إذا كانت الإدارة الأمريكية في عهد الحزب الجمهوري وخلال فترة الرئيس بوش الأبن قد تميزت بوضوح أهدافها اتجاه محاربة الإرهاب وإسقاط نظام البعث في العراق من خلال شن الحملات العسكرية التي وفرت لها كل الدعم والغطاء السياسي والدولي وأقدمت على القضاء على طالبان في افغانستان في العام 2001 وكذلك قيادتها للتحالف الدولي لإسقاط نظام صدام في العراق في العام 2003 فإن قيادة الديمقراطيين برئاسة أوباما منذ العام 2008 وحتى اليوم قد أظهرت عجزاً تاماً في إدارة الملفات الخطيرة في منطقة الشرق الأوسط وهذا ما دفع وزير الخارجية الامريكية السابق هنري كيسنجر بأن يصرح لصحيفة الصاندي تايمز في بداية هذا الشهر : إلى أنه في رئاسة باراك أوباما جعلت الولايات المتحدة نفسها ( متفرجاً ) في الشرق الأوسط .
ولقد تجلى ذلك واضحاً في الموقف الامريكي من أحداث العراق منذ العاشر من حزيران وحتى اليوم حين مارست الولايات المتحدة نفس الدور اللامبالي ولم تقم بأي مبادرة أومساعدة ملموسة لحل ما يعاني منه العراق من مشاكل وأزمات حقيقية خطيرة تهدد سيادته ومستقبله بل أن الولايات المتحدة كانت على الدوام تمارس دور المتفرج على ما يتعرض له العراق من أخطار طيلة الأعوام الماضية وكانت في بعض الفترات تكون سبباً من أسباب إشعال فتيل الأزمات في العراق من خلال ما تطرحه من مشاريع بعيدة عن الواقع العراقي كما هو الحال مع مشروع نائب الرئيس جو بايدن التقسيمي عام 2007 الذي يقوم على تقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات شبه مستقلة هي ( الشيعية والسنية والكوردية )والذي أعيد استنساخه من جديد هذا العام باعتباره أسهل الحلول لتفادي أي تدخل أمريكي بالعراق .
أن مظاهر الفشل الأمريكي في العراق لا تحتاج إلى تدقيق للإحاطة بكل جوانبها التي رافقت التدخل الأمريكي بالشأن العراقي وخصوصاً بالشهور الأخيرة بعد اجتياح المجاميع المسلحة لتنظيم داعش الإرهابي لمحافظة نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك وما سببه هذا الإجتياح في تغيير للبنية الجيو سياسية بالعراق بعد إعلان دولة الخلافة في العراق وسوريا وكذلك الإستثمار السيء للكورد لنتائج هذا الاجتياح حين أعلن التحالف الكوردستاني أن جغرافية العراق بعد 10حزيران 2014 لم تعد كما كانت قبل هذا التاريخ وان كل المناطق التي استولت عليها نتيجة لتلك الأحداث لم تعد موضع نقاش وانها أصبحت تابعة لأقليم كوردستان بل أن الرئيس مسعود برزاني ذهب إلى أبعد من ذلك حين صرح بأنهم في صدد إجراء استفتاء عام لإعلان الدولة الكوردية المستقلة في شمال العراق والتي تضم ضمن حدودها محافظة كركوك الخاضعة للمادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها وكذلك أجزاء كبيرة من محافظتي صلاح الدين وديالى .
فلقد حاولت أمريكا أن تنأى بنفسها بعيدا عما كان يدور بالعراق من عمليات تهجير وقتل وإبادة جماعية وتقسيم لأرض العراق على يد تنظيمات داعش المسلحة وفي آخر الأمر وجدت نفسها مظطرة لتدخل عسكري محدود لم يتجاوز إرسال المستشارين العسكريين وكذلك القيام
بطلعات جوية محدودة على مواقع التنظيم التي زحفت باتجاه إقليم كوردستان شمالا بعد فشلها في تحقيق أي تقدم باتجاه العاصمة العراقية بغداد جنوباً وكان الرئيس أوباما يبدو وكأنه في غيبوبة عما يدور بالعراق ولقد تعرض لكثير من الإحراجات خلال مؤتمراته الصحافية في البيت الأبيض الأمريكي كونه لم يكن يمتلك أي سياسة واستراتيجية واضحة بالعراق فلقد كانت إجاباته حول موقف أمريكا مما يحدث بالعراق وطريقة التدخل العسكري لمحاربة داعش ودعم الحكومة العراقية تبدو عائمة وغير واضحة ولم تتعدى في كثير من الأحيان التأكيد على أن ماينوي القيام به في العراق سيكون لحماية المصالح الإستراتيجية الأمريكية والأمريكيين المقيمين بالعراق وحتى بعد أكثر من 4 أشهر ما زال الرئيس أوباما وإدارته يتخبطون في شأن اختيار السياسة المناسبة لاحتواء الأحداث بالعراق لأن الإدارة الأمريكية اصبحت أمام خيارين لا ثالث لهما أما ان تترك العراق ليواجه مصيره لوحده ويبحث عن شركاء وأصدقاء جديدين يمكن الاعتماد عليهم للدفاع عن نفسه وهنا تقف روسيا وإيران في مقدمة هؤلاء الأصدقاء المفترضين الذين حاولا لعب دور مهم في بداية أحداث العراق أو أنها تنزل بقوة في ساحة الصراع التي أصبحت حدودها مفتوحة بين سوريا والعراق وتحولت أخطارها إلى اصدقاء امريكا المقربين في المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية ولأن الديمقراطيين برئاسة أوباما قد اعلنا منذ البداية أن أمريكا سوف لن تتدخل بأي نزاع إقليمي ودولي بصورة مباشرة وإرسال الجيوش لحل تلك النزاعات وبعد جدل طويل ومفارقات إعلامية مضحكة صرح الرئيس أوباما بأن دعم الولايات المتحدة الأمريكية للعراق سيكون مرهون بقيام حكومة جديدة شاملة لكل مكوناته واليوم وبعد تشكيل الحكومة الجديدة التي جائت بمباركة ودعم أمريكي تجد أمريكا نفسها وجها لوجه أمام امتحان صعب لخوض صراع شرس مع تنظيم داعش ولكي تتهرب من عبء هذه المواجهة الخطيرة التي ستكلفها ملايين الدولارات والتضحيات أقدمت الإدارة الأمريكية على طرح مشروع إنشاء تحالف دولي ليقوم بتنفيذ ما أسماه الرئيس أوباما (استراتيجية محاربة داعش ) كي لا يقع عليها لوحدها عبء تحمل تلك المسؤولية وكذلك لتجد الممولين لمشروعها الاسترتيجي المكلف هذا ومن المضحك أن نفس الممولين الخليجيين للجماعات الارهابية المسلحة في سوريا والعراق يعودون اليوم لتمويل عمليات مواجهة تلك التنظيمات والجماعات المسلحة أما الدول التي انظوت تحت هذا التحالف فهي أمريكا وبريطانيا وفرنسا والمانيا وكندا واستراليا وايطاليا والدنيمارك وتركيا التي يبدو أنها ما زالت مترددة بالدخول في هذا التحالف لحساباتها ومصالحها الخاصة في سوريا والعراق ولكي تبعد إدارة الرئيس أوباما عن نفسها أية شكوك واتهامات فأنها بادرت إلى الإعلان بأن الوقت اللازم لتنفيذ هذه الاستراتيجة التي ستعتمد لمحاربة داعش ستحتاج ليس أقل من 3 سنوات وربما أكثر كما نشرت صحيفة لوكانار أنشينيهLe Canard Enchaîné)الأسبوعية القريبة من الأجهزة الأمنية في فرنسا : أن حلف شمال الأطلسي يتوقع خوض حرب مداها 3 سنوات أو أكثر في العراق .
ان الرئيس اوباما وإدارته يبدوان أليوم في أقبح صور النفاق والإنتهازية السياسية فهو من ناحية يجعل مصير العراق وحكومته الجديدة معلقاً بإرادة أمريكا وقراراتها التي تجدها مناسبة لتلبية مصالحها ومصالح أصدقائها بالعراق والمنطقة وكذلك لغلق الباب نهائياً على أي تطلع عراقي ربما تقوم به جهة معينة بالداخل العراقي للخروج من التبعية الأمريكية خصوصاً بعد إبعاد روسيا وإيران عن هذا التحالف الدولي ومن ناحية ثانية فإن الولايات المتحدة ستجعل
من العراق وسوريا مسرحا جديدا لتجرب به ماتشاء من أسلحة وحلول متفاوته حسب الظروف المستجدة وكل ذلك يتم بالمجان فيميزانية التحالف واسترتيجيته المشبوهة مدفوعة الثمن وبالعاجل .
أن أوباما ينسى أو يتناسى أن امريكا استطاعت إحتلال العراق خلال 20 يوما فقط والعراق دولة بجيش يعتبر من الجيوش المتقدمة بالمنطقة والعالم في ذلك الوقت لكنها مع ذلك استطاعت أن تكسر شوكته وتدخل بغداد في 9 نيسان 2003 كدولة عظمى قبل أن يقررالرئيس بوش أن يحولها إلى سلطة احتلال وأن أمريكا ايظا استطاعت أن تجتاح افغانستان القريبة من حدود روسيا خلال أيام قليلة ايظا وتقيم حكومة موالية لها هناك فلماذا هذا الإصرارالأمريكي على بناء تحالف دولي وعلى أن تتم استراتيجية محاربة داعش خلال 3سنوات ولماذا تعمد الولايات المتحدة على تجاهل وإبعاد أي دور لروسيا وإيران من الحل والمشاركة بهذا التحالف هذه الأسئلة والكثير غيرها تفرض نفسها اليوم على في إطار البحث عن حلول دولية لحل أزمة العراق ومحاربة الإرهاب ولن تكون الإجابة عليها بعيدة عن فهم طريقة تعامل أمريكا بالمنطقة فكل ما يهم أمريكا بالمنطقة الممتدة من أقصى جنوب الخليج وحتى افغانستان شمالاً هو أن لاتبرز أي قوة دولية مؤثرة في المنطقة تجعل أصدقاء أمريكا وحلقائها تحت خطر دائم وبالتالي تهدد المصالح الأمريكية ومنابع انتاج البترول في هذه المنطقة المهمة للمصالح الأمريكية وسياسة أوباما ليست بالجديدة فهي نفس السياسة التي اتبعها بوش الأب وخلفه بوش الأبن والتي عرفت وقتها بسياسة ( الإحتواء المزدوج ) والتي قدمها اليهودي المحافظ ومستشار وزارة الدفاع برنارد لويس بعد حرب الخليج الثانية 1990 والتي تعتبر أن أفضل سياسة لخروج أمريكا من مأزق التعامل مع العرب والمسلمين في منطقة الشرق الاوسط هو إعادة تقسيمهم إلى وحدات عشائرية وطائفية وعدم مراعات خواطرهم وردود أفعالهم واستبدال الوسائل التي استخدمتها بريطانيا وفرنسا في بداية عهود الإستعمار للمنطقة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ويعني ذلك عدم الخوض في قتال مسلح وإرسال الجيوش لتقاتل بصورة مباشرة داخل تلك البلدان بل تحويلها إلى بلدان أزمات مستفحلة وخلق حكومات عملية وضعيفة تأتمر بأمر أمريكا وتكون موالية لها وهذا ما سعت إليه أمريكا من خلال حلفائها التاريخيين بالمنطقة من أمراء وملوك البترول الخليجي وهذا ما تقوم به اليوم من تشكيل تحالف دولي مشبوه واسترتيجية غير واضحة المعالم والأهداف وتمتد لزمن طويل غير محدد .
أن مايهمنا بالعراق ان نكون بمستوى الأخطار التي تواجه بلدنا اليوم وعلى الطبقة السياسية الحاكمة أن تعي خطورة الأهداف الغامضة للتحالف الدولي الذي تقوده أمريكا وتعي الدروس التي استخلصتها من العلاقة مع أمريكا خلال أكثر من عشر سنوات تلت الإحتلال الأمريكي للعراق والتي ظلت في أحرج الظروف التاريخية التي كان يعاني منها العراق خلال الشهور الماضية علاقة مبنية على النفاق وعدم التوازن في اتخاذ المواقف المتذبذة حين وقفت أمريكا متفرجة وكأن الأمر لايعنيها وكان العراق على شفا التقسيم ومحرقة الحرب الأهلية فعلينا أن نعي هذا الدرس جيداً فالمؤمن لايلدغ من جحر مرتين فإذا كان السيد المالكي قد أضاع على العراق فرصة تاريخية لا تعوض في إخرج العراق من التبعية الأمريكية حين أدارت أمريكا ظهرها للعراق وهو أحوج ما يكون لمن يمد يده بالعون وتقديم السلاح له ولم يستثمر الموقف
الروسي الذي وقف بجانبه ودعمه بقوة وساعده بإمداده بالسلاح والطائرات فإن الحكومة الجديدة ورئيس الوزراء السيد العبادي مطالب اليوم بأن تكون له وقفة تاريخية مشرفة في إخراج العراق من هذه التبعية المذلة لأمريكا وحلفائها بالمنطقة لأنه يبدو أن هذه الإدارة ستظل تراوغ بنفس وسائلها القديمة وليست جادة أبداً في دعم العراق ومحاربة الإرهاب فالقضاء على عصابات داعش الإرهابية والتي هي صنيعة المخابرات الأمريكية لا يحتاج إلى استراتيجية ولا إلى تحالف دولي بقدر ما يحتاج إلى نوايا صادقة لا تتعدى ىأن تقوم دول الخليج الحليفة لأمريكا بوقف دعمها المادي والتسليحي لهذه الجماعات وأن تقوم تركيا بإغلاق حدودها بوجه تدفق الاف من المقاتلين الأجانب وهم يتوجهون كل يوم لساحات القتال في سوريا والعراق وإيقاف بث القنوات الفضائية الداعمة للإرهاب كقناتي العربية السعودية والجزيرة القطرية وهذه الأهداف لو أن الولايات المتحدة صادقة بنواياه بمحاربة الإهاب فأنها لن تكلفها غير اتصال تلفوني من وزير خارجيتها كيري لزعماء تلك الدول لكن أمريكا وكما عودتنا دائما في عهد الرئيس أوباما تظل دولة التصريحات أكثر منها دولة أفعال والفرصة ما زالت مواتية للطبقة السياسية بالعراق لكي تتخلص نهائياً من سلطة الإنتداب الأمريكي وتبحث لها عن شريك استراتيجي جديد ما يزال بقف بالظل بانتظار الإشارة .