهملنا الإشارة إلى ملابسات التاريخ السياسي للعراق القديم ، وركزنا اهتمامنا باتجاه المعطيات المتمخضة عن أحداث التاريخ الحديث والمعاصر ، فإننا لا نعدو أن ننتقل من سيء إلى أسوأ في مضمار المشاكل والإشكاليات التي حددت طبيعة العلاقة بين سلطة العاصمة بغداد ، التي بعكس نظيراتها من العواصم العربية الأخرى ، كلما تقادم عليها الزمن كلما شهدت انحسار نفوذها السياسي وانحدار سلطانها الاعتباري ، قياسا”إلى نصيب توابعها الطرفية (الإمارات / المحافظات) من حيث الجاه الذي تتمتع به ، وحصتها من حيث الحضوة التي تمتلكها ، لاسيما في حساب معادلات التوازن بين القوى والتجاذب بين التيارات . ففيما كان المؤرخ العراقي (عباس العزاوي) يرثي لحال بغداد / المركز التي انهكتها الفواجع وأضعفتها النوائب بالقول (( أما بغداد فأنها لولا الحالة الزراعية المساعدة ، والمياه المتدفقة ، والاستفادة من العمارة عند سنوح الفرصة ، أو عروض الهدوء والطمأنينة لكانت خبرا”بعد عين . لما نالها من زعازع واضطرابات وحروب أودت بعمارتها ، وشوشت أمرها مرارا”عديدة ، وإزالة معالمها ، وذهبت بنضارتها ))(52) . فان الخليفة العباسي (المستعصم بالله) حين داهمته جحافل التتار استكثر عليها أن تكون رمزا”لوحدة الكيان العراقي وحافظة لمصيره من التفتت والضياع . فقد ذكر (ابن العبري) في كتابه : مختصر الدول ، انه كان (( إذا نبّه على ما ينبغي أن يفعله في أمر التتار ، إما المداراة والدخول في طاعتهم وتوخي مرضاتهم ، أو تجييش العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق ، فكان يقول : أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها عليّ إذا نزلت لهم عن باقي البلاد ، ولا يهاجمونني وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي))(53) . والطامّة الكبرى هي إن كل من أعتلى صهوة الحكم في بغداد / المركز ، كان غريبا”عنها وطارئا”عليها وطامعا”فيها – ليس المقصود هنا فقط غربة المكان / الجغرافيا وما تنطوي عليه من شكليات الانتماء وصوريات التجنّس فحسب ، بل والأهم غربة الزمان / التاريخ وما توحي به من ضعف الولاء وتآكل القيم ومسخ الذاكرة –  ، وهو الأمر الذي أدخلها في أتون صراعات دموية لها أول وليس لها آخر ، ليس فقط مع شتى أنواع الطامعين والغزاة الذين انحدروا إليها من كل صوب وحدب ، بل وكذلك مع التكوينات والعناصر المحلية من مختلف الأقوام والأديان والطوائف والقبائل . فحينما كانت قبضة الفرس والأتراك تحكم زمام أمرها وتقرر آفاق مصيرها ، كان أوار صراعها مع الاثنيات الطرفية والعشائر البدوية المحيطة بها من كل جانب لا يهدأ إلاّ ليستعر مجددا”، على خلفية تضارب المصالح وتقاطع الارادات ، مما أضعف قوتها وقلص سيادتها وقوض هيبتها ، سيما وان نفوذ تلك الأقوام والقبائل كان يمتد إلى مساحات شاسعة من إقليم العراق الجغرافي ، بحيث أمست بغداد لا تحكم إلاّ نفسها ولا تمارس نفوذها إلاّ في حدود قدرتها على المجابهة . أما وقد بلغت مرحلة التخلص من التبعية العثمانية والوقوع في مزالق التبعية البريطانية ، التي حافظت على بقاء بغداد / المركز عليلة الإرادة هزيلة القوة ، إزاء تفوق قدرات خصومها على تهديد أمنها وزعزعة استقرارها متى ما أرادت ذلك وسعت إليه . وهو الأمر الذي حمل الملك (فيصل الأول) على بث شكواه بطريقة لا تخلو من دلالة على ما آل إليه حال المركز / بغداد من ضعف في القوة وعجز في المقدرة ، التي يفترض أن تكون بحوزتها إذا ما أريد بناء دولة مستقلة ومجتمع متحضر حين قال (( إن الحكومة أضعف من الشعب بكثير . ولو كانت البلاد خالية من السلاح لهان الأمر ، ولكنه يوجد في المملكة ما يزيد على المائة ألف بندقية ، يقابلها 15 ألف حكومية ، ولا يوجد في بلد من بلاد الله حالة حكومة وشعب كهذه ، هذا النقص يجعلني أتبصر ، وأدقق ، وأدعو أنظار رجال الدولة ، ومديري دفة البلاد للتعقل وعدم المغامرة ))(54) . ولعل هناك من يعتقد بأن عهد النظام السابق كان بمثابة العصر الذهبي لانتظام العلاقة بين سلطة المركز / بغداد التي لا يماري أحد في حضورها المؤثر والمهيمن في ميادين التشريع والتوجيه والقيادة ، وبين الأطراف / المحافظات التي أذعنت لمركزية السلطة وانصاعت لهيبتها وامتثلت لقراراتها ، مما سهل انسيابية الحراك الإداري والوظيفي مابين مؤسسات وأجهزة المجتمع السياسي من جهة ، وبين مكونات وعناصر المجتمع المدني والأهلي من جهة أخرى . والواقع إن خاصية العلاقة الملتبسة بين سلطة المركز ونفوذ الأطراف لم تكن أفضل مما كانت في الحقب السابقة ، خلا بعض ما طرأ من تغيير في الأساليب لإدامة العلاقات الاجتماعية ، وتطوير في الوسائل لصياغة الخيارات الاستراتيجية ، وتحوير في المداخل لإدارة الأزمات السياسية . ذلك لأن المركز / العاصمة لم يكن واقع فقط تحت نفوذ بعض المحافظات / الأطراف لاعتبارات حزبية وعنصرية فحسب ، بل وكذلك خاضع لسلطان بعض القرى / الهوامش لاعتبارات عشائرية وقرابية أيضا”. كما أن نسغ تلك العلاقة لم يحكم بضرورات المصلحة الوطنية ومتطلبات التنمية الاجتماعية كما كان يفترض أن يحصل ، بقدر ما تحكمت به هواجس الخوف من بطش السلطة المتريفة والطاعة العمياء لموزها المتطيفة . ولاستكمال مشاهد السيناريو المتضمن عرض حالات الاضطراب التي وسمت بندول العلاقة بين خيارات المركز وتوجهات الأطراف والهوامش ، لاسيما بعد سقوط بغداد / العاصمة وانهيار سلطة المركز فيها ، فان الضرورة تقتضي الإلماح ، بإيجاز شديد ، إلى ما آلت إليه الحال في الوقت الحاضر بخصوص التحول الكامل والانقلاب الشامل ؛ لا في مصادر القرارات وصلاحيات السلطات بين المراكز الحضرية والأطراف الريفية فقط ، وإنما ، يضاف إليه ، في أنماط العلاقات ومراجع الذهنيات بين الأفراد المعبئين والجماعات المجيشة ، للحدّ الذي لم يعد لدينا ما نعتمده كمعيار للمقارنة أو كمقياس للموازنة بين سلطة هذا وسلطان ذاك ، لاسيما بعد أن اختلطت وتداخلت قوى العشائر بنفوذ الطوائف ، ومصالح الساسة بمآرب رجال الدين ، وطموحات الأحزاب العنصرية بأطماع الدول الإقليمية . باختصار شديد ؛ نحن بحاجة إلى من يصدمنا ويغير مسار حياتنا ؛ لا في مسلمات نظامنا السياسي وبديهيات اجتماعنا المدني فحسب ، بل وفي محرمات وعينا الفردي ومقدسات مخيالنا الجمعي وممنوعات أرشيفنا النفسي أيضا”. وهذا لن يتحقق ما لم نروض غرائزنا الجامحة على الاستماع لصوت العقل الذي طالما قمعناه بقوة الخرافات العنصرية ، ونستدرج عواطفنا المنفلتة للركون إلى نداء الحكمة التي طالما وئدناها بعنف الأساطير الطائفية .
ثالثا”- توقعات الإصلاح : من التفاؤل إلى التشاؤم ؛
قد يوحي للناظر أن سلوك العراقيين ، حين لا يواجهون مشاكلهم ولا يحفلون بمآسيهم – كما يفعل الآخرين – على نحو مباشر وبكيفية تنم عن روح التحدي وإرادة المجالدة ، على انه ضرب من ضروب إيهام الخصوم / الأشقاء والمتربصين / الأعداء ، من أنهم لا يزالون متمسكين بحبل وحدتهم الوطنية رغم تشظيهم الجهوي الصارخ ، ويحرصون على تماسكهم الاسمنتي باجتماعهم الحضاري رغم تذررهم القبلي الفاقع ، ويراهنون على تسامحهم المفرط بتعايشهم الديني رغم تشتتهم الطائفي المدمر ، ويلجون ويلهجون بتوافقهم المطلق على مشروعهم السياسي رغم طقوس القتل الدامي وشعائر الابادة بالجملة . وهو ما قوض – وسيقوض على الدوام – كل محاولة / بادرة ترمي إلى إصلاح أركان هذا البيت المتداعي وتغامر لانتشاله من مهاوي الانهيار والضياع . ذلك لأننا لا نجيد التعبير عن حقيقة مشاعرنا المضطربة ، ولا نحسن التصرف حيال مشاكلنا المتفاقمة ؛ نعلن غير ما نبطن ، ونظهر خلاف ما نطمر ، نتماهى مع العواطف حتى وأن أوردتنا موارد التهلكة ، وننأى عن العقل حتى وأن كللنا بغار الحكمة وجنبنا سلوك الطيش والتهور . وهكذا فقد تجد العشرات ممن يمتدح العراقيين على وداعة طبعهم ودماثة خلقهم وطيبة معشرهم ، لا لشيء إلاّ لأنه استبطن ما جرت عليه العادة المألوفة وتوافق عليه العرف السائد ، في حين انك تعيا وتشقى حتى تصادف من يلمزهم بمساوئ صفاتهم الاجتماعية عسى أن يلطفوا من غلواء التطرف في علاقاتهم ، وتقلب أمزجتهم النفسية عسى أن يكبحوا جماح التعصب في سريادتهم ، ورواسب عقدهم التاريخية عسى أن يدرءوا المؤسطر في مخيالهم . فها نحن لم نبرح نلعن الحظ العاثر الذي أوقعنا بهذه الكوارث وساقنا لتلك المآسي ، في حين نحن ذاتنا من حملناه على ولوج مزالقها بعد أن ألبسناه لبوس الضرورة في حفل طقوسي مهيب للنواح الجماعي(55) . كما إننا لم نفتأ ندين القدر الأعمى الذي ساقنا إلى حجيم أوضاعنا الملتهبة وعفرنا بمظاهر الذّل المعتق والهوان الأبدي ، في حين نحن لا غيرنا من أورثه هذا الطابع المجلل بالنوائب والمطرّز بالمصائب ، للحدّ الذي لم يعد معه يطيق فسحة الأمل ولا يكترث بأفق الانفراج . لا بل هل سوانا من يتلظى بفرط الحرية التي اندلقت علينا فجأة ودون سابق إنذار بعد أن أضعنا حقيقة إننا مكبلين بقيود العبودية التي صنعتها أيدينا وباركتها أفواهنا وشرعتها عقولنا ؟ وهل من قوم غيرنا يتحدث بصخب ويتكلم بضجيج عن مناقب النظام ومزايا القانون ، في حين لا نزال نتمرغ بحضيض الفوضى ومستنقع الزعرنة ؟ وهل هناك من يشاطرنا في ربوع المعمورة بالحديث عن ولعنا بالديمقراطية وضرورة الأخذ بنظامها حتى لكأننا سادة مثلها ونواب قيمها ، هذا في حين إن كل واحد منا يحمل في كيانه بذور طاغية مقبل وأجنة مستبد منتظر ؟ . هكذا وفي زحمة هذا السيل من المفارقات والانثيال من والتناقضات ، يصعب تصور إن لفكرة الإصلاح في هذا المجتمع (الصعب المراس) بيئة تساعد على استقدامها وقبولها ناهيك عن تبنيها والتعايش معها . وهو ما يعطي لتشاؤمنا حيال هذه المسألة / الإشكالية ما يبرره ويسوغه واقعيا”ومنطقيا”، على الرغم مما يشاع هنا أو هناك –  إما بوازع من الجهل بواقع الحال الاجتماعي المتأزم وضبابية الرؤيا لمشاهد الوضع السياسي المتفاقم ، أو بدافع من وقاحة المصلحة الشخصية ووضاعة المكاسب الفئوية –  من إننا ننعم ببحبوحة التغيير الجذري الذي طال كيان مجتمعنا أفقيا”وعموديا”، وشمل نظام قيمنا فوقيا”وتحتيا”، هذا مع الإجادة بالعزف على أوتار مظالمنا المزمنة والضغط على مواضع حرماننا المتقيحة . فالخير آت والأمر قد حسم ، فان لم يكن الآن فهو عند الأفق قد ارتسم . ولإيضاح خطل مثل هذه التصورات الساذجة وبيان قصور مثل تلك الطروحات المبتسرة ، فقد ارتأينا وضع كل منشط من مناشط وقعنا الاجتماعي المزري تحت طائلة النقد والمساءلة من منظور حيادي مجرد ، لا يستهدف لملمت العيوب وطمطمة الثقوب – كما جرت العادة بين فرسان الإصلاح الذي ينعم به العراق وينام على رغده الشعب – بقدر ما يرمي إلى تشخيص مكامن العطل في وعينا عسى وعلى أن يصار إلى إصلاحها ، وتعرية مصادر الخلل في اجتماعنا عسى وعلى أن يصار إلى علاجها ، والكشف عن منابع العلل في نفوسنا عسى وعلى أن يصار إلى استئصالها ، والتأشير على بواعث الزلل في ثقافتنا عسى وعلى أن يصار إلى تقويمها . والا فالويل لنا من قابل الأيام التي تنتظرنا ، إذ إن التاريخ لن يعبأ بمن يجهل قوانين سيرورته ولن يرحم من يتجاهل مغزى دروسه .
1 . في السياسة : من الوطنية إلى الطائفية ؛  لعله من غرائب الأمور أن التجربة البشرية لا تعطي كفاية نماذج تضاهي حالة المجتمع العراقي ، الذي ما أن وقعت عليه وفيه واقعة الاحتلال حتى تشظى إلى كيانات طائفية مجيشة ، وكيانات عنصرية مستقطبة ، وجماعات عشائرية مستنفرة ، وكأنه لم يكن بالأمس القريب يتغنى – كما لم يفل الآخرين – بصلابة وحدته الوطنية ، ومتانة روابطه الاجتماعية ، ونضوج وعيه العراقي . إذ إن القاعدة السائدة في هذا المجال تشير إلى إن الشعوب التي تتعرض لاهتزازات سياسية حادة ، واختلالات بنيوية عميقة ، غالبا”ما تسارع إلى تأجيل خلافاتها وتعطيل مشاكلها ، لتدرأ عن نفسها الوقوع في مزالق الصراعات الجانبية / الهامشية ، وتتحاشى السقوط في مهاوي الخطابات الحزبية / الإيديولوجية ، وتتحصن ، من ثم ، خلف ثوابتها الوطنية العامة ومشتركاتها القومية العليا ، من منطلق إن الضرر الذي يهدد الشأن الاجتماعي العام ستطال آثاره – إن عاجلا”أو آجلا”-  شؤون بقية الأجزاء والمكونات الأخرى ، سواء بالتزامن أو بالتعاقب ، مما يفعّل لديها عوامل الإدراك لحقيقة إن الدفاع عن مصالح المجتمع العمومي ، الذي تنتمي إليه وتشترك معه ، والمنافحة عن وجوده الحيوي ، هو بالأساس دفاع عن وجودها الذاتي ومصالحها الخاصة . ولما كان المجتمع العراقي هو الاستثناء في كل قاعدة ، فقد اعتبرت مكوناته (أقليات قومية ، طوائف دينية ، جماعات قبلية) إن لحظة السقوط التي تعرضت لها العاصمة ، هي الإشارة المنتظرة للتعبير عن رغبتها بالانسلاخ عن جذورها العراقية ، وتقديم صك التنازل عن روابطها الوطنية ، والإشهار الاحتفالي عن انتماءاتها العنصرية / الجهوية ، وولاءاتها الدينية / الطائفية ، واستقطاباتها القبلية / العشائرية . والانكى من ذلك إن ظاهرة التطيف قد اكتسحت جميع المرافق العامة والقطاعات الخاصة ، كما وغزت مختلف تشكيلات المجتمع السياسي بكامل مؤسساته ، والمجتمع المدني بكامل مكوناته ، والمجتمع الأهلي بكامل تجمعاته ، بعد إن توجت أول حكومة برتوكولية (مجلس الحكم) باستحقاقات تلك الآفة الحضارية ، التي لم نبرح نحصد كوارثها لحد الآن . وهكذا فقد انقلبت الموازين واختلت المعايير ؛ فبات الانتماء الاقوامي (عرب – كرد – كلدان – آشوريين) وليس الانتماء العراقي العام هو من يحدد سلسلة الأسبقيات في التمتع بالافضليات الاجتماعية والاستحقاقات السياسية ، وأصبح الولاء الطوائفي (سني – شيعي) وليس الولاء الوطني الشامل هو من يغدق المكاسب المادية والامتيازات الاعتبارية ، بحيث أمست صيغة المواطنية ، في ضوء ذلك ، وصمة تخلف من يؤمن بها وعنوان تأخر من يعتمد عليها . خلافا”لما أطرها المفكر (برهان غليون) الذي اعتبر إن ((المواطنية أو المواطنة كتحالف وتضامن بين أناس أحرار ، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ، أي بين أناس متساوين في القيمة والدور والمكانة ، ومن رفض التمييز بينهم على مستوى درجة مواطنيتهم وأهليتهم العميقة لممارسة حقوقهم المواطنية ، بصرف النظر عن درجة إيمانهم التي لا يمكن قياسها وقدرتهم على استلهام المبادئ والتفسيرات الدينية ، وكذلك على ممارسة التفكير واتخاذ القرارات الفردية والجماعية ، سوف تولد السياسة بمفهومها الجديد))(56) .
2 . في المجتمع : من الإجماع إلى الصراع ؛  لعله من نافل القول إن ظواهر الصراع ووقائع المنافسة قائمة في صلب الاجتماع البشري وقارة في طبيعته ، وذلك تعبيرا”عن اختلاف المصالح الاقتصادية ، وتقاطع الارادات السياسية ، وتغاير التصورات الفكرية ، وتباين المعاني الرمزية . ولذا فمن المتعذر إيجاد مجتمع يخلو من هذه الأنماط الصراعية للسلوك ، التي لا تلبث مؤشراتها أن تتصاعد ومستوياتها أن تتفاقم مع كل ما تشهده الحياة الاجتماعية من تعقيد في البنى وتركيب في الأنساق ، على خلفية التنوع الهائل في الرغبات ، والتعدد المفرط في الخيارات ، والتداخل المتعاظم في الهويات . بيد أن لكل فعل من أفعال الإنسان ولكل نشاط من أنشطة المجتمع حدود تتفاعل ضمن محيطها وتخوم تتواصل ضمن إطارها ، ومتى ما تخطت تلك الحدود وتجاوزت تلك التخوم ، حينذاك يفقد الأول خصائصة النوعية متحولا”إلى النقيض ، كما تتلاشى سمات الثاني لتنقلب إلى ضدها . ومن هذا المنطلق فان ظاهرة الصراع الاجتماعي بقدر ما هي حالة مألوفة ومتوقعة بين الأفراد والجماعات ضمن الحدود المسموح بها اجتماعيا”، وحين تكون ضمن السياقات المسيطر عليها بحيث لا تلحق ضررا”بالمؤسسات السياسة والعلاقات الاجتماعية القائمة ، – لا بل أنها في بعض الأحيان تنم عن حيوية عناصر المجتمع وفاعلية حراك مكوناته –  فأنها سرعان ما تتحول إلى أداة لتفكيك مدماك المجتمع المعني ومعول لتقويض أسسه ، كما يتيح لنا المثال / النموذج العراقي معاينة ذلك والتأسيس عليه . فعلى الرغم من اتسام تاريخ المجتمع العراقي بالطابع الصراعي الكامن تارة والمعلن تارة ثانية ، والبارد حينا” والساخن أحيانا”أخرى ، فانه لم يمنع مكوناته من التعايش والتراضي في إطار هذه الحقيقة التاريخية ، من منطلق قناعاتها بتنوع خصائصه السوسيولوجية وهجنة خلفياته الانثروبولوجية . إلاّ انه ومع بروز ظاهرة تعملق الدولة وطغيانها المفرط ، بعد أن تخلت عن صيغة (القوة في الحق) واستبدالها بنقيضها (الحق في القوة) من جهة ، وتغول السلطة وتوحشها المسرف ، بعد أن تحولت من مبدأ (التفويض المؤسسي) إلى مبدأ (الوصاية البطركية) من جهة أخرى . آثر الغالبية العظمى من العراقيين – أفرادا”وجماعات –  العزوف عن الانخراط في الأنشطة السياسية ، والابتعاد عن الفعاليات الاجتماعية ، والإحجام عن الممارسات الثقافية ، مخافة الوقوع تحت طائلة التخوين الوطني والتكفير الديني . وهو الأمر الذي أفضى إلى تعطيل قنوات التواصل ، وإيقاف مسارات التفاعل ، وإغلاق منافذ تصريف الاحتقانات ، وإقفال مسارب تفريغ الهيجانات ، بحيث تحول الاستثناء المسموح به والمسيطر عليه إلى قاعدة إجبارية متسلطة ، أدت بالعراقيين إلى استبطان منطقها الملتوي والتماهي مع ضرورتها الكاذبة ، مع كل إشارة تنم عن تأزم أوضاعهم السياسية وتفاقم ظروفهم الاقتصادية ، وتوتر علاقاتهم الاجتماعية ، واضطراب توازناتهم الثقافية . للحدّ الذي أضحت ، شأنها في ذلك شأن علاقات الشعوب القديمة مع آلهتها الافتراسية ، عندما كانت تقايض لحظات سلامها المؤقت وفترات سكينتها العابرة ، بتقديم الهدايا والأضاحي البشرية ، عبر طقوس وشعائر تدلل على انخذال العقل وهزال الإرادة .
3 . في الثقافة : من الارتقاء إلى الانكفاء ؛  كثيرا” ما يقترن فعل الثقافة بمعطيات الحضارة ، وهذا إن صحّ في بعض الجوانب والمجالات فانه لا يصحّ في بعضها الآخر ، من حيث إن هذا الاقتران لا يستنفد المعنى العميق والمغزى البعيد لمدلول الأولى بالقياس إلى محمول الثاني . ولذلك (( يحظى اليوم – كما لاحظ أستاذ الاثنولوجيا في جامعة السوربون – مفهوم الثقافة ، منظورا”إليه في معناه الممتدّ ، والذي يحيل على أنماط الحياة والفكر ، بقبول واسع ، على الرغم من أن ذلك لا يسلم أحيانا”من بعض الالتباسات))(57) . ولكي لا نقحم أنفسنا في ما لا طاقة لنا به ، ونتجنب الخوض في إشكاليات العلاقة بين الثقافة والحضارة(58) ، من حيث أنها لا تدخل ضمن اهتمامات موضوعنا هنا ، فإننا ننوي التوجه مباشرة إلى حال الثقافة في المجتمع العراقي وما طرأ على وظيفتها من انزياح نوعي أفضى إلى انحدارها من مركز (السيادة العليا / الثقافة الوطنية) التي تحمل بصمات التنوع وعلائم الاختلاف وملامح التغاير من خلال الوحدة في أهدافها وتوجهاتها ، إلى موقع (المرجعيات الدنيا / الثقافات الفرعية) التي يبدو أنها تتنطع ليس فقط لمنافسة حضوة الثقافة الوطنية الجامعة فحسب ، بل أنها تتجاسر لاحتلال مكانها والقيام بوظيفتها ، بعد أن تخلى المجتمع العراقي عن فكرة إن يكون له طموح ثقافي معقلن وتطلع معرفي مؤنسن ، تعكس رغبة أفراده وجماعاته بالارتقاء الثقافي والنبوغ العلمي والتقدم الاجتماعي والتطور الحضاري ، أسوة بأقرانه من المجتمعات الأخرى المجاورة له والمحيطة به – حتى لا نقول التي تشاطره مزايا العمق التاريخي والأصالة الحضارية –  التي توازيه في الامكانات المادية والبشرية وتماثله في طابعه الفسيفسائي من حيث تعدد الأديان واختلاف الأقوام وتنوع الطوائف وتباين الثقافات وتداخل الهويات . والغرابة في الأمر إن كل الذين ألهمتهم معطيات الثقافة العراقية ، سواء أكانت القديمة أو الحديثة أو المعاصرة ، لينبروا في تمجيد غناها الروحي ويعظموا في قيمتها التاريخية ، لم يفطنوا إلى أنهم كانوا ولا زالوا يمتحون زاد ذخيرتهم الأدبية من معين واقع ثقافي مفترض أكثر منه حقيقي(59) . بمعنى أنهم وقعوا – من جملة ما وقعوا فيه – ضحية تصور ، وان كان ينطوي على حسن نية وسلامة طوية ، إلاّ انه كان مفعم بالرومانسية الوطنية المؤمثلة ، التي غالبا”ما تشرأب مأثوراتها وقت الهيجانات السياسية / الاجتماعية والهذيانات الوجدانية / العاطفية ، حيث لا يلبث لهيبها أن ينطفئ وحماستها أن تتلاشى ، لاسيما حين يشتدّ وطيس الصراع وتعصف ريح المنافسة ، وتميط ، من ثم ، النوايا حجاب التخفي في حضرة الواقع . ولعمري هذا ما يفسر سرعة وسهولة تخلي العراقيين – دون أي شعور بالذنب – عن ثوابتهم الرمزية ، ونفض أيديهم عن سيادنهم الثقافية العليا ، حالما يشعرون بأن أجواء حاضرهم قد اكفهرّت بالأزمات ، وان آفاق مستقبلهم قد ادلهمّت بالصراعات . إذ سرعان ما تستشري فيهم حمى الانكفاء الجماعي نحو أصول ثقافاتهم الفرعية للتخندق في عرينها ، وتتردد بينهم أصداء صيحة الارتداد الكلي صوب مرجعياتهم التحتية للتمترس في ملاذها ، معتقدين بأنها ستقيهم محنة الاغتراب في وجودهم الاجتماعي ، وستجنبهم قلق الحيرة في مصيرهم الحضاري . دون أن يستوعبوا حقيقة ((إن غياب الوعي واستلابه ، هو الذي يحول كل صراع اجتماعي إلى حرب ساخنة ويجدد شروطها .. وهي حرب تفقد كل قدرة على إدراك واقعه والتفكير بمستقبله ، وتحصر نشاطه وجهوده في الصراع من أجل حماية الذاتيات المتنافية والرابضة كل منها خلف متاريس ذهنية أكثر منها مادية ، ووهمية أكثر منها موضوعية ، تحرم من رؤية الخطر أكثر مما تحمي منه ))(60) .
4 . في التاريخ : من الإفراط إلى الانفراط ؛  لا يخفى إن هناك إفراط وتضخم في الإحالة إلى التاريخ بخصوص دوره في بناء شخصية الإنسان العراقي وتكوين هويته الوطنية(61) ، للحدّ الذي يبدو وكأن التاريخ تسمّر في عمق الزمن الماضي وأشاح بوجهه عن الحاضر وتجاهل إن هنالك مستقبل ، بحيث أضحى لا يرى له قيمة إلاّ عند الينابيع الهامدة ، ولا يجد له داع إلاّ حين يتعامل بالأصول المنسية . ولهذا فان العقل العراقي يبدو وكأنه عقل تاريخي ولكنه للأسف بالمقلوب ، بمعنى انه بدلا”من أن يتطلع إلى الأمام ويتجه صوب المستقبل ليرى ما خطه مسار الإرادة الإنسانية على خارطة التاريخ وتقاطيع تضاريسه ، فإذا به ينعطف (180) درجة ليوغل في لجج الأساطير والخرافات التي أبى أن يرى فعل التاريخ إلاّ من خلالها . ومن الواضح فان مثلبة كهذه لابد أن تكون حصيلة إساءات متكررة وتجاوزات مستمرة ، ألحقها الإنسان العراقي – وهو على ما يبدو ماض في هذا المنحى – بكينونة تاريخه بالذات ؛ متوخيا”من وراء هذا الفعل النكوصي إبراء ذمته من الخطايا التي ارتكبها بحقه ، وتطهير وجدانه من دنس الذنوب التي مارسها ضده . ولهذا نراه ، حين يستشعر الخطوب ، يهرع إلى تحيين الماضي بكل عقده وملابساته ، ويستدعي الموروث بكل وقائعه وادعاءاته ، ويستجلب المتخيل بكل حقائقه وخرافاته ، لا بصيغة استنفار مخزونها العقلاني واستنهاض ذخيرتها الحية للتأسيس عليها كمثابات حصينة للشروع الحضاري والاعتبار فيها كقيم نبيلة للتواصل الإنساني ، وإنما بدواعي الاختباء خلف مرجعياتها المصاغة في الوعي التقليدي إلى أقانيم محرمة ، والاحتماء برمزياتها المتحولة في الثقافة الشعبية إلى أوثان مقدسة . ولأن علاقة الإنسان العراقي بإشكاليات التاريخ قائمة على أساس التصورات المفبركة والاعتقادات الموهومة ، فان كل ما يشده نحو سحر التاريخ وجاذبية معطياته لا تعدو أن تكون روابط واهية وأواصر هزيلة ، سرعان ما ينفرط عقدها ويتفكك نسيجها ويتلاشى أثرها ، كلما كان ضغط الحدث قويا”وتداعياته متسارعة . وعلى ذلك فقد أشار المؤرخ (جاك روفيل) إلى ((إن الحدث الذي يلعب في الوقت نفسه دور الذاكرة والخرافة في المتخيل الاجتماعي ، يسمح باستقراء هذا المتخيل ذاته ، وهذا المتخيل يلعب في الوقت نفسه دور الذاكرة والخرافة بالنسبة إلى هذا المجتمع))(62) . والمفارقة إن المجتمع العراقي لا يشكو من فقر في رصيده التاريخي أو ندرة في موروثه الحضاري أو شحة في مخزونه الثقافي – كما هو حال المجتمعات الحديثة التكوين والسريعة الانبثاق ، ولكنها مع ذلك شديدة الحساسية إزاء موقفها من التاريخ ونظرتها إلى الماضي –  بحيث تعصم مكوناته من الانشطار على نفسها ، كما تفعل الكائنات وحيدة الخلية ، حين تدلف إلى الماضي تتلمس الخلاص من التشظي ، ويصبح التاريخ دليلها في النجاة من الضياع . وعلى ما يبدو فان نظرية الغنى في التاريخ والاصالة في الحضارة والتجذر في الماضي ، لا تقدم الدليل ولا تسوق البرهان على إن هذه الصفات أو المزايا تكفي لكي لا تنخرط المكونات الاجتماعية بالتذرر والتبعثر ، على خلفية أوهام كل منها بأن التاريخ لا ينطق إلاّ بأمجادها ، وأباطيل إن الاصالة لا تتحدث إلاّ عن أفضالها ، وخرافات إن الماضي لا يعتدّ إلاّ بأروماتها . ولذلك فقد لخص الفيلسوف  الأسباني (جورج سانتيانا) العبرة من التاريخ بعبارة ثرية حين قال ((إن الأمم التي لا تقرأ تاريخها معرضة لإعادة إنتاجه .. لغير صالحها))(63) .
5 . في الجغرافيا : من الاستقلال إلى الانفصال ؛  لما كانت الجغرافية البشرية العراقية قد شهدت اختراقات عديدة ومتتالية من قبل أقوام وأجناس وأديان وأقوام وقبائل ، وكانت الجغرافية الطبيعية قد تعرضت لاستباحات كثيرة ومستمرة من لدن مصالح الدول وأطماع الحكومات ومآرب القوى ، فقد جرى التواضع على افتراض إن العامل الثقافي / الحضاري كفيل بتحجيم مخاوف الحالة الأولى عبر مظاهر التثاقف والتلاقح والتمازج ، وان السياسة / الاستراتيجية قمينة بتعظيم مخاطر الحالة الثانية عبر ثغور التعنصر القومي والتعصب الديني والتطرف الطائفي . ولذلك فليس بلا مسوغ اعتبارنا المسألة الجغرافية في العراق هي بمثابة (كعب أخيل) استقراره السياسي / الاجتماعي ، الذي شكل على مدار تاريخه المضطرب نقطة ضعف أو (جرح انثروبولوجي)(64) دائم النزف وغزير التقيح . وعلى ما يبدو فان الباحث العراقي (سليم مطر) لم يجانب الصواب حينما لاحظ إن (( العامل التضاريسي والسكاني غاب عن جميع التحليلات المتعلقة بموضوع التعصب الطائفي والقومي والمكاني للنخب العسكرة والحزبية الحاكمة))(65) ، واستطرادا”نقول من جانبنا ، وللمكونات السوسيولوجية العراقية بمختلف أنماطها الحضارية ومستوياتها الثقافية أيضا”. واللافت انه كلما تجتاح البلاد موجة غزو أجنبي ، أو يحلّ عليها طارئ (عدوان خارجي) ، كلما تناخى الجميع للانضواء تحت عنوان المطالبة (بالاستقلال) العاجل والشامل – حتى وكأنهم في نوبة من صحوة الضمير ومراجعة الذات – إلاّ انك لا تلبث حتى تكتشف إن البعض من أولئك الدعاة لا يبغون الاستقلال بدافع الحب للوطن أو لسواد عيون العراق ، بقدر ما يتشوقون إليه بوازع من الرغبة (بالانفصال) القومي / الجهوي أو الديني / الطائفي عن كيان العراق السياسي الجغرافي والتاريخي والحضاري والثقافي ، على خلفية ما يروج له من فداحة المظالم السياسية والتاريخية والاضطهادات المذهبية والطائفية والتطهيرات الاثنية والعنصرية ، التي لحقت بهذه الجماعة أو تلك ، وتعرض له هذا الطرف أو ذاك . وهكذا يتم تسييس الجغرافيا الوطنية ويوظف مجالها الحيوي ، لا في إطار الخلافات والصراعات الداخلية فحسب ، بل في مجال المساومات والمقايضات الخارجية كذلك . وهو الأمر الذي لا يفت في عضد السلطة المركزية على أساس تآكل شرعيتها السياسية واضمحلال مشروعيتها المؤسسية فحسب ، وإنما ، بالإضافة إليه ، يقوض هيبة الدولة الوطنية ويهدد سيادتها بالفناء . ولهذا السبب فقد علق أحد الباحثين الأكاديميين على هذه المسألة أهمية لا مراء في مراعاتها حين كتب يقول : ((انه لشيء أساسي أن يوجد مركز جغرافي تستطيع الجماعة داخله أن تبني نظامها السياسي . وان كان يمكن القبول ببعض التحرك في حدودها . إن الدولة ترتكز على مؤسسات دائمة ومن الصعب إقامة أمثال هذه المؤسسات إذا كانت الأرض التي تقوم عليها تتغير باستمرار ، أو إذا كان تلاحم الجماعة يتغير تبعا”لفصول السنة))(66) . لقد ظل صدى صيحة الاستقلال ينداح في ربوع العراق من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ، لا بل إن الجميع على اختلاف انتماءاتهم وتباين ولاءاتهم لم يبرحوا يلهجون بشعاره ويرددون نغمته ، حتى بات وكأنه لازمة من لوازم التأكيد على صدقية (الهوية العراقية) التي يدّعون انتسابهم لها والتعبير عنها ، ولكن ما أن تستبطن تضاعيف الوعي الاجتماعي لتلك الأطراف وتستطلع دوافعها العميقة ، حتى تفاجئ بما يحير ويقلق . فما دام مطلب الاستقلال بعيد المنال ويقبع في عالم المجهول ، فان استغلال رمزيته العالية في السيكولوجيا الاجتماعية يغدو هدف المتصارعين على مغانم الدولة وأسلاب السلطة ، ولا ضير إن تصاب تلك السيكولوجيا بخيبة الأمل والإحباط حين تكتشف قواعد اللعبة فالأمر ، على أية حال ، سيان . وإذا ما لاحت تباشير الفرصة لنيل ذلك المطلب (= الاستقلال) ، عندها لن يتردد أي طرف لاستخدامه كوسيلة لتحقيق أحلامه في (الانفصال) ولتذهب دعاوى الوطنية والمزاعم العراقية إلى الجحيم .
6 . في الاقتصاد : من الاعمار إلى الاندثار ؛    ليس هنالك من شعب من شعوب العالم قاطبة من حلت عليه لعنت ثرائه ووقعت عليه محنة غناه ، مثلما حدث للشعب العراقي منذ أن حفر أسمه على خرائط التاريخ وتضاريس الجغرافيا . فلو قيض لأي باحث أو دارس أو مهتم للإطلاع على مصنفات التاريخ وأسعفه الحظ لقراءة مؤلفات السياسة ، لأدهشه هذا التواتر في الإجماع – كما لم يحصل في أي مجال من مجالات البحث الاجتماعي والإنساني – على أن العراق كان من أكثر دول المعمورة تعرضا”للغزوات العسكرية والاجتياحات الاستيطانية ، بسبب ما يحتكم عليه من ثروات طبيعية هائلة وما تتفجر فيه من ينابيع ثروات طائلة ، ومع ذلك فان مظاهر البؤس الروحي والحرمان المادي هي من أهم مزايا مكوناته الاجتماعية جيل بعد جيل . وهو الأمر الذي أثار استغراب المؤرخ الأمريكي (هنري فوستر) حينما كتب يقول ((لربما كان العراق من أغرب المواطن البشرية . فهو في كتلة أرض العالم الواسعة لا يؤلف سوى جزء يسير منها . انه في صحراء مهملة ، وجبال جرداء قليلة الأمطار لكنه مع ذلك وافر المياه ، فائض الإنتاج . ولذلك كان يقال عنه (دغدغ التربة لتبسم لك عن النتاج) .. ولقد كانت هذه القطعة من الأرض تبدو بالنسبة إلى القطعات البشرية الجائعة خلال العصور ، تؤلف كنزا”ثمينا”للكثير من أولئك الذين كان يحركهم الشعار القائل (وطن الإنسان هو المكان الذي يجد رفهه فيه . أين يمكن العثور على منطقة مثل هذه ، كبيرة كانت أم صغيرة ، قد منحت العالم ، أو منها أخذ العالم مثل هذا الشيء الوفير ؟ ))(67) . والمفارقة الثانية التي لا تقل مأساوية عن الأولى ، هي إن كل الغزاة والغاصبين الذين وطأوا أرض العجائب والغرائب هذه ، لم يكتفوا بنهب خيراتها واستنزاف ثرواتها والعبث بمواردها ، على نحو قلّ إن يكون له مثيل في الوحشية والبربرية فحسب ، بل وكذلك أسرفوا بتخريب عمرانها وتدمير آثارها وطمس معالمها . حتى إن المؤرخ (عباس العزاوي) كتب بشيء من التوجع يقول ((الغزو على بغداد ونهب ما تيسر نهبه والقسوة بالناس صار معتادا”فان المدن العراقية خلقت لإعاشة الأشخاص الملقبين بالسلاطين والأمراء فلم يلتفت إلى حالهم ولم ينظر إلى ضرورة عمارة المملكة وتفقد أحوال أهلها وضعفائها والنظر في مصالح القوم وراحتهم))(68) . وأما ثالثة الأثافي ، المفارقة الثالثة ، فهي إن العراقيين ، وخلافا”لمعهود الشعوب المتحضرة ، لم يشاطروا طغاتهم فقط في ممارسة طقوس النهب وشعائر التخريب فحسب ، وإنما لم يتركوا سانحة أو فرصة إلاّ وقد اهتبلوها بحمية لا يحسدون عليها ، لممارسة أعمال السلب واللصوصية(69) . ولعل مظاهر (الفرهود) التي أشعلت فتيلها قوات الغزو الأمريكي عشية احتلالها للعراق ، كانت الشاهد على ذلك . فبينما كانت تلك القوات مشغولة بنهب تراث العراق وتخريب معالم حضارته ، أطلقت العنان لسيكولوجية الفوضى والزعرنة الرابضة في لاوعي الإنسان العراقي لتستشري في الكيان الاجتماعي مثلما تسري النار في الهشيم ، دون أن تردعها دعوات رجال الدين أو تكبحها تحذيرات دعاة الديمقراطية الجديدة . ذلك لأنها استشعرت إن جرثومة الفساد القيمي وإعلان موت الضمير التي رافقت إعلانات سقوط الدولة واندثار السلطة ، لا مناص من إن تعيدها إلى سيرتها الأولى حيث مكابدة فصول الحرمان وشضف العيش ، ولهذا فهي ، باعتقادها ، أولى بلحم ثورها وحتى هي أحقّ بعظامه ! . واليوم ، وفي أجواء التطبيل والتزمير حول نجاح عمليات إعادة العمار المزعومة للمرافق العامة المدمرة ، وعلى غرار شعار النظام السابق (يعمّر الأخيار ما دمّره الأشرار) ، يبدو إن الجسم الاجتماعي لم يعد يظهر أية ممانعة حيال كل أنواع جراثيم الفساد وآفات تآكل الذمة ، لاسيما وأن الصفقات أصبحت بالمليارات !! .
7 . في الدين : من التراحم إلى التصادم ؛  الأصل في كل الديانات – تستوي في ذلك الوثنية والسماوية – إذا ما تجاوزنا إشكاليات المنشأ والتكوين ، هو بث روح التسامح والتراحم وإشاعة علاقات المحبة والتآلف بين الناس ، على أساس وحدة العقيدة في التوحيد الإلهي ، وتشابه القيم في التواصل الإنساني ، بصرف النظر عن اختلاف الأعراق وتباين اللغات وتنوع الألوان . ذلك لأن العامل الديني من حيث هو ممارسة شعائرية / تعبدية بين الخالق والمخلوق ، لا يخرج عن إطار هذا التصور القيمي وتلك العلاقة الميتافيزيقية . وهذا ما عبّر عنه ببالغ الدقة أحد مفكري الغرب (بورتاليس) عام 1801 حين قال ((يجب ألا نخلط أبدا”بين الدين والدولة : الدين هو اجتماع الإنسان مع الخالق ، والدولة هي اجتماع البشر مع بعضهم بعضا”. لكن البشر ليسوا بحاجة إلى وحي أو رؤى ، ولا لدعم خارق كي يجتمعوا فيما بينهم . يكفيهم معاينة مصالحهم ، وأحاسيسهم ، وقوتهم ، وعلاقاتهم المختلفة مع نظرائهم . أنهم ليسوا بحاجة إلاّ إلى أنفسهم))(70) . هذه حقيقية أولى ، وهناك حقيقة أخرى مقابلة تشير – على مستوى البحث النظري –  إلى إن كثيرا”ما تطرقت البحوث والدراسات المعنية بعلاقة الإنسان في المجتمعات المسماة (قديمة / تاريخية)(71) بظاهرة التديّن ومدى التزامه ومراعاته لأشكال المقدس ، حيث توصلت إلى نتيجة مفادها ؛ إن المجتمع العراقي – وهو في طليعة المجتمعات (القديمة / التاريخية) – هو من بين أبرز الشعوب تمسكا”بالدين وأشدّها تأثرا”بالمقدس ، لاسيما وان أغلب ممارساته كانت ولا تزال منغمسة بشتى مظاهر الطقوس التعبدية ، التي تعكس اهتمامه بعالم اللاهوت وانغماره بالتصورات الماورئية(72) . ولكن مع ذلك ، ومن منظور واقعي / معاش ، فان الدين الإسلامي تحديدا”- حيث يعتبر دين الغالبية العظمى من العراقيين –  وخلافا”لما هو متوقع ، من حيث كونه يشكل عامل للتوحيد الوطني وإطارا”للتواصل الاجتماعي ، كان بالعكس من جملة العوامل التي أسهمت بانشطار المتأسلمين إلى فرق متصارعة وملل متكافرة ونحل متقاتلة(73) ، بلغ بها الأمر إلى حدّ إشهار سيف (التطهير الطائفي)(74) بشكل فاق مذابح (التطهير العرقي) بين قبائل الهوتو والتوتسي . فبرغم كل ما للعامل الديني من حضوة اعتبارية (ظاهرية) لدى الإنسان العراقي ، وما قد يعض به الآخرين عن أهمية أن (يعتصموا بحبل الله جميعا”ولا يتفرقوا) ، إلاّ انه أول من يميط اللثام عن وحش الطائفية الرابض في لاوعيه والمعشعش في وجدانه ، لكي يكشر عن أنيابه ويسفر عن مخالبه لحظة يحتاج الاستعانة به والاعتماد عليه ، لدواعي المصالح السياسية / السلطوية ، ونوازع المكاسب الاقتصادية / المالية ، وبواعث المزايدات الحزبية / الإيديولوجية . إذ اعتبارا”من هنا ، وفي أتون الصراعات على السلطة والتغالب على النفوذ ، لا يترك أية وسيلة تمكنه من إزاحة خصومه واستئصال شأفتهم ،حتى وان لجأ إلى تسييس الدين وتدنيس المتعالي ، لأغراض تطييف السياسة التي يتشدق بالعمل وفق مبادئها ، وتوظيف القداسة التي يتظاهر بالنأي عن حرمتها . وهكذا (( جاء حادث سقوط العاصمة التاريخية للعرب والإسلام في يد الأمريكيين ليدفع بأفراد وجماعات عراقية متنافسة صوب استخدام الدين كذخيرة في القتال العنيف على مصادر المال والنفوذ والسلطة ، وفي بلد انعدمت فيه للتوّ كل أشكال الرقابة من جانب الدولة ، كما تلاشت فيه كل أشكال الردع الأخلاقي من جانب المجتمع ))(75) . وبدلا”من أن يكون الدين – كما يفترض – عامل تلاحم وتراحم بين مكونات المجتمع العراقي المشتتة والمبعثرة ، فإذا به ينقلب إلى وسيلة رخيصة للتخاصم والتصادم بين قبائل السياسة المتهالكة وطوائف الأحزاب المتكالبة .
8 . في التعليم : من التوعية إلى التعمية ؛   الملمح البارز في كل مشاريع التنمية الاقتصادية والإصلاح السياسي التي اعتمدتها الحكومات في بلدان العالم الثالث ، هو ضعف الاهتمام بأنظمة التربية والتعليم ، وقلة الاكتراث باحتياجاتها للأساليب البيداغوجية والسيكولوجية الحديثة ، ناهيك عن تعطشها للقيم الانسانية . ولهذا فبقدر ما ترصد تلك الحكومات من أموال وتحشد من جهود – غالبا”ما تكون شكلية وصورية لأغراض الدعاية – لهذا القطاع الحيوي من قطاعات المجتمع ، بقدر ما تأتي النتائج عكس ما تشتهي وخلاف ما ترغب . وبدلا”من إن يحفزها هذا الأمر للبحث عن الصعوبات لمعالجتها ، والكشف عن المعوقات لتذليها ، فأنها تكتفي بالحديث عن إنجازاتها في بناء المدارس وإنشاء الجامعات ، والتبجح بسخائها لرفع معدلات المنخرطين بالمؤسسات التعليمية ، دون أن تراعي حقيقية (( إن إصلاحات التعليم لا تنشأ في زوايا وزارة التربية ، بالاستقلال عن الحاجات الاقتصادية والهيكليات الاجتماعية ، وخيارات السياسة العامة ؛ بل أنها مشروطة ، تابعة لجميع هذه العوامل))(76) . وعلى هذا المنوال فقد كان نصيب المجتمع العراقي في هذا الجانب وافرا”ومفرطا”، للحدّ الذي إن جميع المنظومات القيمية والفكرية والأخلاقية الدينية التي كان يتغذى منها ويقتات عليها ، تحولت إلى هباء لمجرد أنها لامست حرارة التجربة واصطدمت بأرضية الواقع . ذلك لأنها لم تفلح في استمالت رغبة الإنسان العراقي وتستقطب اهتمامه في النهل من معينها والانطلاق من عرينها ، بسبب كونها كانت تخاطب غرائزه لا عقله ، وتستدرج أساطيره لا وعيه ، وتستحضر خياله على حساب واقعه ، وتستعدي أناه ضد آخريته ، حتى أن مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا تحولت إلى حواضن لتفريخ ظواهر العنف وتناسل أجيال التخلف ، للحدّ الذي أن نصيحة الروائي الفرنسي (أناتول فرانس) أضحت مغرية –  مع اختلاف السياق والدلالة –  حين علق بالقول (( في رأيي ليست هناك إلا مدرسة واحدة لتكوين فكر الإنسان وهي ألا يذهب إلى أية مدرسة ))(77) . وعلى غير ما كان متوقعا”بخصوص تصحيح مسار العملية التعليمية ، إن من حيث عقلنة مناهجها وأنسنة مضامينها وشرعنة تطلعاتها ، فإذا بالرموز السياسية الجديدة ، التي تبوأت مواقع تعليب الأفكار النمطية ، وتغليب التصورات البدائية ، وتخصيب النزعات النهلستية (=العدمية) ، تنطلق في نوبة سعار هستيري لإقصاء وتهميش كل ما له علاقة بالمبادئ التربوية والقيم الاجتماعية والأخلاق الدينية ، ناهيك عن المعايير الوطنية والإنسانية . حتى إن المرء يحار في تفسير هذه الردّة النكوصية باتجاه الماضي لا للاستعانة بذخيرته على حلّ مشاكل الحاضر الملتهبة وإنما لمسخ موروثه ، والعودة إلى التاريخ لا من أجل توظيف رصيده في إيقاف مظاهر التمزق والتصدع المتفاقمة وإنما لتحريف وقائعه وتشويه أحداثه ، والانتحاء صوب الوعي لا بقصد التعويل على قدرته في طرد الخرافات وتطهير الذهنيات وإنما لاستئصال عقلانيته واخصاء خصوبته ، والعروج على الذاكرة لا في المراهنة على مخزونها لدرء مشاهد التطرف ومظاهر التعصب وإنما لمسخ محتوياتها ونسخ رمزياتها . وهكذا بات التاريخ مطارد بتهمة الهجنة حتى يثبت انتسابه للأصوليات الطائفية ، وأضحت الجغرافيا مطعون في هويتها ما دامت عاجزة عن إثبات انتماءها للهمجيات العنصرية ، وأمست الثقافة مشكوك في جدواها طالما أنها أخفقت في التعبير عن ولاءها للبربريات القبلية ، وأما الدين ، أخيرا”وليس آخرا”–  هذا العامل الذي لم يبرح الجميع يتغنى به وتموت الآلاف تحت رايته –  فقد انتبذ لنفسه مكانا”قصيا”، حالما تواضع القوم على إن مؤشرات أسهمه تحددها بورصات الأسواق السياسية ، فان ارتفعت فهو مطلوب ومرغوب ، وان انخفضت فهو مخذول ومرذول .  وفي ضوء ما تقدم ، فلسنا نغالي – كما قال ذات مرة فيلسوف التربية البرغماتية (جون ديوي) من إن (( التربية التي تعلن أنها تقوم على أساس الحرية قد تصبح فلسفة تعسفية لا تقل
في ذلك عن التربية التقليدية التي قامت لتناقضها ، ذلك لأن أية نظرية وأية مجموعة من الأساليب تصبح تعسفية ما لم تبن على أساس من الدراسة النقدية لما تقوم عليه من مبادئ))(78) .
رابعا”- عودة على بدء
والآن بعد هذه الجولة المقتضبة في ميادين الممانعة وحقول الاستعصاء التي يبديها العقل العراقي حيال فكرة الإصلاح البنيوي التي يحتاجها كضرورة مصيرية ، لن نتردد للحظة واحدة من الاعتراف بالتقصير في تغطية هذا الموضوع الشائك والقصور في سبر أبعاده واستقصاء مراميه ، ولكن حسبنا المحاولة والاستئناف بدلا”من عطالة التعلق بالأماني وغواية التعلل بالظروف ، لاسيما وان جسامة الأوضاع وفداحة المواقف لن تترك خيارا”لمن يهوى الجلوس والانتظار . وإذا كانت نظرة التشاؤم والإحباط قد هيمنت على الرؤى واستحوذت على التصورات ، فلأن المشاهد مذهلة والمعطيات مهولة . وإذا كان لنا من عذر يبرر هذه النزعة ويقيها اللعنات فاني لا أجد أفضل من عبر عن هذه الهواجس والمخاوف من البروفيسور المختص بالشؤون العراقية (بيتر سلاغليت) الذي أفصح عن لواعجه بالقول التالي : (( ومما يبعث على الأسى في نفسي أنني يعد أن أمضيت كل حياتي الأكاديمية تقريبا”في الكتابة عن هذا البلد ، العراق ، يصعب عليّ أن أخطط لمسار متفائل ، وان كان على نحو واه ، قد يرى نهاية لمعاناة شعب العراق في المستقبل القريب ، ناهيك عن المستقبل الأكثر يعدا”))(79) . هذا في حين أعتبر أستاذ الدراسات العربية والإسلامية (جاريث ستانسفيلد) في جامعة أكستر انه ((بعيدا”عن كون العراق (منارة الديمقراطية) في الشرق الأوسط ، فانه يتمتع الآن بكل الامكانات التي تؤهله لكي يصبح وسيلة لمزيد من اللااستقرار في منطقة غير مستقرة أصلا”))(80) .

الهوامش والمصادر:
(1) الدكتور هشام شرابي ؛ النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي ، (بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1993) ، ط/2 ، ص172 . وبرغم إن المؤلف كتب هذه الصيغة عام 1988 بوحي من خطابية عروبية واضحة ، إلاّ إننا آثرنا اقتباسه هنا ، لراهنية تصوراته ودلالة تعبيراته ومشروعية توقعاته .
(2) الدكتور رضوان جودت زيادة (( الايديولوجيا المستعادة : النهضة في الخطاب العربي المعاصر)) ، دورية الفكر المعاصر ، (الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 2005 ) ، ع/4 ، مج/33 ، ابريل / يونيو2005 ) ، ص31 . هذا وقد أدرك أستاذ الفلسفة والفكر العربي الحديث في الجامعة اللبنانية الدكتور (معن زيادة) إن ((الخطر الأوروبي يزداد عند الجهل به وتجاهله ، ويخف عند إدراكه الخطر ، والعمل بوحيها إنما ينبع من الاعتقاد بأن إعلان الإصلاح وتأسيس القوانين المستجدة التي تصلح البنية الإدارية والسياسية والعسكرية وغيرها سيجعل إمكانية التدخل الأوروبي أضعف ونتائجه أقل وأخف )) . أنظر كتابه ؛ معالم على طريق تحديث العقل العربي ، سلسلة عالم المعرفة /115 (الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 1987) ، ص 224 وص225 .
(3) رسول محمد رسول ؛ نقد العقل الإصلاحي : قراءة في جدلية الفكر العراقي الحديث ( دمشق ، نايا للدراسات ، 2008) ، ص39 .
(4) المصدر ذاته ، ص40 .
(5) المصدر ذاته ، ص 41 وص42 .
(6) الدكتور وميض جمال عمر نظمي وآخرين ؛ التطور السياسي المعاصر في العراق ( بغداد ، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، د . ت ) ، ص9 . هذا وقد أفاد المؤرخ البريطاني (لونكريك) بخصوص (ظاهرات الإصلاح) إلى أن (( هذه الإصلاحات ، التي أحلت في الحقيقة الرأي الغربي في الحكومة محل الرأي التركي ، لم تتسرب إلى العراق إلاّ ببطء ولم تنتج هناك نتاجا”يتفق وعظم شأن المبادئ التي وعدت لإجرائها )) . أنظر كتابه ؛ أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ، ترجمة جعفر الخياط ، (بغداد ، منشورات مكتبة اليقظة العربية ، 1985) ، ط/6 ، ص337 .
(7) رسول محمد رسول ؛ المصدر ذاته ، ص58 . وللمقارنة من وجهة نظر أكثر واقعية ، نورد هنا ما كتبه (مجيد خدوري) وهو مؤرخ عراقي معاصر للعهد الجمهوري موضحا”((عندما كانت تطرح قضية الإصلاح في المجلس النيابي ، كان النقاش يدور في حلقة مفرغة بالنسبة للإجراءات الإصلاحية وأيها يجب على المجلس أن يتبناها ، فهل هو إصلاح جهاز الدولة برمته ، أم هو وضع اقتراحات تشريعية في حقلي الاجتماع والاقتصاد ؟ )) . راجع كتابه ؛ العراق الجمهوري ، (بيروت ، الدار المتحدة للنشر ، 1974) ، 18 .
(8) الدكتور محمد عابد الجابري ؛ في نقد الحاجة إلى الإصلاح ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2005) ، ص162 وص163 . وتساوقا”مع هذا الفهم والتصور ، فقد ارتأى المفكر اللبناني (علي حرب) من جانبه إن ((المفهوم يعاد تشكيله باستمرار ، فيما ينخرط في فهم الواقع ، تماما”كما إن الواقع لا يعود كما كان عليه ، بعد خضوعه للفاعلية المفهومية ، التحويلية ، ذلك لأن كل مفهوم خلاّق ، يخلق واقعا”يتغير معه الواقع عما هو عليه )) . للمزيد يراجع كتابه ؛ أوهام النخبة أو نقد المثقف ، (بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 1996 ) ، ص184 .
(9) باعتقادنا المتواضع فانه ليس هنالك من يضاهي المجتمع العراقي في حظوته بهذا النمط من الإصلاح السطحي / المظهري الذي كان مدار دهشة وانبهار البعض ، ومقارنات ومقاسيات البعض الآخر . ولكنه مع هذا استمر يرسف في أغلال التخلف الفكري والجدب الثقافي من جهة ، ويتلظى في جحيم العبودية السياسية والعقد النفسية من جهة أخرى .
(10) أورده الأستاذ الدكتور (حسن صعب) ضمن كتابه ؛ تحديث العقل العربي : دراسات حول الثورة الثقافية اللازمة للتقدم العربي في العصر الحديث ( بيروت ، دار العلم للملايين ، 1969 ) ، ص19 .
(11) جورج بوردو ؛ الدولة ، ترجمة الدكتور سليم حداد ، (بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات ، 1985 ) ، ص117 .
(12) مقدمة ابن خلدون ؛ كتاب الشعب ، (القاهرة ، دار الشعب ، د . ت ) ، ص 147 .
(13) الدكتور علي حرب ؛ أزمة الحداثة الفائقة : الإصلاح – الإرهاب – الشراكة (بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 2005 ) ، ص10 .
(14) يصف الأستاذ الدكتور (إمام عبد الفتاح إمام) الدولة التوتاليتارية/ الشمولية بأنها (( شكل من أشكال التنظيم السياسي يقوم على إذابة جميع الأفراد والجماعات والمؤسسات في الكلّ الاجتماعي (المجتمع ،أو الشعب ، أو الأمة ، أو الدولة ) عن طريق العنف والإرهاب ، ويمثل هذا الكلّ قائد واحد يجمع في يديه كل السلطات )) . أنظر كتابه ؛ الطاغية : دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي ، سلسلة عالم المعرفة/183 ( الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 1996 ) ، ط/2 ، ص63 .
(15) الدكتور برهان غليون ؛ المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات ، ( بيروت ، دار الطليعة ، 1979) ، ص 19 و20 .
(16) ستيوارت هول (( حول الهوية )) ، ترجمة بول طبر ، مجلة إضافات ، المجلة العربية لعلم الاجتماع ، العدد الثاني ، ربيع 2008 ، ص 159 .
(17) الدكتور محمد عابد الجابري ؛ المسألة الثقافية في الوطن العربي ، قضايا الفكر العربي (1) ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1999) ، ط/2 ، ص134 .
(18) آلان تورين ؛ ما هي الديمقراطية ؟ ؛ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية ، ترجمة الدكتور حسن قبيسي ، (بيروت ، دار الساقي ، 2001) ، ط/2 ، ص246 .
(19) مارسيل غوشيه ؛ الدين في الديمقراطية ، ترجمة الدكتور شفيق محسن ، ( بيروت ، المنظمة العربية للترجمة ، 2007 )، ص133 .
(20) للمزيد حول موضوع المواطنة وعلاقتها بالسلطة السياسية ، أنظر دراستنا حول (( عواقب الشخصنة ومناقب المواطنة )) ضمن كتاب ؛ مفهوم المواطنة : محاولة التحول من الشخصانية إلى المواطنة ، (بغداد ، مؤسسة مدارك ، 2008) ، ص14 و15 .
(21) آلان تورين ؛ ما هي الديمقراطية ؟ ، مصدر سابق ، ص95 .
(22) لعل ملاحظة الباحث العراقي (فالح عبد الجبار) لا تخلو من وجاهة واقعية ، حين اعتبر ((إن حجم الأدبيات المكتوبة عن العراق ضخم تماما”، لكنها محدودة من حيث ما تحويه من معرفة )) . أنظر المؤلف الجماعي ؛ المجتمع العراقي : حفريات سوسيولوجية في الاثنيات والطوائف والطبقات ، ( بيروت ، معهد الدراسات الاستراتيجية ، 2006 ) ، ص155 .
(23) الدكتور محمد جابر الأنصاري ؛ تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها ، (بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998) ، ط/2 ، ص 87 . لا ريب في أن المفكر البحريني (الأنصاري) ونظيره العراقي (الوردي) يعتبرون من المفكرين العرب القلائل الذين خالفوا التصورات وعارضوا المنهجيات المتعلقة بالتنقيب عن المحركات الاجتماعية والديناميات النفسية ، للذات العربية بالنسبة للأول والعراقية بالنسبة للثاني .
(24) ليس من الإنصاف ، في هذا الباب ، تجاهل الإسهامات القيمة التي قدمها المفكر (برهان غليون) ، والتي أمست علامات بارزة تضاف إلى رصيد العقل العربي في كيفية طرح الإشكاليات وتجديد المنظورات وصياغة الطروحات . لاسيما تأكيده على ((أن التجاهل المقصود لهذه الذاتية – وهي عامل جوهري في كل إحياء أو انبعاث أو تعبئة جماعية ، بل محور تكون المواطن والمواطنة والوطنية ، عربية كانت أم قطرية – وهو الذي حول عملية التنمية إلى مسألة مراكمة للآلات الميتة والبضائع والمنتجات ، وللتقانة ، وللأفكار والقيم الجاهزة المعدّة للتصدير والاستهلاك مثل البضاعة والسلعة في كل مكان وزمان ، عوض عن أن تكون عملية بتناء للإنسان ، وتفهما”وترميما”للحياة الشعورية العميقة ، وتأمينا”على النفس والحياة ، وتعليما”وتربية وتثقيفا”، وإقامة للتوازنات الكبرى ، المادية والسياسية والاجتماعية والنفسية ، وخلق فضاءات جديدة للحرية والقانون والحق والقيمة والجمال ، حتى حقوق الإنسان تتحول في الشروط القائمة ، على أيدي نخبة تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الثقة بنفسها ومجتمعها ، إلى سلاح للحرب ضد حقوق الإنسان والى خطاب يهدف إلى التغطية على ممارسة التمييز ، وضمان التميّز عن الشعب ، وتبرير القطيعة معه ، وتأكيد التفوق العقائدي والمعنوي والأخلاقي عليه ، أي إلى عقيدة نفي الإنسان ، وتشويه صورته ، والتمثيل به ، ونزع الإنسانية عنه ، وحرمانه من ممارسة حقوقه الأساسية ، وإنكار معاناته وآلامه . هذا هو الثمن لتقليص الإنسان وتقزيمه من حيث هو وعي وضمير وحرية )) . أنظر كتابه ؛ المحنة العربية : الدولة ضد الأمة ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1993) ، ص247 و248 .
(25) لقد اعتقد البروفسور (سامي زبيدة) بأن ذلك الاتجاه الاصلاحي (( كان نابعا”، في جانب منه ، من الرغبة في تحدي المؤسسات والمرجعيات الدينية وترويعها ، علاوة على إضعاف الأواصر البطريركية لصالح الولاء لنظام الحكم وإيديولوجيته )) . أنظر دراسته حول (صعود وانهيار المجتمع المدني في العراق) ، ضمن كتاب ؛ المجتمع العراقي : حفريات سوسيولوجية ، مصدر سابق ، ص113 .
(26) الدكتور وميض جمل عمر نظمي وآخرين ؛ التطور السياسي المعاصر في العراق ؛ مصدر سابق ، ص9 .
(27) الدكتور هيثم الجنابي ؛ العراق ورهان المستقبل ، ( دمشق ، دار المدى ، 2006 ) ، ص228 . من جانبه فقد أضاف الباحث (محمد رسول محمد) بطريقة لا تخلو من نبرة خطابية / سجالية ، ضمن ترسانة هذا الاتجاه ليعلن انه (( في الحقيقة لقد صورت إيديولوجية الدولة البعثية – الصدامية صورت العراق الحديث ، وكذا اللذين أرخوا للفكر العربي والمشرقي مع الأسف ، على انه خال من جذوة الإبداع والتجديد والإصلاح الفكري الحديث والمشاركة الثقافية الفاعلة عندما فرضت الدولة البعثية على الوعي العراقي ، في الثلث الثالث من القرن الماضي ، فرضية مفادها أن التاريخ الحقيقي للعراق الحديث إنما يبدأ مع ثورة 17 تموز عام 1968 ، وما قبل ذلك لا يعدو أن يكون خواء لا يستحق التفكير فيه ! إلاّ أن القطيعة مع تاريخ العراق الحديث واستئناف قراءة هذا الأخير بعد انهيار فرضيات البعث الصدامية بل انهيار الانطولوجية البعثية الزائفة برمتها ابتداء من نيسان / ابريل 2003 سيكشفان عن ثراء الحراك الفكري العراقي خلال القرن العشرين ، وسيكشف أيضا”كم كان ذاك الحراك متمتعا”بالحوارية النقدية بل وبجدلية التواصل النقدي التصادمي أحيانا”فيما بين الإيديولوجيات التنموية والوطنية والقومية والشيوعية والإسلامية بمختلف تمظهراتها في تلك المرحلة ، وكم كان يلجأ ، ذاك الحراك إلى بنى رمزية متعددة للتعبير عن هذه الحواريّة رغم القمع السياسي والإيديولوجي بل والبيني التي كانت ظلماته دائرة في العراق آنذاك )) . انظر كتابه ؛ نقد العقل الإصلاحي ؛ مصدر سابق ، ص 136 .
(28) راجع دراسته المعنونة (الانتقال إلى الديمقراطية : الإرث التاريخي والهويات الصاعدة والميول الرجعية) ، ضمن المؤلف الجماعي ؛ المجتمع العراقي : حفريات سوسيولوجية في الاثنيات والطوائف والطبقات ، مصدر سابق ، ص356 .
(29) حنا بطاطو ؛ العراق : الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية ، ج3 ،  ترجمة عفيف الرزاز ، ( بيروت ، مؤسسة الأبحاث العربية ، 1990) ، ج1 ، ص313 . والجدير بالملاحظة إن باحثا”عراقيا”وضع دراسة حديثة عن تاريخ العراق من منظور (مهدوي) حاول من خلالها أن يمأسس تلك القطيعة بافتراض انه (( في العراق وحده قام وما يزال ، حيز وعالم (اللادولة) المساواتية ، وتحقق فعليا”لمرات ، وطيلة وجود العراق ككيان ، فالتكوين الأعلى ؛ أي الدولة المركبة من فوق ، لم تعرف أبدا”الانفراد بالسلطة (داخليا”) ، ولم تتمتع بالسطوة على الحيز التحتاني المساواتي (الأرضوتوبي) ، فكان عجزها في الداخل ، يتجلى كمحرك من محركات نزوعها الإمبراطوري ، ولطالما كان الريع المتحقق من ضمان سلامة الطرق ، والسيطرة ، وانفتاح السبل أمام التجارة البعيدة والقريبة ، يخالج الحكام ، وكل منهم اعتبره من أهدافه إن استطاع ، ومن أحلامه أحيانا”، فبالريع يتحقق جانب من (الاستقلال) عن الحيز التحتاني ودينامياته ، وبه يتمكن المركز الإمبراطوري عادة ، من تقليل الاعتماد على الريع الداخلي ، المستحلب من جهد المنتجين في الأرض ، والمكلف كثيرا”بسبب عصيان المشتركات الزراعية المستمر ، وتذمرها الدائم ، ونزعتها التي لا تهدأ للخروج على السلطة المنفصلة المركبة خارج عالم المنتجين و(دولتهم) اللادولة )) . انظر عبد الأمير الركابي ؛ أرضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ : كم الإبراهيمية إلى ظهور المهدي ، هكذا يرد التاريخ العراقي على التحدي الأمريكي ، ( بيروت ، مؤسسة الانتشار العربي ، 2008) ، ص50 . ولمزيد حول هذا الموضوع نحيل القارئ إلى إسهامات العالم الاجتماعي الراحل (علي الوردي) ،لاسيما مؤلفه الهام ؛ دراسة ي طبيعة المجتمع العراقي ، حيث يجد ضالته ويروي ظمأه .
(30) روبرت م . ماكيفر ؛ تكوين الدولة ، ترجمة الدكتور حسن صعب ، (بيروت ، دار العلم للملايين ، 1966) ، ص   يمكننا بهذا الخصوص إيراد العشرات – إن لم تكن المئات – من المصادر والمراجع التي يؤكد أصحابها على مركزية هذه الفكرة في نظريات الدولة . هذا وقد جادل أحدهم (ايهرنغ) بشأن هذه المسألة قائلا”((إن انعدام السلطة المادية هو الخطيئة المميتة للدولة ، والتي لا هوادة فيها ولا يتحملها المجتمع أو يتسامح بشأنها . إن الدولة المجردة من سلطة الإكراه المادية تتناقض مع نفسها )) . أنظر ، جاك دونديو دوفابر ؛ الدولة ، ترجمة الدكتور سموحي فوق العادة ، مكتبة الفكر الجامعي ، (بيروت ، منشورات عويدات ، 1970) ، ص6 و7 .
(31) يورد الدكتور (علي سالم) مفهوم العنف الرمزي من وجهة نظر الفيلسوف والعالم السوسيولوجي (بيار بورديو) فيقول (( يتمثل العنف الرمزي بالضغط أو القسر أو التأثير الذي تمارسه الدولة على الأفراد والجماعات بالتواطؤ منهم . ويبرز بشكل جلي في التعليم الذي يمارسه النظام المدرسي لجهة الاعتقاد ببديهيات النظام السياسي أو لجهة إدخال علاقة السلطة إلى النفوس كعلاقة طبيعية من وجهة نظر المهيمنين )) . أنظر كتابه ؛ البناء على بيار بورديو : سوسيولوجيا الحقل السياسي ، ( بيروت ، دار النضال ، 1999) ، ص147 .
(32) جوليان فروند ؛ سوسيولوجيا ماكس فيبر ، ترجمة جورج أبي صالح ، ( بيروت ، مركز الإنماء القومي ، د . ت) ص106 .
(33) الدكتور عبد الله العروي ؛ مفهوم الدولة ، ( بيروت ، دار التنوير ، 1983) ، ط/2 ، ص154 . هذا وقد شاطر (العروي) وجهة النظر هذه المفكر (هشام جعيط) الذي جادل بان (( الدولة العربية ما زالت لاعقلانية ، واهنة ، وبالتالي عنيفة ، مرتكزة على العصبيات والعلاقات العشائرية ، على بنية عتيقة للشخصية )) . المصدر نفسه ، ص 146 .
(34) هشام داود ( المجتمع والسلطة في العراق المعاصر) ، ضمن كتاب ؛ المجتمع العراقي : حفريات سوسيولوجية ، مصدر سابق ، ص167 .
(35) الدكتور فاضل الربيعي ؛ الجماهيريات العنيفة ونهاية الدولة الكاريزمية في العراق : دراسة في العلاقة بين السياسة والمعرفة والجماهير ، ( دمشق ، دار الأهالي ، 2005 ، ص60 .
(36) للمزيد حول هذا الموضوع نحيل القارئ للإطلاع على دراستنا (( الشخصية العراقية بين تقديس التاريخ وتدنيس الجغرافيا)) .
(37) الدكتور محمد أركون ؛ الفكر الإسلامي : قراءة علمية ، ترجمة الدكتور هاشم صالح ( بيروت ، مركز الإنماء القومي / المركز الثقافي العربي ، 1996) ، ط/2 ، ص159 وما بعدها .
(38) ينبغي إدراك دلالة (السيكولوجيا الشعبية) هنا باعتبارها أقل مضامين الوعي الاجتماعي نضوجا”وعقلانية ، لاسيما مقارنة (بالسيكولوجيا الاجتماعية) التي وصفها أحد الفلاسفة الروس (شورافيلوف) بأنها (( العتبة الأولى للوعي الاجتماعي )) ، كما عبر عن خاصيتها آخر (كيله) بأنها (( جزء من الصعيد الأدنى للوعي الاجتماعي)) . هذا وقد حدد (بارانوف) مكان السيكولوجيا الاجتماعية داخل بنية الوعي بأن ينطلق من تقسيم الوعي الاجتماعي إلى وعي نظري ويومي كصعيدين لانعكاس الواقع . وهو يعتبر كل قسم من الوعي الاجتماعي جزءا”من السيكولوجيا الاجتماعية (ما دام يعكس الروابط الفعلية للبشر حيال الجوانب المختلفة للعالم بصورة ذاتية وعاطفية ) . أما محتوى الوعي التابع للسيكولوجيا الاجتماعية فهو (لم يتم وعيه بعد بصورة كافية ، وليس واضحا”على الصعيد النظري . وبينما ينصب الوعي النظري ، بهذا الشكل أو ذاك ، على المعطيات الجوهرية الموضوعية ، تعكس السيكولوجيا الاجتماعية وجها”آخر للوجود الاجتماعي ، ألا وهو سلوك الفئات الاجتماعية حيال عالم الظواهر )) . أنظر للتوسع في الموضوع ، أ . ك . أوليدوف ؛ الوعي الاجتماعي ، ترجمة ميشيل كيلو ، بيروت ، دار ابن خلدون ، 1978) ، ص135 وص136 .
(39) كارين أرمسترونغ ؛ تاريخ الأسطورة ، ترجمة وجيه قانصو ، ( بيروت ، الدار العربية للعلوم ناشرون ،2008) ، ص26 .
(40) يقول الباحث العراقي المبدع ( فاضل الربيعي ) (( إن سطوة الرموز تظل قادرة على الاحتفاظ بقوتها وزخمها ، ومن دون أي تبدل تقريبا”)) . أنظر ، تركي علي الربيعو وفاضل الربيعي ؛ الأسطورة والسياسة ، سلسلة حوارت لقرن جديد ، ( دمشق ، دار الفكر المعاصر ، 2007) ، ص137 .
(41) انظر دراسته القيمة ( هوى الشرق وهوية الإسلام :التعصب في الحالة الأصولية) ، ضمن كتاب ؛ العنف الأصولي : مواجهات السيف والقلم ، سلسلة كتاب الناقد ، ( لندن ، رياض الريس ، 1995) ، ص197 .
(42) الدكتور محمد عابد الجابري ؛ المسألة الثقافية في الوطن العربي ، مصدر سابق ، ص148 .
(43) كلود جوليان؛ انتحار الديمقراطيات ، ترجمة عيسى عصفور ، ( دمشق ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، 1975) ، ص89 .
(44) المصدر ذاته ؛ ص 91 . من جهة أخرى ، اعتبر بعض الباحثين إن (( المدينة هي خلق إنساني يحرر الإنسان ، يخرجه من الطبيعة ، ويقيم نظاما”جديدا”فيه الفرد يخضع نفسه للجماعة والغريزة للعقل )) . أنظر ، أنطوان بلتيه – جان جاك غوبلو ؛ المادية التاريخية وتاريخ الحضارات ، ترجمة الياس مرقص ، ( بيروت ، دار الحقيقة ، 1980) ، ص9 .
(45) في هذا السياق يشير المفكر (محمد عابد الجابري) ، بخصوص ظهور وتطور المدن في أوروبا عبر مضاعفات احتكاكها بالعالم العربي قائلا”(( ومع تطور العلاقات التجارية مع العالم العربي بدأت تنشأ مدن جنينية مستقلة أو ملتصقة بجنبات الحواضر الكهنوتية أو (المحطات العسكرية) . وقد عرفت هذه الظاهرة تطورا”كبيرا”انطلاقا”من القرن الثاني عشر حينما أخذت تغير بعمق البنيات الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا وبدأت ، من خلال قيام البلديات ، بزعزعة بنياته السياسية والثقافية )) . راجع كتابه ؛ في نقد الحاجة إلى الإصلاح ؛ مصدر سابق ، ص72 . 
(46) هذا على سبيل المثال ما لاحظه الآثاري المصري (محمد عبدا لستار عثمان) من(( المظاهر التي أثرت في الحياة الاجتماعية للمدن اختلاط الأجناس أحيانا”في بعض المدن وخصوصا”في الفترة الأولى التي انتشر فيها الإسلام ، وما تلا ذلك من الاعتماد على هذه الأجناس كاعتماد العباسيين على الفرس ثم على الترك ، وما تلا ذلك من سيادة العنصر التركي الذي امتد سلطانه حتى وصل إلى الحكم في كثير من بلدان العالم الإسلامي ابتداء من العصر العباسي وانتهاء بالعصر العثماني )) . أنظر كتابه ؛ المدينة الإسلامية ، سلسلة عالم المعرفة (128) ، ( الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 1988) ، ص327 . 
(47) هاملتون جب – هارولد بوون ؛ المجتمع الإسلامي والغرب ، ج2 ، ترجمة الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى ، (القاهرة ، دار المعارف ، 1971) ج2 ، ص114 .
(48) المصدر ذاته ؛ ص 113 .
(49) الدكتور خليل أحمد خليل ؛ سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر ، (بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 2005) ، ص348 .
(50) المصدر والصفحة ذاتهما .
(51) الدكتور محمد جابر الأنصاري ؛ التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام : مكونات الحالة المزمنة ، (بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر / دار الشروق ، 1999) ، ط/2 ، ص192 .
(52) عباس العزاوي ؛ تاريخ العراق بين احتلالين ، (ثمانية أجزاء) ، ( طهران ، منشورات الشريف الرضي ،     ) ج3 ، ص30
(53) المصدر ذاته ، ج1 ، ص184 .
(54) عبد الرزاق الحسني ؛ تاريخ العراق السياسي الحديث ، (عشرة أجزاء) ، ( بيروت ، مطبعة دار الكتب ، 1983) ج/1 ، ص10 .
(55) للباحث العراقي (فاضل الربيعي) استبصارات قيمة ومقاربات جريئة بخصوص هذه الظاهرة الممتدة إلى جذور أساطير الإنسان القديم وتخوم لاوعيه . أنظر على سبيل المثال ؛ الأسطورة والسياسة ؛ مصدر سابق ، ص122 وما بعدها.
(56) الدكتور برهان غليون ؛ نقد السياسة ؛ الدولة والدين ، (بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 2004) ، ط /3 ، ص159 .
(57) دنيس كوش ؛ مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية ، ترجمة الدكتور منير السعيدي ، (بيروت ، المنظمة العربية للترجمة ، 2007) ، ص 11 .
(58) لقد أوضح الأمين العام للجمعية العربية لعلم الاجتماع الأستاذ الدكتور (طاهر لبيب) إلى إن مبتدع صيغة (سوسيولوجية الثقافة) ألفريد فيبر ، كان قد فرق (( بين الحضارة ؛ على أنها جملة المعارف النظرية والتطبيقية غير الشخصية ، وبالتالي تلك التي يعترف إنسانيا”بصلاحيتها ويمكن مناقلتها ، وبين الثقافة ؛ على أنها جملة من العناصر الروحية والمشاعر والمثل المشتركة التي ترتبط في خصوصيتها بمجموعة وزمن معين)) . راجع كتابه ؛ سوسيولوجية الثقافة ، ( عمان ، دار ابن رشد ، 1986) ، ط /3 ، ص7 . ونشير إلى أن هناك المئات من المراجع التي تتوسع في هذه المسألة لمن أراد ذلك .
(59) لعل مفردات خطاب البروفيسور العراقي (هيثم الجنابي) تحتل الصدارة في مثل هذا النمط من الرؤية الميتافيزيقية لواقع الثقافة العراقية التي اعتبرها (( ثقافة كونية ، بمعنى أنها امتداد لتاريخ عريق جذره الأول هو تاريخ العرب القدماء وأسلافهم من أرومتهم وأوسطه هو تاريخ العراق القديم ونهايته هو تاريخ الخلافة العربية . وليس اعتباطا”أن يصبح العراق موطن الرؤية الكونية (كذا) ، انه يستعيد تاريخ عريق من دورة كاملة هي العربية – الرافدينية – العربية )) . راجع مؤلفه ؛ فلسفة الثقافة البديلة في العراق ، (بغداد ، دار ميزوبوتاميا ، 2007) ، ص79 و ص80 .
(60) الدكتور برهان غليون ؛ اغتيال العقل : محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية ، ( بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 2004) ، ط /3 ، ص36 .
(61) لقد عالجنا بشيء من التوسع موقف العراقيين التقديسي من التاريخ وأسطرة موضوعاته ، ضمن بحثنا ( الشخصية العراقية بين تقديس التاريخ وتدنيس الجغرافيا) المنشور على موقع الحضارية بأربعة حلقات .
(62) جاك لوغوف وأخرين ؛ التاريخ الجديد ، ترجمة الدكتور محمد الطاهر المنصوري ، ( بيروت ، المنظمة العربية للترجمة / مركز دراسات الوحدة العربية ، 2007) ، ص46 .
(63) الدكتور محمد جابر الأنصاري ؛ العرب والسياسية : أين الخلل ؟ جذر العطل العميق ، (بيروت ، دار الساقي ، 2000) ، ط / 2 ، ص55 .
(64) الصياغة المفهومية هي من وضع المفكر (جورج طرابيشي) ، التي أراد من خلالها الإفصاح عن عمق الأزمة الحضارية التي يعانيها الكيان السيكولوجي العربي ، مقابل (الجرح الميتافيزيقي) ، الذي لم يلبث العالم الغربي أن شفي منه وأسقطه على الآخر ، عبر آليات الاستحواذ والهيمنة على شعوب الشرق . أنظر كتابه ؛ من النهضة إلى الردّة : تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة ، ( بيروت ، دار الساقي ، 2000) ، لاسيما المقالة الأولى ، ص9 وص10 .
(65) سليم مطر ؛ جدل الهويات : عرب ، أكراد ، تركمان ، سريان ، يزيديّة ، صراع الانتماءات في العراق والشرق الأوسط ، ( بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات ، 2003) ، ص40 .
(66) جوزيف شتراير ؛ الأصول الوسيطة للدولة الحديثة ، ترجمة محمد عيتاني ، (بيروت ، دار التنوير ، 1982) ، ص9 .
(67) هنري . أ . فوستر ؛ نشأة العراق الحديث ، ج2 ، ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي ، (بغداد ، منشورات المكتبة العلمية ، 1989) ، ج1 ، ص17 .
(68) عباس العزاوي ؛ العراق بين احتلالين ؛ مصدر سابق ، ج1 ، ص313 .
(69) لاشك إن هنالك البعض من الكتّاب ممن تطرقوا لهذه الحالة ؛ إما من منطلق القدح والذمّ أو من باب التبرير والتسويغ . إلاّ إن إسهامات العلامة الراحل (علي الوردي) تبقى وحدها ذات قيمة علمية لا يستغنى عنها ، لاسيما في أسلوب رصده لهذه الظاهرة ومنهجية تحليل مضامينها . راجع بهذا الصدد كتابه القيم ؛ دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ، (بغداد ، مطبعة العاني ، 1965) ، وكذلك بعض من فصول سفره الممتع ؛ لمحات اجتماعية .
(70) مارسيل غوشيه ؛ الدين في الديمقراطية ، ترجمة الدكتور شفيق محسن ، (بيروت ، المنظمة العربية للترجمة / مركز دراسات الوحدة العربية ، 2007) ، ص84 .
(71) هذه التسمية مستعارة من بحوث الأستاذ (فاضل الربيعي) ، مع إننا نميل إلى استخدام مصطلح (التقليدية) ، كونه أكثر تعبيرا”عن حالة المجتمعات من هذا النمط الراكد ، أكثر من استعمال مصطلح (التاريخية) الذي يشير – بحسب العالم السوسيولوجي (آلان تورين) إلى ذلك الطراز من ((المقدرة التي يتمتع بها كل مجتمع في إنتاج حقله الاجتماعي والثقافي الخاص به ، ووسطه التاريخي الخاص به (….) ما سوف أدعوه بالتاريخية هو إذن الطبيعة الخاصة التي تتميز بها الأنظمة الاجتماعية التي (فيما وراء إعادة إنتاجها المختلطة بالحوادث الطارئة التي يمكن أن تغيرها ، وفيما وراء إمكانياتها على التعلم والتأقلم) تمتلك إمكانية الحركة والفعل على نفسها بالذات ، وذلك بواسطة مجموعة من التوجهات الثقافية والاجتماعية . وبدلا”من أن نضع مجتمعا”ما في التاريخ ، فان الأمر يتعلق بوضع التاريخية في قلب المجتمع كمبدأ منظم لحقل من العلاقات والممارسات)) . للمزيد راجع ، الدكتور محمد أركون ؛ الفكر الإسلامي – قراءة علمية ، ترجمة الدكتور هاشم صالح ، (بيروت ، مركز الإنماء القومي / مركز دراسات الوحدة العربية ، 1996) ، ط / 2 ، ص116
(72) لقد كتب المؤرخ العراقي الكبير طه باقر يقول ((إذا أعدنا إلى الأذهان ما ذكرناه عن عصر فجر السلالات بأنه دور ظهور وادي الرافدين الناضجة وان فترة العهد البابلي الأخير آخر عهودها جاز لنا القول أنها لصدفة تاريخية عجيبة إن تكون هذه الحضارة قد ولدت وماتت في كنف الآلهة والمعبد)) . راجع كتابه القيم ؛ مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين ، (بغداد ، دائرة الشؤون الثقافية العامة ، 1986) ، ج1 ، ص559 .
(73) سبق للمؤرخ الاجتماعي المعروف (حنا بطاطو) أن وجد ((إن الإسلام في العراق كان قوة فصل أكثر منه قوة دمج ، إذ انه أقام انشقاقا”حادا”بين العرب الشيعة والسنة)) . راجع كتابه / المرجع ؛ العراق ؛ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية ، ج3 ، ترجمة عفيف الرزاز ، (بيروت ، مؤسسة الأبحاث العربية ، 1990) ، ج1 ، ص36 .
(74) غني عن القول لأن ظاهرة (التطهير الطائفي) هي أكثر شراسة وأشد دموية من حيث الدوافع والسلوكيات ، مقارنة بظاهرة (التطهير العرقي) ، وذلك لأنها تستمد مواقفها وبالتالي شرعيتها من الدين ، وتمتح سلطانها وبالتالي شحنتها من المقدس ، مما يقوي عوامل ثباتها في بنية الوعي الفردي ويفعّل مقوماتها في منظومة المتخيل الجمعي من جهة ، ويسوغ طابعها المسرف بالعنف ويبرر خاصيتها المفرطة بالقسوة من جهة أخرى . هذا في حين إن عناصر الظاهرة الأخرى ، تعتمد في بواعثها وآلياتها على الطارئ من الأزمات السياسية ، والظرفي من المشاكل الاجتماعية ، والآني من الاختناقات الاقتصادية والساخن من الهيجانات النفسية ، التي تخضع بطبيعتها لعوامل التسويات المباشرة والمساومات الملموسة .
(75) تركي علي الربيعو وفاضل الربيعي ؛ الأسطورة والسياسة ؛ مصدر سابق ، ص 172 .
(76) ن . باتريس ، س . كولبورد ، د . لوميرسييه ؛ ديمقراطية التعليم وبسيكولوجية التربية ، ترجمة زهير السعداوي (بيروت ، دار ابن خلدون ، 1980) ، ص11 .
(77) جاك سوفيل ؛ أناتول فرانس ، ترجمة الدكتور ذوقان قرقوط ، سلسلة أعلام الفكر العالمي ، ( بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات ، 1977) ، ص10 .
(78) جون ديوي ؛ الخبرة والتربية ، ترجمة الدكتور محمد رفعت رمضان والدكتور نجيب اسكندر ، (القاهرة ، مكتبة الانجلو المصرية ، د . ت) ، ص17 .
(79) بيتر سلاغليت (قصور النظر الإمبريالي) بحث منشور ضمن كتاب ؛ المجتمع العراقي : حفريات سوسيولوجية في الاثنيات والطوائف والطبقات ؛ مصدر سابق ، ص 295 .
(80) جاريث ستانسفيلد ( الانتقال إلى الديمقراطية : الإرث التاريخي والهويات الصاعدة والميول الرجعية) ، بحث منشور ضمن المصدر ذاته ، ص 385 .

أحدث المقالات

أحدث المقالات