23 ديسمبر، 2024 6:31 ص

تقتضي نهضة الأمم المبدعة من بين ما تقتضيه، القيام بمراجعة للذات والوقوف على تاريخها وتجاربها الخاصة، على نحو يكون الهدف منه الاستمداد من إرثها الثقافي والمعرفي والإفادة منه، وهذا ما قام به رجال النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، كما وجدنا اليابانيين قد قاموا به في القرن التاسع عشر، والعمل ذاته كان متضمنا في فكر رجال النهضة العربية الإسلامية، في الفترة التي امتدت بين منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
لكن من أغرب الأمور أن يتنكر المرء لذاكرته ولتاريخه ولتجربة أمته مهما كانت أحداثها ومجرياتها، وكأن الأمر متروك للإنسان أن يختار تاريخه أو يرفضه، فليس بمقدور أحد محو تاريخه أو تجاهله لأنه جزء من كينونته وشخصيته وثقافته أحب أم كره: “نحن في التراث كما نحن في العالم، لا اختيار لنا معه ولا انفصال عنه”. ومن العجيب في الأمر أننا لم نجد أحدا في الحضارات الأخرى، يتنكر لتاريخه ويقفز على تجربة قومه مهما عظمت أو صغرت، إلا عندنا فتجد الواحد منا يمحو بجرة قلم وبكلمة تاريخ أمة بكامله
مثل هذا الصراخ على هامش المجتمع لا يحقق نهضة، ولا يشوش على تاريخ العرب والمسلمين الطويل الذي أبدعته عقول عربيةو مسلمة من مختلف الأجناس، فالتاريخ تشهد صفحاته أنه لم يكتب النجاح لكل المشاريع التي تأسست بنفس إيديولوجي حاقد ومتحيز، وأنها ذهبت أدراج الرياح “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.
يقول الدكتور الجابري وهو يصف مثل هذه الحالات المنفعلة والمواقف المتسرعة: “لن نستطيع تثبيت كياننا وبناء مستقبلنا إلا إذا عالجنا العلاقة، بين تراثنا وثقافة العصر معالجة فاعلة، لا انفعالية أساسها نظرة جدلية واعية، ومن هنا ضرورة إعادة قراءة التراث والفكر المعاصر، برؤية جديدة رؤية شمولية، جدلية تاريخية لا تقتل الخاص في العالم ولا تتقوقــــع في الخــاص على حســـاب العــــــام”.
دين معين
و حين ندعو إلى استحضار وقراءة التراث والإفادة منه، ليس معنى ذلك الجمود عليه وتقديسه، بل على اعتبار أن الماضي ينبغي أن يكون نقطة ارتكاز للانطلاق والإبداع كما تفعل سائر الأمم المبدعة، ولا يجوز بتاتا أن يكون نقطة توقف وجمود ينتهي عندها العقل المسلم، بل قراءة نقدية تساهم في تحرر الشخصية المسلمة من التعامل الذي ظل سائدا في تعاطي العقل المسلم مع تراثه، فكان إما رافضا له رفضا قاطعا، أو متعلقا به إلى درجة تقديسه.