18 ديسمبر، 2024 8:44 م

استثـــــمار الجــــهل

استثـــــمار الجــــهل

في عام 1997 اضطررت إلى العمل في مكتبي الصغير للخط العربي والترجمة بكركوك بعد أن رفضت الدولة العراقية تعيني في اختصاصي الجامعي لرفضي تغير قوميتي التركمانية التي منعت من التعيين إلاّ بعد ما يسمى بـ (تصحيح القومية) النكراء.

كان جاري في المحل رساماً شاباً نشطاً مكافحاً يرسم الجداريات والصور الشخصية. لم ينل هذا الشاب حقه في التعليم والدراسة فتوجه إلى العمل والارتزاق من فن الرسم. إلاّ أن بعض الصور التي كان يرسمها لم تكن تشبه أصحابها. قلت له ذات مرة أن الصور مختلفو كثيراً عن الأصل الذي تنقل منه فكيف يقبل أصحابها ويدفعون لك ثمنها؟! أجابني جواباً ذكياً ينم عن فطنته وعلمه بخلجات المجتمع والخفايا. أعطاني جواباً لم أنساه إلى اليوم بل اعتبرته درساً شافياً كافياً، مما دفعني بعد كل هذه السنين أن أكتبه وأتقاسمه مع القراء الأعزاء.

قال لي.. (أستاذ نحن مستفيدين من جهل الناس). فلو كانوا يفهمون بالفن ويعلمونه لما قبلوا بالصور التي أرسمها.

فعلاً.. الجهل الذي نعيشه ولا نقدر حجمه قد ساقنا إلى ما نحن عليه اليوم. وهذه النقطة قد استفاد منها الكثير من سياسيي الصدفة الذين يتاجرون بنا وبإسم القومية والدين والمذاهب وكل المبادئ السامية التي نؤمن بها وغيرها من الكلمات والشعارات الرنانة التي يداعبون بها مشاعرنا، ونحن نصفق لهم ونجري من خلفهم ونقيم لهم الاعتبار. تجدهم يقيمون التجارة والاستثمارات الكبيرة ويربحون ويبنون ولا يقدمون إلاّ لأنفسهم وأبناء الشعب من حولهم جياع يبحثون عن لقمة العيش بين القمامة دون أبسط فرص للعمل. بالرغم من هذا نصفق ونهتف ونبارك لهم لأننا نجهل كل ما يدور من حولنا ولا نسأل أحدهم من اين لك هذا؟ نتحدث عن رواتبهم العالية ولا نعلم شيئاً عن الاستثمارات الكبيرة وتجارة العقارات داخل وخارج البلاد. كانوا أيام النظام المقبور ما كانوا واليوم هم ما هم ونحن أيضاً لا نسال ولا نهتم بل ولا نعي ما يدور من حولنا. يتاجرون بنا وبقضيتنا وبسيرة مناضلينا ودماء شهدائنا. فعلاً هم يستفيدون من جهلنا وعدم إدراكنا لصغائر الأمور وكبائرها. حتى الأجانب كثروا في بلادنا بفضل جهلنا. فهذا خير استثمار للجهل.