19 ديسمبر، 2024 5:42 ص

لماذا يهاجر الشباب رحلة معاناة وعوز وغربة واذلال وخوف خارق او موت شنيع داخل شاحنات النقل او بواخر نافقة ترميهم الى الهاوية, عوائل فقدت فرداً منها او نصفها او غاب اثرها كاملاً, هكذا يجازفون لأنهم اختنقوا في وطن افرغه معوقي العملية السياسية من الحياة, هاجروا يحملون في حقائب الذكريات حباً و وفاءً لوطن قفز على ظهره سماسرة التقسيم وكسروه.
 
يوم كنا شباب الستينات, كان في بغداد عدد من السينمات وآخر من المسارح, مواهب الرواد تنتج فناً لا زال يؤثث ذاكرتنا بالفرح, ولا زلنا نعيش ايام (تحت موس الحلاق) ( وسعيد افندي), كانت انفاس الناس تاخذ ما يكفي من البهجة والأنشراح, وهذا يغيض المظهر الكاذب لبكائية تماسيح النهي عن المنكر, مخلوقات لا تشبه خلق اللـه, بيئة للأحباط وخيبات الأمل, لم يبق فيها للأنسان سوى مغامرة الأنعتاق هجرة محفوفة بالمخاطر.
 
رسالة من الشابة احلام, مع فلم للقاء شبابي, تقول “اننا هنا شباب لا نرتكب معصية, اخوة واخوات نتبادل الفرح في الفة لا شائبة فيها, نؤثث ذاكرتنا بجميل العلاقات, نحب اهلنا ونسمع كلامهم ونقتدي بنصائحهم, كذلك نحب وطننا ولا نقبل له ان يصبح مقبرة لربيع  شبابنا او مستنقعاً راكداً لديدان التخلف, نتحدث وننظر لبعضنا بعيون شبابية, وليس بيننا من في عيونه شهوة افتراس الآخر, كما تخلع ثيابنا عيون دعاة الأمر بالمعروف .
 
احلام ترفض ان تزاحم انوثتها(وللأنوثة كرامتها) انوثة اخت لها على سرير تعدد الزوجات, او تفرش جسدها (وللجسد قدسيته) لمهبول لا يفسر الحب الا بمفردات قاموس الشهوة, انها تحترم انوثتها وجسدها مثلما تحترم روحها وليس من طبائع النساء او وظائفها ان تصبح (قنطرة) لمرور الفحل الى الرابعة في تسلسل المتعة, انها انسان تحترم ادميتها, وتفسر الحرمان والقهر سبباً في هجرة المكان الذي لا امان ولا حياة ولا فرح فيه .
 
الشاب الذي انهكته البطالة ونال من كرامته العوز, يحتمي مقهوراً بسلبيات الأزقة, نافذة اخيرة يبحت خلالها عن حلم مات قبل ان يولد, هناك وبعبثية جامحة يشكل مع غيره تجمعات الأزقة, قال لي شاب تطوع مع الحشد الشعبي, اننا حقيقة ندافع عن وطن لنا, سرقه الفساد والأرهاب, هما وجهان لعملة المأزق العراقي, ندافع عنه مسروقاً على امل استعادته للأجيال القادمة, سحقتنا البطالة وغيبنا الضياع, اننا واهلنا اصبحنا مشروع موت, فالأفضل ان نموت شهداء وطن لا نحب ولا نقدس غيره, العملية السياسية كما تعلم, تريدنا مغيبين نتحرك بريموت الفتوة والموعظة وثرثرة اعلام التصريحات, حتى بعض قياداتنا, يغني طائفياً على ليلى الجوار, اننا فقط نحاول ان يكون لنا دور وطني .
 
هاجرنا جيل الستينات من نظام العملية السياسية البعثية, كانت لوحات فنانينا وقصائد شعرائنا وبحوث ومؤلفات ادبائنا ومقالات كتابنا عشقاً لوطن يمتلك منا الضمير والوجدان وشعاب الذاكرة وغريزة الأنتماء والوفاء, يهاجر اليوم شبابنا هرباً من مظالم العملية السياسية وشذوذ رموزها, سلبوا الحياة طعمها وسلخوها عن معناها, اجتثوا مصادر الفرح والسلم الروحي, السينماء ممنوعة المسارح محرمة الأختلاط منكر حديث شاب وشابة حتى ولو في شأن دراسي يعد معصية ومن الكبائر ان يسلم عليها او ترد التحية, ثرثرة الأعلام المؤدلج افسدت ذائقتهم وتصريحات المسؤلين كريهة, الكذب فيها يضايق الأنفاس بعفن الفساد, فأصبح التفكير في الهجرة اهون الشرين.
 
جنرالات العملية السياسية يتعاطون متعة الفرح من داخل بيوتاتهم المغلقة على اسرارها ـــ الشهوة ليس مصدراً للفرح الروحي ـــ يتلذذون شراهة حول مائدة (العلف العائلي) تتدلى الكروش بعيداً عن اجسادها, ابنائهم يتسكعون في عواصم الدنيا حيث يتراكم المنقول وغير المنقول لأولياء الأمر, وجوههم مرهقة بنعاس الملل واللا معنى, تكاليف عمليات تجميل اجساد حريم (…..) الأول واللقاح الهورموني لرجال السياسة ـــ حتى لا تغير الشهوة بوصلتها ـــ تكفي لبناء مجمعات سكنية لألاف العوائل والاف المدارس والروضات.
 
لي ابن اخت هاجرت عائلته الى امريكا, رزق ولداً فسماه (ديار) ولماذا ديار؟؟؟ اجاب : في الغربة نعاني نقص ديار طفولتنا, من لا وطن له لا امن رحي له, انه اضطراب الغياب وقلق المجهول يستفز سكينتنا مهما حاولنا الهروب عن وجه الحقيقة, سميته (ديار) لأنعش ذاكرتي واعيد تأثيثها ما استطعت, انه لهيب شوق الى هناك حيث عنفوان طفولتي وتحديات مراهقي وربيعي الأول, وحتى هفواتي وعفوية اخطائي لها طعمها البغدادي, انه الحنين الى الذات التي تركتها هناك, اين مجمع اللصوص من نبل تلك العواطف والتطرف العشقي الى وطن (ديار) كانت الهجرة عنه آخر واصعب الخيارات.
 
الغرب ايها المتهمين استقبلنا هاربين, لتكن ما تكن اسبابه في استقبال المهاجرين من جحيمكم عديمي الأصل والفصل والأنتساب وخفايا الخيانات التي تتنفس برئة عمليتكم  السياسية, شبابنا يحمل كفاءاته في اكياس الخيبة ويهاجر, شخصياً لا اشجع الهجرة, لكني اعلم, ان في يدي ماء وفي يدهم جمـرة .

أحدث المقالات

أحدث المقالات