اجمع معظم علماء الاجتماع على ان الانسان كائن ثقافي متدين بالطبع ،بسبب مقدرته على النطق والتفكير وتطوير افكاره الثقافية والروحية
فيما اوضح علماء الانثروبولوجيا الى ان الانسان ميّل بغريزته الى ان يكون صاحب ديانة او معتقد روحي وهذا ما يؤكده الفيلسوف الروماني (شيشرون) إنه : “ليس من أمة مهما توغلت في التوحش، إلا ولها إله تعبده حتى ولو جهلت من تعبده, إذ قد توجد مدن لا بيوت فيها ولا حصون لها، ولكن ليس هناك من مدينة بدون بيوت للعبادة ”
لا تزال تؤرق إشكالية الدين في المجتمع الحديث كل المجتمعات اليوم، بما فيها تلك التي اعتقدت أنها أنجزت الحداثة والعلمنة على صعيدها الداخلي
ان العلمانية تدرك جيدا ان الفكر الاسلامي الاصيل ينتمي الى حضارة (المقدس والايمان المطلق
فنجد ان الصراع قد احتدم طوال القرنين بين العلمانية التي تنتمي الى حضارة المدنس والنسبية والمادية من جانب والثقافة الاسلامية المتشبثة بمقدساتها ومرتكزاتها من جانب آخر
وبما ان العلمانية متشبعة بالفكر الغربي الى حد الثمالة وتعمل على مسك زمام المبادرة في النهضة على غرار النهضات الغربية الا انها وقعت في مأزق التصادم الفكري والثقافي من جهة والانتماء الوطني القومي من جهة فجاءت معظم قراءاتها الى المنهج الاسلامي قراءة خارطة وملفقة ومزورة او قراءة سوقية الالفاظ دون ضوابط اخلاقية او انسانية في كثير من الاحيان
وانها تخترق المجتمع كونها منظومة مستوردة وغير متأصلة او متجذرة في التربة الاجتماعية لذا فإنها لم تؤثر في الجماهير فهي منحصرة في طبقة معينة (النخب التي تدّعي الثقافة المخصصة) وهذه بحد ذاتها ليست نقطة ايجابية لدعاتها
لأننا نجد التناقض الواضح فيما بينهم وكذلك بين النخبوي وسلوكه واختلاف مراجعهم الفكرية والتيارات المدنية ما بين اليسار واليمين
ليست العولمة مجرد تهديد بالسيطرة على الدولة وقرارها وسياستها والتحكم بالاقتصاد من خلال التنافس على الأسواق إن لها أهدافاً ونتائج موصولة بذلك ومبينة عليه تصل إلى أبعد من ذلك بكثير، وهي تطال ثقافات الشعوب وهويّاتها القومية والوطنية وتهدد مصالحها وخصوصياتها في الصميم وترمي إلى تعميم أنموذج السلوك وأنماط العيش وفرض منظومات من القيم وطرائق التفكير والتدبّر والتدبير وتكوين رؤى وأهداف تعمل في خدمتها ومن ثمة فهي تحمل ثقافة تغزو بها ثقافات ومجتمعات أخرى وتؤدي إلى تخريب معتقدات وقيم وإحلال قيم أخرى محلها فضلاً عن كونها لا ترتبط بخصوصيات الأمم وثقافاتها
البير كامي من ابرز الذين نظروا لموضوع التمرد وتزييف القيمة الحقيقية للانسان
حيث كرّس لهذا الموضوع كتابا كبيرا بإسم “الانســان المتمرد” انكر التاريخ بحجة الرجوع للطبيعة وتزييف التقدم بإسم القضاء على الاستعباد “الوهمي” والدفاع عن التحرر
ما يهمنا من خلال تنظيره لهذا الموضوع انه يرى في عصرنا هذا لم يَعُد التمرد في رأيه تمرُّدَ العبد على سيده ولا تمرُّدَ الفقير على الغني، وإنما أصبح تمردًا ميتافيزيقيًّا، يعني تمرد الإنسان على وضعه وموقفه الإنساني ذاته فالتمرد الميتافيزيقي هو احتجاج على أوضاع الإنسان وعلاقته بالسماء وبمقدساته وهو تأكيد لفردانية الإنسان وإنكار للأخلاقية، وهو سعي إلى تأكيد الذات إزاء عوامل اليأس اننا نواجه جيل هجين يعتنق العلمانية (الهمجية) بردة فعل ولعوامل كثيرة
هذا الجيل لا يقف عند قيم اجتماعية ولا ضوابط دينية
بل يرى ان خلاصه بالتحرر المبتذل وعدم الاعتراض عليه بكل ما يفعله من لا اخلاقيات وسط المجتمع بتصور عبثي ساذج وطفولي ومبني على أوهام مراهقة
فالحريّة الحقيقيّة هي الحرية المقيّدة بقيود إنسانيّة وأخلاقيّةٍ رفيعة فلا ينبغي لبريقها الأخّاذ وتوق المحرومين إليها أن يحملنا ، على المطالبة بنزع تلك القيود عنها
فالحريّة قيمةٌ إنسانيّة وأخلاقيّة سامية متى أضرّت بحياة الإنسان وبحقوقه الإنسانيّة ، انقلبت إلى ضدّها ، فلا تعود حريّة بل شيءٌ آخر منتج للعبوديّة ، للديكتاتوريّة للفساد للإرهاب للعبث للفوضى