9 أبريل، 2024 11:07 ص
Search
Close this search box.

ازمة الذات الروسية

Facebook
Twitter
LinkedIn

دراسة في ضوء كتابات دوستويفسكي
وكُتاب اخرين

يتناول هذا البحث الازمة التي عاشتها الذات الروسية وهي تتوهم دور عظيم لروسيا من خلال انتاج فكر بمثابة الحل لكل مشاكل البشرية. اكسير الحياة الروسي الذي سيسقونه لكل البشر، لكن هذا الفكر لم يكن سوى اوهام وتخيلات، ادبيات ملأوا بها الكتب. وهي نقطة قوتهم الموهومة فكانوا اسياد التنظير فمالت الانسانية إليهم لأنها انخدعت بسحر شموليتها. لكن النظرية وادعاء الحل شيء والتطبيق شيء اخر.
ما يهمنا هو ان الروح الروسية تخيلت الدور الخطأ فابتدعت سراباً بينما ادارت وجهها لعظمتها الروسية الحقيقية فاحتقرت ذاتها وابداعها في حقول الفن والجمال والثقافة.
اسباب هذه الازمة موضحة بالبحث من خلال كتابات الكتاب الروس وشهاداتهم الحية وانطباعاتهم. عموماً يمكن تلخيص هذه الاسباب بغياب دور الكنيسة، والظلم الاجتماعي الفادح ، والتجارب الفردية القاسية والمريرة التي تطحن الافراد الروس بين فكي رحا, بينما المجتمع والافراد الاخرين غائبين كأنهم غير موجودين او متفرجين يخافون الاقتراب.
وهنا التفصيل…
المراهق لدوستويفسكي:
النسخة المعتمدة في الدراسة \ دار الالف كتاب للنشر والتوزيع\ الطبعة الاولى 2016

ملاحظة:- الاقتباسات من اقول الكاتب تكون تحتها خط وبين فوارز عليا , وتعقب بذكر اسم المصدر مع رقم الصفحة.
” تعرف بالمثقف الروسي ميخائيل بيترا شيفسكي الذي تجمع حوله اولئك الذين اسرتهم افكار الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه الاشتراكية ودعواته الى تغيير المجتمع .وتمكنت الشرطة من تتبع الجماعة حتى القت القبض على اعضائها في ربيع عام 1849 . وحكم على دوستويفسكي بالإعدام.” [[الجزء الاول / ص 6 – المقدمة التي تتحدث عن سيرة حياة الكاتب نفسه]]
اذن انتمائه للجماعة كان اواخر الاربعينات وحكم عليه بالإعدام سنة 1849. لكنه نشر روايته المراهق سنة 1875. وجاء فيها ما يناقض انتمائه لهذه الجماعة وافكارها الاشتراكية التي اوصلته لدرجة ان يحكم عليه بالإعدام لأجلها. وهذا يظهر مدى خطورتها على النظام وثانياً مدى ايمانه هو بها.
كما انه يظهر ان هناك تغير في فكر الكاتب وهو امر غير مستغرب من عبقري كدوستويفسكي الذي لا يتورع من ان يغير افكاره او يطورها ويحسنها فهو معتد بنفسه وواثق منها ومن افكاره فلا يخجل من مراجعتها وتطويرها والاعتراف بخطأها. وهو واقع حال المفكرين الكبار وهو ما نلمسه ايضاً لذى عظمائنا كالجواهري والعلوي وندمهما على مساندتهما للثورة –الانقلاب- على الحكم الملكي.
دوستويفسكي يتطور والجواهري والعلوي يندمان. يسيطر على العباقرة شغف وسعادة اكتشاف طريق الحقيقة فيصبحون فرحين ولا يخجلون انهم كانوا قد ساروا طريقاً سواه في السابق ففرحة الادراك وتجلي الحقيقة هو ما يبحثون عنه وليس الجمود الفكري والتعصب الاعمى.
” يا عزيزي .( بالفرنسية في الاصل ) ” [[ الجزء الاول \ ص 52 ]]
” يا بني(بالفرنسية في الاصل) ” [[ نفس المصدر \ص 53 ]]
” مسكين انت يا بني .(بالفرنسية في الاصل) ” [[ نفس المصدر \ ص 54 ]]
” اما ذلك الفتى لامبير (بالفرنسية في الاصل).” ” اه يا عزيزي(بالفرنسية في الاصل).” ” عجيب (بالفرنسية في الاصل).” ” اوه يا بني (بالفرنسية في الاصل).” [[ نفس المصدر \ ص 55 ]]
” ولكنني اعرف انا النساء (بالفرنسية في الاصل).” [[ نفس المصدر \ ص 56 ]]
” هن في غاية الظرف واللطف(بالفرنسية في الاصل).” ” يا عزيزي (بالفرنسية في الاصل)” ” ولكنني لا اعرف اي شيء نافع (بالفرنسية في الاصل).” [[ نفس المصدر \ ص 58 ]]
” يا بني العزيز (بالفرنسية في الاصل).” [[ نفس المصدر \ ص 59]]

” يالها من فكرة( بالفرنسية في الاصل)” [[ نفس المصدر \ ص 60]]
“معجزات …واليك شيئا ً اخر (بالفرنسية في الاصل)” ” اضف الى ذلك ان هذا كله من باب المجهول(بالفرنسية في الاصل)”. [[ نفس المصدر \ ص 61]]
” يا عزيزي(بالفرنسية في الاصل) ” ” هذه القصة البشعة (بالفرنسية في الاصل) ” [[ نفس المصدر\ ص 62]]
” جميع فنون القصص(بالفرنسية)” [[ نفس المصدر\ ص 167]]
” ستنام كملك صغير(بالفرنسية في الاصل)” [[ نفس المصدر \ ص 251]]

” يا بني العزيز بالفرنسية ” [[ المراهق الجزء الثاني \ ص 63 ]]

” وصحيح انه كان حسن الهندام وانه كان يتكلم بلهجة باريسية ويسمى باسم فرنسي ولكن كيف لم تدرك آنا اندرييفنا على الفور انه وبش.” [[ نفس المصدر \ ص 177 ]]
التكلم بلهجة باريسية والتسمية بأسم فرنسي يعتبر مدعاة لرفعة الشأن ويعطي صاحبه علوة ومكانة وشرف. وهذا يبين عمق الازمة الروسية وارتدادها على ذاتها ومشكلتها النفسية الوجودية. والتأرجح بين التبعية لاوربا وبين التمرد على ذلك بالانقلاب على كل ما هو روسي جميل.
” وصرخ يقول للطويل ( بالفرنسية ): قل لي, اتراك تريد ان اهشم لك رأسك؟ [[ نفس المصدر / ص 212 ]]
” فقد تغيرت المسألة ( بالفرنسية ) ” [[ نفس المصدر / ص 235 ]]
” مساء الخير( بالفرنسية) ” [[ نفس المصدر / ص 297 \303 ]]
” فهتفت الفونسين بالفرنسية:- غريب …والاصدقاء؟. ” [[ نفس المصدر/ ص 304 ]]
الفونسين هي خادمة لامبير واعتقد انها فرنسية الاصل لكن مع ذلك ارى ان اصرارها على التكلم بالفرنسية لغتها الام وسط المجتمع الروسي انما يعكس بوضوح ادراكها لعدم حاجتها لتعلم الروسية حيث لمست-الفونسين- ان المجتمع الروسي الراقي يعتبر التحدث بالفرنسية من لوازمه.
” قلت لها ذلك كله بالفرنسية ” [[ نفس المصدر/ ص 338]]
” قلت انه صاحب قلب نبيل (بالفرنسية) ” ” اليس كذلك ؟ اليس كذلك ؟ (بالفرنسية)” ” انه يفتن دائما ً بالعواطف (بالفرنسية ) ” ” فيما بعد, فيما بعد اليس كذلك يا صديقتي العزيزة؟ (بالفرنسية)”
” بني العزيز( بالفرنسية)” ” نعم , نعم , رجل طيب ( بالفرنسية)”
” ولكن فيما بعد (بالفرنسية) ” ” ولكن هذا الذي تقوله رهيب! ( بالفرنسية) ”
[[ نفس المصدر/ ص 342 – 343]]
يتضح ان هناك جمل كاملة تقال بالفرنسية وليس فقط التعابير العامة مثل صباح الخير – مساء الخير
وما دام هناك افراد استمرأوا واعترفوا بتبعية الروس لفرنسا وتخلف ذاتهم عن الذوات الاوربية وتخلف الحضارة الروسية عن الحضارة الأوربية -وهنا الفرنسية- فلا بد إن هناك افراد بالمقابل سيرتأون الرفض والتمرد بل والثورة على ذلك.
اي سيرون – كرد فعل- تفوق الذات الروسية وسيؤمنون به ولذا تم ابتداع الفكر الشيوعي بتوقيعه وبصمته الروسية كدليل على ابداع وتفوق الذات الروسية حتى يثبت هؤلاء لأنفسهم قبل غيرهم ان ايمانهم بذاتهم الروسية ليس من فراغ بل يستند على اسس قوية وادلة دامغة.
” تخيلي هذا يا ابنتي (بالفرنسية)” ” اليس كذلك ؟ انا لا اكثر من الكلام ولكنني احسن القول (بالفرنسية)” [[نفس المصدر/ ص 344]]
شعور الناطقين باللغة الروسية بالدونية مقارنة بالناطقين بالفرنسية والاعتراف بعلو قدمها وتفوقها, سيعني بالضرورة الشخصية القومية لان اللغة جزء منها. فاللغة العربية هي الشخصية العربية وتعاملنا معها يمثل تعاملنا مع الشخصية العربية وسمات اللغة هي سمات هذه الشخصية. كذلك اللغة الروسية تمثل الشخصية الروسية وبما ان اللغة الروسية تشعر بتفوق اللغة الفرنسية عليها اذن كذلك الشخصية الروسية تعترف بإعماقها وتتألم من الاعتراف ان الشخصية الفرنسية تتفوق عليها. والسبب لان باريس اجمل وانظف وهي معقل اللياقة وآداب الطعام والتعامل والآداب العامة والموضة والازياء. فهم الموجدون لكل شيء باعتبار فرنسا عنوانا ً مهما ً من عناوين اوربا الغربية. اذن العملية شعور عميق بضعف الوجود والتأثير.
هذا يوضح نظرة الانحطاط التي يرون بها انفسهم مقارنة بأوربا وبالتالي ذات النظرة تجاه لغتهم. هذا من جانب ومن جانب اخر وكتعويض اعجابهم برشاقة لغة اخرى.

” سألت ايفيم اثناء الطريق اما يزال عازما ً على الهروب الى امريكا. فأجاب يقول ضاحكا ً ضحكة يسيرة: قد اتريث.” [[ الجزء الاول \ ص 78]]
الروس يشعرون لا بالتفوق الاوربي عليهم وحسب بل والامريكي ايضا ً, بلد المهجر الجديد. واذا اعتبرنا امريكا امتداد لاوربا التي يشعر الروس تجاهها بالتراجع فلن نستغربن الامر.
“الموضوع هو ان السيد كرافت – السيد كرافت مثلا ً – وهو معروف لدينا جميعا ً بصلابة طبعه وقوة اقتناعاته. قد انتهى من النظر في امر عادي جدا ً الى استخلاص نتيجة خارقة اذهلتنا جميعا ً. لقد انتهى الى ا ن الشعب الروسي شعب من الدرجة الثانية.”[[ نفس المصدر\ ص 81]]
” درجاتشيف واجتماعاته المنزلية بحضور المجموعة والتي هي سبعة رجال وثلاثة نساء من ابرزهم كرافت وفاسين”[[ نفس المصدر\ ص 79]] . فكرافت كان من بين ابرز الحضور وهو من يمثل وجهة النظر الشائعة لدى الروس في انهم اقل من الشعوب الاوربية . لكنه يمثل التطرف بهذا الايمان والصدمة العارمة واليأٍس بانه روسي ويمثل الارتداد الشديد على الذات. هو الايمان الانهزامي والانسحابي والذي سيدفع به في نهاية المطاف الى الانتحار.
وهو ذاته ايمان درجاتشيف ورفاقه المجتمعون لكن درجاتشيف وفاسين والاخرين قاموا بالرد من خلال الايمان بأفكار ما هي الا كوابيس رأوا بها الخلاص. وهم الخلاص الناتج فقط من عمق الازمة التي يعاني منها الشعب الروسي ومثقفيه وطليعييه .

اما اركادي دولجوروكي ( البطل للقصة الذي يتحدث من خلاله الكاتب) فيمثل الايمان الايجابي بما يجب الايمان به والتركيز عليه.
” – بل من الدرجة الثالثة! .. من الدرجة الثانية , شعب خلق اداة لعرق اسمى وانبل, فليس له اي دور مستقل في مصائر الانسانية. وعلى اساس هذه النتيجة- التي ربما كانت صادقة- وصل السيد كرافت الى ان نشاط اي روسي, ايا ً كان, لا بد ان يعطله الشعور بهذا التقصير عن غيره,” [[ نفس المصدر\ ص 82]]
كرافت امضى سنين من عمره لأثبات هذه الحقائق!!- من خلال دراسات حديثة واستخرج من علم الفيزيولوجيا استنتاجات يعدها رياضية ولعله وقف سنتين من وقته على فكرته.
قال تيخوميروف متابعا ً كلامه:” اخرجوا اخرجوا من فكرتكم الضيقة. اذا لم تكن روسيا الا اداة لعروق اسمى وانبل, فلماذا لا تقبل روسيا هذا الدور! انه دور لامع على كل حال. لماذا لا نعتمد على هذه الفكرة من اجل ان نوسع نظراتنا بعد ذلك. ان الانسانية على ابواب انبعاثها, وقد بدأ هذا الانبعاث فعلا ً. لا بد ان يكون المرء اعمى حتى لا يرى المهمات التي سيكون علينا ان ننهض بها. دعوا روسيا وشأنها أذا كنتم قد اصبحتم لا تؤمنون بها, واعملوا من اجل المستقبل, مستقبل شعب لما يزل مجهولا ً, ولكنه سيتألف من الانسانية كلها, دون تفريق بين عروق. ستموت روسيا في يوم من الايام على كل حال. ان الشعوب, مهما تكن موهوبة, تعيش الفا ً وخمسمائة سنة, تعيش الفي سنة في اقصى تقدير. وما من فرق تقريبا ً بين الفي سنة ومائتي سنة؟ ان الرومانيين لم يبقوا الفا ً وخمسمائة سنة على حالة الحياة, وانما تحولوا هم ايضا ً الى اداة. انقضى زمان طويل لم يعودوا فيه شيئا ً مذكورا ً. لكنهم اورثوا الانسانية فكرة, وكانت هذه الفكرة عنصر تقدم للانسانية, كيف يمكن ان نقول لأنسان انه لم يبق هنالك شيء يعمل؟ اعملوا من اجل الانسانية, وانسوا كل ما عدا ذلك! ثمة اعمال لا يكفيها العمر اذا انتم انعمتم النظر!”
[[ نفس المصدر \ ص 83]]
ان تيخوميروف يطرح افكارا ً هي ذاتها افكار بطل القصة اركادي. وبذا يكون الشخصية الثانية التي تمثل لسان حال الكاتب. اضافة الى شخصية ثالثة سيرد ذكرها لاحقا ً
” ان الوضع في مجتمعنا خال من اي وضوح. أنكم تجحدون وجود الله, وتجحدون القداسة, فما عسى ان تكون القاعدة الصماء العمياء البهيمة التي يمكن ان تجبرني على ان اسلك سلوكا ً ما اذا كان من الانفع لي ان اسلك سلوكا ً اخر؟.” [[ نفس المصدر \ ص 91]]
هذا الكلام يقال من على لسان بطل القصة اركادي ومنه ينتقد الكاتب من خلاله رفضهم فكرة الايمان والقداسة.
” كيف يمكن ان اهتم بما سيجري في انسانيتكم بعد الف عام, اذا كان قانونكم لا يهب لي جزاء ذلك لا حبا ً ولا حياة اخرة ولا شهادة بأني امرؤ فاضل”[[ نفس المصدر\ ص 91]]
” ماذا تملكون ان تقدموا لي اذا انا اتبعتكم؟ كيف تبرهنون لي على ان الامور ستكون افضل في ظل نظامكم؟ ماذا انتم فاعلون باحتجاجي في ثكنتكم على المساكن المشتركة, وعلى الاكتفاء بالضروري الذي لا بد منه ,(بالفرنسية في الاصل) والالحاد, والنساء المشاع بغير اولاد. ذلك هو اتفاقكم النهائي انا اعرفه. وفي سبيل هذا الجزء اليسير الزهيد من المصلحة المتوسطة التي سيكفلها تنظيمكم العقلي, في سبيل قطعة خبز وقليل من دفء, وشيء من ملبس تريدون ان تأخذوا كل شخص في مقابل ذلك.
انتظروا قليلا ً! لنفترض ان احدا ً انتزع مني امراتي. فهل تقيدونني تقييدا ً كافيا ً يمنعني من قتل غريمي؟ رب قائل منكم يقول لي: ولكنك ستصبح انت نفسك اعقل من ذلك يومئذ. ولكن امرأتي, ما عساها تقول عن بعل متعقل كل هذا التعقل, اذا كانت تحترم نفسها اقل احترام؟ اعترفوا ان هذا مخالف للطبيعة.”
[[ نفس المصدر \ ص 92]]
” يقول اركادي على لسان لامبير ” لي رفيق اسمه لامبير, كان يقول لي, ولما نتجاوز السادسة عشر من العمر, انه حين سيصير غنيا ً ستكون اعظم لذة يتمتع بها هي ان يغذي كلابا ً بخبز ولحم بينما يموت اولاد الفقراء جوعا ً, وانه اذا رأى هؤلاء الاطفال يرتعدون من شدة البرد ولا يملكون ما يستدفئون به, فسيشتري اكواما ً كبيرة من الحطب فيمضي بها الى العراء يحرقها هناك ليدفئ بها الهواء دون ان يعطيهم منها عودا ً واحدا ً.
انظروا الى عواطف هذا الفتى ثم قولوا بماذا عساي اجيب هذا الوبش المحض اذا هو سألني:” لماذا يجب علي ّقطعاً ان اتمسك بالفضيلة.”
” ولا سيما في هذا العصر الذي جعلتموه على هذه الصورة! ان الامور لم تكن في يوم من الايام اسوأ منها الان ايها السادة! ان الوضع في مجتمعنا خال من اي وضوح” [[ نفس المصدر \ ص 91]]
هنا يتحدث الكاتب على لسان اركادي مجددا ً ناقلا ً عن لامبير. وهنا يقصد الكاتب النقد لإلغاء الفوارق الفردية بين الطبقات. الطبقية التي وجودها وضمن حد ٍ مقبول هو امر ضروري, او ان لم يكن كذلك فهو على الاقل لا مفر منه البتة.
ولعل الكاتب اراد ان يظهر المقارنة بين غلاة المساواة بكل شيء وبين غلاة اصحاب اللا- مساواة من المتعصبين لفوارقهم التي حبتهم اياها الحياة والفخورين بها على سواهم والذين لا يتوانون عن الاستماع بممارستها حتى وان بهذا الشكل المبالغ فيه والمريض الذي عبر عنه لامبير. ولربما الامر لا يعدو مسألة تصوير مبالغ فيها على طريقة الدراما التلفزيونية التي تضخم الحالة المنتقدة لتسلط عليها ضوءا ً اكبر. ولا استبعد ذلك من عبقري الدراما دوستويفسكي.
كما ان الكاتب يقول من خلال البطل(اركادي) صديق لامبير انه بماذا سيجيب من يؤمن بهذه الفوارق اذا ما سأله ما هو دافعك لعمل العكس اي المعروف. الجواب بحسب الكاتب هو الايمان والحياة الاخرة التي رفضتموها ايها الشيوعيون. فالإنسانية فقط سبب غير كاف بالنسبة للكاتب.
ولو انه من وجهة نظري هناك سببان لعمل الخير اولهما للحياة الاخرة والثاني لأسباب انسانية لكن يبدو ان الكاتب يرفض السبب الانساني لعله رد فعل بسبب تبنيه وان شكلا ً لا حقيقيا ً من قبل الشيوعيين غرمائه الفكريين.
” لقد ترك دفترا ً ضخما ً ضَمّنه نتائج علمية تذهب الى الروس جنس من الطبقة الثانية, واقام نتائجه على علم الهيئة ودراسة الجمجمة, بل على الرياضيات ايضا ً, واستخلص من ذلك ان المرء اذا كان روسيا ً فلا داعي الى ان يحيا.” [[ المراهق الجزء الاول \ ص 243 ]]
الكلام هنا عن كرافت وافكاره – وكرافت كما سبق هو احد المجتمعين في بيت درجاتشيف لمناقشة المستقبل السياسي لروسيا وخصائص الفرد الروسي- .. كرافت ذلك التجسيم للعقدة الروسية في الدونية من باقي الذوات الاوربية البريطانية والفرنسية والالمانية والبولونية حتى. هذه الفكرة السائدة والمحرك الحقيقي لأفكارهم الرفيعة اعني بها الابداع السياسي الفكري الموهوم.
كرافت هو التجسيد ايضاً لعقدة النقص الروسية. تلك التي لم توجد يوماً سوى سراب بعقولهم كبّروه حتى اصبح جدران تعيق مجال رؤياهم. لكن بحقيقة الامر ان تلك العقدة كانت اختلافا ً روسيا ًجميلا ً لا تخلفا ً.
” ان كلمة الشرف تعني الواجب. فحين تسيطر في دولة من الدول طبقة ذات امتيازات, فأن البلاد تكون قوية عزيزة الجانب. ولهذه الطبقة دائما ً شرفها ولها دائما ً ديانة شرف تعتنقها.
وقد تكون هذه الديانة خطأ ولكنها رباط يحقق تلاحم الامة, فهي نافعة في الاخلاق, وهي نافعة في السياسة خاصة. ولكن العبيد يتألمون واعني بالعبيد جميع اولئك الذين لا ينتمون الى تلك الطبقة, فمن اجل ان لا يتألموا توهب لهم المساواة في الحقوق. فهذا ما حدث عندنا, وهو امر حسن جدا ً. غير ان جميع التجارب التي تمت حتى الأن, وفي كل مكان ( اي في اوربا ) تدل على المساواة في الحقوق تؤدي الى انخفاض في مستوى الشرف, وفي مستوى الواجب تبعا ً لذلك. فالأنانية حلت محل الفكرة القديمة التي كانت تشد البلاد برباط قوي, وصار كل شيء الى حرية للأفراد, فلما تحرر البشر وخلوا من فكرة تشد بعضهم الى بعض, بلغوا من فقدان كل رابطة عليا انهم اصبحوا لا يدافعون عن حريتهم. ولكن النبالة الروسية لم تشبه نبالة الغرب في يوم من الايام. وحتى في ايامنا هذه, بعد ان فقدت حقوقها, تظل نبالتها قادرة على ان تبقي نظاما ً اعلى يحافظ على الشرف والانوار والعلم والمعاني السامية والافكار الرفيعة, ولا سيما اذا هي كفت عن ان تكون طبقة مغلقة, والا كان في انغلاقها موت الفكرة. وقد ظلت ابواب النبالة في بلادنا مشقوقة منذ مدة طويلة, والان حان الوقت الذي يجب ان تفتح فيه هذه الابواب على مصاريعها. فأذا كل مأثرة من مآثر الشرف او العلم او الشجاعة تهب لصاحبها حق الانتماء الى هذه الطبقة العليا. فبذلك تستحيل الطبقة من تلقاء نفسها الى جمع يضم خيار الناس بالمعنى الصادق الحق لهذه الكلمة, لا بالمعنى القديم من حيث انها طبقة مغلقة ذات امتيازات.” ففي هذه الصورة الجديدة, او قل هذه الصورة المجددة يمكن ان تبقى هذه الطبقة وان تستمر.” [[نفس المصدر \ ص 324-325 ]]

التميز الذي يراه دوستويفسكي بالذات الروسية انما هي النبالة الروسية- الممثل الحق للشخصية الروسية- وهو على حق. لكن ما يعيب ذلك التميز انه لم يكن كافيا ً لمعظمهم, فهم لا زالوا بحاجة الى ان يقارنوا انفسهم بأوربا التي يعتبرونها قرينهم الذي به يتقارنون والذي يجب ان ينفردوا عليه. لذا اقتنعوا ان ذاتهم المتميزة هي القادرة والمؤهلة والمتوقع منها قدرتها على الاتيان بالأفكار الرفيعة . فالانفراد عن اوربا والتفوق عليها تمثل بقدرتهم على ابداع الشيوعية, الفكرة الشاملة والحل الشامل.
” ان من لا يفكر الان في روسيا ليس بمواطن ! ربما كنت انظر الى روسيا من زاوية خاصة: لقد تحملنا الغزو التتري, ثم تحملنا قرنين من العبودية, ولعل تحملنا هذا ان يكون مرده الى ان الامرين كليهما قد ارضيانا. والان وهبت لنا الحرية, ويجب ان نتحملها فهل نحن على ذلك قادرون؟ هل الحرية ترضينا وتتفق وذوقنا ؟ هذا هو السؤال.” [[ نفس المصدر \ ص 357 ]]
اذن في اواخر العهد الملكي الروسي ظهرت بوادر الحرية السياسية للشعب الروسي وتساءل الكاتب هنا ما تراهم سيفعلون بها وهل هم مهيئون لها؟ وفعلاً لقد استخدموها لهدم نظامهم من اسسه وقلعه. في حين انهم كانوا اكثر هدوءاً واقل ضجيجاً امام الغزو التتري وايام العبودية. وهنا يلمح الكاتب الى انه ربما يكون الشعب الروسي غير مهيأ للحرية بعد.
كحال غيره كثير من الشعوب ما ان تعطيها الحرية حتى تبدأ بهدم اسسها ونظام حكمها بل وجودها كله. وهو ما فعله الشعب العراقي ففي الحرية التي اعطيت له في العهد الملكي استغلها ليقوض اسس هذا النظام وينجح اخيراً بهدمه على رأسه.
اما الحرية الثانية التي وهبت له بعد 2003 فلم يستخدمها الا ليذوب الروح الوطنية في التبعية لغيرها من الامم تحت مسميات وعناوين ومبررات. إذ ان وطنيته كملح محاط بمياه تلك الامم والدول.
” ان قامته طويلة هي قامة شحاذ لعله ضابط محال على التقاعد فعلاً قد سدت طريقنا فجأة. وكان اعجب ما في امره ان هندامه احسن كثيراً من ان يكون هندام شحاذ. ولكن ذلك لم يمنعه من مد يده مستعطياً”
[[ نفس المصدر\ ص 406]]
ان الاجور التي يأخذها الموظفون والعسكريون الروس بالكاد تكفيهم لمتطلبات الحياة ولا تؤمن لهم المستقبل. فما اكثر المطبات بحياة الروس, انسان محترم فجأة ينحدر ليصبح بسبب العوز الروسي شحاذاً كأننا نرى فلم مصري عن موظف في دائرة حكومية ايام الثمانينات والتسعينات لا يكفيه المعاش.
” وكان يوجد في تلك المدينة نفسها تاجر اخر. ولكن هذا التاجر الاخر مات. كان شابا ً وطائشا ً, فافلس وفقد كل راس ماله. كان في السنة الاخيرة يتخبط كسمكة على الرمل, ولكن ساعته كانت قد حانت. وكانت علاقاته بمكسيم إيفانوفيتش شجارا ً مستمرا ً, وكان مدينا ً له بمبالغ كبيرة . حتى وهو على فراش الموت, حين كان يلفظ انفاسه الاخيرة, كان يلعن مكسيم إيفانوفيتش. ومات الرجل تاركا ً زوجة شابة واطفالاً خمس واما ً ارملة؟… هذه محنة قاسية, ولا سيما مع خمسة اولاد لا تعرف الام من اين تطعمهم. وكان كل ما بقي لهم بيتا ً صغيرا ً من خشب انتزعه مكسيم إيفانوفيتش سدادا ً لديونه….
(( اكمل بتصرف )) انتظرت الام خروج التاجر الند لزوجها المتوفي مكسيم إيفانوفيتش من الكنيسة صفتهم وكان اكبرهم صبي عمره ثماني سنوات والاطفال الاخرون كلهم بنات صغيرات ركع الاطفال الاربعة امامه وانحنت الام الى الارض وهي تحمل الطفل الخامس على ذراعيها وتوسلت اليه على مسمع من الناس.” [[ الجزء الثاني \ ص 160 ]]
ظلم اجتماعي رهيب شخص يسحق فرد اخر وافراد عائلته سحقا ً بلا ان تتوفر اي مؤسسة اخرى تستطيع التدخل لحمايتهم او لوقف التدهور فلا الدولة بأي شكل من اشكالها ولا المؤسسة الدينية – اعني الكنيسة التي كان يواظب على حضور طقوسها ومناسباتها هذا الظالم فاحش الثراء – استطاعت التدخل لحماية هذه العائلة المسكينة.
اذن لا دور مجتمعي للكنيسة كمؤسسة سوى الشكليات الدينية والطقوس إذ يبدو ان الكنيسة مؤسسة فاسدة و خاملة. ما يميز المجتمع الروسي ليس مدى الظلم الاجتماعي الفاحش الذي يدوس من يسقط بل عدم وجود من يساعد الذي يسقط. فالصراع الطبقي موجود حتى في باقي اوربا لكنه اسفر عن اسنانه وقبحه بروسيا بشكل فاق باقي اوربا وذلك لعدم وجود اي مؤسسة اخرى حامية للفرد من هذا الصراع فتبقي العنف فيه تحت الضبط بدرجة معينة. فلا دولة حقيقية عادلة موجودة ولا مؤسسة دينية كذلك
(( تكملة قصة المرأة – التي جاءت لمكسيم إيفانوفيتش امام الكنيسة- بتصرف)) ” والتي اصبح صغارها يركضون عراة في الشارع الا من قميص ثم توفوا بالسعال الديكي فلم يبق لها الا ولد واحد والذي كان يركض في المصنع فصدم مكسيم الذي كان يتجول مع مدير المصنع فأمر هذا بجلده. وبدأ الصراخ فقال اجلدوه الى ان يكف عن الصراخ حتى اشرف على الموت. واستغرب مكسيم حالته لماذا ! انه لم يُضرب كثيرا ً وانما خُوّف تخويفا ً فحسب. لقد ضربت جميع الاولاد الاخرين مثلما ضربته.
ذهب مكسيم الى امه التي تعمل خادمة في النهار وعرض عليها تربيته لابنها الذي اصبح معلولا ً. بكته طوال الليل ثم ارسلته اليه صباحا ً فقد لامها الناس ان هذه فرصة لا تعوض وان ولدها لن يسامحها اذا هي فرطت بها بعد ان وعدها مكسيم بان يعطي لولدها مبلغا ً كبيرا ً من المال او ان يجعله وريثه.” [[ نفس المصدر \ ص 162 ]]
” حينئذ ٍ حدثت الحادثة (( انقلها باختصار وتصرف)) عندما اشتبكت كمه-الصبي- بمصباح من الخزف بعد ان اراد انزال كرته من على الخزانة فسقط المصباح على الارض وتهشم المصباح وكان تحفة ثمينة من خزف ساكس
اخذ مكسيم يزأر وهرب الولد حتى اذا صار الى النهر حيث شاهد الكولونيلة فرتسيج وابنتها التي كانت تحمل قفصا ً صغيرا ً من خشب فيه قنفذ , انظري الى الصبي كيف يتطلع الى قنفذي يا ماما
فقالت الام لا بل هو خائف من شيء ما , لماذا تبدو خائفا ً هذا الخوف الشديد ايها الصبي اللطيف!!
ولم يكن هو قد رأى قنفذا ً من قبل فاقترب ونظر. نسي ما كان فيه هكذا الاولاد ! قال يسأل : ما هذا الذي معك ؟ اجابت الانسة : قنفذ ….
الصبي : وما القنفذ وضحك واراد ان يلمسه بأصبعه , فسمع صراخ مكسيم الذي من غضبه خرج من البيت بدون قبعة . تذكر الطفل كل شيء وصرخ وتقدم نحو الماء ضاما ًيديه الصغيرتين الى صدره ونظر الى السماء ( رأوه ينظر الى السماء) والقى بنفسه في النهر.”[[ نفس المصدر\ ص 164-165]]
الظلم الاجتماعي الموجود بكل مكان لا يُسمح له ان يتجاوز حدا ً ليصبح ثمنه حياة الانسان. الا في روسيا فلعبة الحياة ثمنها قطف راس الانسان الخاسر كأنها لعبة كرة الراس لدى المايا. هذا الظلم الاجتماعي الرهيب خلق الشيوعية وهي الحلم الروسي الخاص بالقضاء على التفاوت, هذا الحلم الذي اصبح كابوس روسيا وبقية العالم. فما الذي حدا بهذا التوحش والاجرام ان يرى به الروس الحلم والدواء والحل لمشاكلهم ومشاكل العالم؟
كل ما في الامر ان ذاتا ً مأزومة هي الذات الروسية انتجت فكرا ً مشوها ً هو الفكر الشيوعي الذي لم يكن الا مغالاة في المثالية كأنه منتج من عالم اخر ارقى او صنع لغير عالمنا. وهو لم يكن بحقيقته الا ردا ً افلاطونيا ً وهميا ً للعذاب الاجتماعي وللمعاناة ولعدم المساواة الفادحة التي كانت تعانيها الذات الروسية.
والجدير بالذكر إن الظلم الاجتماعي وشدته لم ينفرد بها كاتب روسي فذ من وزن دوستويفسكي وحسب بل معاناة تم تخليدها بقصة المعطف للعظيم غوغول.

” وكان بيورنج يهدد آنا ويتوعدها, واظن انه كان يضرب الارض بقدمه. الخلاصة انه كان يتصرف تصرف جندي الماني فظ ” [[ نفس المصدر\ ص 362]]
يصف دوستويفسكي فظاظة احدهم كفظاظة جندي الماني , ترى ماذا كان ليقول لو شهد الحرب العالمية الثانية وغزوهم لبلاده !!! . تجذر الحقد على الالمان وقولبتهم كانت قوية ومتأصلة لدرجة ان الكاتب دوستويفسكي عجز عن تجاهلها.
ان الحقد الروسي على الالمان لا شك انه يجاوب بحقد الماني على روسيا ,ان تحقد على دول اوربية وتتأثر بأخرى – فرنسا – وتعجب تشعر بالنقص تجاه اخرى كل ذلك مقومات الاتيان بإنجاز وان كان وهما ً محضا ً تضفي عليه صبغة الكمال والابداع وهو ليس كذلك, كل ذلك لتفقأ عين من تحقد عليه ولتري من تحس النقص تجاهه انك لا تقل عنه شأنا ً.
” على حين ان كثيرا ً من شباب الجيل الحالي ينقادون في اغلب الاحيان لأفكار جاهزة لا تنبع من انفسهم, وعددها محدود جدا ً, وكثيراً ما تكون خطرة. ان فكرتك قد حمتك مثلا ً خلال زمن على الاقل, من افكار السادة درجاتشيف وشركاه, التي هي اقل اصالة ولا شك.”[[ نفس المصدر\ ص 388]]
هنا دوستويفسكي ينتقد البذور الاولى لأفكار الشيوعية التي هي رد فعل خاطئ لما هم فيه. تلك البذور التي شهدها بطل قصته اركادي عند حضوره الاجتماعات في منزل درجاتشيف. وهذا الانتقاد يجري على لسان المعلم السابق لاركادي في موسكو ( نيقولا سيمنوفتش ) وبذا يكون الشخصية الثالثة التي اختارها الكاتب والتي من خلالها يصدح بأفكاره, اضافة الى الاثنتين السابقتين تيخوميروف و الامير اركادي دولجوروكي البطل للرواية.
ويستمر سيمنوفتش ” ما اكثر امثالك من الشبان الذين تتعرض مواهبهم فعلا ً لان تنمو في الاتجاه السيء: فأما عبودية على طريقة مولتشالين, واما رغبة خبيثة في الفوضى. وهذه الرغبة في الفوضى انما تنشئ. ربما في اكثر الاحيان. عن ظمأ خفي الى النظام, “الجمال” انني استعمل كلمتك.
ولعل تلك الاندفاعات المبكرة الى الجنون انما تشتمل على ذلك الظمأ الى النظام وعلى ذلك البحث عن الحقيقة. فمن المذنب اذا كان بعض الشباب في عصرنا يرون هذه الحقيقة وهذا النظام في نظريات تبلغ من الحماقة والسخافة ان المرء يستغرب فعلا ً ان يؤمنوا بها! ” [[ نفس المصدر \ ص 389 ]]
الاتجاه السيء, رغبة خبيثة في الفوضى, نظريات تبلغ من الحماقة والسخافة ان المرء يستغرب فعلا ً ان يؤمنوا بها.. اذن هكذا ينظر الكاتب الروسي الكبير الى ارهاصات الحركة الشيوعية ويشعر بالاسى على شباب وطنه من الذين يؤمنون بها ويرون بها الخلاص. ويتطير منها رائيا ً الشرر الكبير.
ويضيف لاحقا ً ان السبب ان هؤلاء الشباب كانوا سابقاً ينضمون الى الطبقة العليا ( النبلاء) من مجتمعه المثقف وهو هنا يمتدح الارث الارستقراطي ويرى به ارثا ً روسياً عتيدا ً ويرى به اصالة الروح الروسية لا الافكار الهدامة من ارهاصات الاشتراكية.
“لانهم اصبحوا لا يعرفون الى من ينضمون ! ” [[ نفس المصدر \ ص 389 ]]
اي انه يرى ان الشاب الروسي فاقد البوصلة مشتت الهوية وهذا امر خطر.
“وان ما يهمنا اكثر من اي شيء اخر هو ان يكون لنا اخيرا ً نظام , ايا ً كان هذا النظام, على شرط ان يكون نظاما ً لنا نحن ! ذلك هو الامل ,وتلك هي الراحة ان صح التعبير: شيء مكتمل البناء اخيراً ,لا هذا التقويض الابدي ,وهذه النشارات التي تتطاير من كل مكان” [[ نفس المصدر \ ص 390]]
واضح وصفه لبذور الفكر الجديد بانها تقويض ابدي ونشازات. وهو قد صدق حقاً فهي فعلاً نشازا ً ستذروها الرياح وهي لم تبقى بمكان وتنمو الا بقمع الانسان وقهره. فالشيوعية والقمع صنوان لا يفترقان.
” ومثل هذه الرواية ……………..سوف تنتمي الى الادب الروسي اقل مما تنتمي الى التاريخ. سوف تكون لوحة مكتملة الجمال الفني تمثل السراب الروسي الذي وجد فعلا ً الى اليوم الذي رئي فيه انه كان سرابا ً. ان حفيد ابطال اللوحة التي تمثل اسرة روسية متوسطة الثقافة خلال ثلاثة اجيال وترتبط بالتاريخ الروسي, ان حفيد هؤلاء الاجداد لا يمكن تصويره في نموذجه المعاصر الا انسانا ً مبغضا ً للبشر, معتزلا ً الناس ,صموتا ً حزيناً. . بل لابد كذلك ان يكون رجلا ً متفرداً يستطيع القارئ ان يحكم عليه منذ النظرة الاولى بأنه قد ابتعد عن الطريق الممهدة وأن ليس تحت قدميه ارض. وما هي الا فترة حتى يختفي هذا الحفيد المبغض للبشر هو ايضا ً. وتأتي شخصيات جديدة, لا تزال مجهولة, ويأتي سراب جديد .ولكن اية شخصيات ؟ اذا لم تكن شخصيات جميلة ,لم يبق ثمة ادب روسي ممكن. ولكن واحسرتاه! هل الرواية وحدها ستكون مستحيلة حينذاك؟ “[[ نفس المصدر \ ص 391 ]]
الى هنا تنتهي الاقتباسات من رسالة ارسلها سيمنوفتش الى اركادي يوضح له فيها افكاره اخذا ً دور البوصلة التي اراد اركادي الاهتداء بها. وقد قام بهذا الدور.
حفيد العائلة الروسية متوسطة الثقافة المعتدة بإرثها المتمثلة بتقاليد الطبقة الارستقراطية النبيلة وقيمها
والمعتزة بهويتها الروسية بتجسيدها الثاني وهو الادب الروسي العظيم. كل ذلك اصبح فجأة سراباً وجاء افراد تائهين انكروا ذلك وهم بحقيقتهم لا يقفون على ارض…ولا على اية ارض مبغضين للبشر ومبغضين لامهم روسيا ولتاريخها لانهم يريدون صنع اشياء جديدة. نسجوها ببراعة نسج العنكبوت لكنها ليست الا متاهات وان حبكت بمهارة التنظير.
اذن بعد ان انتقد دوستويفسكي الفكر الشيوعي وارهاصاته تراه الان ينتقد اوائل الافراد الشيوعيين .إذ يقول (ان حفيد هؤلاء الاجداد لا يمكن تصويره في نموذجه المعاصر الا انساناً مبغضاً للبشر معتزلاً الناس…)
هكذا يصف اصحاب الفكر القادم –الشيوعي- الذين قدموا انفسهم كمنقذين لروسيا وللعالم لكنهم ليسوا الا مبغضين للبشر ارادوا تحطيم ما لا يمكن تحطيمه ولا تغييره وهو قوانين الحياة وسننها وبإثناء محاولتهم هذه سحقوا الانسانية وحطموها وعذبوها تحت عنوان حرق الاجيال وتنقيتها حتى يعم الفكر الصحيح الوحيد الصالح فحولوا روسيا الى سجن كبير والى معسكر اعتقال, تجربة كررتها كل الانظمة الشيوعية الصغيرة منها والكبيرة. خذ مثلا ً الصين التي اهانت الانسان وهزأت به في ثورتها الثقافية وعرضت المعتقلين للإهانة والضرب العلني كما احالوا دولتهم الى مجاعة افريقية هائلة ابادت الملايين.
” موظف في الدرجة السابعة, سعيداً جداً بأن انفذ اوامرك.” [[ نفس المصدر \ ص 411 ]]
يوضح هذا التسلسل الروتين الاداري وهو تدهور اداري له مثيل بالذي كان موجود في الرجل المريض – الامبراطورية العثمانية – وتوارثته مصر والعراق حتى اني كثيرا ً ما احس كأني بداخل فيلم مصري في حقبة السبعينات والثمانينات. وهو شعور مؤكد انه ملازم لمن يقرأ الروايات الروسية.
عدم الكفاءة الادارية للحكومة وغياب فعاليتها بشكل عام وكونها فاسدة, طبقية غير عادلة بل ظالمة متفرجة غير مهتمة ان تسحق مواطنيها ثم تتفرج على المسحوقين.
” وفي تلك الاثناء , بينما كنت انظر في السماء ,انما امسكت تلك البنت الصغيرة كوعي, كان الشارع مقفراً في تلك الساعة ,او قل انه قد اخذ يقفر فلا يكاد يمر فيه احد. كان هناك حوذي يغفو على مقعده. ان البنت الصغيرة هي في نحو الثامنة من العمر, كان رأسها مغطى بمنديل, وكانت ترتدي ثوبا ًرثا ً, وكان الماء يسيل عليها. ولكن بصري وقع خاصة على حذائيها المثقوبين اللذين يتسرب منهما الماء الى قدميها. ما زلت اتذكر هذه الواقعة الى الان. لقد خطف هذان الحذاءان انتباهي اكثر من اي شيء اخر. واخذت البنت الصغيرة تشدني من كوعي منادية مستنجدة. كانت لا تبكي. وكانت تناديني منقطعة الصوت موعوعة بكلمات تعجز عن النطق بها بسبب البرد الذي كان يجعلها ترتجف ارتجافا ً شديدا ً. كانت تبدو مذعورة من شيء ما, وتصبح يائسة: ” أمي , امي العزيزة! “. التفت اليها, ولكنني لم اقل لها كلمة واحدة, وتابعت سيري. ركضت ورائي, وشدتني من ذراعي, بينما كان يخرج من حلقها صوت اجش ابح هو ذلك الصوت الذي تسمعه من الاطفال المذعورين واشيا ًبما اعتراهم من كرب ويأس. انني اعرف هذه اللهجة. فهمت من وعوعتها, رغم عدم اشتمالها على كلمات ملفوظة, ان امها تحتضر في مكان ما, او ان شيئا ً من هذا القبيل قد حدث لها اللحظة, فركضت تبحث عن انسان او شيء يغيث امها. ولكنني لم اتبعها. واكثر من ذلك انني خطر على ببالي فجأة ان انهرها واطردها. قلت لها في اول الامر ان عليها ان تستنجد بشرطي. ولكنها سرعان ما ضمت يديها الصغيرتين احداهما الى الاخرى ضارعة مبتهلة, وانفجرت تبكي لاهثة, وظلت تسير الى جانبي لا تتركني. فلم يسعني الا ان اشتمها قارعا ً الارض بقدمي. فلم تزد على ان تصيح قائلة: ” سيدي, سيدي ……. “, ثم تركتني فجأة لتقطع الشارع مسرعة كالسهم, ذلك ان رجلا ً اخر ظهر على الرصيف المقابل, فلا شك انها تركتني لتركض اليه.” [[ نفس المصدر \ ص 506 ]]
مأساة اخرى لأفراد من المجتمع الروسي طفلة تسحق هي وامها. الغريب ليس تلك القصص المأساوية الموجعة بفوارق اجتماعية مهلكة. بل هو ذلك الخوف من بقية الافراد الذين ينظرون لأنفسهم على انهم يقبعون تحت وطأة نظام يأنون من حمله وانهم بالكاد واقفون وهم يخشون ان يقفوا ولوا قليلاً لالتقاط الانفاس او لمساعدة من يحتاج المساعدة وكأنهم يسيرون هاربين من قوات غازية تقتل كل من يصادفها او هاربين من غزو فضائي مجهول. فالكل راكضين من اهوال نهاية العالم. انهم خائفون هاربون من شيء يطاردهم من نظام بعجلة هائلة يخشون ان تدهسهم ان هم وقفوا ولو لمد يد العون للضعفاء الذين يسقطون.
لاشك ان هذه الماسي الفادحة كان لها اعمق الاثر بما سيتبناه العقل الروسي لاحقاً. الإلام وماسي متطرفة يلقاها كل فرد على حدة. هذا الخوف وفقدان الفرد للشعور الغيري كلها ستتراكم وستؤدي الى رد فعل جماعي متطرف كحالها. الفردانية واحساسك انك لوحدك وعدم التعاون والتفرج واللامبالاة وفشل المجتمع بوقف هذه الماسي يبدو انها كانت عيوب هيكلية بالمجتمع الروسي ,لذا لا غرابة انها ستؤدي الى رفضه بالكامل والرغبة بهدمه ثم اعادة بنائه.
” خطاب عن بوشكين ” [[نفس المصدر \ ص 527 ]]
وهو خطاب الاعتزاز والزهو الروسي, والفخر ببوشكين النبي- كما يراه دوستويفسكي- وعبقريته. وهنا اضيف استغرابي لاستغراب دوستويفسكي كيف ان الشباب الروسي قد اجال ببصره بعيداً عن كل ما يستحق الفخر الحقيقي والاعتداد بروسيا. تناسوا طبقة النبلاء وارثها وتقاليدها واخلاق الفروسية لديها وشرفها, طقوسها ورقصاتها التي لا تقل مكانة عن اي طبقة نبلاء اوربية اخرى.
فاركادي كان يمثل صورة الكاتب في كونه امن بكل ما يستحق الايمان به وافتخر بكل ما يستحق الفخر به من جوانب الاشراق في الشخصية والحياة الروسية. وشيء اساسي من هذا الفخر هو طبقة النبلاء الروسية التي اعود فأقول ان ما يميزها انها لا تقل درجة او شأن عن اي طبقة نبلاء اوربية وبذا فان الايمان بها كان سيعيد للمواطن الروسي توازنه ويزيل عنه التخبط وبذا كان سينقذ روسيا من عقدة النقص الفادحة الجسيمة التي كانت تحس بها.
اما لمن سيقول كيف تمدح طبقة هي قبيحة لئيمة اجتماعيا ً ظالمة ومتشددة وانانية, حسناً انا لم اقل بملائكية طبقة النبلاء الروسية حالها حال اي طبقة نبلاء اوربية اخرى لكنها على اية حال وبتجرد وحيادية وواقعية كانت الوسيلة المضمونة لتجاوز عقبة النقص الكأداء الخطرة التي لم تؤخذ بنطر الاعتبار والتي طرحت جانباً وتمت الثورة بسببها لا عليها.
ثم اعجب كيف ان شعباً لديه فلاسفة ومفكرين ليسوا اقل شأناً من فلاسفة ومفكري الغرب, كيف ان شعباً لديه موسيقيين عظام كموسيقيي المانيا والنمسا , شعب لديه شعراء فطاحل ولديه روائيين خالدين وادباء وشعب يكاد يكون المعجزة في الباليه.. كيف ان شعباً لديه هذه المساهمات بالثقافة والادب والفن والرقص والموسيقى يضعف كل ذلك بنظره فجأة فلا يرى به اي انجاز!! ويبدأ البحث عن انجازات اخرى ليست موجودة فيبدأ النظر لذاته بعين الصِغار والنقص!!.
هذا ما تألم من اجله دوستويفسكي وهذا ما رفع به صوته عالياً متخلياً عن شخصياته العميقة وصراعاتها ورسائله ليستبدلها بأخرى تطرح افكاره عن روسيا الام بكل وضوح بعيداً عن فلسفته وتحاليله الفذة في رواياته السابقة وما حوته من شخصيات.
” فأنهم يندفعون الان الى الاشتراكية التي لم يكن لها وجود في زمان- اليكو- ويأخذون على عاتقهم مهمة جديدة, مؤمنين كما كان يؤمن اليكو(1) بانهم بهذه الوسيلة الوهمية سيصلون لا الى اهدافهم الخاصة وحدها, بل الى اهداف البشر اجمعين, ذلك ان الجواب الروسي لا يرضى باقل من سعادة البشر كافة ليهدأ باله وتطمئن نفسه: انه لا يقبل بأقل من هذا ما ظل الامر على صعيد النظرية طبعاً” [[نفس المصدر \ ص 530 ]] (1 )اليكو هو البطل في قصيدة ” الغجر ” لبوشكين .

” في بداية القرن الثاني الذي اعقب اصلاح بطرس الاكبر .لا شك ان عدداً كبيراً من المثقفين الروس ,سواء في زمن بوشكين وفي زماننا ,كانوا يعملون ولا يزالون يعملون بهدوء وسكينة , موظفين في المحاكم وفي السكك الحديدية ,وفي البنوك. وان بينهم كذلك اناساً يحصلون على مال بجميع الوسائل ,حتى ان بينهم من يهتمون بالعلوم ,ويقرأون محاضرات, وذلك كله على نحو مطرد هادئ. وانهم ليقبضون رواتب, ويلعبون بالورق, دون ان تراودهم اية نزوة تحض على الهروب الى مخيمات الغجر او الى اماكن اخرى الصق بزماننا.” [[ نفس المصدر \ ص 530_531 ]]
يقسم دوستويفسكي الروس الى قسمين يذكر هنا القسم الاول وينتقده بتهكم وهم الاشتراكيون والشيوعيون. ثم يذكر القسم الثاني من الروس وهم العاملون بصدق واخلاص وبصمت وبلا الضجيج الموجود لدى الناس في القسم الاول وتوعدهم بتغيير العالم.
اتباع هذا الصنف هم الشيء الصحيح الواقعي في روسيا الحالمين بالتغيير لكن من خلال العمل الصادق الحقيقي يؤدون دورهم في المجتمع وفي الدولة بإخلاص وديمومة حالمين بان يدرك الروسي ذاته ويحقق حلمه ليس بارتياد الحضارة فقط ولكن وعيه بأنه قد فعل ذلك فيقنع بنصيبه منها.
فهؤلاء يأملون بان اخاهم الروسي سيدرك ذاته ويعيها ويحترمها قبل ان يدمرها.
” لا ينتظر الان ان يأتيه الاخلاص وتأتيه السلامة الا من الاحداث الخارجية. ولا بد ان يكون الامر كذلك. هو يقول لا بد ان تكون الحقيقة موجودة في مكان غير نفسي, لا بد ان تكون موجودة في البلاد الاخرى, عند الشعوب الاوربية مثلاً, تلك الشعوب التي لها بنيان تاريخي متين والتي تتصف فبها الحياة الاجتماعية والمدنية بأنها منظمة. انه لن يدرك ابداً ان الحقيقة قائمة في ذاته قبل كل شيء.”
[[ نفس المصدر \ ص 531 ]]
هنا يعترف دوستويفسكي بوجود الفارق بينهم وبين اوربا وان الكفة تميل لاوربا لكن بلا تراجع للذات او انحسار لها بل يرى الاختلاف الروسي ويعشقه. يعترف بالتراجع لكنه يركز على نقاط القوة والجمال لا التراجع والضعف. فتراه محايد بالتحديد لكن معتدل متأني غير غاضب او حاقد على نفسه او خصمه.
فهو يقول ايضاً التغيير من انفسنا اي يعني الجوانب الجميلة التي لروسيا فيها قدم السبق او الندية.
اي لنركز عليها ونتمتع بجمالها وسحرها ولنعشق ذواتنا. كما انه هنا يرفض التركيز على الغير بجعله مؤشر التغيير وتحدياً اما من خلال ان نبزه بتغيير ابداعي نرى انفسنا قد تفوقنا به عليه فنأتي بما يزلزل الارض من عنكبوتية الافكار واشتباكها او ان نلهث ان نكون مثلهم لا نقل عنهم شأناً بجميع الجوانب فهو يحتج لم علينا دائماً ان نقرن انفسنا بهم.
فلنركز على انفسنا لأنه عندها سنحظى بالهدوء والسكينة كما اننا حينها سنرى جوانب الجمال والابداع فينا ونشعر بها. وهنا ربط بالفكرة السابقة باننا يجب ان نأتي بما لا يغير حالنا بل وحال العالم معنا لماذا؟
لأننا نقارن انفسنا بالأوربيين ولذا حتى ننتصر عليهم ونتميز, علينا ان نأتي بما عجزوا هم عن اتيانه فناتي بالفكرة المخلّصة الكلية الصالحة لتغيير العالم وقد عجزوا عنها فنتفوق عليهم. وهنا بالتحديد وقعت الذات الروسية بالخطأ.
” هل يستطيع الانسان ان يبني سعادته على شقاء غيره ؟ ليست السعادة كل شيء في مباهج الحب, بل السعادة في الانسجام الاعلى الذي يتحقق للروح والفكر…….
اية سعادة يمكن ان يتمتع بها المرء اذا كانت قائمة على شقاء غيره ؟ تصوروا انكم مكلفون انتم انفسكم ببناء صرح المصائر الانسانية لهدف اخير هو ان تجعلوا جميع الناس سعداء, وان تهبوا لهم السلام والراحة اخر الامر. وتخيلوا عندئذٍَ ايضاً انكم في سبيل تحقيق ذلك لا غنى لكم عن تعذيب انسان واحد ,واحد لا اكثر. بل انسان ليس له قيمة كبيرة ,انسان يمكن ان يعد مضحكاً ,فليس هو رجلاً عبقرياً مثل شكسبير وانما هو شيخ طيب شريف لا اكثر له زوجة شابة يؤمن بحبها ايماناً اعمى ,تخيلوا ان هذا الرجل هو الذي يجب عليكم ان تهينوه وان تخزوه وتلطخوا شرفه وان تعذبوه.
تخيلوا ان سعادتنا لا بد ان تبنى على دموع هذا الشيخ الذي لا حول له ولا قوة لا يملك عن نفسه دفاعاً .فهل تقبلون ان تشيدوا ذلك الصرح بهذا الثمن؟!! [[ نفس المصدر / ص 536 -537]]
يعني هنا دوستويفسكي الخطاب العنفي لدى درجاتشيف ورفاقه في اجتماعاتهم – وهم بحسب الكاتب –النواة لاجتماعات قادة وافراد الفكر القادم. وهو ينتقد باستشراف مثير للأعجاب سيرهم المستقبلي بعد ان يتسلموا المقاليد سيرهم نحو اجبار الناس نحو الكمال ودفعهم للتكامل حتى يبلغوا هذا الكمال الفكري المثالي الموهوم. لذا هم سيجبرون الجميع على السير بركابهم نحو الكمال المنشود.
دوستويفسكي يذكر هنا التفاتة اكثر من رائعة وهي تشكيكه ان صرح السعادة والكمال سيتحقق إن نحن اجبرنا على ظلم انسان واحد فقط وهو شيخ كبير شريف فعذبناه ولطخنا شرف زوجته التي يؤمن بحبها.
هذا يذكرني بفكرة الامام علي الشهيرة لو انه ملك الاقاليم السبعة على ان يسلب نملة جلباب قمح لما فعل. لأنه يعلم ان طلب الحق لا يصح بالجور. كذلك ادرك دوستويفسكي ان السير نحو الكمال لا يصح بالظلم وان لأنسان واحد فقط. والواحد هنا مثال لظلم الالاف والملايين لان كل منهم فرد بذاته.
فدوستويفسكي يقول لهم انتم واهمون بسيركم نحو الكمال فتنسون انكم خسرتموه على الطريق اليه عندما ظلمتم الفرد واضطهدتموه عندما نسيتم ان المهم هو الفرد الانسان واحترام حياته وحاجاته وعدم التسبب له بالألم لأنه هو الكمال كل منا هو الكمال بذاته على حدة, به يتجلل الكمال. وبذا يزدهي الفرد ويسعد.
هو الكمال فدعوه يرعى بمرعى السعادة. المسيرة نحو الكمال لا تتم الا بقرار كل فرد. ولن يكون بإجباره وبخسه حقه وظلمه إلا وهم الخبال وسراب الكمال.
الكمال مطلب وجداني نفسي وليس عقلي فقط لكنهم يعتقدون مخطئين انه عقلي فقط ولذا تحرق الاجيال وتغسل العقول حتى تتكامل, في حين انه يفرض نفسه كمطلب فردي حتماً لا شعبي ولا منظم ولا يأسس له ولا يُنظَر به للجمهور.
” وهل قوة روحنا القومية (( التي يرى الكاتب ان بوشكين عبر عنها تعبير نبي حقاً )) الا ميلها – من خلال الاهداف المحددة التي تستهدفها- الى العالمية الشاملة ,الى التكامل الانساني؟ ان بوشكين الذي اصبح شاعراً قومياً ما ان اتصل بالشعب حتى احس سلفاً بما لهذه القوة الشعبية من دلالة واسعة فهو من هذه الجهة قد ادرك المستقبل وكان نبياً….
وبالمحبة كلها انما قبلنا في انفسنا عبقريات الامم الاجنبية, وقبلناها جميعها, دون ان نفرق بينها ونجعل بعضها فوق بعض طبقات مختلفة باختلاف الاجناس, لأننا علمنا بالفطرة ومنذ اول خطوة تقريبا ً كيف نزيل التناقضات وكيف نعذر ونغفر, وكيف نحقق المصالحة بين الاختلافات, وبذلك كنا نؤكد منذ ذلك الحين ما نملك من استعداد وميل لان نعيد بناء الوحدة العالمية” [[ نفس المصدر / ص 544 ]]
يتحدث دوستويفسكي عن الرغبة الجامحة لدى الروح الروسية في النزوع نحو العالمية الشاملة الى التكامل الانساني. هنا هو يقصد ذلك من خلال طريقين اولهما الابداع الروسي الثقافي والادبي والفني والعلمي حتى, ومساهمة هذا الابداع بالتطور الانساني والوحدة البشرية الانسانية والثاني تقبل الروح الروسية لجميع الاجناس ولكل الاختلافات واحترامها لها. وكان محقاً بذلك فالروح الروسية تتوق الى حل مشاكلها بل ومشاكل كل البشرية لكن للأسف لم يتحقق ذلك بإحدى الطريقتين اللواتي تحدث عنها بل بطريق لم يكن يرغب هو بها ويراها مؤذية للروس ولشعوب العالم. اي طريقة درجاتشيف ورفاقه.
” ان دلالة الانسان الروسي هي انه اوربي وانه عالمي, ما في ذلك ريب, فأن يكون المرء روسياً حقيقياً, ان يكون روسياً كاملاً ,فذلك انما يعني (احفظوا هذا!) انه اخو البشر جميعاً. انه مؤمن بالوحدة الانسانية اذا شئتم هذا التعبير…… فالروسي الحقيقي يرى ان اوربا ومصائر الجنس الاري العظيم كله غالية على نفسه كروسيا نفسها ومصائر ارضه التي ولد عليه: ذلك ان مصيرنا انما هو العالمية الشاملة…..

وان يبين للحنين الى اوربا كيف ان هذا الحنين الى اوربا يمكن ان يرتوي من نفسنا الروسية التواقة الى الشمول الانساني والى الوحدة بين البشر, وان يجعل جميع اخواننا في العالم ينضمون الينا بالحب حتى لقد تكون روسيا هي التي تنطق بالقول الفصل في الاتساق الشامل والانسجام الكبير والاتفاق النهائي الاخوي بين جميع الشعوب تحت لواء المسيح” . [[ نفس المصدر / ص 545 ]]
” فأقول ان القلب الروسي ربما كان هو المهيأ اكثر من سائر الشعوب لان يحقق الوحدة الشاملة الاخوية بين جميع البشر .وقد استقيت علامات ذلك من تاريخنا, ورأيتها في نبغائنا, وشهدتها في عبقرية بوشكين الفنية ” [[ نفس المصدر / ص 546 ]]
اذن كما ذهب اليه يرى ان التأثير الروسي وسيادة الروح الروسية ووحدتها مع العالم ستكون من خلال الفنانين والشعراء والادباء, الذين اضافوا لا لروسيا فقط بل وللعالم اجمع تراثاً انسانياً.
“- لا يضيرنا ان ارضنا قفرة بائسة. ان هذه الارض الفقيرة قد طاف المسيح وباركها في صورة قن من الاقنان” [[ نفس المصدر / ص 546 ]]
يذكر هنا ارضهم البائسة القفرة. وهذا القفر هو الذي جعل كل طبقة النبلاء تتمحور على ذاتها. وجعل الكنيسة ظنينة بالعطاء وتكثر من المنع, وبخل وضعف مؤسسة المجتمع واستئثارها لا ايثارها. وافقر الانسانية الروسية عموما ً.
” فلربما كشف عن جوانب خالدة رائعة من النفس الروسية كان اخوتنا الاوروبيون سيفهمونها فتجذبهم الينا اكثر مما هم منجذبون الينا الان- لعله كان سيستطيع – لو عاش عصراً اطول, ان يشرح لهم اشواقنا الحقيقية ,ولعلهم كانوا سيدركون عندئذِ من نحن, فيكفون عن النظر الينا بالريبة والاحتقار اللذين لا يزالان يظهرونهما لنا.” [[ نفس المصدر / ص 546 ]]
احترام اوربا لروسيا هو من خلال بوشكين وغوغول وتشايكوفسكي. لا من خلال ادبيات وتنظيرات الفكرة الشاملة ثم تطبيقها الدموي.
__________________________________
اعتراف اين الله \ مكسيم غوركي
النسخة المعتمدة \ عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر _ الطبعة الثانية 2009
” فيما نستلقي انا ولاريون, على ظهر الوجاق البارد نتدثر بكل ما تقع عليه ايدينا” [[ اعتراف اين الله \ ص 10-11]]
الهامش: (الوجاق) مدفأة كبيرة تبنى في الجدار. مطلية بالطين فيها فتحة كفتحة الفرن, وكان الروس ينامون على سطحها لينعموا بالدفء في الليالي القارسة.
برد روسيا القارس يعني شح القمح اي شح المحصول الاساسي , فالفلاح يزرع ثم يقوم بخزن ما يزرعه للشتاء الطويل, واذا اخذنا بنظر الاعتبار انه لن يكون المستفيد الوحيد من محصوله فهناك الكنيسة, ومالك الارض, وموسم الزراعة السيء. كل هذه صعوبات اضافية للفلاح تجعله امام معضلة بقاء سنويا ً.
قفر الارض وبرودة روسيا ادى الى شح النفوس. وهذا الكلام مشابه لما اورده دوستويفسكي بروايته المراهق في ” ص \ 546 الجزء2 ” والذي ورد كاقتباس في صفحة (17) من الدراسة.
” كانت الراهبات حولنا مثل حشد اسود, كأن جبلا ً قد تحطم فتراكم حطامه في الكنيسة. وكان الدير غنيا ً, فيه كثير من الراهبات, وكلهن بدينات, بيضاوات البشرة, وجوههن سمينة وطرية, كأنها مصنوعة من عجين. يصلي الخوري بتفان, لكن باختصار, وهو ايضا ًحسن التغذية, ضخم الجسم, اجش الصوت. كل مغنيات الاكليروس جميلات, رائعات الصوت. وتذرف الشموع دموعا ًبيضاء, فيرتعش لهبها شفقة على البشر. [[ ص 84 ]]
” وقد لاحظت ايضا ً ان الدير يستغل لأغراض اقتصادية, إذ تبيع إدارته الاخشاب, وتؤجر الاراضي للفلاحين, وتقوم بصيد الاسماك في البحيرة, كما ان للدير طاحونة, ومزارع خضار, وبستانا ً واسعا ًمن الاشجار المثمرة, والقيمون عليه يبيعون التفاح والثمار والملفوف. ويوجد ثمانية عشر حصانا ًفي الحظيرة, وعدد سكان الدير اكثر من مائة شخص, كلهم من الرجال الاصحاء, القادرين على العمل.”
[[ ص 99]]
الكنيسة الثرية تكتنز الاموال لكنها لا تشاركها مع الفقراء المحتاجين, فهل هناك غياب للكنيسة اكبر من ذلك. بل الامر تعدى غياب الدور الى الفساد والانحراف عن المهمة الانسانية والروحية المكلفة بها, ضحت بجانبها الروحي لتصبح مؤسسة دنيوية جشعة. وقد نجحت بذلك ايما نجاح لأنها استغلت ردائها الديني لخداع الناس والاحتيال عليهم.
رجال الدين ونسائه في روسيا كما باقي العالم ذوي وجوه حمراء منتفخة او بيضاء قطنية, بعكس اتباعهم الذين يصارعون الحياة يوميا ً واللواتي يصارعن الحياة. فكان الامر بروسيا اوضح واشد مما سواه من دور العبادة.
” اما الكهنة فيعاقرون الخمرة, ويعاشرون النساء بحماسة, إذ يتسلل اصغرهم سنا ً الى القرية ليلاً, بينما تأتي النساء الى قليات الكهنة الاكبر سناً بحجة التنظيف. وهم, بالطبع, يستغلون المصليات ايضاً. على ان هذا كله لا يعنيني, ولا يحق لي ان انتقدهم عليه, لأنني لا اراه اثماً, لكن النفاق ينفرني.”
[[ نفس المصدر\ ص 100]]
الكهنة اعضاء المؤسسة الروحية دنيويون للغاية. بينما المواطن الروسي يعاني الاهمال والظلم. والفلاح يعاني البؤس وضنك العيش. وبذا يكون الرهبان متوغلين بالرذيلة حتى اكثر من رعاياهم الدنيويين كما يفترض بهم. وكما يفترض بالكهنة ان يكونوا مرشديهم بهذا الطريق الروحي. لكن الشهوات نصيب رعاة الكنيسة والالم نصيب رعاياهم.
يقول غريشا واصفاً حال الاديرة ” فعشت خلال اربعة اعوام في ثلاثة اديرة, وكنت اجد التجارة في كل مكان فيها, ولا اجد ملاذاً لروحي! انهم يتاجرون بالأرض, وبكلمة الله. ويبيعون العسل والمعجزات… انني لا اقوى على رؤية ذلك!.”
[[ نفس المصدر \ ص 103]]
هذا كلام شاهد عيان يرينا ما ابعد رعاة كلمة الله عن الله. لقد تحولوا بعد تعطشهم للدنيا الى سبب من أسباب عذاب الفقراء والمظلومين وليس لعامل تخفيف الظلم على بني الانسان. اذن الكنيسة الروسية فاقدة لكل دور لها واصبحت هي ذاتها تعتاش على الظلم الاجتماعي بدل ان تحاربه لان الحرب والمواجهة تقتضي القرار الصادق بالتخلي عن كل المزايا وهم اختاروا ان لا يفعلوا.
لكن ما الذي حدى بهذه المؤسسة الروحية الالهية ان تنحدر الى هذا المستوى من البوهيمية, لا شك ان لبرد روسيا وشتاءها القارص وبالتالي شح الطعام الدور الكبير. فالكنيسة الروسية كانت بظروف اسوأ من ظروف سواها من الكنائس الاوربية.
نبلاء يتنعمون وفقراء يعانون وشتاء ترتعد له الفرائص وشح طعام, في وسط كل هذه الظروف اختارت الكنيسة ان تنهار.
” معروف عندنا, ان من يأكل من عرق جبينه يظل جائعاً. انظر الى الفلاحين. أنهم يزرعون القمح منذ قرون ولا يجرؤون على اكله.” [[ نفس المصدر\ ص 110]]
اذن من هنا يأتي القمح الذي يكدسه الرهبان لديهم ليقوم “ماتفي” بخبزه في الدير. انه مأخوذ من افواه الجوعى.
“قبل رحيل غريشا وقعت لي حادثة دنيئة, أذ دخلت مرة الى المستودع, واذا “بميخا ” منبطح فوق الاكياس يمارس اثم العادة السرية. شعرت باشمئزاز فظيع, وتذكرت القذارات التي كان يحكيها عن النساء, تذكرت حقده, فبصقت وقفزت الى الفرن ارتجف غضباً..”
[[ نفس المصدر\ ص 117]]
ميخا ذلك الراهب الذي كان لا يذكر النساء الا بكل سوء ويشتمهن ويبصق عندما يأتي ذكرهن, لا يختلف بفسقه عن باقي الرهبان, لكنه يحمل عقدته تجاه النساء لفشله باقامة العلاقات معهن لمواصفاته المتواضعة ولعيوبه الشكلية وبذا فشله بالتنفيس عن رغباته. وبذا لم يكن لديه اي سمو او ارتقاء روحي, كما هو مفترض به. بل لم يسع الى ذلك اصلا ً.
“اتذكر جشع الكهنة الشرير في شهواتهم للنساء, وقذاراتهم. إنهم لم يعفوا حتى عن البهائم. اتذكر كسلهم, وطمعهم, وشجارهم في اثناء قسمة زاد الاخوة في الدير, عندما ينعق بعضهم على بعض كالغربان في مقبرة. لقد اخبرني غريشا كم يشقى الفلاحون في خدمة هذا الدير, فيما تزداد ديونهم وتتراكم .”
[[ نفس المصدر\ ص 121]]
جل وضيفتهم كانت هجرة الشهوات والابتعاد عن حبائل الشيطان لكن ركسوا فيها ربما السبب ان هذا الدور ليس بوظيفة اساسا ً.
” هذا مصلاي! تتوسط الغرفة طاولة كبيرة, وبجوار النافذة كنبة مريحة. وكان الى جانب الطاولة ديوان عليه سجادة ثمينة, فيما كان امام الطاولة كرسي جلدي عالي الظهر. وكانت الغرفة الثانية مخصصة للنوم, فيها سرير عريض, وخزانة للجلابيب والالبسة الداخلية, ومغسلة مع مرآة كبيرة, وكثير من الفراشي, والامشاط, وقوارير مختلفة الالوان, اما الغرفة الثالثة فكانت لا تلفت النظر, وفارغة, الا جدرانها التي دست فيها خزانتان سريتان , تحوي احدهما خموراً ومازات, وتحوي الاخرى اواني لشرب الشاي, وبسكويتاً, ومربى, وانواعاً من الحلويات.”
[[ نفس المصدر\ ص 126]]
يسهب الكاتب هنا بوصف الترف الذي يعيش فيه الاب انطوني. والذي قرر ان يجلبه معه من جناته الدنيوية في الخارج فطبقيته وامتيازاته لا بد ان تصحبه حتى وان سكن الدير.
يصف مجيء عشيقة الاب انطوني, الشقراء صغيرة السن ” في ذلك اليوم شرب كلاهما الكثير من النبيذ في اثناء الغداء, وبعد تناول الشاي, في المساء, كانت المرأة ثملة تماماً.”
[[ نفس المصدر\ ص 141]]
يأمر الاب انطوني المرأة ان تتعرى امام “ماتفي” بعد ان ثمل. ثم يهجم على “ماتفي” ويتوعده.
هرب ماتفي من الدير بعد ان اخبر رئيس الدير فكان جوابه الانكار الفاضح والكذب القراح.
” ما بك, ما بك, حفظك الله! اية امرأة؟ لا بد ان هذا تراءى لك من جراء اغواء الشيطان لجسدك! آي, آي, آي! الم تفكر في هذا؟ اية امرأة في دير للرجال؟ [[ نفس المصدر \ ص 144-145]]
“ماتفي” هذا الانسان الملحد لاحقا ً والاشتراكي مستقبلا ً الذي وخلال بحثه عن الله وعن ذاته كان مثالاً للعفة اكثر من الكهنة في الدير المتعطشين والمتهافتين على اجساد النساء. بينما هو كان يبحث عن جمال الايمان اعني البحث عن الله ونسائمه وعدله, بينما احتقر من يتمرغ بالوحل متوسلاً بهذا القديس او سواه ليقبع في ظلمات ظلال الكهنة وتقاعسهم عن خدمة ابناء الله, ويسمون ذلك ايماناً. واستغلوا ابناء الله لأجل خدمتهم منصبين انفسهم دعاة لله اثماً وعدواناً واستغلالاً.
” بسطت الغابة اجنحتها الخضراء, وظهر الدير في صدرها , جدرانه بيضاء, مسننة الاعالي, كأنها مطرزة على خضرة كثيفة, والكنيسة القديمة بأبراجها الزرقاء, وقبتها الذهبية الجديدة, واشرطة الاسطح الحمراء, والصلبان تشع متألقة, تنادي, وفوقها جرس السماء الازرق يصدح بضجيج الربيع الفَرٍح والشمس تحتفل بانتصاراتها. وداخل هذا الجمال الذي يجعل الروح تضطرب بابتهاج حي, اختبأ رجال سود في جلابيب طويلة, ليتعفنوا هناك وهم يمضون ايامهم فارغة, لا حب فيها, ولا افراح, يقضونها في القذارة, والعمل العبثي” [[ نفس المصدر\ ص 145]]
ينتقد تمسك الاديرة ورهبانها بطقوس وشكليات فارغة لا تقدم اي شيء حقيقي لتغيير واقع الناس وتخفيف الأمهم سوى الاحلام بعالم افضل بعد الموت, والاكتفاء بذلك , كما ان هذه الطقوس توحي بان لهم دورا ً وان لم يكن حقيقيا ً كما انها توحي بأهميتهم وفداحة مهمتهم التي انيطت بهم.
“لقد تكاثرت الفئران في مستودع الكنيسة, وراحت تمزق بأسنانها ما للشريعة من ثياب متينة, والشعب يغلي غضباً على الكنيسة, فيبتعد الناس عن صدرها, ليقعوا في فحشاء الهرطقة والطوائف. وماذا تفعل الكنيسة التي تحارب في سبيل الله, بالمقابل؟ انها تضاعف املاكها, وتزيد عدد اعدائها! يجب ان تعيش الكنيسة في الفقر مثلما عاش القديس الفقير”اليعازر”, لكي يرى الشعب ان الفقر الذي اوصى به المسيح مقدس حقاً.”[[ اعتراف اين الله \ ص 152]]
الكنيسة متخمة واتباعها جائعون. يقدم الكاتب عفة “ماتفي” الشاب القوي الوسيم وشهامته امام حسية الكهنة في الاديرة وشهوانيتهم وبوهيميتهم وشبقهم وطمعهم وماديتهم.

 

 

 

الابلة \ لدوستويفسكي:
دار بن رشد للطباعة والنشر – الطبعة العربية الثانية

“وهؤلاء السادة ” العالمون بكل شيئ” هم في اكثر الاحيان اناس صعاليك يسيرون بأكمام مثقوبة اكواعها, ولا تتجاوز رواتبهم سبعة عشر روبلاً في الشهر”. [[ الابلة \ الجزء الاول ص 13 ]]
يبين هذا المقطع مدى بؤس حال الموظف الروسي. وما لضعف الحالة المادية من تداعيات نفسية اجتماعية يوضحها من خلال ان حتى معرفة الناس الاغنياء وذوي النفوذ وان بالشكل والاسم فأنها تساوي عندهم كنز معرفي كبير وطاقة روحية كبيرة. لكن لن يلبث ان يتحول هذا الخنوع والرضا بواقع الحال الى رفض وتمرد ثم ثورة.
” مأساة ماريا ” [[ نفس المصدر\ ص 131- 139]]
قصة ماريا التي حكاها الامير بوشكين- الابلة- قد حصلت في قرية سويسرية حيث كان يعيش. وهي باختصار ان هناك فتاة تبلغ العشرين من العمر, لامرأة عجوز, اذن العمدة للعجوز ان تفتح دكان لها من منزلها. اما ماريا فكانت تعمل كخادمة في عدة منازل فتقوم بمسح الارضيات والعمل في الحظائر…الخ رغم معاناتها من مرض السل. اغواها فرنسي كان مارا ً بالقرية ثم تركها على الطريق بعد اسبوع. عادت الى والدتها وقريتها , لكن كيف عادت !!رثة الملابس مثقوبة الحذائين حتى انها قامت بالاستجداء في طريق عودتها. نبذتها امها واهل قريتها بطريقة مؤلمة ومهينة. توفيت والدتها بعد شهرين. وهي لا تكلمها رغم عناية ماريا بها. رفضت القرية اطعامها واصبح الاطفال يرمونها بالحجارة. تبعت احد الرعاة يوما ً تطلب منه ان تعمل عنده لكنه رفض, لكنها استمرت تتبعه رغم ذلك, وكانت تعتني بالخراف. فاخذ يعطف عليها بعد ان رأى مدى فائدتها له وبعد ان رأى قدميها الحافيتين واسمالها البالية , اصبح يعطيها الطعام. وعند دفن امها اهانها الواعظ امام الناس قائلاً انظروا الى حال من يفقد الفضيلة, فقد كانت رثة الملابس حافية القدمين.
ماريا تعرضت لظلم قريتها وسوء معاملة امها لأنها من وجهة نظرهم قد خالفت احدى المحظورات, في منطقة قروية منعزلة لها خطوطها الحمر وممنوعاتها. ورغم خطأ ذلك الا انه يبقى ظلم محصور بأفراد قلائل لأسباب معينة يضعها المجتمع. فعدى هذا الظلم الموجه لمن تجاوز محظوراتهم, فهو مجتمع رحيم ومتماسك يرعى افراده ويعينهم فالجماعة تحمي الفرد. فقد لاحظنا ان العمدة اذن لوالدة ماريا ان تفتح بسطة من منزلها. وهي التفاتة رحمة واهتمام ومسؤولية ولا شك.
بخلاف الظلم في المجتمع الروسي الذي يبدو اعم واشمل واكثر اتساع يحصل من غير اسباب معينة بالفرد. لكن بسبب اخطاء هيكلية بالمجتمع الروسي وطبقيته وتفشي الظلم واللا- عدل واللا- مساواة والفساد فيه.

البؤساء \ لفكتور هيجو

في كتاب البؤساء واحداثه بالجغرافيا الاوربية حصلت ايضاً ماسي. الا انها ماسي تحصل فردية ولأسباب معينة وخاصة وليست امر نمطي ممنهج. اي انها ليست معاناة مجتمعية كاملة كالتي يعاني منها الروس, ارض مجدبة, جفاء اجتماعي, ظلم طبقي, نظام فاسد سياسياً ومتخلف ادارياً وغير عادل.
كتبها فكتور سنة 1862 تصف احداث في عام 1815
تتحدث الرواية عن السجين السابق ( جان فالجان ) الذي سجن لانه سرق الخبز لاخته وابنائها الذين يتضورون جوعا ً. بعد خروجه من السجن يستضيفه الاب ” شارل ميريل” اسقف مدينة (ديني) فيسرق منه الفضة في الليل. ثم يتظاهر القس بانه هو من اعطى الفضة له.
رحمة القس ميريل لم نرها في روايات دوستويفسكي فكان دورها مغيب وبالكاد هي تحمي نفسها من برد الشتاء الروسي وصقيعه لتكون جزء من الظلم الاجتماعي واللا مبالاة المجتمعية الروسية.
عذاب فالجان هو وصمة لفئة اجتماعية محددة وهي خريجي السجون. ولا تزال هذه الوصمة الى الان حتى في المجتمعات المتحضرة اكثر منها ظلم اجتماعي فادح. فجان خارج من السجن وعانى من البطالة بسبب كونه سجين سابق. لكن حتى هذا الظلم والوصمة التي اجبرته ان يعيش كمتشرد متخفي, لم تمنعه من ان يمسي العمدة ومالك مصنع في مدينة مونترييل.
تلمس دائماً في هذه القصص وما تعكسه من مآسي الفرد, ان هناك نافذة امل فيها. هناك ضوء يدخل ليضيء ظلمات واقع الناس الاليم. الا الرواية الروسية تحس ان كاتبها يعكس واقعاً يائساً , واقعا ًمن اربع جدران بلا اي نافذة. مغلقة تماماً على قاطنيها الذين لن يلبثوا ان ينهاروا تحت وطأة العبء والظلم والماسي.
جان فالجان الذي وصمه المجتمع ورفضه. فلم تستقبله حتى الفنادق, فيضطر للمبيت في الشارع. يعامله الاب ميريل بكل شفقة فيستضيفه ويعفو عنه لاحقا ً. الكنيسة الاوربية لا توصد ابوابها امام من اوصدت امامه كل الابواب على خلاف الكنيسة الروسية, فهي جزء من الظلم الذي ينال الفرد المعذب, فأصبحت الكنيسة بحد ذاتها مؤسسة تستغل الفرد وتخدعه وتنال منه. فتزيد عذابه واوجاعه ومعاناته.

 

اوليفر تويست \ تشارلز ديكنز

اوليفر تويست ذلك اليتيم الذي عانى سوء المعاملة واختبر الالم من اناس قساة في مستهل حياته. لم يعدم من يعينه لاحقا ً كالسيد براون – ميسور الحال- الذي حال دون دخول اوليفر السجن عندما شهد انه لم يكن من قام بعملية سرقة محل الكتب فكان لشهادته الدور الاكبر في عدم زجه بالسجن. ثم تبنيه لأوليفر.
كما عطفت عليه عائلة السيدة مايلي التي حاولت العصابة سرقة منزلها, فامسك حارسها بأوليفر وهو مصاب. فقد استغلته العصابة لكي يدخل من فتحة صغيرة ويفتح لهم الباب. وسمحت السيدة مايلي لأوليفر بالمكوث عندهم لثلاثة اشهر بدلاً من ان يسلموه للشرطة. وبعدها اعادوه الى السيد براون حيث كانت لهم صلات به.
السيد براون الذي حماه من جديد وابلغ الشرطة عن العصابة ومخططاتها. فكان له الدور الاكبر في ان تتجه حياة اوليفر نحو نهاياتها السعيدة. نافذة الامل كانت موجودة في رواية اوليفر تويست والروايات الاخرى مثل رواية كبس لويلز حيث يستطيع البطل الخروج من نافذة الامل نحو يسر الحياة بعيدا ً عن عسرها.
هذه الرواية والروايات اخرى توثق مرحلة انتقالية للمجتمع الاوربي في تحوله من مجتمع زراعي الى مجتمع متبني لأنشطة كثيرة متنوعة. فالمجتمع الاوربي الزراعي والتجاري تبنى الثورة الصناعية والعلمية ليضيفها الى انشطته فازداد ثرائه. فهو مجتمع متطور اقتصاديا ً. بخلاف المجتمع الروسي المعتمد على الزراعة فقط والتي بدورها تعاني من شتاء قاسي طويل. شح الانشطة الاقتصادية القى بثقله على شح الحلول المتاحة للفرد لان المؤسسات التي كان يفترض بها النهوض بالمجتمع قد تغلب عليها سوء الاحوال الاقتصادية فأصبحت بالكاد تريد النجاة بنفسها واستئثار ما تستطيع الاستئثار به بعيدا ً عن الافراد.
الثورة الصناعية وهي خطوة هائلة للبشرية, عنت ان اوربا وضعت اقدامها على اعتاب الرخاء والرفاه الاقتصادي. فلا شك ان سير البشرية بهذا الطريق- الثورة الصناعية- انه سينتج عنه ظلم واجحاف للطبقات الكادحة, لكنه سيختفي حالما تتجاوز الثورة الصناعية خطوات الرضيع الحابية وتصحح نفسها فتتنج رفاهية وازدهار وعدالة اجتماعية وهو ما حصل.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب