استهلال:
“الفلسفة تستمد نموها من موقفها النقدي الكوني، وتتوجه ضد كل معطى سابق من التراث”1[1]
لقد تلقى أدموند هوسرل المولود في سنة 1859 بمدينة بروزنيت التابعة لمورافيا في ألمانيا والمتوفي في سنة 1938 والمنحدر من عائلة يهودية متحررة تكوينا في الرياضيات في جامعة برلين وناقش سنة 1883 أطروحة دكتورا حول مفهوم العدد وتابع دراساته العلمية بجامعة فيانا، وتمكن من نشر سنة 1891 كتاب فلسفة الأرطميتيقا2[2] ولكنه ما لبث أن اعتنى بالمنطق ونشر بين 1900 و1901 كتاب البحوث المنطقية في ثلاثة أجزاء، يتحدث الجزء الأول عن مقدمة في المنطق المحض ويتناول الجزء الثاني بحوث في الفنومينولوجيا ونظرية المعرفة ، بينما يهتم الجزء الثالث بعناصر التوضيح الفنومينولوجي للمعرفة3[3].
على الرغم من هذا التكوين المنطقي الرياضي فإنه بدأ في دراسة العهد الجديد Nouveau Testament منذ سنة 1882 تحت تأثير ماساريك وشرع في الاهتمام بالفلسفة من خلال مطالعته المعمقة لفنومينولوجيا الروح لهيجل سنة 1884 وحضر عدد من الدروس في الشتاء الفاصل بين عامي 1884-1885 لعالم النفس الشهير فرانس برونتانو حول الفلسفة العملية وتجريبية دافيد هيوم واعتنق البروتستنتية سنة 1886.
بدأ رحلته الفلسفية باكتشاف مفهوم القصدية أثناء محاولته إصلاح الديكارتية تحت تأثير برونتانو وتأليفه “أفكار توجيهية في الفنومينولوجيا” وتأسيسه الفلسفة الفنومينولوجية المحضة من خلال استئناف التفلسف. تفترض الفنومينولويجا ، في جزء أساسي منها ، وصف الظواهر ، وهو دور الذي يجب أن تضطلع به الفلسفة ذاتها. إذا كانت الفنومينولوجيا قادرة على تولي هذا الدور الوصفي ، فذلك بفضل عمل هوسرل. لقد صاغ هاينريش لامبارت (1728-1777) التعبير نفسه لتعيين مبدأ الظهور من خلال الاعتماد على عمل كانط الذي قام بالتفريق بين الظواهر من جهة والأشياء في ذاتها أو الجواهر أو النومان من جهة مقابلة. لكن هيجل كان أول فيلسوف درس إمكانية وجود ظواهر من شأنها أن تكون موضوع دراسة منهجية لأشكال الوعي الهائلة التي يجب على العقل أن يسافر عبرها للوصول إلى المعرفة المطلقة4[4].
من هذا المنطلق قدمت فنومينولوجيا الروح (1807) نفسها على أنها “علم بتجربة الوعي” ، حيث يتم تجاوز كل تجربة للوعي من خلال تحقيق الفهم الذاتي الكامل ، في الشكل التأليفي للوعي الذاتي والوعي الموضوعي. بمعنى مختلف تمامًا ، يمكن تسمية فنومينولوجيا أدموند هوسرل “علم تجربة الوعي” بشرط أن تكون التجربة هنا هي تجربة الوعي المتعين بأشكاله المتعددة. من هذه التجربة الذاتية يمكن أن يكون هناك العلم الصارم ولقد وجدت فكرة هوسيرل للفنومينولوجيا من حيث هي وصف للظواهر أول تعبير رسمي لها بعد كتاب البحوث المنطقية في كتاب دروس في فنومينولوجيا الوعي الحميم بالزمن 1905.[5]5
تؤكد نظرة بسيطة على المشهد الفكري للقرن العشرين أن هوسرل لم يكن مخطئًا في تقديمها للقراء في مشروع تم كتابته في عام 1913 باعتباره “عملًا رائعًا” يمثل نهاية الفلسفة المثالية وبداية الفلسفة كعلم.[6]6
لقد كان شاهدا يقظا ومحترسا على عصره وانتبه إلى غياب المنهج التفكيري عن الموقف العلموي ولكنه سعى منذ 1910 و1911 إلى بناء “الفلسفة من حيث هي علم دقيق” لكي يتخطى حالة الانقسام في العلوم. لقد بدأ مشروعه النقدي بمساءلة الأحداث التي تقع في عصره والحذر من المواقف السياسية وحمله انتباهه الفنومينولوجي للظواهر إلى تدبر الوضعية التاريخية والسياسية للحقبة المعاصرة ووجه نقده العميق العلوم في البيان الفلسفي الذي أصدره في فيانا سنة 1935 والمعنون”أزمة الإنسانية الأوروبية والفلسفة” بعد تقاعده المبكر عن التدريس في جامعة فرايبورغ سنة1928 وأدى قدوم هيدجر إلى استبعاده عن كل نشاط.
والحق أن هذا الكتاب هو سلسلة من النصوص التي كتبها في عام 1935 ولكنها ظلت طي النسيان أثناء الحرب العالمية الثانية ولم تطبع وتظهر إلا في عام 1954 ، أي بعد ستة عشر عامًا من وفاته. لقد سعى فيها إلى تحديد أصل الأزمة – Krisis – التي كانت تعصف بأوروبا والعالم في بداية القرن العشرين ورأى أنها تعود إلى التخلي التدريجي عن المثل العليا للفلسفة اليونانية لصالح مبادئ العلم الموضوعي.
بيد أن الكتاب الثاني حول الأزمة هو المعنون “أزمة العلوم الأوروبية والفنومينولوجبا الترسندنتالية “7[7] كان قد ألفه بين سنة 1935 و1936 ويعد العهد الجديد في الدراسات الهوسرلية لما مارسه من فتنة على قارئيه ولما تضمنه من عودة إلى الذات عبر أوديسا المعرفة والمصير الذي ينتظر تاريخ الفنومينولوجيا لأن التأملات الهوسرلية مبنية بالكامل على التفكير من ناحية أولى وتعمل على إزالة الأبنية الميتافيزيقية حتى يظهر المكبوت المنسي في تاريخ المعنى ومن ناحية ثانية ليكون الإدراك الغامض محور التفكير8[8].
لقد كشف هوسرل عن العديد من الأزمات في العديد من المجالات: أزمة معرفة، وأزمة عقل وأزمة إنسان وأزمة حداثة وأزمة تنوير ورأى أن حل هذه الأزمات جذريا يكمن في الابتداء الجديد ولكنه توقف كثيرا عند أزمة الفنومينولوجيا وطالب بالانتقال من الفنومينولوجيا الستاتيكية إلى الفنومينولوجيا التكوينية9[9]. فماذا يقصد هوسرل بمفهوم الأزمة؟ وكيف تمكن من زرع هذا المفهوم داخل الفضاء الفلسفي من زاوية الفنومينولوجيا؟ وما المشاكل التي تعاني منها العلوم الأوروبية؟ وهل تتخبط الإنسية الأوروبية في أزمة؟ ولماذا بحث عن تأسيس الفلسفة كعلم واستلهم النجاحات التي حققتها العلوم الدقيقة لينقذ العلوم الإنسانية من مأزقها؟ وماذا يمكن أن تضيف الفنومينولوجيا من في عالم الحياة وعلى الصعيد السياسي والأخلاقي؟ وماهي المسؤولية التي يضعها هوسرل على عاتق الفلاسفة لكي يعثروا على المقام المشترك بين الثقافات ويعملوا على إنقاذ البشرية من الشر والشمولية والحروب ويجدوا التفسير المنطقي للغز الحياة في العالم ؟ وهل هناك حقا أزمة علمية أم أن الأمر يتعلق بالأزمة داخل الفضاء الميتافيزيقي؟ والي أي مدى أصبحت علمية المعرفة موضع شك؟ وكيف تم تفكيك تاريخ طويل ورائع للفلسفة الحديثة ونقد المقاربة الوضعية؟ من هذا المنطلق يمكن معالجة هذه الإشكاليات من خلال اللحظات المنطقية التالية:
-أزمة في الفلسفة
-أزمة في العلوم
-أزمة في الإنسانية
-فنومينولوجيا المعنى
-استرجاع عالم الحياة
ما يتم المراهنة عند الاهتمام بالدراسات الهوسرلية هو الاستفادة من طريقة رده المقنع على طغيان النزعة الوضعية واستثمار محاولته في تشخيص الأزمة الشاملة التي يمر بها الإنسان الكوني وبداية الاعتماد على المقاربة الفنومينولوجية في وصف عالم الحياة والعزم على انتشال المعنى ضد محاولات الإدغام10[10].
1- أزمة في الفلسفة:
“الوضعية تقطع رأس الفلسفة”11[11]
أصبحت الفلسفة في نسختها المثالية الألمانية غير قابلة للتطبيق موغلة في الشكلانية والتجريد النظري وحتى الانتشال المفهومي للتاريخ فقد ورطها في تجارب سياسية شمولية أوقعت البشرية في الحروب وجعلت من القتل تافها والعنف من الأمور المبررة وغلبت المشاعر القومية على القيم المدنية الكونية.
ندرس هنا الفرضية التي بموجبها يحتل موضوع الأزمة مكانًا أساسيًا في فلسفة هوسرل بأكملها. في الواقع ، لقد كان لهوسرل السبق في جعل الأزمة مفهوما فلسفيا والانطلاق من واقع دخول الفلسفة بأسرها في أزمة عميقة تجلت في تزايد حملة التشكيك والتساؤل عن قيمة فكرة المعرفة الموضوعية ووجودها.
لقد اختبر هوسرل مدى صحة هذه الموجة ضمن إطار العلاقة مع الذاتية عند ديكارت التي يمكن أن تكون بمثابة زاوية النظر لمتابعة الجوانب المختلفة لهذا التحليل الفنومينولوجي الذي شرع فيه بغية الرد عليها[12].
لقد كشف هوسرل في مقدمة كتابه تأملات ديكارتية بوضوح عن الأزمة التي تشهدها الفلسفة نفسها في بداية القرن العشرين بعد أن اتبعت ديكارت في دعوته للرجوع إلى الأنا في أفكاره الخالصة واتخاذه كأساس جذري مطلق لكل الحقائق والكائنات ويقين أول ومبدأ ثابت للفلسفة تتفرع عنه جل المعارف13[13].
إذا كان الكوجيتو هو أساس كل العلوم من حيث هو النواة الأصلية لليقين فإن ديكارت قد شيد نمط جديد من التفلسف وان الفلسفة معه غيرت نقطته الأرخميدية كليا ومرت من النزعة الموضوعية المباشرة الى الذاتية المتعالية التي ارتقت بفضل العديد من البحوث والتجديدات إلى مرتبة المعرفة الضرورية والنهائية.
لكن إلى أي مدى حاز هذا التوجه الجديد على المعنى الأبدي؟ ألا يخفي الكثير من الغموض في تمشيه؟
تكمن أزمة الفلسفة حسب هوسرل في فقدانها لوحدتها وأسلوبها في طرح مواضيعها وفق منهجها الخاص وما حدث في عالم الفكر هو تزايد إنتاج الآثار الفلسفية بشكل لامتناه لا رابط منطقي بينها ولا فكرة ناظمة تفتقد للصلة الداخلية بينها بدل اعتماد فلسفة حية واحدة للعصر تتخطى كل أشكال التعارض بين النظريات والتضارب بين الآراء وتؤسس للتعاون المعرفي والتضامن الباطني للجماعة الأساسية التي تشتغل بالفكر.
على هذا المقاس ينبني المجهود الفلسفي على مجهودات متبادلة ووعي مشترك بالمسؤولية من الأطراف المتدخلة في البحث العلمي ويتم اعتماد التعاون الجدي بغية الوصول إلى نتائج صالحة بشكل موضوعي عن طريق تطهير المنجز المعرفي بواسطة النقد البناء الذي تشترك في تقييمه كل العقول المشاركة فيه.
اللافت للنظر أن معالم هذا العجز الفلسفي تبرز في تقلص الدافعية الفلسفية نحو الصرامة المنهجية والدقة المفهومية وعدم وجود رغبة في المعرفة الكلية والبحث المشترك عن الحقيقة الواحدة وفق العلوم الكاملة والإفراط في التأليف بلا صرامة علمية والإكثار من الإصدارات دون تدقيق لغوي وبلا انضباط أكاديمي.
بيد أن البحث الفلسفي الموضوعي يتطلب تعاونا حقيقيا من طرف الكل وتوفر فلسفة الفلسفات وليس مجرد بحوث قدمها عدد من الفلاسفة في مواضيع مختلفة تفتقر إلى أي برنامج موحد وخالية من كل تلاقي مثمر وذلك بسبب غياب الموضع الروحي المشترك الذي يحدث فيه الحوار المتمدن والتلاقح الفلسفي المتبادل.
تظهر أزمة الفلسفة في وجود أنساق فلسفية متصارعة وغياب الفلسفة الكلية التي تضع حدا لهذا الصراع وتقول كلمة حاسمة بشأن الحقيقة والوجود والقيمة والمعرفة والعلم والإنسان وتجابه تلاشي المعنى14[14].
لقد حولت الخطابة الجديدة التي ازدهرت في عالم الصحافة الفلسفة إلى أدب انطباعي وإنشاء نثري بدل أن تتدخل الجذرية التي يتصف بها الفيلسوف لكي يحارب النزعات السفسطائية الجديدة ويستأنف فن التفلسف.
لقد اعتمد هوسرل الكثير من الوضوح والشفافية والمرونة والانسيابية إزاء عصره لكي يحصل على قدر من التحليل الحاذق لحال الفلسفة في الثقافة العالمية ويسهل تطبيق منهجه الوصفي على الحقبة المعاصرة وانتهى إلى الإقرار بأن بيان تلاشي المعنى هو العلامة الكاملة على دخول الفلسفة الزمن ما بعد الحديث.
إن أزمة الفلسفة من حيث هي اختصاص أكاديمي ثمين لم تندلع فقط في حقبة تاريخية معلومة وإنما هي علامة على فقدان المعنى في الثقافة الإنسانية وانحطاط القيم وتفجر المعرفة وانقسامها إلى أجزاء لا يقدر أحد بعد ذلك على إرجاعها إلى وحدتها ونظامها ولا يسمح التفكير في مصيرها بتدارك ما ضاع15 [15].
في هذا السياق يصرح الشارح سالنسكيس: “الفنومينولوجيا والفلسفة التحليلية هيمنا على الحياة الفلسفية للقرن، وهوسرل أب الأولى ويمكن للثانية أن تتعلق به وأن تكون موجودة فيه بطريقة خصبة”16[16].
فهل تمكن هوسرل بالفعل من إخراج الفلسفة من أزمتها بالتصميم على جعلها علما دقيقا وجديا؟ وماذا صنع بالأزمة الطارئة في العقلانية العلمية؟ وكيف أمكن له التشكيك في رسالة العلم في زمن الوثوق بها؟
2- أزمة في العلوم:
” لقد تم ترك العلوم الوضعية تحدد وتضيع الطريقة الحصرية التي سمحت بها الرؤية الشاملة للعالم ، وهي رؤية الإنسان الحديث ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر “17[17]
بأي معنى يمكن التحدث عن أزمة في العلوم؟ وهل من المجدي التطرق إلى أزمة تسببت فيها العلوم؟
أعلن هوسرل في المحاضرات التي ألقاها بين فيانا في1934 وبراغ في نوفمبر 1935 عن التعمق في البحث عن هذه الخلية الأصلية التي تسببت في الأزمة Krisis وتفطن إلى النشاط الذي يهز عرش العلوم وانقسامها إلى علوم المادة وعلوم الروح والى علوم التجربة وعلوم العقل وعلوم الطبيعة وعلوم الإنسان.
لقد حصل انقلاب في الموقف العام تجاه العلم ولا يتعلق الأمر بتقييم علمية العلوم وإنما بالطريقة العامة في تقديرها ومعرفة مقاصدها وأهدافها وما تفيده في علاقة بالطبيعة والحياة وما تعنيه بالنسبة لوجود الإنسان.
من هذا المنطلق لا يفصل هوسرل بين أزمة العلم وأزمة الفلسفة وبين أزمة العلوم الأوروبية والأزمة الإيتيقية والسياسية بل ينظر إلى أزمة العلم كتعبير عن الأزمة الجذرية التي تهاني منها الحياة الإنسانية .
تعني الأزمة في العلوم أن العلمية الأصلية التي تستلزم أن تؤدي مهامها وتبلور نتائجها وفق منهجية تامة صارت موضع تشكيك ومحل مراجعة وأخذ ورد على الرغم من ادعاء البعض بلوغ درجة نضج العلوم الوضعية ووضع البعض الآخر علوم المنطق والرياضيات والفيزياء ضمن دائرة شاملة للعلوم الصحيحة.
لقد تفجرت الأزمة في أسس الرياضيات المحضة وفي العلوم الدقيقة للطبيعة ولم يعد الكلام على معايير ونماذج للعلمية الصارمة جائزا ومقبولا بعد أن ظهرت أزمة الأسس في النظام المعرفية للعلم الكلاسيكي وبان بالكاشف عقم نتائجه وعمومية مقارباته وأجريت عدة تجارب تفند صحة مناهجه ومطابقة قوانينه.
يمكن التمييز بين نوع أول من العلمية يقوم على الصرامة المنهجية واحترام اللزوم المنطقي للنتائج من المقدمات عبر إتباع عملية استدلالية سليمة والتقيد بجملة من الضوابط والاتفاق مع عدد من القواعد ونوع آخر من العلمية يتماشى مع ركائز النزعة الوضعية ويقتضي اختزال العلم في المعرفة بالوقائع الطبيعية.
لكن الأزمة لا تتعلق بالمنهجية المعتمدة في البحوث العلمية ولا بالنتائج التي يتم التوصل إليها فقد عرفت نجاحا مستقرا وإنما تمس مجالات الصلاحية وقيمة المقاربات وقدرتها على بلوغ النجاعة المطلوبة في التفسير المطابق للظواهر وظهور أشكال من الالتباس وعلاقات الارتياب في الأبعاد المجهرية والهائلة.
إذا كانت الفلسفة تواجه نزعات الوضعية واللاعقلانية والريبية والتصوف فإن العلوم تواجه الاحتمال والنسبية واللاّحتمية التي كشفت عنها كل من الفيزياء الذرية والهندسات اللاإقليدية ونظرية المجموعات.
لقد اندلعت الأزمة في العقلانية العلمية حينما قامت الوضعية باختزال العلم في مجرد علم بالوقائع ونفت عنه أن يكون علم بالقيم ولقد أدى ذلك إلى فقدان العلوم الأهمية التي كانت تحظى بها الحياة في تصوراتها.
على هذا الأساس تكمن أزمة العلم في استخفافه بالحياة وبتعامله مع الظواهر الحية والكائنات النوعية على أنها ظواهر مادية ومجرد أشياء قابلة للقياس والعد والإحصاء والتكميم ويمكن إخضاعها للتجربة المتعينة.
لقد ترتب عن فصل المعرفة عن جذورها الميتافيزيقية تركيز الانتباه من طرف العلم على دراسة الواقعة سواء كانت الجسم المادي الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة أو كانت الذرات في العالم المجهري الدقيق، ولكن هذا التركيز على ملاحظة الظواهر فحسب أدى إلى تشكل معرفة عمياء غافلة عن سلطان الذاتية.
جملة القول أن الفكرة المركزية التي تتحمل مسؤولية الأزمة التي تشق العلوم هي اللامبالاة وعدم الاهتمام من قبل العلماء بالدور الذي تلعبه الذاتية في التمشي الذي يخصهم وعزوفهم عن التفكير في قيمة مباحثهم.
لعل حالة الغفلة التي تعاني منها العلوم في الحقبة المعاصرة ناتجة عن غياب الانتباه إلى لغز الذاتية التي تشتغل داخلها وزعمها التقيد بالموضوعية والخلو من كل نزعة ذاتية كما تذهب إلى ذلك النزعة الوضعية.
لقد بدأت الأزمة منذ أن قام غاليلي بهندسة الفضاء وترييض الطبيعة واختزالها في مفهوم الفيزياء وادعى أن ذلك يندرج ضمن البحث عن الاحتكام إلى الموضوعية والثورة على النزعة الذاتية بينما الرياضيات في حد ذاتها منذ أفلاطون لا تخلو من جهد عقلي اصطلاحي وتحتفظ للذات بدور أساسي في تأمل الحقائق.
علاوة على ذلك أدى قيام الفلسفة الوضعية مع أوغست كونت إلى تأسيس الفلسفة من خلال إحداث قطيعة مع الميتافيزيقا والى تشكل موقف من العلماء يعتمد بشكل جذري على التجربة ويبدي ثقته التامة في رسالة العلم ويقطع كليا مع التفكير المجرد ويمثله كلود برنارد ولويس باستير وايميل دوركايهم وأرنست رينان.
كما ظهرت نزعة علموية ترجع كل الحقائق إلى المعرفة العلمية وتعتبر العقلانية العلمية هي التي تمنح معايير المعرفة الصادقة وأن المعارف غير العلمية هي كاذبة ولا تتعلق بالوقائع وإنما بالأوهام والخيالات ويندرج ضمن ذلك ماهو رمزي ومعنوي وروحاني وماهوي وجوهري وأساسي وأصلي وأولي وبدئي.
لقد عبر كانط عن هذه الأزمة في التفاوت بين تقدم الرياضيات منذ طاليس وصعود الفيزياء مع غاليلي وانتصار علم الفلك مع كوبرنيك وكبلر ونيوتن وركود الفلسفة وبقائها على حالها دون تجديد منذ أرسطو وعثر على الأسباب في اعتماد هذه العلوم على التجربة كأساس للمعرفة بينما بقيت الفلسفة تأملا نظريا.
لقد تعطلت الفلسفة حينما تحولت إلى صراع بين الأنساق الميتافيزيقية وادعت امتلاك معارف تتخطى حدود التجربة البشرية وتتجاوز قدرة العقل البشري على الإلمام بجل المعطيات واستيعاب كل الحقائق.
لقد اقترح كانط البقاء على مستوى الظواهر وصرف النظر عن البحث في عالم الجواهر وعن الأفكار الميتافيزيقية وحاول تأسيس المعرفة على شروط إمكان التأليف بين معطيات التجربة ومقولات الذهن ولكنه أوقع العلم في ذلك الوقت في نوع من الظاهرية الريبية التي تفتقد للمبادئ الكلية والنظرة الشاملة.
” معجزة دلفى:اعرف نفسك بنفسك بلغت معنى جديدا. العلم الوضعي هو علم بالوجود الذي أضاع نفسه في العالم. ويجب أولا فقدان العالم بواسطة اللوغوس ثم يعثر عليه في وعي كوني للذات بذاتها”18[18].
أما الأزمة المهيمنة على الساحة البحثية العلمية ترتبط بنمط من الفكر الوضعي يفصل بين البحث العلمي والبحث عن معنى الحياة وغائية الوجود البشري، لكن من أين أتى هذا التبديل الوضعي لفكرة العلم؟
3- أزمة في الإنسانية:
” الخطر الأكبر بالنسبة لأوروبا هو التعب”19[19]
لقد أثّرت أزمة العلوم على الإنسانية وحولت وجهة الإنسان نفسه من ذلك الكائن التاريخي المنتج والعاقل والمتكلم إلى الإنسان الوضعي الذي يعامل نفسه كشيء مادي وموضوع خاضع للتجربة ويمكن تحديد عدد القوانين التي تتحكم فيه ولا يختلف كثيرا عن أي واقعة أخرى من الوقائع التي تدرسها العلوم الوضعية. ولا يقدر الإنسان على الرجوع إلى النظرة التي يحملها عن الوقائع التي تحيط به وعن نفسه من أجل النقد والمساءلة والتفكير والتقييم والمقارنة ولا أن يقوم بالفعل الذي يكون واعيا به ويعيش التجربة الحية كماهي وذلك لأن الإنسان الوضعي لا يفكر في هذه التجارب المعيشة إلا من خلال التجريد والاستيلاء المفهومي ولا ينتبه إلى أن الوقائع لا تحوز على معان إلا من زاوية الذاتية ولا تمثل سوى مواضيع بالنسبة لنظرتها.
لقد أضحت الإنسانية تعتمد بالأساس على رؤية علمية تفصل المشكلات المعرفية عن المشكلات الحيوية ولا تطرح سوى الأسئلة التي تتعلق بالحقيقة والتطابق والسيطرة والمنفعة وترتب عن ذلك تشكل وعي شقي وانقلاب في المصير وأضاعت عن نفسها البوصلة وفقدت أي اتصال بالعالم وبالمعنى وبالأهداف. إذا كانت أزمة العلوم ناتجة عن اختزال المعارف في البعد الوضعي والقضاء على وحدتها فإن الأزمة الواقعية والحقيقية هي التي اندلعت في صلب الإنسانية وتجلت في شكل أزمة القيم ضمن الوجود الإنساني.
الوحدة بين العلوم والقيم وبين نظام الوقائع ونظام الغايات كانت منعقدة في الماضي بين المعرفة والإيمان وبين الفلسفة والدين وبين المعقول والمحسوس وبين المثال والواقع وبين الفكر والمادة وبين العقل والوحي ولكن التحولات التي بدأت مع فكر عصر النهضة والإصلاح الديني والثورة العلمية والحداثة الفلسفية غلبت طرفا على آخر وأحدث انشطارا بين الإنسان والطبيعة وبين الذات والعالم وبين الكائن والكينونة.
لقد أحدثت أزمة العلوم بدورها أزمة في الفلسفة في حد ذاتها وعكست هذه الأخيرة أزمة عميقة أصابت الإنسانية وتمثلت في الاعتماد على الفيزياء الرياضية والتجريبية في علاقة العقل بالطبيعة والانقطاع عن اعتبار مسألة معنى التاريخ والله من حيث هو المصدر الغائي الذي يتشكل بمقتضاه معنى العالم والخلود.
من المعلوم أن أزمة المعنى هي بالأساس أزمة في القيم وأزمة في المستوى الأخلاقي والسياسي وأن الأزمة الإيتيقية نفسها هي أزمة أكثر جذرية توغلت في العقل نفسه ووضعت المشروع الإنساني موضع تشكيك ودفعت الثقافة الأوربية إلى مراجعة بديهياته والتقصي في مسلماتها ونقد التربية والتنوير والتقدم.
بهذا المعنى تكمن الأزمة العميقة والشاملة في الكوجيتو الديكارتي وفي فلسفة الذاتية التي اكتملت مع المثالية الألمانية عند هيجل من جهة وفي النزعة العلموية والفلسفة الوضعية المنطقية من جهة أخرى. لقد أنتجت هذه الأزمة نموذجين خاطئين من الإنسان : الأول هو الفرد الأناني المنغلق على ذاته في ادعاء كبير امتلاكه للمعرفة المطلقة والسيطرة على الكون، والثاني هو الإنسان الوضعي الذي هو آلة حاسبة وراغبة وفضاء متاح للاختبار التجريبي لا يختلف عن المواضيع المادية الأخرى التي توجد في الطبيعة.
حول هذا الموضوع يصرح ما يلي:”علوم وضعية محضة جعلت الناس وضعيين بصورة محضة”20[20]. لذلك تتلخص أزمة الوجود حسب هوسرل في الإخفاق الظاهر للنزعة العقلانية وانتصار مفهوم العقل الحسابي المنحدر من الراسيو اللاتيني على العقل الحدسي المنحدر من اللوغوس الإغريقي وضياع الإنسانية عن النواة المركزية للماهية التي ناضلت من أجلها وفشل التاريخ الغائي في تحقيق الأهداف اللامتناهية للعقل وظهور علامات انحطاط وتقهقر على الحياة والمصير المجهول والغامض للبشر والقدرية التي لا تقهر21[21]. على هذا الأساس يبدو أن الإنسانية في ظل الاغتراب والتنازع بين النزعة الطبيعية والنزعة الوضعية مهددة بالاختفاء وفقدان معنى الحياة وتصبح غريبة عن نفسها وذلك لعجز العقل عن إنتاج الثقافة العقلية. غير أن أودموند هوسرل لم يسقط مباشرة في النزعة التشاؤمية التي كانت سائدة في نهاية المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وصنع التفاؤل من خلال إعلانه عن بدء جديد للفلسفة يسعي إلى إعادة تأسيس العلوم بطريقة جذرية دون السقوط في الخلط بين المعنى والقيمة ودون التوهم بأن غياب المعنى ناتج فقط من الفجوة التي عرفها النسق الإيتيقي بعد التطور السريع للعلوم والاحراجات الأخلاقية. لعل أكبر تعبيرة عن الأزمة السياسية التي شهدتها أوروبا هو صعود الشمولية كنظام للحكم تتحرك وفق نموج حق الأقوى واحتكار السلطة في الزعيم وتتبنى خيارات شعبوية ولقد دفعت الفلسفة إلى توضيح هذه الأزمة الواقعية وتحميل الفلاسفة مسؤولية التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة من جذورها وأصولها من جهة أولى ومن ناحية أهدافها وأغراضها من جهة ثانية.
فكيف سيرد هوسرل من خلال تأسيسه الفنومينولوجي على هذه السلسلة العميقة والطويلة من الأزمات؟
4- فينومينولوجيا المعنى:
” وحدها الفنومينولوجيا القصدية وبأكثر دقة ، المتعالية تجمع الضوء عن طريق اختيار نقطة انطلاقها ومناهجها”22[22]
لقد تجلت أزمة المعنى التي تتخبط فيها الإنسانية في اندلاع حربين عالميتين خلفت الدمار والقتل وعصفت بالمعالم الحضارية والمكاسب المدنية التي أنتجتها الحداثة وتسببت التقنية في الهمجية وتصحّير الكينونة.
لقد حاول هوسرل أن يستنهض باطنية حية وروحانية جديدة يمكن أن تساعد الإنسانية على توقي أشرار العدمية وتحميها من الوقوع في الهمجية والاختفاء عن ماهيتها الأصلية وتسلح بالمنهج الفنومينولوجي من أجل إعادة اكتشاف عالم الحياة واستخدم القصدية لفتح الوعي على الأشياء والبيذاتية لبناء عالم مشترك.
لقد كانت نية هوسرل متجهة في البداية نحو بناء الفلسفة كعلم دقيق23[23] بتخليصها عن كل إيمان ديني وقناعات عامية ولكنه اكتفى بالفكرة الأصلية للفلسفة من حيث هي حكمة لوغوسية تقوم على الحدس العقلي وطعمها بالفنومينولوجيا من حيث هي علم العلم والفلسفة المفتوحة على جميع التجارب البشرية.
لقد كان الموقف الفلسفي الذي يجد ربه اتخاذه هو امتحان كل معرفة والتخلي عن كل الأحكام المسبقة والفرضيات الضمنية والتحري في الأحكام التي يصدرها بشأن الأشياء والعلاقة المباشرة مع العالم وبحث عن المعنى الأصلي لكل فلسفة حقيقية وشدد على التحرر من القبليات والاشتغال على بناء علم مستقل. وإذا كان الحدس الأصلي مبدأ المبادئ التي تعتمد عليه الفنومينولوجيا وكان وضع الموقف الطبيعي بين معقفين عن طريق تعليق الحكم هو العملية المنهجية الثانية فإن التخفيض المتعالي هو شرط التكوين ونقطة الانفتاح على العالم كما يظهر للوعي كقصدية وأساس التجربة المعيشة التي تشكل الانتماء في عالم الحياة.
لقد تفطن هوسرل إلى أن أزمة العلم تعد تعبيرا عن الأزمة الجذرية للحياة في الإنسانية الأوروبية وتحولت إلى أزمة في الفلسفة وصارت أزمة في المعنى وتفاقمت لتشمل العالم وأضحت أزمة في الإيتيقا والسياسة.
هكذا تمر الفنومينولوجيا بعدد من المراحل حسب الشارح نتالي دبراز24[24] يمكن أن نذكرها كما يلي:
المرحلة الأولى: تخطي التعارض بين الذات والموضوع عبر اكتشاف القصدية من حيث هي فعل للوعي يختلف عن نظرية المعرفة ويشيد علاقة تكاملية بين القطب الذاتي والقطب الموضوعي وفق بنية علائقية.
المرحلة الثانية: ممارسة تعليق الحكم من حيث هي تخلي عن كل ملاحظة عفوية عن العالم والانطلاق في التخفيض الأولاني بالمحافظة على الواقعة من خلال العودة إلى الماهية في حد ذاتها والمرور بواسطة الوصف المتعين من المعطى الطبيعي إلى المعنى كظاهرة نفسية ومحاولة تحريكه اتجاه الأفق المتعالي.
المرحلة الثالثة: يأتي التكوين من حيث هو فعل يعيد به الوعي اكتشاف العالم كأفق للمعنى من أجل اتمام حركة الارتقاء نحو المعنى بواسطة التخفيض وبلوغ عمق العالم كوسط يحدث فيه المعنى كوحدة متعالية.
المرحلة الرابعة: تتشكل الفنومينولوجيا التكوينية لا من حيث هي فقط فنومينولوجيا وصفية كما تكونت في مرحلة القصدية وإنما أيضا تبدأ حركة التخفيض نحو عالم الحياة وتجعل من العودة الجذرية نحو المعنى الأصلي للعالم المعيش رفضا تلازميا للعالم الموضوعي الذي تعامل معه العلم الوضعي بكثير من المثالية.
اذا كان العقل الفنومينولوجي قد تخلى عن وظيفته التفسيرية التي ارتبط بها مع النزعة العلموية والنزعة الوضعية وجعلته مجرد جهاز حساب متحكم وآلة تقنية منتصرة تؤمن عملية التكيف بين الإنسان والطبيعة فإنه مطالب باستعادة وظيفته الأساسية والتي تتمثل في الحدس الأصلي للمعنى والرؤية الفكرية للعالم واذا كان قد تخلى عن البعد التكويني الحسابي للقياس الصوري التقني الذي يتصف به الراسيو اللاتيني ويعالج به الظواهر فإنه مازال معنيا بالعودة الجذرية على ذاته والانخراط في التجربة التفكيرية للذات والوجود وإحداث التمفصل الضروري مع حدس الماهيات والاقتراب من اللوغوس الإغريقي والتصدي لللاّعقل.
لقد جعلت الفنومينولوجيا من انتزاع الإنسان من الضياع في العالم هدفها الأساسي ولاحظت تخليه عن طبيعته الأصلية وانحرافه عن الغرض الإنساني من وجوده وحاولت متابعة الأنوار واستكمال المشروع الإنسانوي وبحثت عن شروط التخليص والتحرر والاجتماعية ولكنها عادت إلى الانتماء إلى العالم25[25].
على هذا النحو ” يعود السبب بالتحديد إلى هذه العودة إلى الأنوار – نحو ديكارت – بمعنى الإيمان بحرية إنسانية طبيعية، قبل التطبيع ،…، إلى محاولة هوسرل تأويل التخفيض من الموقف الطبيعي على أنه عودة إلى الوعي الأصلي ، إلى بداهة أولي ، كوضع بين قوسين لما ليس حاضراً بالكامل من أجل العثور على “مجال لحضور مطلق” ، باختصار الانسحاب خارج كل تسجيل ، باعتباره انتزاع من كل انتماء”26[26].
إذا كانت الإنسانية تعيش لأول مرة أزمة دائمة وإذا كان التفلسف هو الذي يمنعنا من الاستسلام للدوار المنبعث من الاضطراب فإن الفلسفة لم تعد ميتة ودُفنت بل عادت من هذه الآلام لتظهر في كل مجدها، فإلي أي مدى وفقت الفنومينولوجيا في الخروج من الأزمة والتحول إلى فن الطب الطبيعي للحياة؟
5- من أجل استرجاع عالم الحياة:
” هذا العالم يهرب من الإنسان لأنه ليس العالم الحقيقي ، إنه بناء مبني على عالم آخر ، يتم تقديمه في تجربة فورية والذي يمكن أن يقبله الإنسان ببساطة دون أن يكون قادرًا على التخلص منه كما يشاء”27[27]
لم يكن هوسرل فيلسوف الأيدوس من حيث هي الماهية الصورية أو المادية للشيء فقط ولا موقع الإنية من حيث هي ما يكون الكيان الخاص للإنسان وما يتأسس على التفكير فحسب بل هو فيلسوف التأسيس بامتياز من حيث هو عدوة الذاتية المتعالية كوجود مطلق وحيد إلى تشكيل المعنى عبر إعادة بناء الأصل.
علاوة على ذلك يعد هوسرل فيلسوف العالم المشترك حيث ينتقل من الحديث عن الخاص بوصفه هذا اللاّغريب الذي يمكن تجريده من كل روحانية غريبة وباعتباره ما يعطى للذات عينها في بداهة أولانية إلى اعتماد مفهوم التعاطف كعلاقة بين الأنا والأنا الآخر تقوم على التجاور والقرب والتلاقي ويشيد المكان الذي يتشكل فيه معنى الغير من خلال التواصل عبر الاشتراك في تقاسم التجربة المعيشة مع الأنا عينه.
لا يمكن صناعة العالم المشترك دون الاعتماد على مفهوم البيذاتية ودون التوسط بالخيال والزمن والحدس المقولي والتعامل مع العالم كأفق وتخليصه من المثالية والجوهرانية وتشريع الكثرة وزرع التنوع داخله والانتقال إلى عالم الإمكانيات المحضة وتوسيع ميدان الحدس نحو الذات المكونة للعالم المتعين والمادي.
لقد مثل عالم الحياة الذي وقعه هوسرل بعد الأزمة رفضا لكل اتهام له بالتجريد المنطقي الذي صدر عن العلوم الوضعية وعزم على العودة إلى العالم الحسي الأصلي والاعتماد عليه نمط تفكير ونقطة انطلاق نحو الأصلي وبلوغ المبدأ الموحد للتجربة في ماوراء التعارض بين القطب الذاتي والقطب الموضوعي.
لا تخلو فنومينولوجيا هوسرل من الاشتغال على القيمة والصلاحية والتقييم وذلك من خلال اتخاذ الموقف وإصدار الحكم بعد خوض تجربة التقويم والتروي والتعقل بالرغم من تفاديها منذ قيامها الأحكام المسبقة والمتسرعة وممارستها تعليق الحكم وتجنبها النزعة السجالية التي ترافع على رأي أول ضد رأي مقابل.
العالم المشترك الذي يحاول هوسرل تأسيسه ليس العالم الموضوعي فقط ولا العالم الذاتي فحسب وإنما هو بنية الذاتية المتعالية التي تؤلف بين الاثنين لكي تسمح بظهور الغيرية ضمن وحدة العالمية وواقعة الإنية.
بهذا المعنى يكون العالم الحياة هو الأرضية والأفق في ذات الوقت ويعترض على نسيان الحياة المشتركة التي تسبب فيها العلم والتقنية وفق المقاربة الغاليلية للطبيعة والترييض الصوري للعلاقات بين الظواهر وفسح المجال أمام الذوات لكي تتحمل مسؤولية الرعاية للعالم والتصدي للهمجية وفق رؤية غائية للوجود.
هكذا ” أظهرت العودة إلى عالم الحياة كيف تم إعلان العالم من خلال التجربة الأصلية كفكرة لا تقوم فقط بتأسيس غائية المعرفة ، ولكن أيضًا الحياة الأخلاقية للذات. تتأسس الإيتيقا المتعالية ، أي تسليط الضوء على بداهة قبيليات واجب الوجود ، في الفنومينولوجيا، على الاستيطيقا المتعالية: فكرة وحدة العالم التي يتم الكشف عنها مع العودة إلى العالم المُتصور هي فكرة حيث يجب على الذات أن تجد لها حلا”28[28].
لقد حرص هوسرل على تجديد الثقافة الفلسفية ووضع الفنومينولوجيا كوضعية نقدية تجاه العالم العفوي لكي تدفع الناس نحو مراجعة موقفهم الطبيعي وامتلاك الوعي بتصور جديد للعالم المشترك من خلال الحرص المتبادل على تخطي الأزمة ودفع العقل الإنساني من حيث هو لوغوس إلى فهم الذات الإنسانية.
إذا كان الإنسان نفسه قد حولته التطبيقات التقنية للعلوم الرياضية للطبيعة إلى موضوع مبرمج وبضاعة مصنوعة فإنه حري به أن يتسلح بالمنهج الفنومينولوجي الإيتيقي لكي يستعيد ذاتيته المفقودة ويتدرب على كيفية السكن في العالم ولكن هذه المرة يتعلم طرق العيش مع غيره وتوفير شروط إمكان الحياة الجماعية.
لم يعد العقل الفنومينولوجي يشير إلى ملكة التمثل والإسقاط والهيمنة على الطبيعة بل أصبح ينصص على ملكة فهم النحن ضمن معية وجودية مع هذه الآخرية والتلاقي بين الذوات والاشتراك في سكنى في العالم.
يترتب عن الامتحان النقدي الذي تقوم به الفنومينولوجيا تأكيدا على ضرورة إصلاح أنماط فهم الإنسانية لذاتها والاقرار بأن العالم الحالي الذي تسكنه بطريقة عفوية ليس العالم الحقيقي ولذلك كان لزاما عليها أن تعيد الاعتبار للجدوى من الإقامة في الوجود والعبرة من الانتماء إلى العالم وأن تعيد بناء العالم المشترك.
لكن” لو تكون الفنومينولوجيا هي توضيحا للذات عينها – علم الأنا- ، كيف يتمكن الغير من تسويغ غيريته؟ ثم ، كيف تستطيع الموضوعية الحقيقية من تكوين للعالم المشترك بيننا جميعا؟”29[29] وهل تمكن أدموند هوسرل بالفعل من تخطي التمييز المبدئي بين وجود الوعي المحض والعالم الحقيقي الذي أوجده؟
خاتمة:
” التفكير في العالم كظاهرة ، أي تحرير الذات من العالم ، كما تنوي الفنومينولوجيا القيام به ، هو أبعد ما يكون أمرًا يسيرا”30[30]
صفوة القول أن فنومينولوجيا هوسرل تقوم على إصلاح الكوجيتو الديكارتي وفتح نوافذ وأبواب للموناد التي وقعها لايبنتز وتستخدم التحليل القصدي للوجود في العالم وتقر بالوحدة الكونية للمواضيع وبالامتلاء العياني للأنا أفكر المتعالي ولكنها وقعت هي الأخرى في نوع من الأناوحدية المتعالية31[31] عندما اقتصرت على وصف تجربة الكوجيتو كما يعيش في العالم الحي وطرحت جانبا تجربته مع الأخر بالرغم من أن التوضيح القصدي للعلاقة البيذاتية قد اقترب كثيرا من إظهار الحاجة الأنطولوجية للوجود مع الغير32[32]. لقد مثلت فلسفة هوسرل الحافز المتعالي للفنومينولوجيا حسب بول ريكور تثمينا فلسفيا للمجهود العلمي دون أن يقتصر عليه واستئنافا للتفكير الفلسفي دون معاودة السقوط في الميتافيزيقا وغرسا للقصدية في المباحث التفكيرية وللتجربة المتعالية في علم الأنا واستحضارا للزمن في مستوى التأليف كشكل أساسي للوعي ولكنها ظلت تعاني من مشكلة عويصة تتمثل في صعوبة استحداث عملية البدء المطلق واستحالة العثور على نقطة انطلاق تشير إلى وضعية جذرية من الصفر المعرفي والأنطولوجي وبقيت تتحرك بصورة كلية ضمن القطب الأصلي للأنا المتعالي وفكرانية الوجود وتفتقد بشكل تام للعناية بغيرية الغير33[33]. لقد أعاد هوسرل وضع الكوجيطو الديكارتي في المكان المركزي الذي يليق به ألا وهو العالم المعيش وأعد بشكل جيد الأرضية لقيام الفنومينولوجيا المتعالية من خلال التخفيض الفنومينولوجي لشغل الأنا أفكر بالاعتماد على البداهة العقلية المتعالية وذلك بالقيام بالوصف المقولي لعالم الحياة الخاصة للأنا المتعالي34[34]. كما يتعذر على الفلسفة بلورة التأسيس المطلق والجذري للمعرفة بواسطة الموقف المتخلص من جميع المعارف المسبقة ومن كل فرضية ضمنية وخلفية فكرية ثاوية وبداهة منطقية ويقين أولى وحقيقة فطرية. لكن انتصار الفنومينولوجيا يريجع بالأساس إلى الذهاب بعيد في استشكال الأزمة والتعامل معها كمفهوم فلسفي يستحق الكثير من التدبر والتقليب على جميع وجوهه والسعي إلى معالجته وفق المقاربة التأسيسية والتي تتخذ من البيذاتية والقصدية وعالم الحياة كمعاول أولانية لانتشال المعنى والتوجه إلى الأفق المتعالي ومحاولة الإفلات من المضيق الإشكالي للتعارض بين علوم الطبيعة وعلوم الفكر الذي أوقع الفلسفة فيه. لقد آمن هوسرل بأولوية الذات الفاعلة في مواجهة الواقعة المحايدة وحاول إعادة الدور التاريخي للفلاسفة من جهة الانتماء إلى تراث فلسفي والانغراس في معنى للتاريخ وعهد لهم مهمة التفكير في مستقبل البشر والالتزام بالإصلاح الروحي للثقافة بالاندراج ضمن جماعة فلسفية مفتوحة
…