لعقود خلت، خُيل لنا نحن الكرد ان سياسة الاستعداء التي كان ينتهجها النظام البعثي، لم تكن الا تكتيكا مرحليا وسياسة لكبار ازلام البعث حصرا، ولم يدر في خلدنا يوما ان تكون هذه السياسة قد ضربت اطنابها في مخيلة وافئدة وعقول فئات حتى من غير البعثيين او ان تكون قد خرجت عن نطاقها الضيق المتمثل بقادة البعث البارزين الذين تفننوا في استثمار النزعة العنصرية والقومية لمكونات النسيج الاجتماعي بشكل مذهل، ولكن الاعوام التي تلت عام 2003 اثبتت بما لا يقبل الشك ان تصورنا هذا لم يصب كبد الحقيقة.
سياسة استعداء الكرد يبدو انها اصبحت السلاح الانجح والامثل والاسهل لدى نفر غير قليل من سياسي ما بعد 2003 كوسيلة للبروز والانطلاق ومن ثم تسلق سلم المناصب، وهؤلاء حرصوا على انتهاج هذه السياسة مستثمرين الشحذ النفسي العدائي ضد الكرد الذي وضع لبناته البعث من قبل، بل ان البعض منهم تفوق حتى على البعث نفسه في تنفيذ سياسة استعداء الكرد وجعل هذه المسألة قاعدة انطلاق قوية سرعان ما اينعت ثمارها في لمح البصر، وبتنا نرى اناسا في ارفع المناصب في الدولة العراقية ممن لا تأريخ ولا قاعدة لهم، لا لشي سوى لمجرد انهم جعلوا من انفسهم ابطالا قوميين وقادة لمحاربة العدو الوحيد والاوحد الذي خلقوه وهم “الكرد”!
اللافت ان ساسة العراق الجديد على اختلاف مشاربهم المذهبية، انتبهوا مبكرا لهذا السلاح الفتاك وميزاته وحسناته وسهولة استخدامه وضمان نتائجه الباهرة، بل ان عددا غير قليل منهم ايقنوا ان سياسة استعداء الكرد بمثابة “جواز سفر” للوصول الى اي موقع او منصب داخل هيكلية الدولة العراقية، بعد ان ايقنوا ان لا سبيل امامهم لتسلق السلم السياسي سوى هذا السبيل الزهيد الثمن.
الغريب والمثير للانتباه ان الساحة السياسية في العراق الجديد يبدو انها لم تعد تسع السياسيين الذين انصفوا الكرد يوما او الذين ترتفع اصواتهم بين الحين والاخر لانصاف الكرد ومنحم ما يستحقون جراء ما عانوه لعقود من بطش وتنكيل وتهجير وترحيل واعدامات وانكار لابسط الحقوق من قبل الانظمة التي تعاقبت على تسلم زمام السلطة في بغداد، وكل هذا جرى تحت يافطة الاستعداء القومي الذي صور الكرد عدوا لا شريكا في الوطن والحقوق عبر سياسات خبيثة استند عليها القائمون على تنفيذ هذه السياسية حينها والتي كان هدفها الرئيسي زرع بذور الفتنة والتفرقة بين الكرد والعرب واشاعة اجواء الحقد والكراهية ضد الكرد والعمل على ديمومة اجواء استعداء الكرد لامد طويل بعد غرس مفاهيمه المقيتة في الجو الاجتماعي والسياسي العام للبلد.
المتتبع للمشهد السياسي في عراق مابعد 2003، يلحظ بما لايقبل اللبس والغموض ان الساحة السياسية باتت اليوم معتركا وحلبة لتنافس المتنافسين من السياسيين على انتهاج سياسة استعداء الكرد وحمل لوائه وامتطاء صهوة جواد مقارعة العدو “الكردي” المفتعل، مع الاشارة هنا الى ان المتنافسين في هذا المضمار انقسموا الى اصناف واقسام شتى، قسم منهم تخلى عن هذه السياسة ما ان جنى ثمارها، وقسم اخر امعن في تقمص دور البطل القومي حتى بعد ان حقق مبتغاه ونال مراده طمعا لربما في غنائم اكبر.
اليوم وبعد مرور اكثر من عشرة سنوات على اسقاط الصنم، لا نزال نرى بأم اعيننا سياسيين سائرين على شاكلة ازلام البعث المقبور في استعداء الكرد تنفيذا لاجندات خاصة تتعلق باستثمار الاجواء العدائية التي يخلقونها ضدهم ومن ثم جني ثمار هذه السياسة، بالرغم من ان الكثيرين كانوا يتصورون ان هذه السياسة ستنتهي الى غير ذي رجعة بمجرد زوال البعث، ولكن يبدو ان الواقع السياسي يشير الى عكس ذلك، وهذا يعني ان سياسة التحشيد القومي العدائي ضد الكرد لا تزال تلقة اذانا صاغية لدى شريحة ليست بالقليلة بفضل اصرار البعض من طفيلي ساسة اليوم على الاستمرار في ذات النهج المقيت الذي حرق الاخضر واليابس واصاب البلاد والعباد شر مصاب وبلاء.
سياسة الاستعداء ضد الكرد اصبحت اليوم برامج انتخابية كاملة متكاملة للعديد من السياسيين الذين يرمون دخول المعترك السياسي، وهم في مسعاهم هذا يستندون الى نجاحات ساحقة حققها ولا يزال يحققها سياسيون صعدوا وبرزوا بسرعة البرق بعد ان حملوا لواء العداء للكرد، حديثنا هذا عن سياسيين يرومون دخول المعترك السياسي، ولكن الخطر الاكبر والطامة الكبرى تتمثل في ان تتحول هذه السياسة الى سياسة من بيدهم مقاليد الحكم في بغداد اليوم، وهو ما ينذر بتكرار المآسي والويلات التي اذاقت الشعب العراقي الامرين لعقود على خلفية تبعات هذه السياسة التي حصدت ارواح ابنائه من الكرد والعرب معا بسبب الحروب الداخلية، ولكن يبدو ان هناك من لايزال متعطشا لرؤية المزيد والمزيد من الدماء لا لشيء سوى لبقائه في سدة الحكم.