1- ذكريات ومواقف
لم يكن نظام جامعة الصدر (البغدادي) يسمح لنا بالخروج متى نشاء من بناية الجامعة حتى وان كان هذا الخروج للصلاة خلف السيد الصدر (قدس سره) جماعة في حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) أو للذهاب إلى برانيه حيث انه يتواجد أيضا مساء الخميس والجمعة وذلك لحرص الإدارة على الطلبة ، وفي يوم (3 ذو القعدة، ليلة 4) الجمعة حوالي الساعة 7:30 مساءً أو أكثر بقليل سمعت بخبر تعرض السيد الصدر لعملية إطلاق نار عن طريق عامل الجامعة والذي بدوره كان خارج البناية لجلب شيئا ما وسمع من احد سائقي الدراجات الهوائية بهذا الخبر غير المؤكد حينها من الجميع، فوراً أخبرت الشيخ نديم الساعدي معاون العميد والساكن في الجامعة بالأمر ولم اخبر الطلبة لعدم تأكدي من الخبر ، خرجت مع الشيخ نديم من الجامعة مستقلين سيارة أجرة إلى بيت السيد الصدر (قدس سره) في الحنانة وكلنا قلق وأمل بعدم صحة الخبر لكننا فوجئنا بتواجد مكثف لقوات عسكرية وأمنية ، منعونا من الاقتراب من بيت السيد (قدس سره)، حاولنا دون جدوى ، تكاثروا علينا والأسلحة والصياح يعلو، على أثرها قررنا التوجه بنفس السيارة إلى حي الزهراء حيث بيت سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) والى الآن نحن غير متأكدين من الخبر فلربما هي زيارة لأحد المجرمين ..
وصلنا إلى بيت سماحته فوجدناه في البيت ولم يذهب أيضا لصلاة الجماعة لجرح في إصبعه رأينا ضمادته عليه فاستقبلنا خير استقبال وقد لاحظ علينا سماحته الارتباك فشرحنا له ما سمعناه ورأيناه من تواجد القوات حول بيت السيد ، عمد إلى تهدئتنا لحين التأكد من الأمر وفعلاً توجه للهاتف الأرضي .
وهنا قَدِم إلينا سماحته وقال : نعم هناك ما يريب وعلينا الذهاب إلى بيت الشيخ حيدر اليعقوبي بسرعة لان بيتهم قريب من بيت السيد (قدس سره) فنعرف ما جرى لأني حاولت الاتصال ببيت السيد (قدس سره) وبيت أبنائه دون جدوى، وقال لنا حينها سماحته نحن عاهدنا السيد في حياته على عدم الانسحاب والبقاء معه إلى النهاية فهل ننسحب الآن ؟
ففي آخر لقاء للسيد معنا – والكلام لسماحته بالمضمون – قال إنني – أي السيد – شاهدت فلما حربياً فيه القائد خاطب جنوده وهو في ساحة منطقة الحرام بان من يريد الانسحاب فلينسحب الآن قبل ان تبدأ المعركة وللجميع حرية اتخاذ الموقف المناسب لهم فانسحب بعض الجنود وبقي مع القائد بعض آخر، وانتم أيضا أقول لكم نفس الكلام لإننا وصلنا إلى منطقة محرمة مع النظام فلكم الخيار في الانسحاب أو الاستمرار …
وقد عاهدناه ( قدس سره ) على البقاء جميعا والاستمرار فهل انسحب الآن …
توجهنا إلى بيت الشيخ حيدر وتأكدنا من صحة وقوع الحادثة لكن ما هي الخسائر فلم نعرفها وقرر سماحته أن نذهب إلى المستشفى في سيارة لأحد الأخوة ، وفعلا وصلنا ووجدنا عددا من الطلبة وغيرهم ينتظرون خارج الباب الرئيسي للمستشفى دون ان يسمح لهم بالدخول ثم ازداد العدد لاحقا ولم يكن أمام هذا العدد القليل إلا قراءة الأدعية ومنها دعاء الفرج وكنت معهم .
وأما سماحة الشيخ المرجع اليعقوبي فقد استطاع بشجاعة أجبرت جلاوزة الأمن والمخابرات وغيرهم على الرضوخ لطلبه بالدخول إلى داخل المستشفى بينما غيره لم يكلف نفسه عناء الخروج من باب بيته أصلا واليوم يدعي المرجعية والاعلمية .
وأما صاحبي الشيخ نديم الساعدي فقد كان الأغرب موقفاً حيث اختفى الرجل من ساعتها والى سنوات هارباً من كل شيء حتى تقليده للسيد الشهيد تركه حسب علمي ، وبذا يكون كمن آوى إلى ركن ضعيف ظناً ان في ذلك نجاة له ، ولم أره إلا بعد سنوات اتضح لاحقاً توجهه من المستشفى إلى بيت الشيخ محمد حسين (أبو علي) الساعدي ثم بعد فترة إلى مدينته العمارة ولم انتبه لاختفائه الغريب لانشغالي بالحدث وتداعياته المحتملة .
2- فأُغلقت الأبواب إلا بابه
إن الأبواب أُغلقت بوجه المحبين المنكوبين ليلتها إلا باب سماحة الشيخ المرجع اليعقوبي (دام ظله)، فقد ذهب بعض طلبتنا إلى بيوت بعض العلماء في محاولة لحثهم على الحضور إلى المستشفى ليضغطوا على السلطات عسى أن يتبين حقيقة الأمر وتستلم الجثامين الطاهرة لكن عدم القدوم بل عدم الخروج من باب بيوتهم كان سيد الموقف، وأقصى ما قيل كان من خلف الباب .
هذا بالنسبة إلى حال (العلماء) الذين كان يتوهم حسن الظن بهم ، وأما ما يسمى بـ (المراجع الأربعة) اليوم فثلاثة منهم كان موقفهم من السيد الصدر موقفا سلبيا جدا فلم يكن في بال الطلبة الذهاب إليهم لان القضية سالبة بانتفاء الموضوع كما يقال .
فعلاقتهم مع السيد الشهيد الصدر (قدس سره ) أقل ما توصف به انها ليست بالجيدة مستثنين طبعا الشيخ الفياض فقد كان على علاقة يمكن رفع وصف غير الجيدة عنها لكن لا يتوقع منه مطلقاً اي مساعدة في تلك الليلة لذا لم يذهب إليه الطلبة ، وأما الثلاثة الآخرين من المراجع :
ا- السيد محمد سعيد الحكيم : يكفي ان نتذكر مسألة بناية جامعة الصدر الدينية في النجف الاشرف شارع أبو صخير ( الباكستانية ) وكيفية تدخل المجرم صدام شخصيا في قضيتها فسلبت من السيد الصدر وأعطيت لهم ، وقال السيد الشهيد ( قدس سره ) في لقاء صوتي حول عدم العلاقة معهم :
.. انا على استعداد ان اذهب اليه – السيد محمد سعيد الحكيم – في هذه الليلة او في اي ليلة في سبيل المصلحة العامة ، مصلحة الاسلام والمذهب .. وانا كما عبرت ان يدي ممدودة للمصافحة بقي ان يمدوا ايديهم ليس اكثر من ذلك …
طبعا لم يمدوها الى ان استشهد (قدس سره ) .
ب- الشيخ بشير الباكستاني : اتهمه مراراً السيد الصدر (قدس سره) بإمور عدة ولم يكن على علاقة طيبة معه مطلقا بل رفض بقاءه في العراق ، وقال في لقاء صوتي طويل عن ذلك :
… الآن أيضا اقول اذا قلت السبب الحقيقي الذي اعرفه بيني وبين الله تحصل مفسدة وما خفي عليك أكثر في الحقيقة …
وقال (قدس سره) : .. اذن فالحق معي وهو من هذه الناحية تبع للفلانيين والفلانيين ..
ج – السيد السيستاني : لم تكن العلاقة جيدة مطلقاً كما هو معروف ، ويتضح مدى سوء العلاقة في آخر لقاء للسيد الصدر معه وكان قد زاره في مكتبه ، وقد تكلم عن ذلك الشهيد الصدر فقال :
(… قمت له وتقدمت عدة خطوات … وهو لم ينظر لي ولم يمدّ يده للمصافحة ..)
وعندما اراد السيد الشهيد الخروج لم يودعه بأية خطوة كما قال الشهيد الصدر :
(.. قمت والرجل قام … لم يتحرك إطلاقا ، انا ذهبت كما يذهب سائر الناس ، وكان السيد محمد رضا ابنه في الخارج موجودا ،.. وايضا لم يتحرك ربما قدم واحدة ..)
فأبجديات الاحترام واللياقة لم تكن موجودة في هذا اللقاء والاستقبال والتوديع ، فأي علاقة يمكن تصورها خاصة بعد ان نعرف ان السيد السيستاني ومكتبه ووكلائه لم يعترفوا يوما باجتهاد السيد الصدر بل كانوا يشككون بعدالته ونزاهته ، وهذا التشكيك يشمل لا اقل ثلاثة من (المراجع الأربعة) كما قلنا .
فمن هنا يعرف سر عدم ذهاب الطلبة الى هؤلاء ومن عاش تلك الايام يتذكر قساوة الحرب التي شنت على السيد الشهيد (قدس سره) من قبل هؤلاء وحواشيهم وأولادهم ، وأظنهم الى الآن يلعنون اليوم الذي ظهر فيه السيد الصدر وسحب البساط منهم ، وقاد لواء إزالة الأصنام البشرية التي صنعت لنفسها – بهتانا وزورا – هالة قدسية لدى المجتمع .
المهم بقيت خارج المستشفى مع المتجمهرين والذين ازدادوا عددا ، والأكثر منهم كان على الشارع العام حيث لم يسمح لهم بالمجيء إلينا حيث مكان تواجدنا أمام الباب الرئيسي للمستشفى ، إلى أن خرج من باب المستشفى الرئيسي السيد مقتدى الصدر دون أن يكلمنا وكان الذهول بادياً عليه يستشف منه فداحة الخطب الذي علمه ودعاه الى الخروج مسرعا حيث بيت العائلة ، لذا قررت الذهاب إلى المدارس وبيوت الطلبة مع بعض الإخوان لتبليغهم بالحضور والتجمهر ، وكانت أولى محطاتي جامعة الصدر الدينية ( البغدادي) فودعت المدرسة ومن فيها وكان معي السيد ثائر الطالقاني وأوصينا الحارس بوصايا مودع لا رجوع له وسلمناه بعض الأمانات الشخصية ، ثم توجهت لبيوت بعض الإخوة وأبلغتهم بالأمر مع مدرسة أخرى ، وبعد جولة متعبة عدت للمستشفى نفسه لكن واجهتني الصعوبات الأمنية وكثرت الدوريات والسيطرات الى ان وصلت سالما الى الشارع العام وهنا منعتُ بعد ان تكاثرت قوات المجرمين من الوصول الى مكاني السابق حيث باب المستشفى ، وشيئا فشيئاً ازدادت قوات النظام القمعية وسيطروا تماماً على الموقف فاجبروا الجميع على ركوب بعض السيارات التي هيأوها لهم وصعد من صعد وعند وصولهم إلى قرب ضريح الإمام علي (عليه السلام) اعتقلوا، ولم اصعد مع الصاعدين في هذه السيارات وفضلت السير مشياً إلى مسافة ثم وجدت سيارة أجرة أعادتني إلى الجامعة حيث يتواجد بعض الطلبة بعد ان عادوا اليها وبعد الجلوس لفترة في إحدى الغرف لنتبادل الأحزان وربما البكاء من بعضنا ، ثم مع اقتراب الفجر خرجت وبقيت انظر من نافذة قرب المغاسل الى الشارع العام حيث ساحة ثورة العشرين الهادئة على غير عادتها الى ان رأيت بعض السيارات وهي تحمل الجثامين الطاهرة.
وهنا كانت نهاية لمرحلة مهمة كان الصراع فيها على التنزيل وبداية مرحلة جديدة يكون الصراع فيها على التأويل وبوسائل شتى مع بقاء القوم على ديدنهم وأصنامهم ومحاربتهم للمجددين وإنا لله وإنا إليه راجعون