23 ديسمبر، 2024 2:38 م

ازهار محنية الرؤوس – قراءة في المجموعة القصصية ” امراة وكائنات اخرى ” للقاص والناقد ” عبد الهادي والــي “

ازهار محنية الرؤوس – قراءة في المجموعة القصصية ” امراة وكائنات اخرى ” للقاص والناقد ” عبد الهادي والــي “

الوقت شحيح بطبعه ، هارب بفرصه كالسراب ، فبين لحظة حنين مخضلة بالدموع ، واسى خالص  ، وفرح منغص يمر كغيمات مبعثرة مزقتها رياح مولعة  واتراح كباقات ذابلة من ازاهير محنية الرؤوس ، تتمخض الومضات ، ويتنفس الابداع ، وتشهق الافكار ، لتسجل الق مبدع ، يتنفس رؤى صادقة ، جامحة كالخيول الهاربة نحو الضباب والافق البعيد ، لتسجل سراب امال تتراءى لمخيلة القاص ” عبد الهادي والي ، فبين ، عواء الكلاب المصحوب بالتماعات نارية  تخترق تلك الاجساد العارية ، ومناظر غدر وخيانة ، ودماء وسوق نحو الموت الى اصوات هادرة لنهر وحيد محاصر يلوذ بحشاشته مرتجفا معزولا في الصمت المطبق ، والم ومرارة من قوادم السنين التي اجهضت احلامه ، ممزوجة بانين بغض ، وبعثرة صدق ، مدججة بخوف وبطش الايام ، كان لابد ان يخط ملاذه بهروب من تلك الوجوه الممسوخة ، ذات الانياب والحدقات الملتهبة بالحمرة كانها عيون الذئاب .
   تمخضت رؤاه الحزينة ” امرة وكائنات اخرى “المتضمنة ( تسعة عشر قصة قصيرة / على صفحات بلغت ” 134 / صفحة من الحجم المتوسط / عن دار الضياء / النجف الاشرف ) جاءت مجموعته كرد وتوثيق لما راه ، فنثرها جميلة و سلسلة ، فخطها وفق مقاسات استلبها من واقع كانت ولادته بين احضانه  حروفها تنامت حوله ، لكن اشدها الما وحفرا بمخيلته ، امراة تحلق بسمائه “باجنحة غير منظورة ”  صورا جميلة ينسجها كنسيج عنكبوت اثقلت ظهره الايام  لكن قساوة الايام اينعت ثمار بوتقته فاظهرها بداعة تشد متلقيها ، بل يهيم باحداثها ويتناسى وجوده معها ، وكانه يضعك وسط احداثه ويسجل تاريخ جيل باكمله ، بعد  تناغم  شخوصه البريئة التي تتحرك روحا وجسدا ، من شدة رصفه للاحداث بحرفية عالية وتبدا احداث نسجه الرائع مع تلك المراة ” الام ” المحتدمة برغبة عارمة ـ ديدن كل الامهات ــ للوصول الى مبتغاها الاوحد ، ” باب مرضاة الله تعالى “( … انني قادمة لك ، وكل ذنوبي وطمعي بمرضاتك /ص14)  حيث رائحة العبق تنفذ من اعماق روحها التي ترنو الى تفتيت جمر لهفتها ، لزيارة اضرحة اولياء الله ، كد ونكد وقساوة سنين عجاف تحيلها لبعض دنانير ، تحقق بها مبتغاها .
  وكأن القاص ، يجهز حلولا ناجعة بل جاهزة لمتلقيه مسبقا ، لكل معاناتهم ، الا وهي اللجوء لباب الله تعالى ، دلالات وايحاءات للدعاء يسوقها ” القاص ” حيث يستنطق شخصيته ( مسحت بيديها على وجهها وهي متحركة مع الجموع الزاحفة نحو …مبتغاها / جئتك ذليلة .. مكسورة .. محتاجة ص 14 / اجنحة غير منظورة ) ثلاثة الفاظ .. وظفها لاضفاء هالة الولاء على شخصيات قصته ، وهكذا يبث شكواه وحزنه دموعا تهطلها عيون السماء ، ( لسنا سوى خيالات واطياف ترتعد في مواجهة المجهول .. للسماء عيونا تدمع احيانا / ص40 / ورغم صراخه المستمر وفق فضاءات متناهية سائبة وسط رغبات مبثوثة في ثنايا قصصه الا ان حزنه يطفو بين الفينة والاخرى، صورا تترى واهات شفيفة ترتسم على وجوه شخوصه التي تفرزها حناجرهم بصرخات قد يتقطرها الم وتيه في غياهب النسيان، بفضل توظيف الفعل ” انتظر ”  ( انتظر ، انتظرني .. صعدت في طريق منحدر هشا … ص48 / صدحات طائر حزين ).
  اذن هي رحلة البحث المضنية عن الذات الباحثة عن الاستقرار وسط صخب الاحداث ويستشعر ان رحلته ماضية نحو المجهول ( بقيت كالمصعوق اتطلع الى موكبه وهو يختفي رويدا رويدا ، ليذوب وسط الافق المفتوح ، ولاتلاشى انا كذلك في ذلك الصمت المطبق، كذرات صغيرة وسط من رمل .. ص 50 )وبين جرح … وشجرة وعصافير … وابخرة وسحر لامراة …تتصاعد اصوات اشبه بالعويل … يهرب بعيدا من واقعه ليهيم في ماضيه الجميل ومرابع ذكريات التقمتها السنين ليستحضر ” صالحا ” ويستنطقه .. ان اجلس من رقدتك الابدية ..( كان منطمرا تحت احمال ثقيلة من تراب … ص76 .
  وتبدا حوارية الالم ينثرها فوق بقايا ” صالح ”  منتظرا الرد ( كانت عيناه تبصراني بذهول فقد اعتراني وهن وضعف …) ولم يجد عزائه عند ” صالح ” لتزداد صراخاته وعويله ! وتعلوه همسات غريبة مريبة .. مثل ( نبتة شامخة اضر بها العطش وطول المدى / ص 84 / همسات مريبة / اذن هي مرثية للنفس وزفرة حزن اخيرة ..اشبه ” باليوتوبيات والعودة الى احلامه الضائعة وريع الشباب ومرابع طفولته …ليستحضر ” احلام ” وتلك الكلمات التي ترطب جفاء السنين ( رجل من عود … خير من قعود / ص 86 ) وبين لحظة صدق .. وامنية حبيسة الصدر تلتهمها الاعراف الاجتماعية والفوارق الجائرة … تذهب الاماني ادراج السنين ، ( بعد ان اخرسته المفاجاة / انها لحظة الضياع .. لحظة التخلي عن الوفاء .. ليلوذ بتراتيل حزن ليلية تتراءى له من بعيد .. تراكمات من ماض ، يعشش فيها الظلام .. ويعود الى ملاذه الامن ” الام ” التي لاتبخل ان تغمره بدعاء وطهور ونظرة حب ( استمد منها لقطات غائرة بعيدة اتشبث بها كالغريق اقتات منها لاسد بها سغبا روحيا ، قاتلا / ص 91 /  . تعد المجموعة القصصية ارشفة ناجحة لمعطيات اكثر من جيل التقمته الظروف ” اتون الحرب .. والبطش .. وقساوة نظام جائر ) باسلوب رشيق قريب لنفس المتلقي ، وما اعتمده القاص بقدر نجاحاته الا انه اسلوب مكرر عند اغلب ادبائنا .. لكنه تمايز بالممازجة والتلاعب بترانيم الادعية المستوحاة من الواقع العراقي ، مما تضفي هالة صدق على احداثه وشخوصه .
  ان القاص والناقد الاستاذ عبد الهادي والي ، له باع طويل في مجال القصة والنقد  وله انطباعات وبصمات واضحة في المشهد الثقافي ، حيث ( البحث عن الشيطان  وطيور خارج القفص ، الى خطوط ظلال حادة … كلها قصص ، فيما اتبعها بمتابعاته النقدية ) وتبقى مجموعته ” امراة وكائنات اخرى ” اضافة جديدة للمكتبة الادبية ، وهي جديرة بالقراءة لما تضمنته من سبك ادبي راق باسلوب رشيق .