مع انتخاب رئيس وزراء جديد للعراق ترتكز المباحثات على أولويات الرئيس في أن يؤلف بين الكتل السياسية الرئيسية في البلاد وهم الشيعة والسنة والأكراد، كما يتطلب منه محاربة الارهاب والفساد على حد سواء، فهناك قائمة طويلة من التحديات وعلى رأسها الصراع الذي يدور بين القوات الأمنية المدعومة من اللجان والحشود الشعبية وبين تنظيم “الدولة الاسلامية”.

ولا شك أن المرحلة الماضية أفرزت مجموعة من الاستنتاجات والإشكاليات الخطيرة التي ارتكبها القادة السياسيون وقد تطيح بالبلد في حال عدم معالجتها ومن هذه الاستنتاجات:

الاستنتاج الأول: ساهمت الأزمة السياسية في العراق بتدهور الملف الأمني بشكل فظيع وهو الأمر الذي طالب به قادة سياسيون من دعم التغيير في الحكومة، وتشكيل حكومة جديدة قادرة على إدارة الأزمات. وسيعتمد نجاح هذا البرنامج على التوافق بين الكتل الشيعية والكردية والسنية، فالسنة لهم مطالب ربما تبدو غير واضحة بسبب تعددية القيادات التي تمثلهم، لكن ما يطالبون به اطلاق سرح السجناء واسقاط مذكرات الاعتقال بحق بعض القادة السياسيين وارجاع حزب البعث للعمل السياسي، اما الأكراد فهم يطالبون بإنهاء ملف الاراضي المتنازع عليها وكذلك الاستحقاقات النفطية.

الاستنتاج الثاني: زادت حادثة سقوط الموصل بيد تنظيم “داعش” من عمق الأزمة السياسية بين الحكومة المركزية بقيادة الشيعة وبين الحكومة المحلية في بعض المناطق التي تحت القيادة السنية، وفيما بعد دخل الاكراد على خط الأزمة بعد سيطرة قوات البيشمركة على محافظة كركوك الغنية بالنفط.

الاستنتاج الثالث: أصبحت المؤسسة العسكرية تشكو من ضعف في إدارتها وتوجيهها، وذلك لعدم وجود مركز للقرار متمثلا بقيادات تعمل ضمن نطاق مؤسسة عسكرية مستقلة تصدر اوامرها وفق خطة مدروسة ورؤية واضحة لما يحصل على الارض من معارك ضد تنظيم “داعش”، وبالتالي شكل ذلك عاملا زمنيا خطيرا تتوسع خلاله التنظيمات الارهابية في استيلائها على اراض واسعة من شمال العراق وغربه.

الاستنتاج الرابع: خلفت موجة العنف أزمة انسانية كارثية فقد تم تهجير قرابة مليون ونصف المليون عراقي من الشيعة والاقليات في شمال العراق، وهو الأمر الذي يضع المؤسسات الحكومية أمام اختبار حقيقي في مساعدة هؤلاء المهجرين الذين يمرون بحالة مأساوية تشمل الصحة والسكن والمأكل وغيرها.

محاور الصراع

على الصعيد الأمني، يقوم الصراع الحالي بين القوات الأمنية وتنظيم “داعش” وفق عدة محاور،

المحور الأول: محاولة القوات الأمنية إرجاع الأراضي التي استولى عليها تنظيم داعش، وكذلك تجهيز حملات أمنية موسعة لتحرير بعض المناطق التي تعتبر حاضنة للتنظيمات الارهابية.

المحور الثاني: القصف بالصواريخ الجوية وعبر قذائف الهاون وغيرها من معدات القصف بين القوات العراقية وتنظيم “داعش”. إذ تتواصل هذه العمليات في مختلف الاراضي التي تسيطر عليها المجموعات الارهابية، إلا ان هذه الهجمات كبدت الطرفين خسائر كبيرة، فضلا عن ازهاق الكثير من ارواح المدنيين نتيجة الخطأ في استخدام السلاح وعدم امتلاك المعلومات الكافية والاحداثيات الصحيحة.

المحور الثالث: يتجلى القتال في عمليات انتشار الجيش المدعوم من اللجان والحشود الشعبية، حيث تشكل الكمائن وعمليات المباغتة من قبل المجاميع الارهابية مخاوف رئيسية للقوات الأمنية وهذا ما تم ملاحظته خصوصا في المناطق التي تتشابك فيها القوات الأمنية مع تنظيم “داعش” كمناطق حزام بغداد حيث تتسلل مجاميع داعش لتقوم بزرع العبوات الناسفة فضلا عن اطلاق الصواريخ وقيامها بعمليات اغتيال وقنص.

المحور الرابع: الحرب الاعلامية التي تخوضها الفضائيات العربية التي حرصت على تسمية “داعش” بثوار العشائر كما تعمل هذه الفضائيات على نقل الحدث بطريقة توحي للمتلقي ان مايدور من معارك هو نتيجة الاستبداد الطائفي وسياسة القمع التي تقوم بها الحكومة ضد ابناء السنة، وان القتال يجري بين ثوار العشائر ضد الحكومة نتيجة لسياستها الطائفية، حيث يتم استبعاد داعش عن صورة القتال وتصوير المشهد بطريقة مغايره للواقع تماما.

المحور الخامس: تنفيذ هجمات على مختلف مؤسسات الدولة ومحاولة اخضاع المناطق الحيوية تحت سيطرة داعش.

المحور السادس: القيام بعمليات ارهابية عبر تفجير السيارات المفخخة والعبوات الناسفة في مناطق مختلفة من العراق وبالخصوص في مناطق بغداد وطرق ممرات الجيش.

المحور السابع: قيام داعش بتفريغ المناطق التي توجد فيها اقليات من الشيعة والتركمان والايزيديين والسنة المعتدلين، وقد ارتكبت داعش مجازر فظيعة بحق هذه الفئات.

مكامن القوة والضعف

لا شك ان قدرة تنظيم داعش من تمديد مساحات عملياته، اضافة الى عدم قدرة القوات الأمنية من دحره له عدة أسباب تكشف عن عوامل الضعف لدى القوى الأمنية ومن هذه العوامل:

العامل الأول: ضعف التدريب والانضباط لأفراد القوات الأمنية ماعدا بعض الفصائل مثل جهاز مكافحة الارهاب: لعل واحدا من الاسباب الكثيرة التي تجعل تنظيم داعش يتقدم في مناطق النزاع هو فقدان عامل الانضباط والتدريب اضافة الى قلة الدعم العسكري.

العامل الثاني: ضعف التعاون بين الأجهزة الأمنية وكذلك بسبب الروتين في توجيه الأوامر العسكرية، ولعل الخلاف على المناصب داخل المؤسسة العسكرية والفساد له الأثر البالغ في الانتكاسات.

العامل الثالث: سوء العلاقة بين رجال العشائر السنية بالحكومة المركزية، وللاسف الشديد جرت عدة محاولات في رأب الصدع لكن الطرفين كليهما انتهج سياسة خاطئة في إدارة الأزمة.

العامل الرابع: مباغتة العدو، فقد استطاعت التنظيمات المتطرفة من مباغتة القوات الأمنية المدعومة من قبل حشود شعبية عبر شن هجمات ارغمتهم على الانسحاب وهذا يعود لقلة الوعي والخبرة الأمنية وقلة الدعم لدى المقتلين. مما يتطلب الأمر تدريبات مكثفة على حرب الشوارع.

العامل الخامس: الخشية من عدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على انهاء الصراع ودحر تنظيم داعش بعد تقديم دعمها لإقليم كردستان عسكريا، وهو الأمر الذي يأتي بنتائج عكسية تثبت فيما بعد قدرة التنظيم على انها عصية على المواجهة.

مكامن القوة

العامل الأول: يمتلك الجيش العراقي ترسانات من الاسلحة الثقيلة والطائرات وهو الأمر الذي يعول عليه المقاتلون في حربهم ضد تنظيم داعش، وان هذه الترسانة لو تم مقارنتها باسلحة داعش فمن غير المنطقي ان نقول ان داعش لها قدرة مواجهة جيش كبير من العسكر والمتطوعين من اللجان الشعبية.

العامل الثاني: يمكن إنشاء مركز للعمليات المشتركة بين قوات البيشمركة ورجال الصحوة والجيش العراقي، فان الجيش العراقي يفتقد في مناطق النزاع الى عامل الاستخبارات وهو العامل الحيوي الذي يستطيع من خلاله توجيه ضربات موجعة ضد تنظيم داعش وربما طرده من المناطق التي يستحوذ عليها.

العامل الثالث: سلاح الجو العراقي: يستطيع الجيش العراقي اليوم تنفيذ ضربات جوية كاسحة عبر فهم طبيعة الانتشار لتنظيم داعش.

العامل الرابع: فتح باب التطوع المنظم وخصوصا بعد الفتوى التي صدرت من علماء الدين على ان يكون هذا التطوع مدروسا بحيث تصبح المؤسسة العسكرية العراقية قادرة على تدريب المتطوعين وفق آليات مهنية.

العامل الخامس: السيطرة على مصادر التمويل للحركات المتشددة وايقاف الدعم المالي.

تداعيات الأزمة الأمنية

عندما أخذ تنظيم داعش بالتوسع في مناطق غرب العراق وخصوصا الانبار والفلوجة، قامت القوات الأمنية العراقية بالتصدي للمجاميع الارهابية من خلال الانتقال من مرحلة الدفاع الى مرحلة الهجوم، وبدأ التنظيم يزحف نحو الموصل إثر تلقيه ضربات موجعة، مما وضع التنظيم في وضع محرج افقده توازنه التكتيكي، ومن أجل تعزيز وجود داعش على الاراضي التي تم الاستيلاء عليها قام التنظيم بمراجعة خططه عبر الانسحاب التدريجي الى الموصل وجعلها قاعدة لانطلاق عملياته مستغلا الاحداث في سوريا التي سيطر التنظيم على اجزاء واسعة منها، وفيما بعد اصبحت الموصل عصية على المواجهة، وهي الأن الملاذ الآمن للتنظيمات المتشددة والتي تشهد نموا متسارعا.

كانت الموصل تخضع عسكريا للحكومة في بغداد والتي يتهمها السنة بانها تمارس سياسة طائفية، فان الاهالي هناك لا يرغبون بتواجد القوات الحكومية، وبالتالي كان يطمح الكثير من اعضاء الحكومة المحلية في الموصل بان يحدث انهيار أمني من أجل تشويه صورة الحكومة، وعندما حدث الانهيار الأمني فعليا لم يكن يتوقع كل من الاهالي والقادة السنة من ان تنظيم داعش سيستحوذ على الموصل بالشكل الذي حصل وبالتالي تفاجئ الجميع بتوسع التنظيم وإخضاع الاهالي لسيطرته، وقام بمعاقبة المخالفين له بقطع الرؤوس وبتر الاطراف ويقوم بختن الاناث تحت الاجبار وينفذ اعدامات بشكل علني ويرجم النساء ويفرض أتاوات ويشرع قوانين تخالف حقوق الانسان، فالشيعة كانوا أول الضحايا بسبب المعتقد والانتماء حيث يتم قتلهم بطرق بشعة أما منازلهم فقد كتب عليها حرف الراء اي روافض.

ويقوم بجلد المخالفين للقوانين التي يقولون عنها انها اسلامية واغلقت المقاهي وفرض الأحكام على النساء بتغطية الوجه وباقي الجسد. كما قام التنظيم بقطع المياه في اغلب مدن جنوب سهل نينوى.

ويمكن مشاهدة العديد من الصور التي تظهر فيها مساجد شيعية وأضرحة صوفية وكنائس مدمرة. وهو ما يسهم في تدمير الإرث الثقافي. وقد أعلن تنظيم داعش عن تدمير قرابة عشرين كنزا ثقافيا في الموصل.

هذه الاعمال تدل على ان تنظيم داعش يحاول فعلا تثبيت قواعده إذ بدأ يصدر النفط وبفرض الجزية وافتتح معامل ويقوم بصرف المرتبات ويستقطب درجات وظيفية واستولى على عدد من الكنائس والمساجد والمحلات والمرافق الحيوية.

فضلا عن الاستقطاب لفئة الشباب الذين ينخدعون بهذه المظاهر، وهو ما دفع زعيم داعش أبو بكر البغدادي، إلى استقطاب المهندسين والاطباء من اجل بناء دولته المفترضة. وقال البغدادي في وقت سابق الهجرة واجب عليهم، حتى يتمكنوا من تلبية حاجات ماسة للمسلمين.

وتحدثت تقارير صحفية في وقت سابق ان التنظيم استولى على أكثر من 50 من بطاريات المدفعية بحجم 155 ملليمترا. كما استولى على 500 مركبة قتالية مدرعة وأعتدة وذخائر. كما قام التنظيم بمحاولات يسعى من ورائها عزل العاصمة بغداد من خلال قطع خطوط الاتصالات وتدمير الجسور. وزراعة الالغام على الطرقات الرئيسية كما قام التنظيم بفتح السدود مما عرض بعض المناطق للفيضانات.

وقام التنظيم من خلال هذه الخطوات بتقسيم العراق وتحويله الى دولة فاشلة تستقطب الارهابيين من كل العالم.

التداعيات السياسية

مع انتخاب رئيس وزراء جديد للعراق تتوقع بغداد أن تتلقى تعاونا وتأييدا من واشنطن من اجل استتباب الأمن. وبحكم واقع الحياة الاجتماعية والسياسية وبحكم مواجهة العدو والخسائر التي تكبدها الجميع في الحرب على الارهاب، يبقى المجتمع العراقي بطوائفه شريكا في العيش تحت عملية سياسية واحدة.

كما أنّ بحكم الشراكة في الأرض تجعل من هذا البلد موقعا للتعايش بين الطوائف والأقليات. لذا فان خطر التنظيمات الارهابية يحتم على الجميع مواجهته. بل أصبح الجميع امام خطر محدق. وتستوجب هذه الاستراتيجية تحديث العلاقة بين الحكومة المركزية والاكراد من جانب وبين السنة من جانب آخر.

وفي حال الاتفاق على مواجهة تنظيم داعش يمكن الاستعانة بالقدرات الدولية المتخصصة بمكافحة الارهاب حيث يمكن انطلاق العمليات من المناطق الكردية على ان يكون الجيش العراقي مكون من قوات البيشمركة والجيش الوطني.

ويمكن للولايات المتحدة تفعيل بنود المعاهدة الأمنية والتفاوض مع الجانب العراقي على الدعم العسكري من خلال زيادة التمويل الحكومي من اجل شراء معدات عسكرية حديثة.

ويفترض ان يكون التعاون بين واشنطن وبغداد قائما على التصدي للارهاب الذي يستهدف أيضا المصالح الامريكية، وذلك نظراً للتعاون المشترك بين البلدين وإلى الدور المحوري الذي لعبته واشنطن بالاطاحة بنظام صدام ودخولها العراق وحينها تعرضت لهجمات عديدة من قبل تنظيم القاعدة واليوم تتعرض لتهديدات من قبل تنظيم “داعش”.