18 ديسمبر، 2024 5:45 م

اسباب وإشكاليات وكوارث الحرب الروسية الاوكرانية

اسباب وإشكاليات وكوارث الحرب الروسية الاوكرانية

هذه المعركة بين روسيا واوكرانيا هي نموذج آخر الحروب النيابة الأمريكية ، فهذه الحرب مطلب امريكي ، اميركا بحاجة الى هذه الحرب لعدة أسباب :

1- لتأخير التحالف العالمي الجديد بين روسيا والصين وكوريا الشمالية وايران ، لأن هذا التحالف اقتصادي بالدرجة الاولى يعني ان الدول الناهضة اقتصاديا في اسيا ستنضم اغلبها الى القطار الصيني الروسي ، ليطردوا اميركا من اسيا ويزحفوا باتجاه الاتحاد الاوربي .

2- الاتحاد الاوربي كله لايريد الحرب ، روسيا لا تريد الحرب ، اوكرانيا لاتريد الحرب وتعلم انها كبش الفداء للمواجهة بين روسيا واميركا .

3- الاوربيون سيخسرون تدفق الغاز الروسي اليهم ويعيشون ازمة طاقة مرعبة ، وادعاء اميركا بانها ستضغط لتعويض النمط الاستهلاكي للغاز بالنفط ادعاء صعب التنفيذ لاسباب تكنلوجية معروفة.

4- الاوربيون خاصة المانيا وفرنسا يرفضون ان يتحول حلف النيتو الى اداة لتنفيذ الحروب الامريكية ، ويخيفهم سعي اميركا الى نشر قواعد النيتو على حدود روسيا بهذه الطريقة الاستفزازية بدون اتفاق مسبق مع الشركاء الاوربيين.

5- اميركا تبعد عن منطقة الصراع عشرة الاف ميل ولا يمكن ان تتأثر مباشرة بلعبة القمار العسكري الدموي مع روسيا ، بل الذي يتأثر هي دول اوربا المتأخرة بمراحل كثيرة عن روسيا عسكريا ، ولذلك لن تكون اوربا متحمسة لحرب تجري في خاصرتها الشرقية خاصة وان روسيا عملاق عسكري واقتصادي هائل وجغرافيا شاسعة ، ولا تملك اميركا واوربا غير العقوبات الاقتصادية ضد روسيا التي ستؤذيها ولكن لن تنهي قوتها بل ستزيد غضبها.

6- حلفاء روسيا في العالم وابرزهم الصين لن يقفوا مكتوفي الايدي امام هذا التحدي ، الذي يريد منع نشوء قطب ثان يقود العالم الى جانب اميركا ، لا احد من حلفاء روسيا يريد تعزيز الاحادية الامريكية في قيادة العالم.

7- العالم كله يعرف ان اميركا بلعبتها الدموية هذه تريد تصدير ازماتها الداخلية الخانقة ، فادارة بايدن تعاني من تنامي عناصر التفكك الاجتماعي والاقتصادي وتصاعد العنصرية في المجتمع الامريكي ، والمفكرون الامريكيون يوميا يقدمون تقارير مخاوفهم حول مايسمونه الخطر الماثل امام مستقبل الاتحاد .

8- حلفاء اميركا مجبرون على العمل معها تحت التهديد ، ولا مصلحة لهم في تخريب التوازنات القائمة في اسيا واوربا ، وهناك ترحيب اسيوي اوربي بالنهوض الصيني والصيغ الاقتصادية التشاركية التي ينادي بها ، فالصين مخزن سلع العالم الرخيصة الذي يعززه مشروع الحزام والطريق الذي هو اول رؤية لتوحيد الاقتصاد الآسيوي انتاجا وتصديرا وعمالة ، وتقديم خدمة سلع وخدمات كبيرة لاوربا العجوز التي تعاني من تراجع مواردها البشرية وتقادم نظامها الرأسمالي ، وروسيا مخزن غاز العالم الرخيص الذي لا يعوض.

“ساعات الرعب”، ربما كانت العبارة الأكثر تعبيرًا عن تلك اللحظات التي يعيشها العالم على وقع الهجوم الروسي الذي شنته القوات الروسية على أوكرانيا، فجر اليوم “الخميس”، 24 فبراير.

 

ساعات رعب أبرزتها وكالة “سي إن إن” الأمريكية قائلةً: سيتردد صدى الهجوم الذي أمر به الرئيس فلاديمير بوتين إلى ما هو أبعد من روسيا وجارتها أوكرانيا، وسيترتب على ذلك عواقب تشمل ارتفاعات مؤلمة في أسعار الغاز والنفط المرتفعة بالفعل، وقد يؤدي ذلك إلى إحياء الحرب الباردة التي بدت ذات يوم من بقايا التاريخ، مما يخلق مواجهةً جديدةً محفوفةً بالمخاطر بين الولايات المتحدة وروسيا، أكبر قوتين نوويتين في العالم.

ومنذ صدورها، اهتمت مجلة “للعلم” برصد العديد من الدراسات التي تناولت تداعيات الحروب والصراعات المسلحة على المجالات الصحية والنفسية والعقلية كافة؛ فتحت عنوان “تطوُّر الرعاية الطبية في عام 1916″، نشرت “للعلم” تقريرًا مصورًا نقلًا عن مجلة “ساينتفك أمريكان”، ذكرت فيه أنه “مع احتدام الحرب العالمية الأولى في أوروبا، جرى ابتكار –أو نبذ- أدوية وتقنيات لمساعدة العدد الضخم من مصابي الحرب، وبالنسبة للأشخاص الذين فقدوا أطرافهم أو فقدوا القدرة على ممارسة حياتهم على نحوٍ طبيعي بسبب الحرب أو المرض، أصبحت الرعاية الطبية بمنزلة العملية التي تعين المرضى على استعادة قدرتهم على الاعتماد على أنفسهم قدر الإمكان”.

وأضاف التقرير أنه “في أوقات شهدت تغيراتٍ عاصفة، خطا الطب خطوات متعثرة إلى الأمام، في محاولة لتلبية الاحتياجات التي تمخضت عنها تلك الأحداث المؤلمة”.

وتحت عنوان “جوزيف وولب… أول مَن داوى الخوف بالخوف”، تناولت “للعلم” قصة “جوزيف وولب”، الطبيب الأمريكي ذي الأصول الأفريقية، الذي “وضع القواعد الأولية للعلاج النفسي المعروف باسم العلاج السلوكي”.

ووفق “البودكاست” الذي أعدته داليا عبد السلام، رئيس تحرير مجلة “للعلم”، فإنه “حين اندلعت الحرب العالمية الثانية انضم وولب إلى الجيش ضابطًا طبيبًا، وعمل في مستشفى عسكري للأمراض النفسية، هناك كان يعالج المرضى الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة أو “عصاب الحرب”، وهو نوعٌ من أنواع الخوف يؤدي إلى اضطرابات في الشخصية وفي الاتزان النفسي، ويكون غير مصحوب بتغيرات بنيوية في الجهاز العصبي؛ ففي المستشفى العسكري، لاحظ “وولب” أن العلاج الدوائي غير فعال بالمرة مع مرضى “عصاب الحرب”، فقرر أن يجرب العلاج السلوكي باستخدام أسلوب إزالة التحسس المنهجي، الهدف من هذا الأسلوب هو تقليل القلق العصابي، وذلك عن طريق الاستجابة المعاكسة وهي: الاسترخاء، التي تتم عن طريق التناوُب بين التعرُّض للشيء الذي يثير القلق لمدة ثوانٍ ثم الاسترخاء، وتكرار تلك العملية حتى يتم تقليل القلق وإضعافه.

ونشرت “للعلم” تقريرًا حمل عنوان “22% من سكان مناطق الصراعات المسلحة يعانون من اضطرابات عقلية ونفسية”، ذكرت فيه أن 22% من الأشخاص الذين يعيشون في مناطق الصراعات المسلحة يعانون من الاكتئاب والقلق و”اضطراب ما بعد الصدمة” و”الاضطراب ثنائي القطب” و”انفصام الشخصية”، وأن حوالي 9% من سكان البلدان التي تشهد صراعاتٍ عنيفةً يعانون من اضطرابات صحية عقلية ونفسية شديدة.

تناول التقرير دراسةً شارك فيها باحثون من جامعات “كوينزلاند” الأسترالية و”واشنطن” و”هارفارد” الأمريكيتين بتمويل من منظمة الصحة العالمية ومؤسسات دولية أخرى، مشيرةً إلى أن “الاكتئاب والقلق يزيدان مع تقدم العمر في البلدان التي تشهد صراعات، وأن هذه الأرقام أعلى بكثير منها في وقت السلم؛ إذ يعاني واحد من كل 14 شخصًا تقريبًا من أحد أشكال المرض العقلي (أي 7.14% فقط).

ونقل التقرير عن “مارك فون أوميرين” -المتخصص في الصحة العقلية بمنظمة الصحة العالمية، والمشارك في الدراسة- قوله في تصريحات لـ”للعلم”: “إن النتائج تضفي مزيدًا من الثقل على الدعوة إلى استثمار عاجل ومستدام؛ كي يكون الدعم في مجال الصحة العقلية والنفسية متوافرًا لجميع مَن يحتاجون إليه ممن يعيشون وسط صراعات أو عاشوا وسطها”.

وأضاف “أوميرين”: يتمثل هذا الاستثمار في تطوير الخدمات الصحية العقلية في تلك المناطق، وأن تكون الرعاية الصحية متوافرةً في كل المواقع المتضررة من جَرَّاء هذه الصراعات من خلال توفير الرعاية الصحية الأولية وما تحتاج إليه المستشفيات العامة من دعم.

وتحت عنوان “والدو سمون.. الكيميائي الذي ساعد في إنقاذ العالم”، نشرت “للعلم” بودكاست ذكرت فيه أن “والدو سمون اشتهر بأنه أنقذ العالم؛ لأنه طور قبل الحرب العالمية الثانية نوعًا من المطاط الصناعي الذي اعتمدت عليه قوات الحلفاء في أثناء الحرب”.

كما نشرت “للعلم” مقالًا أعده الزميل “أحمد جمال سعد الدين” حمل عنوان “تشيرنوبل: ثلاث محاولات لسرد كارثة نووية”، ذكر فيه أن “المحاولات التخيلية، والقصص والروايات أمور عظيمة للوصول إلى مساحات أعمق من المشاعر البشرية، لكنها بحكم طبيعتها ما بين الاختزال والتكثيف، ربما لم تنقل صورةً دقيقةً عن كارثة عظيمة الأثر كحادثة تشيرنوبل”، وذلك في إشارة إلى الانفجار الذي شهدته مدينة “تشيرنوبل” الأوكرانية في إبريل من عام 1986، وجعلها ساحة لأسوأ كارثة نووية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

يقول “سعد الدين”: استثمر الاتحاد السوفيتي بقوة في الطاقة النووية، بعد الحرب العالمية الثانية، كان إلقاء القنبلة الذَّرِّية على مدينتين في اليابان، (هيروشيما في 6 أغسطس 1945، وناجازاكي بعد ذلك بثلاثة أيام)، أمرًا مرعبًا وعنيف التأثير على البشرية بأكملها، وهذه الطاقة العارمة أثارت انتباه الكثيرين، حوَّلت الحرب العالمية الثانية مسارَ كثير من الأحداث في تاريخ البشرية، لكنها بالتحديد فتحت الباب على مصراعيه أمام الاستثمار في هذا النوع من الطاقة الجبارة، وبدايةً من سبعينيات القرن الماضي، شرع الاتحاد السوفيتي في إنشاء مفاعِلات نووية بغرض توليد الطاقة، كان من بينها أربعة مفاعلات نووية من نوع RBMK-1000، داخل منشأة لتوليد الطاقة، على الحدود الأوكرانية البيلاروسية، أُنشئ المفاعلان رقم 1 و2، في الفترة بين عامي 1970 و1977، بينما كان الانتهاء من المُفاعلين 3 و4 في عام 1983.

وتحت عنوان “الحرب العالمية الثانية تركت بصمتها على الشعب الفنلندي”، ذكر تقرير أعدته الزميلة “هبة حسين” أن تلك الحرب أدت إلى “حدوث زيادة مفاجئة في السلالة الفنلندية الجنوبية الشرقية في الأطفال حديثي الولادة.. وأسهمت في تغيُّر التركيبة الوراثية للفنلنديين من جَرّاء النزوح إلى المدن؛ إذ اضطر نحو 400 ألف شخص إلى ترك منازلهم في جنوب شرق فنلندا والانتقال للعيش في مناطق أخرى”.

ونشرت “للعلم” تقريرًا تحت عنوان “البيئة تدفع فاتورة همس الجنون”، مشيرةً إلى أنه “لم يكن غريبًا أن تترك الحروب –وخاصةً الحربين العالميتين الأولى والثانية- بصمتها على الأرض بصورة دفعت البعض إلى “تحديد منتصف القرن العشرين كبداية لعصر الأنثروبوسين، لأسباب من بينها تبِعات إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان والتجارب النووية التي تركت آثارها حول الكوكب الأزرق”، وذلك وفق دراسة أعدها باحثان من جامعة “برينستون” الأمريكية ونشرتها دورية “نيتشر”.

ونقل التقرير عن “فرانشيسكو روكا” -رئيس الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر- قوله: لن يكون المجتمع الدولي قادرًا على مساعدة جميع المحتاجين بعد حدوث انفجار نووي؛ إذ إن انتشار الأمراض الناتجة عن التعرُّض للإشعاع، وانخفاض إنتاج الأغذية، والنطاق الهائل للتدمير والتلوث، سيجعل أي استجابة إنسانية مؤثرة غير كافية، فلا توجد دولة مستعدة للتعامل مع المواجهة النووية.

وتشير تقديرات “الصليب الأحمر” إلى أن “هناك أكثر من 14 ألف قنبلة نووية في العالم اليوم، الآلاف منها جاهزة للإطلاق في غمضة عين، وتبلغ قوة العديد من تلك الرؤوس الحربية أكبر من القنبلتين الذريتين اللتين قصفتا هيروشيما وناجازاكي بعشرات المرات”.

 

 

روسيا وأوكرانيا وحلف الناتو – انتابت روسيا الاتحادية مع تولي فلاديمير بوتين رئاستها بالوكالة في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1999، ثم بالأصالة بعد الانتخابات الرئاسية في 26 آذار/مارس 2000، “صحوة” للعمل على التحول من دولة مهدَّدة بأن تصبح دولة من الدرجة الثانية وربما الدرجة الثالثة في العالم، بحسب تعبير بوتين، لتعود قوة عظمى، عبّر عنها في رسالته التي وجهها في أواخر عام 1999، وحملت عنوان “روسيا على العتبة الألفية الجديدة”، وأصبحت تُعرف لدى المتخصصين بالشؤون الروسية ب”رسالة الألفية”.

أفصح بوتين عن رؤيته تلك إلى العالم بوضوحٍ بالغ، فما ورد في رسالة الألفية لم يكن موجهاً إلى الاستهلاك الروسي الداخلي في روسيا منهكة ومتداعية في مرحلة التسعينيات، بل إلى العالم.

جاء التدخل في جورجيا في عام 2008 خطوة عملية أولى لترجمة “الفكرة الروسية” في سياق رؤية رسالة الألفية للتحول إلى دولة عظمى، وذلك بحجة الدفاع عن أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وهما منطقتان سعتا إلى الانفصال وتأسيس جمهوريتين مستقلتين بدعم روسيا وحمايتها، ثم جاء التدخل في عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا. وفي الحالتين حذرت موسكو منظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وحتى الاتحاد الأوروبي في بروكسل من مواصلة توسيع نفوذهما في جمهوريات تعتبرها ضمن مجالها الحيوي؛ أي مجال الفكرة الروسية “The Russian Idea”، وتحديداً في أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا. وتبع ذلك تدخل روسي عسكري سافر في سوريا في أيلول/سبتمبر 2015، أصبح بعده وجوداً عسكرياً شبه دائم على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وربط بين القاعدة الجديدة في طرطوس وبين سيباستوبل، مقر قيادة الأسطول الروسي، لتعود روسيا إلى الشرق الأوسط من البوابة السورية.

بعد أن مرت كل هذه العمليات دون رد غربي حاسم، وفي ظل وجود إدارة أميركية ذات موقف شديد السلبية من سياسات بوتين، وإزاء احتمال استفحال هذا الموقف، رأى الأخير أن يستبق التطورات بطلب تعهدات وضمانات أمنية واضحة من الولايات المتحدة، دبلوماسياً في البداية، ثم على شكل إنذار تمثل بحشد الجيوش على الحدود الأوكرانية، وتلا ذلك اعتراف روسي بالجمهوريتين الانفصاليتين دونيتسك ولوغانسك، وذلك في 21 شباط/ فبراير 2022، ثم الحرب الفعلية التي بدأت بتغطية جوية وصاروخية لتحرك الانفصاليين على الأرض لاحتلال كامل إقليم الدونباس شرق أوكرانيا ثم اقتحام الجيش الروسي مناطق أخرى في أوكرانيا، ولا يُعرف حتى الآن كيف ستنتهي هذه الحملة العسكرية.

أقرت روسيا في عام 2021 استراتيجية جديدة للأمن القومي الروسي حلت محل الاستراتيجيات السابقة، وعبرت هذه الاستراتيجية عن “تحول في الأولويات الإستراتيجية لروسيا”. ففي إستراتيجية 2015، خصصت فقرة مطولة لإشكالية علاقتها مع الناتو ورفضها نشاطه العسكري الزائد، وتمدده باتجاه حدودها، لكنها أبرزت اهتمامها بالحوار مع الاتحاد الأوروبي، و”تنسيق عمليات التكامل” في الجمهوريات السوفياتية السابقة. أما في استراتيجية 2021، فقد أكدت ما ورد في استراتيجية 2015 من تحفظات شديدة على الناتو، لكنها لم تعد مهتمة بالحوار مع بروكسل.

في ضوء هذا التحول في الأولويات الاستراتيجية، تقدمت روسيا بمطالب ذات طبيعة جيو-استراتيجية أمنية في كانون الأول/ ديسمبر 2021، وذلك في مسودة معاهدة سُلِّمت لدبلوماسي أميركي في موسكو. وتضمنت طلب الحكومة الروسية تعهدات بوقف توسّع حلف الناتو شرقاً وتجميد توسيع البنى التحتية له، مثل منظومات السلاح والقواعد العسكرية، في أراضٍ سوفياتية سابقة، ووقف تزويد أوكرانيا بالمعدات العسكرية، ووقف نصب الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا.

كانت مسودةُ المعاهدة، إذا ما شُرحت في ضوء نسق بوتين العقيدي، نوعًا من “إنذار مبطّن” للولايات المتحدة في أنّ هناك يوماً تالياً إن لم تستجب للتفاوض حولها والتوصل إلى تسوية مقبولة بشأنها تخفف من المخاوف الأمنية الاستراتيجية الروسية.

رفضت الولايات المتحدة هذه المطالب. ووصفها الرئيس الأميركي جو بايدن في رده في 22 شباط/ فبراير على خطاب بوتين قبل ذلك بيوم، والذي اعترف فيه باستقلال الانفصاليين بأنها “مطالب متطرفة”، ما قد يختلف كثيرون بشأنه؛ لأن هذه المطالب، أولًا، كانت قابلة للتفاوض، وثانياً، لأنه يمكن تصور تقديم مثلها من طرف أي دولة تعد نفسها دولة عظمى بشأن نشاط أحلاف عسكرية ليست عضوًا فيها على حدودها، وثالثًا، لأن هذه المطالب أقل تطرفاً من خيار الحرب. كما أن هناك فرصة للتفاوض لتفعيل اتفاقات مينسك المغطاة شرعيًا من الأمم المتحدة.

كانت الحرب في أوكرانيا متوقعة، وكادت الولايات المتحدة تحددها بالساعة. ومع أن روسيا أنكرت مراراً نيتها احتلال أوكرانيا وضمّها، لكنها لم تنكر استعدادها لاستخدام الوسائل المناسبة كافة امنع انضمام أوكرانيا لحلف الناتو. لقد نشأ في روسيا نظام سلطوي ذو أيديولوجية معادية لليبرالية، ويمكن تسميتها بقومية الدولة العظمى. وتسعى روسيا إلى إعادة صياغة نظام الأمن الأوروبي بحيث تؤخذ مناطق نفوذها ودورها بوصفها دولة عظمى في الاعتبار. ويقود روسيا منذ عام 2000 رئيس يحكم البلد فعلياً ويؤمن بدور متعاظم للدولة، وبسياسات القوة خارجيا ولا يلتزم بمبدأ ما في العلاقات الدولية سوى مبدأ المعاملة بالمثل بين الدول العظمى.

وعلى الرغم من توقع الحرب، لم تُبذل جهود كافية لوقفها، وذلك ليس بالزيارات والإنذار من العواقب، والتلويح بالعقوبات، بل بالبحث عن تسويات. نتيجة لأسباب سياسية داخلية، وأخرى متعلقة بالسلوك الروسي في العقد الأخير، لم تكن الدول المعنية، ولا سيما الولايات المتحدة، جاهزة لإيجاد تسوية، ولذلك دفعت أوكرانيا الثمن وهي الدولة التي لم يُتح لها فرصة التفاوض، ولا أُخذت مصالحها في الاعتبار.

حتى لو لم يزعج روسيا نشوء الديمقراطية في الدول المحيطة لها، فإن العملية الديمقراطية قادت دائماً إلى طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وهو الذي عدته الولايات المتحدة والدول الغربية أمراً طبيعياً في حين عدّته روسيا تهديداً لها. ولم تحاول الولايات المتحدة الفصل بين الديمقراطية والانضمام إلى حلف الناتو من أجل فتح هامش لتفهم الهموم الأمنية لدولة غير ديمقراطية، ولكنها دولة عظمى، أو تشدد كثيراً في سلوكها السياسي على أنها دولة عظمة ولم يعد النظام في روسيا معاديًا لليبرالية فقط، بل أصبح معادياً للدميقراطية ومؤيداً للسلطوية والانقلابات العسكرية على المستوى العاملي أيضاً، إذ أصبح يرى في الديمقراطية امتداداً لنفوذ الولايات المتحدة وحلف الناتو.

من منظور ما يمكن تسميته “الواقعية الأمينة”، قد تُعتبر الخطوات التي تتخذها دولة بوصفها مهمة لأمنها تهديداً لدولة أخرى لا تجمعها بالدولة الأولى علاقات ثقة. فتقوم هي أيضاً باتخاذ خطوات تعتبرها مهمة لحماية نفسها، وترى الدولة الأولى هذه الخطوات تهديداً لها. وهكذا، تنشأ عملية تصعيد أمني لا يمكن إنهاؤها في غياب ثقة ببين الأطراف إلا بالاستعداد للتفاوض والتوصل إلى تفاهم أولاً بشأن تجنب الحرب، ثم بشأن الطرق التي يمكن بواسطتها تطوير مفهوم مشترك للأمن.

في أوكرانيا توجد علاقة وثيقة بين مسألة الانضمام إلى الأحلاف وبين الديمقراطية؛ لأن القضية مرتبطة بشروخ اجتماعية داخلية كبرى. حسم هذا الموضوع انتخابياً يزعزع استقرار الديمقراطية. وتحييد أوكرانيا هو الحل لمسألة روسيا وحلف الناتو، كما أنه الجواب على أحد أهم مصادر عدم استقرار الديمقراطية في أوكرانيا. لم يتطرق المقال إلى المستقبل، الذي يصعب توقعه نتيجة لتضافر عوامل كثيرة متشابكة، ولكن لا شك في أنه إذا كانت العقوبات الغربية حازمة ومثابرة، وإذا تواصلت المقاومة في أوكرانيا، فسوف يكون لهما أثر في إضعاف نظام بوتين داخل روسيا نفسها، وأيضا في نوع التسوية التي يمكن التوصل إليها مستقبلاً.

 

مرتزقة واختراق وتضليل.. ما سر حرب روسيا الهجينة ضد أوكرانيا؟-استخدام المرتزقة والهجمات الإلكترونية والتضليل الموجه؛ لا تعتمد روسيا في أوكرانيا على استراتيجيات الحرب التقليدية فحسب، بل تشن عليها حرباً هجينة. فما أسرار هذه الاستراتيجية؟ وما غاية موسكو من ذلك؟

تشن روسيا حرباً هجينة على أوكرانيا منذ ثماني سنوات-تسود مجدداً حرب دامية على طول الجبهة في شرق أوكرانيا، وسط إطلاق قذائف الهاون والقنابل اليدوية. هذا ما أكده مراقبون من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، هناك سلسلة من الأحداث التي تسير بشكل واضح وفق سيناريو محدد.

ففي البداية نشر الانفصاليون الموالون لروسيا في ما يسمى بـ”جمهورية دونيتسك الشعبية” المعلنة من طرف واحد مقطع فيديو لرئيسهم دينيس بوشيلين، يعلن فيه التعبئة العامة. وبعد ذلك نشرت لقطات فيديو لإجلاء أشخاص -بواسطة حافلات- من المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون بدعم عسكري روسي.

وبعد يومين تم نشر مقطع فيديو آخر، يهدف إلى إظهار كيف يقوم جنود من وحدة خاصة باعتقال محرضين مزعومين تابعين للحكومة الأوكرانية، دون أن يتم إظهار وجوه المعتقلين. وفجأة ظهر مقطع فيديو آخر يهدف إلى إظهار تفجير محطة حدودية بين مناطق المتمردين المواليين لروسيا في أوكرانيا والحدود مع روسيا.

ومن بين مقاطع الفيديو هذه، فإن فيديو بوشيلين مثير للاهتمام بشكل خاص. فقد كشف تحليل البيانات الوصفية لملف الفيديو أنه تم تسجيله قبل ذلك بثلاثة أيام. في ذلك اليوم، حذرت الإدارة الأمريكية مرة أخرى من حرب وشيكة واسعة من قبل روسيا ضد أوكرانيا، مستشهدة بمعلومات استخباراتية.

وقبل ذلك، كان هناك هجوم إلكتروني ضد وزارة الدفاع الأوكرانية وأكبر مؤسستين ائتمانيتين في البلاد، وهما مصرفا “بريفات بانك” و”أوشاد بانك”. وبشكل مؤقت، لم يتمكن العملاء من استخدام بطاقات الدفع الخاصة بهم، كما تعطلت الخدمات المصرفية عبر الإنترنت. وقد تم تنفيذ مثل هذه الهجمات الإلكترونية بشكل متكرر ضد أوكرانيا في السنوات الأخيرة.

لكن قبل التصعيد الحالي، بالكاد كان العالم يلاحظ هذا. إلا أن كل هذه العمليات هي جزء من حرب روسيا الهجينة ضد أوكرانيا. إنها الحياة اليومية للناس هناك! وهي كذلك منذ ثماني سنوات! تقول مارغاريته كلاين، الباحثة في شؤون أوروبا الشرقية في “المعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن” في برلين (SWP): “في مبدأ الحرب الهجينة، تعتبر الوسائل غير العسكرية ذات أهمية خاصة”.

وتوضح كلاين: “لا يتعلق الأمر في المقام الأول بالاحتلال العسكري للأراضي، بل يتعلق بتأمين النفوذ. إن إظهار القوة العسكرية مثل نشر القوات، والمناورات العسكرية في بيلاروسيا، ولكن أيضاً الاتصالات المتطابقة زمنياً، على سبيل المثال عند الإعلان عن الانسحاب، هي جزء من صندوق أدوات أوسع. الأمر يتعلق أيضاً بتحديد الروايات (طريقة السرد)”، مشيرة إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتقن ذلك “ببراعة”.

توتر في العالم وسكينة في كييف!

من يستمع إلى الشبكات الأوكرانية ويتحدث إلى الناس هناك خلال هذه الأسابيع، قد يلاحظ ما يدهشه! فبينما تناقش السياسة العالمية العدوان الروسي على أوكرانيا بتوتر وحماس، يبدو أن الكثير من الناس على الأرض يشعرون بالسكينة بشكل مدهش!

بالتأكيد، هناك أيضاً عائلات تشعر بالقلق وتفكر الآن في مغادرة البلاد للانضمام إلى أقاربها في ألمانيا أو بولندا، كما تستعد إسرائيل لحملة إجلاء مكثفة لليهود في أوكرانيا، وافتتحت نهاية الأسبوع الماضي القنصلية في كييف خارج ساعات العمل العادية. لكن في كييف نفسها تسود السكينة. من الواضح أن الناس قد اعتادوا على الحرب الهجينة التي تشنها روسيا ضد بلادهم، وربما اكتسبوا المرونة بسبب ذلك. فالأمور على هذا النحو منذ ثماني سنوات: منذ ما يسمى بـ”ثورة الكرامة” في الميدان في العاصمة كييف.

تقول كلاين: “إنها استراتيجية استنزاف تُستخدم لمحاولة الضغط على أوكرانيا، داخلياً بشكل أساسي، وبالتالي إعادتها إلى نهج مؤيد لروسيا على المدى الطويل”، وتضيف: “أحد الأهداف هو بالتأكيد جعل الغرب يشعر بالتعب إزاء أوكرانيا”. هذه هي الطريقة التي تشرح بها الخبيرة صعود وانخفاض التصعيد.

فقد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه حصل على موافقة بوتين على عقد قمة أمريكية روسية، وذلك بعد مكالمتين هاتفيتين مع زعيم الكرملين، استغرقت كل منهما عدة ساعات. لكن بعد ذلك بوقت قصير، أعلنت موسكو أن المحادثات لم تتقدم إلى هذا الحد!.

وتوضح كلاين أن الامر يتعلق بالانطباع الذي يتم تكوينه و”خصوصا تصوير الإدارة الأمريكية على أنها مصابة بجنوب الارتياب”. ويشمل ذلك أيضاً، بحسب كلاين، الإعلان عن الانسحاب خلال زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى موسكو، والذي تبين فيما بعد أنه (الانسحاب) غير صحيح. وتتابع كلاين: “حتى الآن لم نر أدلة كافية على انسحاب كبير”، خاصة من قبل تلك الوحدات التي جاءت من بعيد، مثل سيبيريا أو الشرق الأقصى. انسحاب هذه القوات فقط سيكون في الواقع بمثابة إشارة تراجع، وفقاً لكلاين.

بوتين يريد أن يضرب اقتصاد أوكرانيا

العرض العسكري له تأثير ملموس على اقتصاد أوكرانيا. فبسبب خطر الحرب – سواء أكان ذلك حقيقياً أم لا- لحقت أضرار كبيرة بشركة الطيران الوطنية “أوكرانيا الدولية”، واضطرت الحكومة إلى دراسة إنشاء صندوق أمان لشركة الطيران بقيمة نصف مليار يورو. كما أعلنت شركة الطيران الألمانية “لوفتهانزا” أنها ستعلق رحلاتها إلى كييف.

تقول كلاين إن مسار أوكرانيا المؤيد لأوروبا يتلقى دعماً اقتصادياً من الغرب، وخاصة من الاتحاد الأوروبي. لذلك فإن أحد أهداف بوتين في الحرب الهجينة هو “ضرب الاقتصاد الأوكراني” بحسب الباحثة.

وترى كلاين أن روسيا لا يهمها في المقام الأول وجود حاجز أمني ضد دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الناتو، بل إنهاء توجه أوكرانيا نحو الغرب تماماً، وتوضح: “الحرب الهجينة تخلق حالة من عدم اليقين تهدف أيضاً إلى تخويف المستثمرين”.

التعافي السريع من تداعيات كورونا

من الناحية الاقتصادية، تحقق أوكرانيا نجاحاً مفاجئاً في توجهها نحو الغرب. في العام الماضي، تعافى حجم التجارة بين ألمانيا وأوكرانيا وحدهما من صدمة جائحة كورونا، وذلك خلال عام واحد فقط. لقد عاد الآن إلى 7.7 مليار يورو. قال رئيس غرفة التجارة الألمانية الأوكرانية، ألكسندر ماركوس، خلال مؤتمر عبر الإنترنت في شباط/فبراير: “يتنامى الانطباع بأن أوكرانيا يمكنها إدارة أمورها بمفردها”. وحول حرب بوتين الهجينة قال: “لا أعتقد أن ذلك سينجح”، وأضاف أنه يرى في البلد قبل كل شيء “شباباً يريدون تحقيق شيء ما”.

إن روح “ثورة الميدان” المؤيدة لأوروبا هي التي تجعل أوكرانيا مثيرة للاهتمام للغاية بالنسبة للمستثمرين الغربيين. فالكثير من الأوكرانيين كانوا وقتها من التلاميذ والطلاب- لكن عدداً غير قليل منهم الآن من مؤسسي الشركات الناشئة ورجال الأعمال الشباب. وكتبت إحدى المراقبات مؤخراً على تويتر أنها كانت تسمع من مراسلين متحمسين يفكرون في الحرب أنهم مندهشون من “محبي صرعات الموضى والموسيقى” في كييف!

وبالنظر إلى ذلك، يتضح سبب تصعيد الكرملين حالياً للحرب الهجينة بهذه الطريقة. وبالاختباء وراء مسألة عضوية أوكرانيا في الناتو، أظهر بوتين أنه تتم مراقبة النجاحات المؤيدة لأوروبا في أوكرانيا في الكرملين. فقد قال بوتين: “إن لم تُقبل أوكرانيا غداً، فمتى سيتم قبولها؟ يُقال عندما تكون مستعدة”، وأضاف: “عندها يكون الأوان قد فات بالنسبة إلينا”!