من خرائط الجسد وأشجاره، من مجاز القلب، من رمل يقلّب رمله في صحارى الروح، من ملح يفرُّ من الأدمع المتجمدة، من شبابيك تطل على ذاكرة الإثم، من هناك، أطلَّت علينا قصائد نمر سعدي في كتاب وسمهُ ب ” استعارات جسديَّة وأهداهُ إلى “الوحيدات”، فهنَّ العزلة مسجونةً في الأنوثة وهنَّ المنتظرات لقصائد يكتبها الجسد المشتهى، وهن الباسطات أياديهن للأقدار تخطُّ على كفوفهنَّ الآتي، وهن الغائبات عن طين الخزاف يشكلهن كما يريد، وهن الحاضرات في استعارات اللغة ووهم الشاعر.
نصوص تسكب الملح على الجرح وتحنِّط آلامه المبرحة بل وتذهب إلى نكرانه في اللغة والصوت ” فصوتي لا يبدو جافا مثل واد من الملح” لكنه يعترف بعد نكران بأن الملح ليس مسكوباً على الجرح وحسب بل هو يسري في دمه كالكرويات البيضاء ويضج بالأسئلة والصراخ، يقول: “هل من خصلة وردية أم من نداء الملح في دمنا سينبلج النهار؟”.
هو الكائن القائم على التناقض، ينكر الملح ويصدح بأصواتهِ ف “التناقض هو الملح الذي يحفظ الحقيقة من الفساد” على حد تعبير جون لانكستر سبالدنغ.
شاعر يسم كتابه باستعارات جسديَّة ويحدثنا عن هشاشة الروح وعنه ككاتب مقيم في الظلال، يحاول جمع شتاته أحيانا أو كسره أحيانا أخرى. ككائن مستقل، كحقيقة يرفضها الجسد، كفكرة طليقة في جسد يختار له سجَّانا أسماهُ القلب.
هو شاعر “نزقٌ يربِّي ظلَّـهُ عند التقاءِ النهر بالبركان” وهو المنادي والمنادى، الفاعل والمفعول به ،الجسد وظلهُ أو لنقل الظل باعتبارهِ أصلاً والجسد تابعاً.
“يا ظل انكسر فوق المياه لكي ألملمكَ، انكسر لتهبَّ مثل الأقحوانةِ، وانكسر حتى تذرِّيكَ الرياحُ، تهبُّ من أقصى اشتهائي”.
فالظلُّ حسب السعدي كائنٌ منفصلٌ لكنه الحقيقة والجسد سراب، الحقيقة المضيئةُ في ليلٍ كظلِّ الأرض أو لم يقل غوته الفيلسوف الألماني: “حيث يوجد الكثير من الظل يكون الظل عميقا”؟
هو شاعر يكتب ظلاله المنثورة في الأرض، يكتب خطاياهُ، أشكاله المتعددة في تفاصيل الظلال، يكتب أصواته الصامتة، ليله الطويل، عاطفتهُ تلك التي تخلع طيناً أثيماً، فعاطفته “سراب واضح أو ظل عنقاء ترفرف في الدماء وفي الكتابة”، هو الشاعر يقطف لنا من حدائق جنانهِ فواكه لذيذة من شجر الحلم “فيرتق القلب المخرَّم بالسفرجل والغناء”، وله “من الغيم شرفة ومن عبق التفاح موجة وزرقة”، مُدّ يديك أيها القارئ واقطف من حدائق قلبهِ المعلقة ما تشتهي من فواكه، سيصيرُ المعنى لذيذا بطعم النشوة، ستنبتُ في جسدك استعارات الأشجار، والأنهار والأطيار والرماد، كُوني أيتها الفواكه دوائر متاهةٍ تجعلك لا تخرج من جنة الفكرة.
يقول ألبار بيار بيروني في ذكريات آدم: “أحسُّ أن العالم يدخل فيَّ كما الفواكه التي آكلها، نعم حقّا إنّي أتغذّى من العالم”.
نمر سعدي مسكون بالملح والظل وصرخات الألم في طين أثيم، إثم الغواية والممنوع، إثم الكتابة الجميل، به جراح لا تبرأ يحنطها الملح والذكريات وروح شاعر لا يستكين إلى المعنى الساذج، به “جرحٌ ليس يبرأ من ضجيج النثر”، به أسئلة الغيب والغياب، به قلب يطلُّ على الكون، به فوضى الشاعر، به إصرار الكتابة، هو الحافر في المعنى بمعاول من لام والف كالرفض للسائد، والصاعد إلى الكثافة بأجنحة الخيال كالطيران في أقفاص اختارها سجوناً له، كسجن الحبيبة، كسجن الوحدة عند الكتابة، سجون تطلُّ على حرية المعنى، به لذة الألم تتقلَّى في شرايين القلب ونبضه، هو الصارخ: “لن أسدَّ شبابيك قلبي ولن أبتعد”، به قلق الفصول وأرق أيلول ونوافذ نوفمبر… قصائده هي ما يطلُّ عليه من شرفات القلب، من ثقوب الطين، من أضواء الليل الخافتة، من لحظات الفرح، وسنوات الألم، به “سقسقات العصافير” و “نداء الملح” تلك أصوات تخرج من جسد يحتفي بالمجاز وأصواتِ الأسئلة، بهِ الشِعرُ “سرُّ خساراته الجميل، به ألم الآخرين ينقر قلبه حيثُ تقطن الوحيدات اللاتي “يحتجن تقليم لبلابهن الذي امتدّ في الليل خارج أسوار أجسادهن”.
أيها القارئ هذه نصوصٌ تزخر بالمجاز، وتزخر بآثام الطين، آثام الخيبات والخسارات والخيانة، آثام جميلة يستعيرها الشاعر من الصلصال ومن الظلال ويحفر فيها استعارات المعنى خرائطَ للجراح العميقة.
نمر سعدي في استعاراته الجسدية، كان يجعل من الجسد لغة رمزية لقد “سمَّروا قلبه على خشب الصليب” كان يحدثنا عن قلبه “المخَّرم بالسفرجل” لكنها اللغة حمالة القلب والفكر معا، لغة المجاز، فصرت أراه لغة أو رمزا أو معنى، فالجسد يخرج من كونه حسيَّاً إلى دائرة المعنى ومن التراب والصلصال إلى الحياة، يقول: “هذي الحياة قصيدة لا تنتهي”، إذن هذا الجسد يتنفَّس شعرا ولا ينتهي إلا بزوال الشعر والشعور، هو المؤمن بالقلب، بالشعر العميق، ب “الوميض، العبارة، خيط المجاز”، يؤمن بالحدس واللذة في آن معا، يحدسُ بالأشياء كنبيٍّ للشعر، مرهف رهيف “يسكنه المغني العذب”، شاعر يؤمن بالزمن والفصول كتموز “كطعم الحبِّ في أيلول” يطلُّ من نافذة نوفمبر على العالم ويهزُّهُ “أرقُ أيلول” هو الذي يصغي إلى “نداء الملح”، وما يحمله الملح من رمزية الخلود والألم، يحدثنا عن اللذة والفواكه من سفرجل ورمان ونزوات نوفمبر القاسي وهو “المتعبُ من الاشتهاء”، صفوة القول انه شاعر في هذا الكتاب، شاعر الأزمنة والأمكنة والفصول، شاعر المعنى والمغنى شاعر اللذة والحب الصافي، إنهُ الإنسان في جمعهِ للأضداد، الجسد بحضوره المادي والجسد مجازاً ولغةً… هو المنشطرُ بين حسِّ الأهداب وبين لذة المعنى التي تحملها رائحة البحر، فقط هو نمر اللغة وكم يسعد بفراشة شرسة يحلق بها المعنى بعيداً، هو الذي يسمِّي جميع النساء فخاخاً ولا يقع إلا في فخ المجاز والمزاج والحيرة، فهو المهووس بالشِعر يسأل لمن يكتب الشِعر في هذهِ الأرض، أجيبك أيها النمر.. للفراش الذي حدثتنا عنه، الفراش المحلِّق بعيداً في أقاصي الأرض، لقارئ افتراضي يعشق المعنى ويغنِّي معك.
***