18 ديسمبر، 2024 8:45 م

استشكال مفهوم العلمانية بين الدولة والمجتمع

استشكال مفهوم العلمانية بين الدولة والمجتمع

ليس ثمة مفهوم اجتماعي أسال من مداد الكتاب والباحثين وسوّد من صفحات بحوثهم ودراساتهم مثلما حظي به مفهوم العلمانية هذا ، ليس فقط على سبيل التحليل والتأويل والتأصيل فحسب ، وإنما كذلك لجهة التقريع والتشنيع والتبديع ، ومع كل ذلك استمر يطرح من التساؤلات والإشكاليات أكثر مما يقترح من الخيارات والمعالجات ، فلماذا ؟ . الواقع حين نطلق صفة (الإشكالية) على هذا المفهوم – أو أي مفهوم يوازيه في الاستشكال – لا نروم له (التعميم) و(التمديد) ، بقدر ما نقصد به (التخصيص) و(التحديد) ، أي بمعنى انه مفهوم واضح المعنى وجليّ الدلالة في البيئة الحضارية التي تبلور فيها وصدر عنها ، ولكنه لا يلبث أن يدخل منطقة (الاستشكال) حالما يجري تلقفه وتبنيه – بدون مقدمات ولا تمهيدات – من قبل بيئات حضارية أخرى مغايرة ، غالبا”ما تفتقر إلى مظاهر الانفتاح الثقافي على الآخر ، والتلاقح الحضاري مع الغير ، والمرونة الفكرية مع المختلف .

ولهذا نجد إن المجتمعات الغربية التي نحت مفهوم العلمانية من قبلها وأشيع في بيئتها ، تعاملت معه من منطلق كونه يحمل معاني خاصة ويوحي بدلالات معينة ، غير تلك المعاني والدلالات التي سيتم تضمينها إياه لاحقا”حين جرى استقدامه وتداوله في حاضرة المجتمعات الشرقية على سبيل المثال لا الحصر . ففيما أضفت عليه المجتمعات الأولى طابع (الدنيوية) و(العالمية) ، باعتباره يصف ظواهر شائعة تتصل بالشؤون الإنسانية ؛ السياسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية ، التي يمكن رصد أنماطها وتشخيص مؤثراتها في أكثر من مكان وزمان . نجد أن المجتمعات الثانية سارعت – بوحي من ذهنياتها المشبعة بالروحانيات – إلى تضمينه إيحاءات (دينية) و(لاهوتية) ذهبت به مذاهب شتى ، على وفق ما في الدين من مذاهب متنوعة وطوائف متعددة ، وبحسب ما في اللاهوت من فلسفات إيمانية ونظريات هرطوقية .

وآية ذلك إن الدين في الحالة الأولى تم – في خضم التجارب والممارسات – تأطيره في سياقات حضارية معينة وأنساق ثقافية خاصة ، بحيث لم يعد له من سلطة يدعيها إلاّ في إطار الشؤون الروحية للفرد أو الجماعة ، بعد ما كان – إبان العصور الوسطى – يتمتع بسلطان مطلق يسري تأثيره على كافة الأنشطة والفعاليات التي يمارسها الإنسان والمجتمع على حدّ سواء . هذا في حين جعل الدين في الحالة الثانية بمثابة (المعيار) و(المقياس) الذي من خلاله تلتمس تلك الأنشطة والفعاليات قيمتها الاجتماعية وشرعيتها السياسية ، من منطلق إن الأحكام الدينية والضوابط الشرعية لا تسري فقط على شعائر العبادة الروحية وطقوس الفروض التأملية فحسب ، بل وتطال كذلك شؤون الممارسة الدنيوية بكل ما تشتمل عليه من تعاملات وعلاقات وتصورات وسلوكيات . وهو ما يؤكد وجود حقيقة تاريخية راسخة ضمن تقاليد المجتمعات الشرقية ، كان أحد أعلام الاستشراق الغربي (ساباتينو موسكاتي) قد لاحظها وكتب عنها الآتي (( في المقام الأول هناك الدين الذي يسود خلال كل وجه من الحياة . وما هو أكثر ، هو أن كل وجه من وجوه الحياة تتم صياغته وحركته متوائما”مع الدين . إنها وحدة الإيمان الديني ، هي التي تبرز أيضا”وأيضا”كمحرك يسود حضارات الشرق )) .

ولأن (البنية التحتية) لمجتمعات بلدان العالم النامي / الثالث في معظمها ذات طابع بطريركي / زراعي ، الأمر الذي يجعل من العامل الديني الممزوج بالتصورات الأسطورية والثقافات الفلولكورية ، بمثابة (بنية فوقية) تحتكم إليها تلك المجتمعات في تعاطيها مع النظريات والفلسفات التي تفسر قوانين صيرورات الكون والمجتمع والفكر ، ناهيك عن اضطرارها – بسبب تخلفها العلمي وقصورها المعرفي – لاستخدام المفاهيم المقتبسة والمصطلحات المنتحلة المعنية بتلك الفلسفات والنظريات . بحيث لا تلبث أن (تروحنها) و(تأمثلها) حتى وان كانت من طبيعة اجتماعية وتاريخية صرفة ، اعتقادا” منها بان هذه الطريقة الملتوية كفيلة بإضفاء قدر لا بأس به من غطاء المشروعية الحضارية والمقبولية المعرفية ، ومن ثم منحها وهم الإحساس بالمشاركة في الخلق الذاتي والإبداع المحلي . وهكذا فقد حصل انزياح دلالي لمفهوم العلمانية من كونه يعني (العالم) المناهض لكل ما يوحي بالسرديات الاصطفائية والإيديولوجيات الواحدية ، التي غالبا”ما تفضي إلى الكراهيات والصراعات ليس فقط بين المجتمعات المختلفة الثقافات والحضارات والمتباينة السياسات والإيديولوجيات فحسب ، بل وحتى بين أفراد وجماعات المجتمع الواحد أيضا”. إلى معنى (العلم) المناهض للعقائد اللاهوتية والفلسفات الميتافيزيقية ، بحيث إذا ما تم استدعاء هذا المفهوم ليطبق في مضمار السياسية ، تكون الدولة قد كشرت عن أنيابها ضد الدين وأظهرت السلطة عدوانيتها ضد المقدس ، بعد أن يكون قد أجهز على حرية الرأي وقضى على خصوصية المعتقد . وإذا ما أردنا له أن يلج حقل الاجتماع ظن انه سيكون بمثابة معول يقوض الأخلاق ويهدم القيم ، بعد أن يكون قد زج الإنسان في متاهة من الشك والعدمية . وإذا ما سعينا إلى مقاربته للتاريخ اعتقد بأنه سيمحو هالة الهيبة إلى تحيط بقصصه وسيروراته ، وينزع من ثم غطاء الاعتبار الذي يجلل هامات رموزه ، بعد أن يكون قد أمعن بتشويه الماضي وأسرف في مسخ التراث . وإذا ما توخينا اعتماده في ميدان الثقافة ، أشيع انه سيفسد الفكر ويحرف الوعي ، بعد أن يكون قد قمع التنوع الثقافي وفرض الواحدية الإيديولوجية ! .

من هنا نفهم سبب شيوع نظرة الازدراء لمفهوم (العلمانية) في مجتمعات بلدان العالم الثالث ، فضلا”عن التوجس والحذر حيال كل ما يمت له بصله ، سواء في إطار الخطابات التي تتصدر الإيديولوجيات الراديكالية ، أو في مجال السياسات التي تنتهجها الحكومات الدكتاتورية ، نظرا” للشحنة التي يتم تحميله إياها من المعاني المحرمة دينيا” والدلالات الممنوعة سياسيا”. فعلى الرغم من الطابع (التقدمي) الذي أسبغته على نفسها معظم تلك الأحزاب (المتأدلجة) يمينا” ويسارا”، التي تزعمت – عقب مرحلة ما سمي (بالاستقلال) عن الهيمنة الكولونيالية – حراك الجمهور المجيش وتسيدت وعيه المشوش . إلاّ أنها وبحكم أصولها الاجتماعية الرثة وطبيعة ثقافتها الهجينة ، لجأت إلى مفهوم العلمانية من باب كونه أمضى الأسلحة (الحداثية) لمحاربة ما اعتبرته أساطير الدين وخرافات التدين ، بدلا”من أن تمضي باتجاه استئصال شأفة مظاهر التخلف الاجتماعي ، التي هي من أبرز عوامل استحالة ليس فقط الدين والتدين إلى مجرد شعائر تتلى وطقوس تمارس فحسب ، بل وكذلك التاريخ إلى طوبى والأخلاق إلى فوضى . أما فيما يتعلق بموقف الدول ونمط ممارساتها إزاء ذات المفهوم (العلمانية) فالأمر يبدو أكثر تشنجا” وأشدّ حساسية ، على خلفية الدعاوى السائدة في مضمار الثقافة الشعبية العامة ، المتضمنة ترويج فكرة إن تطبق مفهوم العلمانية في مجال السياسية لابد أن يفضي إلى فصل الدين عن الدولة وإبعاد المقدس عن المدنس ، وبالتالي حرمان السلطة من أهم دعاماتها الإيديولوجية

وأبرز مؤسساتها الرمزية ، الموكول إليها ليس فقط إضفاء طابع الشرعية الوطنية والمشروعية القانونية على ممارسات تلك السلطة فحسب ، وإنما تعزيز وجودها وتثبيت أركانها وتعظيم هيبتها كذلك .

وعلى أساس إن لكل فعل ردّ فعل مواز له في القوة ومعاكس له في الاتجاه – كما تنص قوانين الفيزياء – فانه بقدر ما يشكل مفهوم العلمانية تهديدا” لمصالح وأهداف هذا الطرف أو ذاك ، بقدر يعتبر رفض مبادئه وتشويه قيمه والتحذير من مغبة التعاطي مع معطياته ، من أولويات تلك الأطراف المعنية أو الجهات المقصودة . وهكذا فان (المجتمع) يرفض العلمانية ليس لأنها – من وجهة نظره – تريد أن تجعل للشأن الإنساني دورا”في حماية المصائر من طغيان الشموليات السياسية والإيديولوجية من جهة ، وتنقية السرائر من استشراء نوازع العصبيات والكراهيات من جهة أخرى ، ولكنه يرفضها من منظور كونها تحارب الدين الذي يعتنقه وتقلل من قيمة المقدسات التي يبجلها . هذا في حين إن (الدولة) تتحاشى العلمانية – وان كانت في بعض الظروف والفترات تتبناها اسميا”لا فعليا”- لأنها تستهدف من جملة ما تستهدف – بحسب معيار أصحاب السلطة (الحكام) – أحد أهم الركائز التي تعتمدها لتثبيت كيانها وبسط سلطتها وإشاعة هيبتها ، ألا وهي السلطة الرمزية الرابعة (الدين) التي تشكل مع بقية السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) عماد كيان الدولة ومصدر سيادتها ، هذا بالإضافة إلى مردود توظيفها (لفكرة القوة) بكل مظاهرها و(قوة الفكرة) بكل تجلياتها . دون أن تأخذ بالاعتبار الدلالات الحقيقية لمفهوم العلمانية ، الذي يفيد بأنه لا يستهدف استبعاد الدين عن السياسة (لذاته) كدين ، ولا يسعى لفصله عن الدولة لمجرد كونه يهتم بالأمور الماورائية / الغيبية . إنما هو يتوخى في الحالة الأولى تجنيب السياسة الخوض في غير أمورها الخلافية والعبث في غير مجالها التنافسي ، مثلما يريد للدين أن يحافظ على طهارته من دنس المصالح الفئوية ويصون نقائه من هوس النوازع البشرية . كما انه يروم في الحالة الثانية حمل الدولة على حصر اهتمامها بالشؤون العامة لجميع المواطنين ، دون التورط في الأمور الخاصة المتعلقة بمظاهر التعدد الديني والتنوع المذهبي التي لا يخلو دين من وجودها ، في ذات الوقت الذي يمنع فيه التداخل والتخالط ما بين غايات الدولة وأهدافها الدنيوية من جهة ، وبين غايات الدين وأهدافه الأخروية من جهة أخرى . وذلك من منطلق تجنيب الدولة عواقب الانخراط بالمحرّم (المقدس) الإلهي ، وتنزيه الدين من مثالب التورط بالمجرّم (المدنس) البشري .

وهكذا ما لم تحل مسألة الاستشكال المصطنع حيال مفهوم العلمانية ، ويعاد النظر بنمط الدلالات التي كونها تفكيرنا عنه ، وطبيعة الايحاءات التي استبطنتها سيكولوجيتنا حوله ، فان كلا من الدولة والمجتمع سيفوتان على نفسيهما الكثير من الفرص والمناسبات ، التي يمكن لهذا المفهوم – إذا ما فهم القصد منه وأحسن التعامل معه – أن يقدمها لهما كل في إطاره ومضماره . لاسيما وانه يشترط – لكي يعطي أكله – أن تنأى الدولة بنفسها عن الانخراط في مصالح الخاص دون العام ، الحزب الأوحد دون المجتمع الواحد ، العرف العشائري دون القانون المؤسسي . وان تنتهج نهجا”مدنيا”ليبراليا”موحدا”وفق مبدأ المواطنة ، لا أن تتجه اتجاها”دينيا” يفاضل ما بين الأفراد على أساس انتماءاتهم المذهبية / الطائفية ، أو تتبنى منظورا”قوميا”يميز ما بين الجماعات على أساس ولاءها القومي / الاثني . كما انه يستلزم – لكي يحقق الغاية منه – ألاّ يزجّ بالدين في متاهات السياسة واستقطاباتها بحيث يستحيل إلى عامل تفريق لا توحيد ، ولا

يقحم في دوامات السلطة وصراعاتها بحيث يؤجج مشاعر الكراهية المتبادلة ويصعّد موجات العنف البيني . إنما ينبغي أن يحتكم إلى شريعة المبدأ القائل : إن الدين لله والوطن للجميع .