23 ديسمبر، 2024 10:29 ص

ازمة الثقافة العراقية واشكاليات المثقف العراقي

ازمة الثقافة العراقية واشكاليات المثقف العراقي

مدخل
 لم يشهد العراق منذ بداية القرن العشرين مثيلاً لما يشهده حالياً من تدهور شوه كل ما كان يعزه في تاريخه الحديث والمعاصر من قيم مادية وروحية، وهو تدهور لا يمكن عزله عن التدهور الشامل الذي اصاب المجتمع العراقي بأسره منذ 14/ تموز/ 1958 ولا سيما في العلاقة المتبادلة بين المجتمع من جانب والثقافة من جانب آخر.
فالازمة الثقافية الماثلة الآن لا تعدو ان تكون جزءاً من الازمة الاجتماعية الشاملة، وتتمثل هذه الازمة في حقيقة الأمر في عجز المجتمع العراقي عن تطوير قواه البنيوية لتدهور علاقاته الاجتماعية الطبقية والمذهبية، وعلاقاته الاقتصادية بخاصة، بفعل اهمال حكوماته المتعاقبة لاغلب مؤسساته الانتاجية والعلمية والثقافية.. مما ولدَّ حالة اثرت بمجملها على البنى الاجتماعية المتوسطة والادنى، مما حدى بأفراد هذه المستويات التطلع بأمل كبير الى الثقافة والى المثقفين، حتى يمارسوا دورهم الطبيعي في التبشير بكسر حالة الجمود والسكون بين قوى المجتمع وتطورها حضارياً.
فأزمة المجتمع العراقي هي ازمة العجز الصارخ عن تطوير قواه البنيوية وبالتالي فأنه باسره يشكو من عجز خبيث في تطويرها، ناهيك عن تخلي حكوماته –سابقاً وراهناً- عن مسؤولياتها في قيادة التنمية الاقتصادية، فألقت بالمسؤولية على عاتق رؤوس الاموال المتخلفة ومن ثم اطلقت العنان لأنشطتها التي تولد اعلى الارباح.من جانب آخر، فأن هناك جموداً واضحاً في بنى العلاقات الاجتماعية مصحوباً بعملية اعادة تشكيلها على اساس متدهور عن الاساس الرأسمالي الطفيلي المتخلف الذي ينطوي على الاستغلال المادي القهري للعاملين وما يدره من ربح لاصحابه. اما سلوك هذا المجتمع فيقوم على اساس المكسب المستباح بلا حدود، ويسعى لتحقيق الريع لا الربح. ولقد جرى هذا التحول منذ بداية عقد الستينيات، غير انه تفجر تماماً منذ ان سنت الحكومات السابقة سياسة بيع بعض مؤسسات القطاع العام الى القطاع الخاص ولا سيما منذ بداية عقد التسعينيات، وهذه السُنة قائمة حتى اللحظة لكن تحت مسمى الخصخصة والتمويل الذاتي، فأشتعل المجتمع بالانشطة الربحية غير المنتجة او ما يعرف بالانشطة الطفيلية، ورفض –اي المجتمع- ممارسة الانتاج الرأسمالي نفسه، واشتغل بالخدمات، وبرع في اعمال الوساطة والسمسرة والتهريب، وانشغل بجني المكاسب السهلة التي لا تعتمد في مصدرها على العمل والكد داخل العراق وانما اصبح التعامل في الانشطة الطفيلية وبخاصة التجارة الاستيرادية مع العالم الخارجي، هو المصدر الاول لكل ذلك.وبسيادة هذه الانشطة سادت العقلية الطفيلية عقلية الوساطة والسمسرة والتهريب والسوق السوداء.. وسادت انماط تخريبية في الاستهلاك ترويجاً لواردات أقل ما يقال عنها انها مخلفات صناعية وصار الانتساب الى الخارج شرفاً وتشريفاً، واصبحت التبعية مطمح جميع اولئك اللامنتمين الى وطنهم.سادت هذه السياسة الاقتصادية من اعلى المجتمع لكنها سرعان ما اقتحمت كافة الطبقات حتى العمال والفلاحين والمثقفين واخذت في اعادة تشكيل وصياغة الطبقات على استعبادي استغلالي، ومع سرعة انتشار التفاوت الشاهق بين الطبقات مع السرعة المذهلة في تكوين الثروات، دب التحلل الاجتماعي وشاع اسلوب الارتزاق والتعيش على حساب الغير، ولا شك ان اختراق النشاط الطفيلي لكافة الطبقات قد حقنها بقيم فاسدة حتى ليصبح القول بأنه أفسد وعي المجتمع.وهنا تكمن ازمة الثقافة العراقية واشكاليات مثقفها. فمجتمع النشاط الطفيلي ليس بحاجة الى الثقافة بمعناها العام، وان يكن بحاجة الى ثقافته الطفيلية. ان له قيمه المادية والروحية التي يجندها بالطبع وينشرها بين الناس، وهي قيم انحطاطية، قيم الركود الاجتماعي الآسن، قيم النهب والسلب الصارخ السافر، قيم اغتيال كل المقدسات من خلال بناء الثروات.واستناداً الى أمية هجائية طاغية، واستناداً الى احتكار وسائل الثقافة والاعلام، واستناداً الى احتكار الحكومة لارزاق الاغلبية الساحقة من المثقفين، واستناداً الى عجز الطبقات الشعبية عن تقديم ثقافتها البديلة لأسباب شتى تتراوح بين المناخ المعادي للديمقراطية والتراخي من جانب مثقفي المجتمع، استناداً الى ذلك كله، تمت وتتم عملية اعادة تشكيل وصياغة الثقافة العراقية على اسس النشاط الانحطاطي. وتبدأ هذه العملية بتجريد الشعب العراقي من انجازاته التاريخية لتفرض عليه قيم التطور الرأسمالي  التابع المشوه، ولتنتهي بتبرير وتبييض صفحة الاحتلال الامريكي وتوابعه. وهنا يكمن جوهر موضوع دراستنا في قسمها الثاني المتمثلة بأدوار مثقفينا وانماطهم الفكرية ومواقفهم الوطنية. فمما لا شك فيه، ان الحديث عن المثقف العراقي وازماته المتمثلة في تحديد مواقفه وتفعيل ادواره واشكالية علاقته بالسلطة ومحيطه الاجتماعي، يقود الى الحديث عن المفهوم الدارج للمثقف الذي جنى جناية كبيرة على الثقافة وعلى موقعه في المجتمع العراقي. هذا المفهوم الذي رسخه عملياً النفعيون وادعياء الثقافة. ولهذا السبب تراجعت مكانة المثقف من مستوى العلم والثقافة والوجاهة في المجتمع ولدى الحاكم والسلطة المعنوية والادبية والفكرية، ومن موئل الضعفاء وملاذ المظلومين في مجتمعنا التقليدي.. الى الانسان الذي لا يفيد، الفائض عن الحاجة، الذي ينتحل وظائف لا وجود لها او غير القابل للتمثل والاندماج والذي ترتاب فيه السلطة وتؤلب عليه الدهماء واجهزتها، ان تطاول وخاض في هرطقة سياسية واجتماعية واقتصادية. هذا المفهوم الهابط للثقافة، تضافر واقترن بوضع ملتبس وبائس للمثقف في فهم الخاصة والعامة عندنا، فغدا كل متعلم –يفك الابجدية- وكل اداري، وكل من يرطن بمفردات اجنبية لها علاقة بالطبخ والشارع والمقهى والسوق والحانات.. يعد مثقفاً. اما المثقف المفكر الكاتب المبدع المنتج، فلا شأن له ولا يؤبه له في مجتمع أميّ طغت عليه القيم المادية والاأبالية، وانحسار الاخلاق، وفقدان الاتجاه والهدف من الحياة. ان حواراً جاداً ومعمقاً وهادفاً بمناقشة ازمة الثقافة العراقية واشكاليات المثقف العراقي ووضعهما في المجتمع والبناء الفكري بتعزيز القيم والمعايير الوطنية والاجتماعية والروحية، واحياء الفضاء الثقافي، من خلال تفعيل شروط الحياة الفكرية واحلال الشرط الثقافي المكانة اللائقة به في سلم الاولويات والمناصب والمسؤوليات، كفيل باعادة الثقة الى النفوس واشاعة روح الاطمئنان والامل في التخلص من العقد والانكسارات وردم الهوة بين الواقع الكئيب والممكن المنشود والتشوق الى مرتجيات عهد جديد بكثير من الامل والثقة والعمل المنتج.في يقيني، ان قيام حوار صريح كهذا ترعاه المؤسسات الاكاديمية والثقافية –على علاتها- حول المسألة الثقافية والفكرية وتداعياتها في العراق، افضل بكثير لواقع عراقنا ومستقبله من انشاء وزارة للثقافة على رأس دوائرها ادعياء متخلفون أميون عابرون ابتداءاً من الوزير ونزولاً لاتفه موظف. من هنا، نستطيع ان نطرح مظاهر او معالم خطيرة لأزمتنا الثقافية الراهنة التي باتت تشكل نوعاً من الاضمحلال الحضاري. اولاً-  انتاج ثقافي يتميز في الواقع بالضحالة وبؤس الطرح، وبالجهل والتجهيل، ويقوم على مسلمات غير مسلم بها وليس لها من نتيجة سوى الحيلولة دون النظر في الامور الجوهرية والانصراف الى الصغائر والتفاهات والثقافات الرخيصة مما يشكل افلاساً روحياً بالفعل يضاف الى ذلك اهدار اللغة العربية تعليماً واعلاماً وخلق مصطلحات وتسميات عامية ركيكة ومبتذلة وترويج مصطلحات وعبارات اجنبية تشكل مسخاً رديئاً لرصيدنا اللغوي مع ربط فئة الشباب باللغات الاجنبية المطلوبة للعمل او الرائجة حتى في الاغنية. ثانياً- محاولة اعادة تشكيل بعض المثقفين العراقيين- ممن لهم الاستعداد لذلك – ومن ورائهم المجتمع كله بروح القيم الانحطاطية الطفيلية مع التنكر لكافة القيم التي سادت حياتنا من قبل. في الوقت نفسه تنمية ونشر عدم اللامبالاة بالمجتمع وعدم الاشتغال بالسياسة وتنمية ونشر غرائز وقيم فردية مدمرة للمجتمع في محاولة تزييف الواقع بل تجميده حتى يمكن القول باننا اصبحنا امام معضلة خطيرة هو اعادة تحديد هوية العراق من جديد. ثالثاً- ازمة البحث في العلوم كافة من انسانية وعلمية وبصفة خاصة ازمة البحث في علم الاقتصاد والعلوم السياسية في طبيعة الدولة والسلطة في الدولة، في الطبقات والفئات المختلفة، في علم الاجتماع.هنالك بالطبع دراسات قيمة ورائدة ولكنها في النهاية قليلة العدد محدودة الانتشار، فقد تدهورت مكانة الكلمة المكتوبة بالمقارنة بالكلمة المسموعة او الكلمة المرئية.رابعاً- تحويل مناهج التعليم لتخريج صناع ومهنيين او مجرد متخصصين لا يشتغلون بالتفكير. ومن هنا تدهورت مكانة الجامعة على الرغم من شدة الاقبال عليها للحصول على الشهادة، بل ان دوائر الثقافة المختلفة مشغولة في الواقع بتقديم ونقل ثقافات تصيب الناس بالبله او العته او البلادة والعجز عن التفكير، صحيح انها تقدم بعض اولويات الثقافة والمعرفة للأميين لكنها لا تتصدى لطرح القضايا الجوهرية للتفكير العام. وعلى العكس فانها تشجع على اهمالها وعدم التصدي لها اصلاً، بل ان المهمة الاساسية لدوائر الثقافة الرسمية هي حمل الناس على عدم التفكير في القضايا الاساسية التي يجب ان يفكروا فيها وفي نفس الوقت حملهم على التفكير في الامور الثانوية والتافهة التي لا تستاهل التفكير فيها. ولهذا، فهي دوائر امينة على مهمتها التي عهدت بها دولتنا اليها وليست هذه الدوائر على عكس ما نظنه احياناً بالدوائر القاصرة او المقصرة. انها تؤدي مهمتها في منع الناس من التفكير، فمجتمع النشاط الانحطاطي ليس بحاجة الى الثقافة لكي يبقى او هو بالدقة بحاجة الى ثقافة من نوع يتولى انتاجها ونشرها بنجاح.علينا هنا ان نستعيد حقيقة الاستقلال النسبي للثقافة في المجتمعات، فالواقع ان مثل هذا الاستقلال يتواجد بشكل اكبر في المجتمعات النامية، فان الطابع المتخلف وغير الكامل لتشكيل الهياكل الاقتصادية غالباً ما يؤدي في الواقع الى تقليص دور العلاقات التحتية في تطوير الهياكل الفوقية. ولهذا فان الفجوة بين الاقتصاد والسياسة هي الفجوة التي تحكم الاستغلال النسبي للبناء الفوقي في المجتمعات النامية وهي اوسع بكثير مما هي عليه في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. ولهذا تظهر هنا اهمية خاصة للهياكل الفوقية بما فيها الثقافة بالنسبة للهياكل التحتية وتلك ظاهرة يستفيد منها كل من اعداء الثقافة وانصارها على السواء. ان الحالة الثقافية في العراق معقدة ومزنة حقاً، فنحن منذ تأسيس دولتنا لم ندشن حواراً فكرياً ثقافياً متفاعلاً ومثمراً، وما ينشر على صفحات جرائدنا ومجلاتنا من حين لآخر، هو عزف منفرد وصوت نشاز لا ندري هل يقرأ ويترك أثراً يختمر في النفوس ويفعل فعله في لاحق الايام ام لا يشغل اكثر من الصفحات التي شغلها وسودها؟ لقد كنا نؤمن بالتراكم الذي ينتج التوعية والانطلاقة، ولكن بعد اكثر من (كذا) عقد من الانتظار الابله حصل تراكم الرداءة، وسادت قيم التخلف والجهل والرعونة وطغيان الامية، أمية الفكر، وامية التعليم، واقع تعبر عنه دلالة تلك المقولة التي شاعت بين المثقفين والمتعلمين وعامة المجتمع: ماذا تفيد الثقافة؟ ما فائدة العلم؟ لأن كل شيء في مجتمع متخلف منهزم تنهشه امراض الانانية، اصبح يقاس ويوزن بمكونات الحياة الرخيصة – أكل وشرب، مقتنيات استهلاكية نساء…- اما الروح وقوة الارادة والابداع وسعة الخيال وحرية الفكر وما يستتبعه ذلك من أمل في حياة اكثر انفتاحاً وحرية وثقة في قدرات الذات ونقد فعال لحياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، وحوار متكافئ يرسم اتجاهات فكرية تعبر عن تيارات سياسية واجتماعية يتجسد فيها الحق في الاختلاف، مثل الحق في الوجود دون النزوع الى التسلط والهيمنة والابتزاز الذي يمارسه بعض السياسيين، وتسيد ثقافة الارتجال والمناورة واساليب المكر. فذلك كله غائب وغير مرغوب فيه، ويبدو انه أبعد عن نزعة الديمقراطية واستعادة عافية الروح ونقاء الضمير. لقد ضاع منا حتى ما كان يبشر بمستقبل ثقافي وحوار فكري واعد كانت تتجلى فيه بذور الاتجاهات التي كانت تحاول التعبير عن نفسها متسترة تحت غطاءات مخادعة، مثل كتابات جيل الخمسينيات والستينيات. لقد كان هذا الجيل برغم الاختلافات وتعدد الانتماءات طمح الى تأسيس واقع ثقافي ورعاية واحة الفكر التي يتقيأ ضلالها رجال السياسة ولكنه اخفق. اشتبكت عليه اشجار الغابة وطرائدها وتناهبته الايديولوجيات فلم يفلح في بناء مدرسة عراقية فكرية حية لا تنحني امام الاعاصير ولا تسقط في مستنقع سنوات الدماء والردة وجنون تدمير الذات وسياسات الارتجال والمغامرة والحقد وسديمية النظر.ان جيل هذين العقدين وما تلاهما.. مثل الجيل السياسي ولنفس الفترة الزمنية اخفق في تأسيس مدرسة عراقية فكرية ومن ثم فان الفكر السائد اليوم هو فكر التسطيح والضحالة والاعتيادية، الفكر المنهزم الذي يدافع عن البديهيات ويرفع شعار المسلمات، في عالم كل شيء فيه يتغير ويتجدد ويكرس الجمود والرتابة ويحمي طقوس الموت المجاني جيل يدلف نحو نهايته ويدخل في المحاق حاملاً احلامه المجهضة. هل مطرقة السلطة ام بريقها كان هو السبب؟ ام ان مرحلة بناء الدولة ومؤسساتها بعد اعلان جمهورية العراق وما تتطلبه من جهود الموظفين العاملين في مفاصل سلطتها حالت دون نجاح هذا الجيل والاجيال التالية له، وأفشلت المشروع؟أليست هذه الاسباب التي كثيراً ما تتذرع بها هي من الكوابح التي تساعد على عدم تأسيس ثقافة وطنية متقدمة، وترسيخ مدرسة عراقية فكرية فلسفية تتفرع عن السياسة والاقتصاد والتعليم والعلوم والتاريخ والاجتماع.. تحدد المعالم وتثبت المقومات الاساسية، وترقي ملامح التنوع الثقافي الوطني في اطار الوحدة العراقية، وتمكن لحركة الابداع والخلق والاستقلال من ان تنطلق في مسارها الصحيح، مدرسة تتغذى من الابداع العالمي الانساني وتغتني من مخزونها التراثي الحي وتجسد التواصل والانساق والتكامل، ان على المستوى الافقي ام العمودي، مدرسة تناضل من اجل افتكاك حقها في المشاركة في رسم معالم المستقبل وتوجيهاته، وتمارس هذا الحق في الصيرورة التاريخية للمجتمع من خلال التعليم والمؤسسات الاعلامية والكتابية لفضح وتعرية المغاليق السياسية والدينية واقحام المحرمات في المعابد المندسة بالنقد جوهر الموقف الانساني.أليس من نتائج هذا الركون الى كنف التدهور ان تنزل الانظمة السياسية – من 14/ تموز/ 1958 الى 17/ تموز/ 1968 حتى ما بعد 9/ نيسان/ 2003- بمؤسساتها الى استرضاء واستخدام اصحاب المهمات القذرة والتقرب من المغامرين وذوي السوابق القانونية وسماسرة المواقف والاميين وانصاف المتعلمين من المتاجرين بكل شريف ونبيل ليصبحوا من ذوي الشأن في تيسير الشأن العام ولا سيما الثقافي منه ؟ان اللغة العربية دقيقة في وصف هؤلاء بأوصاف تليق بكل صنف فهي بعبقرية لا نظير لها تفرق بين الراجن والآشن، والوالغ والواغل والمهتلك، فهي صفات تميز حالة كل آكل من موائد السلطة، اية سلطة، ولا سيما تلك السلطة التي لم يستطيع المثقف العراقي الحقيقي ان يسمق اليها لأسباب اخلاقية ومبدئية فنزلت الى ادعياء الثقافة واشباه المثقفين لغاية في نفسها، ولم تستيقظ هذه السلطة وتفطن الى انها بنزولها الى مستوى هؤلاء انما هي تكرس الرداءة وتديم التخلف وتعيق الانطلاقة؟ان القضية المركزية التي للأسف لحد الآن لم تتناولها الكتابات العراقية بشكل جدي والتي يشتد النقاش حولها، الا وهي قضية علاقة المثقف العراقي بالسلطة وبمحيطه الاجتماعي، وهي مسألة ترتبط برباط وثيق بالمسألة الثقافية التي نحن بصددها، وهذه العلاقة هي في رأينا تنقسم الى قسمين: علاقة عدوانية وعلاقة احتواء. ولكن قبل ذلك اولى واحرى بنا ان نفكر في موقع المثقف العراقي في مجتمعه، والادارة السياسية والحياة العامة، ودوره في صناعة الرأي العام وامتلاك الحقيقة وانتاجها. ونسأل انفسنا: كم من المثقفين من نودي لتسلم منصب او تولي مسؤولية، رفض التبعية والعلاقة والامتثالية للحاكم، واعياً ان هذا المنصب سيكون على حساب كرامته كمثقف وحريته واستقلال رأيه وموقفه؟منصب تهافت عليه الكثير ولكن كم منهم باعوا ذممهم ورضوا بالرذيلة وغمرتهم اضواء المناصب وجرفتهم المسؤوليات وكانوا حرباً على الثقافة والمثقفين الذين لم يلحقوا بهم. كيف ومتى يحمي المثقف العراقي عذريته ويصون شرفه ويكون من صناع القرار والتأثير في الرأي العام؟ نحن لا نعرف لمثقفينا –البعض منهم- الذين دعوا لتولي مسؤوليات الا تلبية الدعوة والتنكر لافكارهم ومواقفهم وقناعاتهم والانسحاق امام الحاكم الذي سارعوا الى تبرير مواقفه وتمرير افكاره ومشاريعه وتسويق جهله، وحجتهم دائما انهم يخدمون وطنهم، يؤدون المهام التي تناط بهم ولا يترددون ولا يتخاذلون وسرعان ما ينقلبون على شريحتهم التي انبثقوا منها، فيتهمونها بالانغلاق وبعدها عن الواقع وجهلها لحقائق الاشياء، وانهم هم اصبحوا يعرفون حقائق الامور وخباياها، والعارف في مفهوم القوم كائن بائن، كائن مع سيده، بائن عن الناس. وفي هذه الحال تطرح اشكالية الحقيقة، من يملكها وينتجها، والنخبة من يمثلها؟ صناعة الثقافة وتشكيل السلوك المجتمعي   ان القدرة على التفكير هي الخاصية المميزة للانسان. فمن خلال الانتاج المادي للحياة، وبالتعامل مع كل من الطبيعة والمجتمع، وبالتفاعل مع البشر فيما بينهم، ومن خلال انعكاس كل من الطبقة (الانحدار الطبقي) والمجتمع على الانسان، تظهر الافكار، وتتشكل في اذهان الناس قيم، هي علاقات بين البشر، وهي علاقات واعية. فالناس فيها على بينة من انهم يؤثرون بعضهم على بعض من خلال السلوك المتبادل فيما بينهم. ومع ان الناس لا يكونون على وعي بالعلاقات الاقتصادية فيما بينهم، فانهم على العكس على وعي بعلاقاتهم الاجتماعية عادة، ومن ثم تشكل في  اذهانهم افكار معينة وهم بواسطتها يصبحون اكثر وعياً بهذه العلاقات الاجتماعية نفسها. ان العقل، هو ارقى ما لدى الانسان من اجهزة. والتفكير، هو ارقى ما يقوم به من نشاط. وبهذا التفكير يحاول ان يحول ويغير ويحسن البيئة التي تحيط به مستخدماً قوته الاساسية وهي العمل. ومن خلال العمل المشترك تولد اللغة، وتحول الانسان الى هذا الكائن الذي نعرفه. فأنه اذا كان قد قيل بأن الإنسان كائن اجتماعي وانه كائن صانع ادوات، فانه في الحقيقة كائن مفكر، كائن سياسي.

 والتفكير هو معرفة جوهر الاشياء. ويدل تاريخ التفكير الاجتماعي للشعوب على ان اصل الافكار مرتبط اوثق الارتباط بتطور الحياة المادية للمجتمع. ومن ثم تمارس هذه الافكار تأثيرها الضروري على مجرى التطور الاجتماعي، ومع ان الانتاج المادي بما ينطوي عليه من قوى وعلاقات هو اساس ومصدر الثقافة بقيمتها المادية والروحية، فان الثقافة لا تتبع بطريقة تلقائية ما يقع من تغيرات في الحياة المادية للمجتمع، وانما تتميز الثقافة باستقلالها النسبي عن اساسها المادي، بل وباتصال تطورها بثقافات المجتمعات والشعوب الاخرى من حيث الزمان والمكان. ان استقلال الثقافة نسبياً عن أساسها فمعناه ان الثقافة جزء من البناء الوطني للمجتمع، هذا البناء الذي يتميز بتعقد تكوينه وتعدد مستوياته وتباين العلاقات بين اجزائه من جانب والاساس الذي يقوم عليه من جانب آخر. ومن هنا، فان البناء الفوقي لا يعكس آلياً ولا مباشرة ولا فوراً اوضاع الأساس المادي للمجتمع، وبخاصة اوضاع العلاقات الانتاجية بين طبقاته. وبالتالي فانه ليس انعكاساً شفافاً لعلاقات الانتاج. فالى جانب حقيقة ان كل جزء من اجزاء البناء الفوقي يتميز بمضمونه الخاص الفريد، فانه يتميز ايضاً باستقلاله النسبي عن علاقات الإنتاج. ان قوى عديدة موضوعية وذاتية تحول دون التطابق الحرفي بينهما. فعلاقات الانتاج او الاساس المادي للمجتمع او البناء التحتي في المجتمع المتناقض طبقياً هي في الواقع علاقات متناقضة اصلاً تعبر عن تناقض المصالح بين الطبقات. ولذلك فان البناء الفوقي الذي يعكسها متناقض هو الآخر. والطبقة التي تمثل القوة المادية السائدة في المجتمع هي نفسها وفي نفس الوقت القوة الروحية السائدة. ومع ذلك فهي لا تنفرد بالساحة الاجتماعية. وانما هناك قوى في مواجهتها تعارضها وتقاومها. ومن هنا تتعدد ابداعات الثقافة، بل وتتصارع فيما بينها. واذ ان بعض عناصر البناء الفوقي تبقى قائمة حتى بعد القضاء على البناء التحتي الذي انجبها، اما بحكم قوة العادة والتقاليد واما بحكم صلاحيتها لخدمة المجتمع الجديد، فان عناصر من الثقافة تستمر في الوجود بعد زوال المجتمع الذي تولدت عنه. ففي البناء الفوقي لأي مجتمع عناصر غير عابرة ذات اهمية للبشرية جمعاء، كالمبادئ الاخلاقية وافضل الاعمال الفكرية والادبية والفنية. واذا كان صحيحاً ان دور البناء الفوقي بأسره انما يتحدد بطبيعة الدولة والطبقات التي تسيطر عليها، فان الثقافة تصبح بذلك اداة تشكيل وتنظيم النشاط الاجتماعي. وتلك هي وظيفتها الخاصة. اما وظيفتها العامة فهي توجيه المجتمع نحو الافضل. ففي كل مجتمع يطلب من الثقافة بصفة عامة ان تشكل وترسخ نظاماً للقيم يساعد على توجيه افراد المجتمع، نظاماً يعطي الأولوية للقيم الاجتماعية، للاحتياجات الضرورية اجتماعياً، وللطرق السليمة اجتماعياً لاشباعها. ونظرا للطابع المتصاعد للاهداف الاجتماعية، والطابع المتصاعد لطرق تحقيق هذه الاهداف، فان الثقافة الاجتماعية هي التي تهدي المجتمع في النهاية لتطوير قواه الانتاجية.. وبهذا المعنى تصبح للثقافة وظيفة اجتماعية اوسع من وظيفتها الطبقية. ويفترض ذلك، ان الثقافة تتطور مثلما يتطور المجتمع، ولذلك يتميز تطور الثقافة بالانتقال من مستوى ادنى الى مستوى ارقى، غير ان العملية لا تجري بهذه البساطة. انها لا تجري بصورة تلقائية، كما انها لا تمثل مجرد تراكم في القيم، وانما تنطوي على عملية اجتماعية واعية لمواصلة واطراد التحرر الروحي للانسان من كل القيود الاجتماعية التي تحد من تطوره او تحط من قدرته على الخلق. فالتقدم الثقافي انما يعني استخداما اوسع وانتشارا اكبر للقيم والمثل العليا، كما يعني في الوقت نفسه مشاركة اوسع من قبل الجماهير في الخلق الواعي لهذه القيم والمثل العليا. لقد طورت المجتمعات الطبقة الثقافية على اساس طبقي. وبالتحديد على اساس التخصص، اي على اساس فصل العمل اليدوي عن العمل العقلي. ومن ثم نشأ احتكار الطبقة السائدة للعمل العقلي. وفي كل عصر كانت الطبقات المالكة تحتكر الثقافة كوسيلة من وسائل تأمين هيمنتها، ومن ثم حرصت على حرمان الطبقات العاملة منها، من انتاجها ومن استهلاكها على السواء، لكن ذلك لم يمنع الطبقات العاملة من صنع ثقافتها هي الاخرى. في كل مجتمع طبقي تتكون الافكار الاجتماعية لكل طبقة بطريقتها الخاصة. واذ تصبح افكار الطبقة السائدة هي الافكار السائدة، فان الطبقة التي تسيطر على وسائل الانتاج المادي تسيطر بالضرورة على وسائل الانتاج الثقافي. ونتيجة لذلك تخضع لها بوجه عام افكار اولئك الذين لا يملكون الانتاج الثقافي. وفي كل عصر كان المثقفون هم الممثلون لمصالح الطبقات السائدة، كانوا هم القوة الروحية السائدة في المجتمع، يعبرون عن الطموحات الاجتماعية والمصالح الاساسية للطبقات السائدة. لكن ذلك لم يمنع ابداً من افراز الطبقات المستغلة والمضطهدة لمثقفيها من ابنائها او المنتمين لها. 
في عصر العبودية كان الكهنة والفلاسفة في المقدمة كمثقفين. وفي عصر الاقطاع كان رجال الدين والفلاسفة والادباء والفنانون والعلماء. وفي ظل الرأسمالية ارتفع شأن الثقافة. فقد مهدت لقيام الرأسمالية تورة ثقافية عظيمة الشأن ابرزت قيم الحرية والإخاء والمساواة، وطرحت كل شيء على تحكيم العقل. وفي المجتمع الجديد الذي تأسس على العمل الحر في المصانع والاقتراع العام في الانتخابات لم يلبث ان اتاح لاول مرة في التاريخ لطبقات مضطهدة ومستغلة ان تنال حظاً متزايداً من الثقافة السائدة وان تلعب دوراً متزايداً ايضاً في خلق ثقافتها الخاصة.هكذا تتحدد مسؤولية المثقفين، فهم ضمير المجتمع، وهم بصفة خاصة ضمير طبقاتهم. انهم يحملون الوعي الاجتماعي الى هذه الطبقات، مهمتهم هي التوجيه بدءاً باعلان الحقيقة وانتهاء بالالتزام الاجتماعي ازاء طبقاتهم. فما مدى هذا الالتزام؟ ان الثقافة الملتزمة اجتماعياً وطبقياً تعني في الواقع مراتب متصاعدة من الالتزام. فهناك اولاً مرتبة الوصف، ويتم بالاعلان عن الحقيقة الاجتماعية. وهناك ثانياً مرتبة التفسير، ويتم بالشرح والتحليل واحياناً التبرير للحقيقة الاجتماعية. وهناك ثالثاً مرتبة التغيير، ويتم بالتطابق بين جوهر الابداع الثقافي وحركة المجتمع، وبالتحديد بالتطابق بين وجدان المثقف ووجدان الجماهير.
وهنا يتشابه ابداع المثقف وابداع المصلح الاجتماعي او المناضل الثوري. فكل منهم يستمد الالهام من مجتمعه وشعبه. فمعنى ان تفكر هو ان تعرف، ومعنى ان تعرف هو ان تفعل، والفعل هنا هو النضال، وبالنسبة للمثقف فان المعمل المجتمع نفسه.بالطبع يتفاوت المثقفون هنا من حيث نوع الالتزام الاجتماعي، فالمثقفون المنتمون للطبقات الحاكمة ملتزمون دفاعاً عن مصالحها بالاقتصار على مرتبة الوصف واحياناً ما يصل التزامهم الى مرتبة التفسير، وغالباً ما تتخذ طابع التبرير.  وقد يصل التزام مثقفي الطبقات الحاكمة الى مرتبة التغيير، لكنه التغيير بالرجوع الى الوراء. وعندئذ يلجأون عادة الى اساليب تغييب العقل وتزييف الوعي. اما مثقفو الطبقات المضطهدة والمستغلة، فانهم ملتزمون بالطبع دفاعاً عنها بالذهاب حتى الى التغيير، اي الانتقال من الحاضر الى المستقبل. ومن المفهوم ان تتجمد ثقافة الطبقات الحاكمة عند حدود الحاضر، لكن عندما يتوقف مثقفو تلك الطبقات عند هذه الحدود، فانهم يتراجعون بالتزامهم الاجتماعي الى مستوى التبرير. اما عندما يتخطون الى تغييب العقل وتزييف الوعي فانهم ينفون انفسهم كمثقفين. ان المثقفين على اختلاف طبقاتهم هم ضمير المجتمع. وعندما يفسد ضمير المجتمع فان ازمة المجتمع تكشف في الوقت نفسه عن ازمة الثقافة وازمة المثقفين، عندها لا تعود الثقافة السائدة تكفل للمواطنين الفرد رؤية داخلية في احداث عصره ولا هي تستطيع بالتالي ان تكون هاديا في تصرفاته.    البنى الثقافية وتنميط المجتمع  تخلق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكذلك البنى الثقافية السائدة في فترة تاريخية معينة نمطاً معيناً من الحياة، بقيمه الخلقية والروحية، يدفع الانسان مهما كان انحداره الطبقي الى ربط احلامه وطموحاته بالنمط والمثل الحياتي السائد. وفي مجتمع كمجتمعنا نرى نمط الحياة السائد يدفع مصائر العديد من افراد المجتمع ولاسيما اولئك المنحدرين من طبقات اجتماعية وسطى ودنيا، الى التشبث الى نمط الحياة المدني/ المتحضر السائد مما يبعدهم عن التفكير الموضوعي في واقع حياتهم نفسها وعن طريق تطويرها ومن ثم تغييرها.
وبما انهم لا يختارون الظروف ولا العصر الذي يعيشون فيه، فان اعادة خلق الانسان وغرس القيم الروحية الثقافية الاصيلة فيه، واعادة تربيته تولد الوعي الكامل بتلك الظروف، ويمكنه بذلك استنباط طرائق التغيير في تنامي قدراته واغناء ذاته. ولكن الغالبية العظمى من فئات مجتمعنا محرومة من غائية عملها، ولا تملك سوى قوة العمل الوسيلة الوحيدة للوجود مما يخلق نمطاً اجتماعياً متخلفاً للسلوك ومعايشة الواقع تغيب فيه كل رابطة اساسية بين الانسان وذاته ويتقوقع داخل نفسه في عزلة تامة عن محيطه، ويزيد من غربته ذلك السيل العارم من الاعلام الثقافي الذي يشيع البلبلة والغثائية والسطحية والجهل المركب، مقدماً حصيلة من المعاني والوسائل الاحتيالية، تصرف الفرد عن الاتيان بأية فعالية انسانية حقيقية تساهم بدورها في خلق القيم الثقافية الاصيلة والتي تعمل على تغيير اسلوب ومستوى حياة هذه الفئات وبخاصة الشعبية منها تغييراً عميقاً. 
والحقيقة ان الانسان واقعياً وموضوعياً كائن شامل. هو كائن مادي وروحي متكامل وهو بنشاطه العلمي المتنوع ينتج كلاً من الانتاج المادي والانتاج الروحي للحياة. وهذان الانتاجان لا ينفصلان في الانسان بل يشكلان وحدته المتميزة في هذا الكون. فالانسان، استناداً الى قدر من المعرفة، يطور قواه المنتجة ويصبح صانع ادوات، فالانسان استناداً الى قدر من تطوير قواه الانتاجية، يطور الطبيعة البدائية او الوحشية من حوله. ويخلق من ثم لنفسه طبيعة اخرى اصطناعية او طبيعية متحضرة، هي في النهاية ثمرة العمل الانساني والمعرفة الانسانية. هي ثمرة الثقافة المتراكمة. حتى لتصبح الثقافة بذلك هي المعرفة العامة التي يتصدى بها الانسان لتطوير قواه المنتجة وتطوير علاقاته الاجتماعية والانتاجية ايضاً. بل وتطوير وعيه بنفسه، ومن ثم تصبح الثقافة زاده وعدته لتطوير الطبيعة والمجتمع والانسان. 
والانسان هو واقعياً وموضوعياً كائن سياسي. ليس الانسان كائناً اجتماعياً فقط، اي انه لا يعيش الا في مجتمع فقط، وانما هو كائن لا يستطيع ان يتعرف على ذاته الا في محيطه البشري. ومن هنا، فهو كائن صانع ادوات، وهو كائن واع. وتتأكد بذلك طبيعة الثقافة بوصفها الوعي الاجتماعي العام. فالثقافة دائماً ظاهرة اجتماعية، وهي بمعناها الواسع تمثل مجموع القيم المادية والروحية التي يعزها الانسان. ومحتواى هذه القيم من عصر الى عصر هو الذي يشير الى المستوى الثقافي للمجتمع المعين.وبوصفها مجموع القيم المادية والروحية للمجتمع فانها تطوى جناحيها على امرين:الاول: هو هذه القيم ذاتها، اي مجموع المعرفة العلمية والمفاهيم والاعمال الادبية والفنية والقانونية ومبادئ الاخلاق واللغة. اما الثاني: فهو مجموع وسائل خلق تلك القيم واستيعابها ونقلها ونشرها.ان القيم الثقافية الاصيلة التي نعنيها هنا، هي الحضور الشامل للقيم الانسانية التي تحتضن في جوهرها الانجازات الانسانية على مر العصور. انها تختصر ثمرات جهود الانسانية بصراعاتها ونجاحاتها واخفاقاتها، وتقدمها من ثم خبرة ثرة للفرد وللمجتمع من اجل المستقبل. فليست هناك ثقافة تخص هذا المجتمع او ذاك فقط، وليست هناك ثقافة دخيلة او ثقافة مستوردة، انما تتواصل الثقافات في حركتها فيما بينها مؤثرة ومتأثرة، حاملة انجازات وبصمات هذه الثقافة الوطنية او تلك. وتتفاعل الثقافات الوطنية وتسند العناصر التحديثية/ التقدمية في كل منها، العناصر التحديثية/ التقدمية في الاخرى، وتتضافر في صراعها ضد عناصر التخلف، ولا يبقى في عملية التطور الاجتماعية بشكل عام سوى ما يستجيب لحاجة المجتمع في حركته الدائمة الى امام وما ينسجم وتطلعاته ضمن خصائصه الوطنية العامة والمتأثرة بخصائص القوميات المختلفة المتآخية في البلد الواحد، وفي اطار تراث المجتمع الحضاري ولغته وتاريخه وظروفه الموضوعية.وبما ان الثقافة وجميع ميادين البناء الفوقي عملية تاريخية معقدة تخلقها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، فانها تعمل بدورها على خلق القوانين العامة للتطور مؤثرة في احدى تلك المراحل على تطور العملية الاجتماعية/ الاقتصادية نفسها، والتي تتأخر في بعض الظروف التاريخية الخاصة لاسباب خارجية وداخلية معينة عن العملية الثقافية، والتي تتأثر بدورها اذا وجدت نفسها عرضة لتحديدات اجتماعية وتاريخية خاصة.. ولذلك فان الطابع التحرري التحديثي التقدمي لحالة ما والتقليدي الرجعي مثلاً يبقى شيئاً موضوعياً لا يتوقف عن وعيه او الوعي به. والقضية هي دائما معرفة ما اذا كان هذا الاندفاع الى امام او التخلف او الجمود امر يجري على اساسه قبوله او رفضه. كما ان الاجابة على تساؤل كهذا تقرره المواقع الطبقية للمتلقي وللمعطى على حد سواء، وكذلك فان ما يعتبره المثقف الواعي المسؤول متجاوزاً في نظره لا يمكن ان يكون بالضرورة متجاوزاً في نظر المتلقي او في نظر اوسع قطاعات المجتمع. وبعبارة اخرى فان المثقف الواعي يجب ان يعي ان ما يبدو بدهياً بالنسبة له، ليس بالضرورة بدهياً لقطاعات كبيرة من المجتمع. ومن هنا تنبع مسؤولية المثقفين التاريخية في توعية المجتمع بنشر الفكر التحرري التحديثي التقدمي والخبرات العالمية الراقية الى جانب التعرض النقدي للظاهرات المتخلفة وللجمود المعرفي، والكشف المتواتر لعمليات التشويه المتواصلة للقيم الثقافية والخلقية، ولعمليات التفريغ المدروسة لمحتوى الثقافة عامة والتي تكون فكر الانسان وعالمه الداخلي. اما طبيعة الثقافة ودورها في تطوير المجتمع واغناء عالم الفرد الداخل، فيقررها نمو القوى المنتجة واتساع الصراعات الطبقية والسياسية والقومية، كذلك يحددها عمقها ومدادها الحقيقي وانحيازها التام لمصالح اوسع فئات المجتمع، بل وانحيازها التام للعقل. فالعقل وهو يرفض حالة اللاتوازن والتخلف انما يبحث عن قيم جديدة يخلفها المجتمع بكفاحه ونضاله في سبيل ثقافة شعبية قومية حقيقية تقف عائقاً وسداً امام جميع اشكال الثقافة المصنعة والتي تحاول حرفها عن اهدافها الحقيقية. ونرى المثقفين عموماً وفي مختلف البلدان، وهم ينتمون الى الطبقة المتوسطة الوظيفية او العاملة يجدون انفسهم – الى جانب وعيهم التام بالتناقضات – يشكلون اطاراً للنظم القائمة والتي لا مجال لمناقشة غاياتها ومعناها، ومن هنا تبرز اهمية تلك اللحظة في حياة المثقف عندما يعي مسؤوليته التاريخية تجاه مجتمعه، وعندما يعرف انه يجب ان يساهم في بناء مجتمع جديد خالقاً بانجازاته العديدة في مجالات الادب والفن والسياسة وجميع ميادين البناء الفوقي، علاقات جديدة بين المجتمع والعلم والثقافة والفن، يعمل آنذاك بوعي على نشر ثقافة عامة تساعد على تطوير الفكر النقدي لدى المجتمع، لانه يعي تماماً تلك الظروف الحياتية الصعبة التي تلف حياة الاوساط الكادحة وغالبية قطاعات المجتمع العامل والتي تعيق بدورها مسيرة التطور واتساع مديات الثقافة، ومن ثم تعمل على اسقاط الاثر الفكري الناضج لأية دراسات او قرارات او معلومات عامة  او اية ثقافات تقدم اليه في اطر التطور الهائل لوسائل الاعلام، اي تطور (حوامل) الثقافة العصرية. 
ولما كانت (حوامل) الثقافة العصرية من اذاعة وتلفزيون وفضائيات.. لها ذلك التأثير الواسع الانتشار باملاء كل ما يراد قوله على السامع او المشاهد وهو في عقر داره، ولما كانت تذيع السيء والرديء الى جانب الجيد، وتنتشر مآثر الثقافة الكلاسيكية الى جانب الهزل الرخيص، فان المردود الثقافي يكون سلبياً وتختلط فيه القيم في فوضى عجيبة. ومن ثم يصبح كل ما يقدم خدعة لا تعمل على تطوير الذات الانسانية بل بالعكس، تعمل على ضياعها وتدفع المتلقي الى الهروب من الواقع الى عالم من الاوهام الى جانب تشتيت وعيه. تضاف الى ذلك آلية الحياة الجافة التي يعيشها فيزداد ضياعه وتنهار قيمه ومأثوراته.لقد اصبح الفرد في مجتمعنا العراقي عموماً مزدوج الذات ومخلوقاً انانياً في وجوده غير المباشر وفي وجوده كمواطن بل واصبح فرداً لا حضور له. فقد اصبح بعض المثقفين يتصرفون بلباقة اكثر واصبحوا يصفقون لكل شيء ويمدحون كل ما يحيطهم في استماتة للحفاظ على وجودهم، واصبح كل واحد منهم يحاول ان يحتل مكانه في الحياة دون ان يتغلب عليها وليأت بعده الطوفان.ومواجهة مثل هذا الواقع تتطلب تربية وعي ثقافي يعمل على تغييره ويتداخل في وجدان افراد مجتمعنا الطيبين الذين عاشوا قروناً في ظلام التخلف وما زالوا يرزحون تحت عبئ عمليات التجهيل المستترة والواضحة تحت جميع الشعارات. وفي سبيل خلق ذلك الوعي الثقافي ونشر الثقافة الحقيقية الاصيلة بينهم، من الضروري المشاركة الفعالة من قبل جميع المثقفين والادباء والفنانين والعلماء الى جانب السلطة في صنع الوضع الثقافي الجديد مبتعدين عن الارتجالية والعشوائية والتخبط حتى نتمكن جميعاً من اقتحام الواقع وامتلاك القدرة على تغييره.إن القدرة على تشخيص ومواجهة ذلك الانفصام الحاد بين الثقافة والمجتمع لن تجد لها طريقاً الا في جو من الديمقراطية. ففي ظل الديمقراطية ينتعش الفكر الذي يعمل في خدمة تقدم المجتمع، وفي غيابها ينتعش الفكر الرجعي المتخلف الذي يعمل على تكبيل المعرفة والوعي والعمل على الابقاء على التخلف والجهل والامية –الابجدية والمعرفية- لدى اغلب افراد مجتمعنا فيسهل كبح جماحها وترويضها والاستفادة منها للدفاع عن مصالح فئوية وطبقية معروفة. وفي غياب الديمقراطية تتكرس افكار وثقافات مشوهة تعمل على تحطيم البناء الاجتماعي والثقافي العام مما يعمل على انتشار التحلل في القيم الثقافية وظهور المصلحية والنفعية.. ولسنا في حاجة الى ضرب العديد من الامثلة. وهكذا يتراجع الفكر ويتراجع معه الخوف المقيم والرعب الدائم على المستقبل.. وسيظل الفرد مكبل الفكر مغلول النشاط خوفاً من فقدان الربح وفقدان الامان الحياتي. فالامان الحياتي في عراقنا اليوم يأتي في مقدمة الاهداف او ان يكون الشعار لدى المواطن “اذا مت ضمآناً فلا نزل القطر”. فالشجاعة والبطولة والجرأة والحماس الثقافي والفني والابداعي تهرب جميعاً امام الرعب الدائم من المجهول. من مجهول استطاع تردي النظام الاقتصادي والاجتماعي والامني ان يزرعه داخل النفس العراقية ذاتها. ففي غياب الحوار الديمقراطي الحر: – تتحلل القيم الثقافية ويتم الإجهاز الفوقي على المبدأ والشكل.. والخاسر الوحيد هنا هو الذي ظل محروماً قروناً حتى من حق اختيار الحياة.- ترن اصداء الصوت الواحد في جنبات الحياة الثقافية، ينحسر الفكر العراقي ويصبح عاجزاً عن احتلاب الانجازات الثقافية ويؤدي بنا الى الوصول الى مرحلة وجود من يفكر عنا ولنا. وتصبح القرارات العلوية هي دستور الفكر والثقافة.- تتحول الثقافة الى بوق دعاية وأشباه المثقفين الى مبررين وشرائح…وفي ظل الحوار الديمقراطي الحر يمكن القيام بعمل تربوي وتثقيفي أصيل يساعد على سحب الانسان من مواقع مصالحه الانانية الخاصة ليساهم بدوره في انماء واثراء الحياة العامة وفي العمل على تغيير ظروفه الموضوعية التي لم يكن له يد في ايجادها. وادوات العمل التربوي والتثقيفي تبدأ من المدرسة والجامعة ومكان العمل بعد ذلك، ثم يأتي دور وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمقروءة. وللأدب والفن دور نبيل في تكوين عقيدة الانسان ومفاهيمه الاخلاقية وثقافته الروحية ومن اجل عودته الكاملة وبوعي تام الى ذاته وانسانيته مستوعباً كل ثروة التطور الذي تم الوصول اليه على مسار التاريخ الانساني كله.
فكيف اذن نخلق اولئك الذين يمكنهم ان يعوضوا كل ما فاتهم من تطور في قرون طويلة؟ وكيف نهيئ الظروف الموضوعية لذلك؟ من بديهيات المعرفة، ان الظروف التاريخية لا توجد خارج الممارسة الاجتماعية.. وتغيير النفس في النشاط الاجتماعي والممارسة الابداعية.. فذلك النشاط يتفق وتحويل الظروف.. ونتيجة لتغيير الظروف تأتي عملية تغيير الذات المنغلقة الانانية اللا أبالية.وكل ذلك يأتي نتيجة لتطوير نمو وتائر المستوى الثقافي العام للمجتنمع خالقاً المناخ الصحي والتربة الصالحة لتطوير الفن والعلم والأدب ومساعداً على شحذ يقظة المجتمع وتوجيهه نحو الثقافة والوعي بتحديات التخلف والقهر والقدرة على تجاوزها. وكيف يتم لنا ذلك؟ بتسريع عمليات صراع الثقافتين في الثقافة الوطنية الواحدة لصالح الثقافة التحديثية التقدمية التي تستجيب لطموحات اوسع فئات المجتمع ولا سيما الشعبية منها. من المعلوم انه توجد ثقافات في كل ثقافة وطنية واحدة. ثقافة تحررية تحديثية تقدمية نقدية تبدو عناصرها في النتاج الفني والادبي والابداعي الذي يعبر عن طموحات اغلب فئات المجتمع والنقيض لها الثقافة السائدة المتوارثة –التقليدية الرجعية- من عصور التخلف والتي تبدو عناصرها في صراع ضار مع عناصر الثقافة التحديثية التقدمية مدافعة ومحافظة عن مصالح الفئات الحاكمة السائدة في المجتمعات المتخلفة ذات المصلحة في ايقاف كل تطور.وتتصارع عناصر هاتين الثقافتين على مر العصور وتساعد الظروف الموضوعية والتاريخية على تغليب عناصر هذه الثقافة او تلك في هذا المجتمع او ذاك. ويلعب الأدب والفن الطليعيان دورهما في المساهمة الموضوعية في مسار الصراع الاجتماعي بالدخول في الايقاع العام للتغييرات الاجتماعية حتى في حدود المجتمع البرجوازي حيث يقدران على الاندماج بحرية وبوعي مع حركة اغلب افراد المجتمع المتقدمة بالفعل…ان وتائر التغير السريع وتعقد وتشابك الظرف التاريخي تقف عائقاً كبيراً في وجه صراع الثقافتين مرجحة كفة التخلف والجمود الثقافي العام حيث ان الارهاب الفكري المقنع وفكر الفئات السائدة في المجتمعات المتخلفة المسندة بالامكانيات الهائلة والحماية التامة يعمل على حرمان الثقافة العامة من دورها التثقيفي والتربوي وتتحول الى بوق دعاية، مؤدية الى انفصام مريع بين المجتمع والثقافة، الامر الذي يسقط الواجهة الثقافية الرسمية في دائرة الوهم مهيئة بذلك المناخ الملائم لتكريس افكار وثقافات تحطم البناء الثقافي وتضرب المنجزات القليلة التي استطاع الفكر الثقافي الديمقراطي ان يغني بها تراثنا على تعاقب الازمنة.. وفي ظل هكذا مناخ تكف الثقافة عن التعبير الحقيقي عن الواقع ويغلف الزيف احلامنا ويحيطنا بأوهام عريضة براقة عن نجاحات لا وجود لها وعن ابداعات ليست الا فقاعات ما تلبث ان تجرفها الحقيقة البشعة عن التخلف الحضاري المقيم والفرق الشاسع بين الحلم والحقيقة والواقع. ان حسم صراع الثقافتين لصالح الفكر المتخلف التقليدي الرجعي يحدد الثقافة بكونها مجرد ثقافة الاعلام ويحول الكثير من المثقفين الى آلات دعائية تبيع نتاجها كسلعة تجارية، كما يحول شريحة كبيرة من المتلقين الى مجرد جهاز سلبي.فما أسوأ الزمن الرديء القادر فقط على التغني بمآثر الازمنة الماضية فقط. وتباً للتشويه المتواتر الذي يحرمنا من خلق المقاييس الخلقية والثقافية التي تسلح بها مجتمعنا في مواجهة ذلك الزيف المقنع وذلك التخلف الذي يشوه حياته وحاضره.وما اسوأ الغرس من بعض نتاج الأدب والفن في مجتمعنا عن اساطير عن السعادة والنجاح، وعن اصنام تعيش في ودعة ولذة ونجاح.. وما اكثر ما يعرض لنا من امثلة زائفة كاذبة عن التجميد المنهجي للعنف واستغلال الغرائز.. وحتى اذا ما اثيرت بعض الاثار الثقافية من ماضينا العريق وبالشكل الذي تعرض فيه ليست سوى بريق تنحصر فائدته في شل التفكير الصحيح وابعاد الناس عن استلهام دروسها وتأثرها وتجاربها الحقيقية ولا تساعدهم في مسيرة التقدم بل انها تقف مناهضة للثقافة الحقيقية…ان صراع الثقافتين هذا لم يصب الرجعية واقطاب التخلف والتحجر بسوء بل بالعكس كانت الخسارة من نصيب المجتمع والجيل الحاضر، الذي لم يعد يسمع الا اصداء الصوت الواحد في غلالة من الارهاب الفكري المقنع، وزيادة مفردات المحرمات في الادب والفن والثقافة والسياسة.. والحصاد المر بالنتيجة هو ذلك الخواء الثقافي الذي نزع عنا شخصيتنا وعوض خواء حياتنا وخلوها من المضمون بأوهام وخيالات وشعارات براقة.. ونتساءل بعد ذلك، لماذا لا تزدهر الثقافة العراقية؟ ولماذا قصور الفكر العراقي المعاصر؟ 
ان الثقافة وجميع ميادين البناء الفوقي عملية تاريخية تظهر وتتطور بتوفر الظروف الموضوعية الكفيلة وتأثر نموها وتطورها، وكلنا جميعاً وبدون استثناء مهما اختلفت مواقعنا ومسؤولياتنا مدعوون جميعاً لمجابهة الخلل بجرأة والمشاركة في وضع منهاج للثقافة يأتي رداً على جميع الانكسارات والاحباطات التي اماتت حماسنا وافقدتنا الثقة في نفوسنا وجعلت من سلوكنا رفضاً قاطعاً مطلقاً للحقائق قبل الاوهام. 
ان مؤسساتنا الاعلامية والثقافية واتحاداتنا الادبية والفنية مدعوة الى اعادة النظر جذرياً في جميع صيغ عملها مهتدية بتخطيط ديمقراطي سليم ينبع من الاحتياجات الفعلية لمجتمعنا العراقي العريض.    مسألة الثقافة في العراق
     موضوع الثقافة وعوالمها، من اكثر الموضوعات التي شغلت العقول واستقطبت كل ذي علاقة منذ ان كان الانسان كائناً ثقافياً. ولا يكاد يمر يوم من حياتنا دون ان نصادف فيه كلمة ثقافة او نتعثر بأحد اشتقاقاتها. وموضوعها يعتبر واحد من اهم القضايا المصيرية المعاصرة، نشأت حوله عمارة معرفية دشنها منظرون وفلاسفة ومفكرون ابدعوا نظريات وأسسوا مدارس ووضعوا مناهج للنظر والتحليل ناقض بعضهم بعض الآخر، ولا يزالون يبدعون ويضيفون ويراكمون اغناءاً وتعميقاً او نقداً وتفكيكاً، لانها توازي في مفهومها الانتماء، والانتماء في فهمنا ليس ترفاً فكرياً ولا انسياقاً وراء مظهر حضاري انما هو بالنسبة لانساننا العراقي الآن ضرورة ملحة لا غنى له عنها، فهو غير مخير في الحقيقة بين ان ينتمي او لا ينتمي، انه مخير بين ان يكون او لا يكون، ومع ذلك، بقينا نحن العراقيون في موقع المتلقي وبالكاد نقرأ او نتابع ذلك الانتاج الضخم والمتنامي في عالم التنظير السوسيوثقافي والمعرفي.ما كتب في الغرب في هذا المجال غزير وغني، الا ان المكتبة العراقية تشكو الفقر والندرة عدا القليل من التراجم والمؤلفات والتي اكتشفت في الغالب بالعرض والتكرار دون النقد والتحليل، وغلبت عليها النزعة المدرسية ودوافع الحاجة الاكاديمية الملحة. ان الثقافة في معناها الاصيل هي –الحرث- حرث العقل والنفس والجوهر، هذا الحرث لا يتم من غير ان نقلب رواسب قناعاتنا المتخلفة الكامنة فينا لكي تكون مجتمعاً حقيقياً، بينما التعليم لا يحتاج الى الحرث وقلب الرواسب البدوية ونسف القناعات الديناصورية المتوارثة لكنه يكون مجتمعاً مزيفاً متخلفاً، ولاننا متعلمون ولسنا مثقفين فنحن اذن مزيفون متخلفون.لقد تعلمنا لكننا للأسف لم نتثقف، لان الثقافة تنمي الوعي والوعي يقهر كل مظاهر التردي والتخلف، وبهذا تظل الثقافة السمة المميزة للامم تعكس خبرتها في افاق التقدم والابتكار وتجسد مواقفها ارتفاعاً بقدراتها وتحقيقاً لمنجزاتها الراسخة تتوارثها المجتمعات جيلاً بعد جيل.واذا كان لكل جيل في حقبة معينة ثقافة خاصة به مرتبطة بجذوره تقوى بقوته وتهن بوهنه، فان الثقافة اياً كانت قوة جذورها لا يمكنها ان تحتفظ بمقومات دورها الفاعل ما لم تتحاور مع الواقع، علماً ومعايشة وتفاعلاً عميقاً. واذا كان للقوى العقلية وارادت الابداع الأثر البالغ في نماء الثقافة، فان القاسم المشترك الاول بالنسبة لسائر الامم في اطار الخير والشر انما يكمن في ذلك الجوهر المضيء الذي يسمى –الاخلاق- حيث ينتفى باختفائه اي امتداد لجذور الثقافة مادامت تتعارض مع الهدف الاساسي للثقافة المتمثل في الارتقاء بالقدرات البشرية تجاوباً مع مقتضيات تطلعاتها وتقدم الصالح العالم. ان الخروج من اية ازمة يستوجب على الصفوة المثقفة او الاصلاحية فكرياً، ان تبادر الى تأليف تيار ثقافي وطني ثوري بالمفهوم العلمي الصحيح، لا تيار منافق ومتملق وقائم على المزايدات، يغزو عقل المجتمع بغية تحويله والخروج به من ازماته التي لا امل لنا بالخروج منها الا باحداث تغييرات جذرية في تفكيرنا وعقلنا الاجتماعي تقوم على تربية وعي جديد في عقلنا تهيئة تقريباً للانتقال والتغيير الجذري في تعامله مع واقعنا وماضينا ومستقبلنا. ان نمط حياة اي شعب هو المعيار الحقيقي لثقافته مثلما الثقافة هي المرآة التي تعكس نمط حياة الفرد والمجتمع. وبذلك تكون العلاقة الحميمة واضحة بين الامم وثقافتها ارتفاعاً او انحداراً على اي مستوى، وفي كل عصر. لهذا، فان مرارة الواقع الحالي لا بد ان تدفعنا من مواقع الاحباط واليأس الى مواقع الامل والعمل. وعليه، اود ان أناقش في هذا القسم من دراستي هذه القضية/ المسألة التي تعتبر من اهم القضايا المصيرية على اساس ان الثقافة مسؤولية والمسؤولية موقف، والموقف قرار جريء تمتلئ معانيه بالانحياز المطلق للأنسان في قمة انسانيته، وذلك مقابل طغيان ادوات الفتك والتشرذم والتيئيس التي هدفها في النهاية الغاء هذا الانسان وسحب بطاقة انتمائه الى المستقبل، فلا معنى للثقافة اذا لم تكن غايتها الانسان والاستغراق في اسئلته الطموحة الى التغيير والحرية والابداع . 
  الثقافة في العراق 
يكثر الحديث، قولاً وكتابة، حول مسألة الثقافة في العراق ومآلت اليه وما يمكن ان تستعيده كدور ريادي وطنياً وانسانياً في فترة تفتح فيها الملفات المصيرية بدءاً بالتصور الجديد للعراق الراهن الآتي، وانتهاءاً بإعادة تخطيط المؤسسات والمشاريع في القطاعين العام والخاص. لذا، لا بد من الوصول الى قناعة رئيسية، بادئ ذي بدء، بمقولة تعيد للثقافة العراقية مكانتها وتؤكد دورها الفاعل في البناء الوطني، فكل بحث سياسي لمستقبل العراق يبقى بحثاً مبتوراً ان لم يعتبر ان المسألة الثقافية تكمن في صلب هذا المبحث الموضوعي الجاد. فالبدايات الوطنية لشعب من الشعوب لا بد وان تكون بدايات ثقافية لان التطلعات والطموحات التي تأخذ حجم الوطن لا بد وان تنتهي الى تطلعات او طموحات ذات ابعاد ثقافية. غير ان واقع الثقافة في العراق اليوم يعاني من ازمات حادة، فالامراض الفكرية الناتجة عن سنوات الحصار وتالياً سنوات الاحتلال وما بعدها قد انعكست مباشرة على النتاج الثقافي بمجمله لدى العراقيين، وكانت نتيجتها اما الهرب من المعاناة المأساوية الوطنية او التصدي لها من زاوية فئوية ضيقة تشكو من الخوف والحقد والتقوقع. هذا ما لاحظناه ونلاحظه من خلال متابعتنا للمطبوعات –كتب ومجلات- الصادرة في بغداد ونشاطات المؤسسات الثقافية خلال سنوات الحصار والاحتلال…فالتفسخ والتشرذم الذي اصاب العراق في سنوات الحصار والاحتلال قد اصاب النفوس والعقول اكثر مما اصاب الاجساد والممتلكات، والاصابات التي وقعت في تفكير العراقيين ومشاعرهم والتي انعكست مباشرة على الخريطة العراقية لن تزيلها نصوص دستورية او قانونية تشريعية ما لم يرافقها عمل حثيث لتصحيح مسارنا الثقافي واستعادة دوره الفعال في عملية البناء الوطني. فماذا تفيدنا النصوص الجديدة ان ظل تفكيرنا طائفياً قبلياً متشرذماً؟ ماذا تفيدنا الصيغة الجديدة للعراق الجديد ان لم يرافقها تصور واع مدرك وصحي لدولة عراقية نموذجية تستمد من تراثها النهضوي الحديث قبساً ومن انتاجها الفكري والفني المعاصر نوراً؟ان عملية إلغاء دولة المحاصصة الطائفية الى دولة عصرية عقلانية متماسكة تبدأ بالبناء الثقافي المعاصر والعقلاني المستفيد من سائر الاختبارات الفكرية والتاريخية لدى الشعوب. واجتياز هذه المرحلة ثقافياً لا بد وان يصطدم بعقبات عدة هي بمثابة خطوات مرحلية تستوجب المواجهة العميقة والحاسمة في آن. هذه الخطوات اراها تتمثل في: المصالحة مع الذات، لا بد هنا التوقف عند دور العراق الثقافي في الذات العراقية بصفاتها كائناً بشرياً حيوياً فاعلاً ومنفعلاً، وبصفتها فرداً قائماً بحد ذاته بقدر ما هو عضو اجتماعي. فمعالجة الذات الكبرى او المجتمع يجب الا تصرفنا عن معالجة الذات الصغرى او المواطن الفرد. وهذه المسألة الشائكة تتطلب فتح ملف الثقافة العراقية بمعناها الواسع بدءاً بالتربية والبرامج التعليمية خاصة ما يتعلق منها بالعلوم الانسانية ومروراً بالدور الثقافي المتكامل لانماء الذات في سبيل بناء ثقافة شعبية ووطنية يأخذها على عاتقه كل القطاعين الخاص والعام وانتهاءاً بالانتاج العراقي الفكري والادبي والفني وتقويمه التقويم الموضوعي المطلوب. ومحتم على هذه المصالحة الثقافية مع الذات ان تؤدي الى تصور علمي معاصر للعراق الثقافي تستقر عليه بل تلتحم ضمنه القطاعات الثقافية الثلاثة، التربوي والمؤسسي والانتاجي. يبقى السؤال عن الجهة الرسمية او الهيئة المخولة معالجة مثل هذه الشؤون المصيرية، وزارة الثقافة، ام وزارة التربية او وزارة التعليم العالي ام الاتحادات والجمعيات الثقافية؟ ام كل هؤلاء مجتمعين؟ المهم هو الوصول الى قناعة مبدئية تلبيها خطة عمل كفيل بأن تعيد للثقافة مكانتها ودورها في العراق بحيث تحقق مصالحة العراقيين الفكرية مع ذواتهم اولاً ثم مع محيطهم العربي والاقليمي والعالمي. 
* ما هي تلك الخطة؟ وكيف تستعاد البنية الثقافية العراقية؟
ان البحث في استعادة البنية الثقافية العراقية ليس سابقاً لاوانه  كما انه ليس بحثاً متأخراً، اذ ان ارتهان هذه المسألة بالظروف التي تناسبها او تمهد السبيل لها لن يقودنا الى الفعالية المرجوة. فطرح هذا الموضوع لا بد وان يكون طرحاً اقتحامياً مواجهاً لا طرحاً هروبياً. والسمة الاقتحامية هنا لا تعني تبادل الضغوط السياسية التي الفنها سنوات الحصار والاحتلال، انما تعني المصارحة التامة والموضوعية المجردة بعيداً عن الخلفيات العاطفية او الرواسب الفكرية المرضية الموروثة. ولا بد من اعتماد العقل والعلم لابتداع بنية ثقافية عراقية جديدة لها معناها ولها فعاليتها المرجوة لدى معظم العراقيين.
من هنا اهمية البدء ببناء الذات كخطوة اولى واساسية في المسار الطويل والصعب لهذا المشروع الثقافي. وهذا يقتضي التوقف عند معنى الذات كخلية محورية من خلايا البناء الثقافي الوطني. الذات الفردية التي تحتاج اولاً استعادة الثقة بنفسها. والثقة تعني وضع الدور الفكري للفرد في مكانته الصحيحة اي الاكثر انتاجية وفعالية، لذا لا بد للذات الفردية ان تعطى او ان تسترد حقها في عملية الخيار اليومي الحر للقيام بعمل ما، قولاً او فعلاً او كتابة. والخيار الحر هو فعل نقدي تقويمي لعدد من الاحتمالات او الامكانات التي تقودك الى الانتقاء جدية وانتاجية على الصعيدين الشخصي والعام. وهذا الخيار يستوجب استعداداً فكرياً ونفسياً وثقافياً لانه اغتسال عقلي من شوائب اليوم الذي نحن فيه وتهيؤ واع لاكتساب قدرة التكيف مع قدرة التخطيط الثلاثي. * ايننا اليوم ثقافياً من مثل هذا الاستعداد الذاتي؟
الجواب يحملنا على التوقف عند مشكلات اساسية في التثقيف المتواصل للذات العراقية. اولى هذه المشكلات مسألة عدم المطالعة/ القراءة. من بداهة القول اننا شعب لا يقرأ واذا قرأ فلا نناقش، واذا ناقشنا فلا ندخل في العمق، واذا تعمقنا فلا نتجرد. في افضل الحالات نقرأ عشوائياً لتؤخذ بجمالية الكلمة او بفئوية المضمون، اي اننا بعيدون عن القراءة النقدية المنظمة، وهذه العملية المعطلة افقدتنا القدرة النقدية في التفكير كما افقدتنا الابداعية في الرؤية المستقبلية. وقد قادنا هذا التعطيل الى الاكتفاء الذاتي وغير المجدي بالحد الادنى من الاكتساب الثقافي وبالتالي التفاعل الثقافي مع الاخرين. وذلك يشكل سبباً رئيسياً من الاسباب التي تحد من فعالية المؤسسات الثقافية عندنا. وخلال الحرب تفاقمت هذه المشكلة بحيث انكفأنا ثقافياً على انفسنا ووقعنا ضحية تعطيل الانشطة الثقافية بوجهيها النقدي والابداعي. 
ثم ان سنوات الحصار والاحتلال ادت الى تفاقم آفة رئيسية من افات البنية الذاتية الثقافية، وهي اننا نكتفي باقل ما يمكن من المردود المعنوي او الفكري او الغني لاي عمل نقوم به مقابل سعينا لاعلى ما يمكن من المردود المادي بمعناه الواسع – مالياً، اجتماعياً، سياسياً.. نحن ماديون اصلا ،  الحصار والاحتلال زادا من ماديتنا لتضع دورنا الفكري وبالتالي اختياراتنا العقلية، كما نجد انفسنا منساقين الى هذا التردي الثقافي بحيث باتت الشؤون الثقافية ولا نقول الهموم الثقافية في المرتبة العاشرة في سلم الاولويات، اذا لم تكن خارجها بالكامل. والحياة الثقافية عند معظم العراقيين باتت ضربا من ضروب الترف او الزي الاجتماعي المكابر، مما يكشف لنا حقيقة علاقاتنا الانسانية الجوفاء على الصعيدين الفردي والاجتماعي. * كيف الخروج من هذا الوضع المتردي للذات الثقافية العراقية؟من الطبيعي القول، الحلول المقترحة لا يمكن ان تكون وحيدة ونهائية. هي اقتراحات قد تساعد في عملية اعادة بناء الذات بناءاً ثقافياً نامياً يؤدي الى المصالحة المرجوة مع انفسنا اولاً ثم مع الآخرين، ومن ثم الخطوات التي يمكن اعتمادها:1- إحياء علاقتنا بالكتاب، حيث يتحول من سلعة مستهلكة الى كائن حي نتعاطى معه ضمن سياق عقلي ونقدي منسق. هذا اذا اعتبرنا ان الكتاب يقدم لنا شحنة فكرية تطرح مجالات واسعة للنقاش وللنقاش الحاد احيانا الذي يقودنا الى اتخاذ المواقف والخروج منها بآراء مغايرة او مطابقة للمسألة المطروحة. 
انه الاكتساب الثقافي المستمر والنامي الذي يستحيل جزءاً من حياتنا اليومية وبالتالي يشكل العنصر الأساس في فعل اعادة بناء الذات العراقية والمصالحة معها، المصالحة الفردية والجماعية المرجوة. فتثقيف المجتمع من تثقيف الافراد وتثقيف الافراد يعني احلال العقل محل العاطفة. 
2- إحياء دور العقل، كمعيار موضوعي ومجرد لتقويم الحاضر التقويم العلاجي المتوخى والتخطيط للآتي تخطيطاً تأسيساً ثقافياً موافقاً للتخطيط التأسيسي السياسي والاجتماعي والاقتصادي. بذلك، نحاول استعادة لغة المنطق وسط الرماد. نحاول الانتقام من التعامل المبني على المشاعر الموروثة والمخاوف المتبادلة والمسلمات المسبقة الى نوع آخر من التعامل المبني على الجرأة المنطقية والقياس العقلي. 
والعقلانية هي الهيكلية الصلبة والثابتة لاستعادة البناء الداخلي للذات الجديدة. كما انها الهيكلية الصلبة لمد الجسور الحية لتفاعل ثقافي سليم في جسم الوطن. بالعقل وحده نستطيع التغلب على الذات القديمة التي تشكو من التفسخ والانقسام حتى الانكسار والنهوض بالذات الجديدة المغتسلة من اوراق الفئوية التي رسختها سنوات الاحتلال.3- إحلال الحس الاجتماعي الى جانب الحس الفردي، والمقصود بذلك ثقافياً ان يتم البناء الثقافي الشخصي مع نمو الدور الوظيفي العام الى جانب الدور الوظيفي الخاص عند الافراد، بمعنى ان تصبح الشؤون (الهموم) الثقافية عند المواطنين هماً من همومهم الجماعية كدرجة طبيعية للهم الثقافي الوطني. فالدرجة الثقافية تتحول تدريجياً الى معاناة ثقافية عند الافراد ثم تتطور وتتسع رفعتها من الفرد الى الجماعة فالمنطقة فالوطن. نبدأ من القاعدة الشعبية لنصل الى قمة الهموم وليس العكس. وعبثاً تحاول الدولة حين تحاول تعزيز الشأن الثقافي ما لم يباشر الافراد بتعزيزه اولاً. وهنا يدخل دور المؤسسات الثقافية العاملة ضمن المناطق والاقاليم او الهيئات الشعبية. اذ لا يمكن ان يبقى المثقفون طبقة من الطبقات الاجتماعية. فاما ان يكون الشعب برمته مثقفاً وان يكون ثمة عاملون في الشان الثقافي او تبقى طبقة المثقفين عاجزة كما هي الآن عن القيام بمسؤولياتها. 4- استيحاء التراث الفكري العراقي الحديث، واعني بالتراث الفكري الحديث ما دخل في موروثنا الفكري وما حمل من هموم مستمدة من طبيعة معضلاتنا السياسية والاجتماعية والحضارة القائمة حتى اليوم. ويفترض ان يتم استيحاؤه من خلال المعالم التي اتسم بها في طليعتها الدعوة الى التحرر واولوية الولاء الوطني ونبذ الطائفية والفئوية والمناطقية وبناء الوطن القوي العادل والطموح الى تزعم حركات التوعية العقلانية في محيطنا العربي والاقليمي.5- استيحاء الاختيارات الثقافية عند الآخر، وقد تكون هذه عربية او شرقية او غربية. المهم ان نجد في بعض منها صدى لاحتياجاتنا الانسانية فتصبح جزءاً لا يتجزأ من موروثنا الانساني العام بحيث تتساقط الحواجز امام تبنينا لاطروحات الآخر الفكرية. فالفكر الذي لا يقف عند حدود الاوطان يدخل في التراث الانساني ويبقى صالحاً في كل زمان ومكان. انه الانفتاح الثقافي المطلوب لانعاش المصالحة مع الذات واغنائها. انها البداية التي لا بد منها في البناء المنشود وفي اعداد البنى الارتكازية لتثقيف الانسان العراقي (الجديد) ولتأسيس الوطن العراقي على دعائم اقوى من الانهيار. * تقاطع المفاهيم ومحددات التعاريفاعتقد انه يستوجب قبل الدخول في صلب دراستنا، لابد بادئ ذي بدء من تحديد مفهوم او تعريف كلمتي مثقف وانتلجنسيا، التي ما زالتا غير واضحتي المعالم بالنسبة للكثيرين، حيث تكاد تكونا محصورتين بين فكي فعلين لا اكثر، هما القراءة والكتابة.فلا بد ان نستقر على تعريف لهما حتى نحدد مسيرة هذه الدراسة منهجياً. لكننا لن نغرق في طرح التعريفات العديدة لهاتين المفردتين، لاننا نعتقد انه ليس هناك كتاب او بحث عالج موضوع الثقافة دون ان يطرح تعريفاً او تعريفات لهما. وفي دراستنا هذه وضعنا تعريفاً خاصاً بنا يخدم الهدف الذي حددناه للدراسة وينسجم مع منهجنا فيها.لقد اصبحت مسألة إعطاء تعريف شامل لأي مصطلح، أمر لا يقبله المنطق العلمي. لذلك، فان محاولتنا هي لا تعدو ان تكون الا محاولة للخروج بقدر الامكان بالتعريف الذي ينسجم مع جملة العوامل والتطورات التي تلازم التحولات الاجتماعية في مجتمعنا، لا سيما وان عدد التعاريف لكلمتي مثقف وانتلجنسيا كثرت وتعددت واختلف الكتاب حولها طبقاً لاختلافهم في طبيعة المنهج وطبيعة البنية الفكرية والايديولوجية والمرحلة التاريخية من تطور المجتمع. 

* محددات المثقفإن تعريف المثقف في غاية الاشكالية ومن اصعب ما يمكن، هكذا حال التعريفات دائماً. على ان التعريف برأيي يجب ان يكون جزءاً من تجربة الشخص نفسه. وعليه، فقد احتار الكثير من المفكرين في تحديد كلمة مثقف، وربما ترجع هذه الحيرة الى انهم يحاولون وضع خصائص ورسم سمات اغلبها مثالية لخصائص ذواتهم. فكلما توصلوا الى تعريف ابتعدوا به في واقع الامر عن اوضاعهم ومكاناتهم وذواتهم في المجتمعات التي يعيشون فيها. 
ويتساءلون: هل المثقف هو الناقد ام الناقل ام المجتهد ام المبدع؟ ما هي وضعية المثقف في سياق النظم الاجتماعية؟ اهو مشارك في السلطة، بمعنى انه ينتمي الى الفئة التي تمثل دوراً حاسماً في تبرير النظام القائم في مجتمعه، وهو ما يعبر عنه البعض بمصطلح واعظ السلطان. ام هو المفكر الملتزم بالموضوعية العلمية بالمعنى الدوركهايمي –نسبة الى عالم الاجتماع دوركهايم- ام هو الذي ينتمي الى الفكر العلمي لقوة النظام؟
إن الاشكالية لا تكمن في تعريف من هو المثقف، بل في تحديد الدور الذي يقوم به المثقف في مجتمعه. وان السؤال الذي يجب ان يهتم به من يبحثون في هذا الشأن هو: هل كل انسان يقوم بدور المثقف؟ ان الانسان المثقف في تصوري، هو من تتوفر فيه متابعة ما يحدث في المجالات المعرفية المختلفة وليس فقط في مجال تخصصه، وذلك، كي يستطيع ان يلم بالحركات الفكرية وتياراتها المختلفة والتي يموج بها العالم في الوقت الراهن، وان لا تنحصر معرفته في الحاضر فقط لان الحاضر ما هو الاحصيلة الماضي، ولا بد ان يعرف بشكل او بآخر الاصول التي بدأت مثلاً. وان لا يأخذالتاريخ بمعنى الاحداث وانما بمضي التيارات الفكرية وأنماطها. اما الاهم الذي يجب ان يتوفر في المثقف هو ان يتفاعل مع المجتمع واحداثه وليس فقط مع الثقافة العامة التي حصل عليها عن طريق القراءة والمتابعة، ويكون هذا التفاعل على مستويين: الاول- هو محاولة نقل خبرته الثقافية ومعلوماته الى المجتمع بحيث يطوع هذه الثقافة. والثاني- هو ان تكون لهذا الانسان نظرة نقدية لمجتمعه، بمعنى الا ينعزل عنه وانما يدخل في حوار مع احداث هذا المجتمع سواء كانت سياسية او اجتماعية او اقتصادية. اذن، الانسان المثقف، هو الانسان الذي يعيش بكل حياته ووجدانه وتفكيره مع المجتمع الذي يحيا بداخله، وان يظل بعيداً عن المهاترات، وان يكون عف الفكر واللسان، وان لا يكون منافقاً او متملقاً. وعليه، فالمثقف في رأيي: هو الانسان الذي يعي ذاته وذات مجتمعه، من خلال الصلة بواقع هذا المجتمع ومواريثه الفكرية والحضارية، وبقدراته على ادراك واقعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتفسير هذا الواقع تفسيراً حقيقياً، واخذ موقف من هذا الواقع لتجاوزه نحو مستقبل افضل للمجموعة التي ينتمي اليها ثم لمجتمعه الاوسع اذا ما وضعنا بعين الاعتبار ان المستقبل هو الحركة الاساسية التي علينا ان نسعى اليها، من منظور ان التغيير حتمي تاريخي لاي مجتمع من المجتمعات. ان كلمة مثقف في لغتنا العربية وفي اللغات الحية الاخرى تعني اشياء عديدة، فكلمة مثقف التي تقابلها كلمة Intellectual بالانكليزية و Intellectuel بالفرنسية، حملت الكثير من التعريفات، خلاصتها: المثقفون هم اولئك الاشخاص من المتعلمين الذين يمتلكون المعرفة ولهم طموحات سياسية، وعلى اساس هذه المعرفة الموضوعية والطموحات السياسية وتأملاتهم الذاتية.. يسعون الى التأثير في السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى، والى صياغة ضمير مجتمعهم، وكذلك صياغة احكامهم على الواقع دون ان يستخدموا هذه الاحكام مباشرة او بالضرورة من خبراتهم الحسية. 
لذلك فان محاولتنا هنا لعرض بعض التعاريف حول المثقفين، لا تعدو ان تكون الا محاولة للخروج، بقدر الامكان، بالتعريف الذي ينسجم مع جملة العوامل والتطورات التي تلازم التحولات الاجتماعية في مجتمعنا، لا سيما وان مجموع التعاريف لكلمة مثقف كثرت وتعددت واختلف الكتّاب حولها، طبقاً لاختلافهم في طبيعة المنهج وطبيعة البنية الفكرية والايدولوجية والمرحلة التاريخية من تطور المجتمع، لذلك لم تعد مهمة تصنيفها في مجموعات محددة بالامر اليسير، الا اننا سوف نحاول من خلال عرضنا لبعض التعاريف بيان اهم الاسس والمعايير التي اعتمد عليها هؤلاء الكتّاب في التعاريف المعطاة للمثقفين. تعرف اغلب الموسوعات الاجتماعية والسياسية المثقفين بانهم اشخاص يملكون المعرفة، وبمعنى اضيق، هم اولئك الاشخاص الذين ينطلق رأيهم او حكمهم عن الملاحظة والمعرفة، وبصورة مباشرة عن الادراك الحسي. وان معظم المثقفين، حسب رأي الموسوعات هم الاكاديميين، وخاصة المدرسين، غير انه من الخطأ تحديدهم وفق المعايير الاكاديمية مادام التعليم والتثقيف امر يمكن تملكه بطرق عديدة وبنوعية مختلفة من مسألة الى اخرى.. فكل شخص يعتبر مثقفاً بالقدر الذي يستوعب المعرفة وبالحد الذي هو معني على علاقة بالفكر والذهن. 
وتعرف ايضاً، المثقفين بأنهم فئة من الناس ترتبط نشاطاتها اساساً بالقدرات الذهنية. وبنفس المعنى تعرف اخرى المثقف بأنه شخص التأمل والتفكير، او شخص القدرات الفكرية العالية الذي كرس نفسه للدراسة والتأمل، وبصورة خاصة القضايا العقيمة والعويصة.. انه الشخص الذي يسترشد، اصلاً، بالعقل وبالفكر بدلاً من العواطف، انه الشخص الذي ينغمس في الاعمال الفكرية والابداعية وبصورة خاصة في حقول العلم او الادب او الفن بدلاً من العمل اليدوي..وترى في المثقفين منتجي ومستهلكي مختلف اعمال العلوم في الفلسفة والدين والادب والفن. فهي ترى فيهم ايضاً بانهم الاشخاص الذين يستخدمون في اتصالاتهم وتجاربهم رموزاً.. ومراجع تجريدية وغامضة متعلقة بالانسان والمجتمع والطبيعة. ومن الكتّاب الذين حاولوا دراسة المثقفين وتعريفهم، على نفس المنوال، الكاتب بيندكس فهو يرى بأن الكلمة، رغم غموضها تعني اولئك الافراد الذين يشغلون وظائف على اساس متكامل، كالمهن الحرة غير اليدوية. اما بالنسبة للفكر الماركسي فقد وضع، ماركس في الايديولوجية الالمانية اللبنة الاولى لتعريف المثقف. فقد اشار الى المثقفين باعتبارهم مفكري الطبقة الحاكمة.. وبأنهم اولئك الذين يخلقون الوهم –الايديولوجيا والافكار- عن طبقتها وعن نمط واسلوب حياتها…اما عند لينين، فان ما يميز المثقفين عن العمال اليدويين ليس كونهم مؤلفين وكتّاب، بل كونهم ايضاً اصحاب المهن الحرة والاعمال الذهنية. وحتى بالنسبة للكتّاب الروس المعاصرين فانهم يؤكدون بان المثقفين هم فئة اجتماعية محددة.. ومتخصصة بمهنة العمل الذهني. اما روجية غارودي فيرى في المثقفين بانهم القوى المنتجة الذهنية.. ويذهب اليسار الامريكي الى اعتبار المثقفين اولئك الذين يؤدون مهنياً مهمة انتاج، وتوزيع، وتفسير، ونقد، وتثبيت القيم الثقافية.
اما بالنسبة للفكر اليميني البرجوازي، فان المثقفين يتميزون عند موسكا بكونهم طبقة متوسطة جديدة، تختلف اختلافاً كلياً عن الطبقات العاملة بعمليتها وثقافتها الواسعة، وبعادتها واسلوب حياتها.
اما عند ريمون آرون فهو يرى، بان المثقفين، هم عمال غير يدويين.. والمثقف هو رجل الافكار، ورجل العلوم.. وهو الذي يؤمن بنظرية معينة تجاه الانسان والفكر. وبالنسبة لتعريف المثقف في بعض البلدان النامية، فان آرون يرى بان في افريقيا الشمالية، يكفي ان يكون المرء قد قضى عدداً صغيراً من السنين على مدرجات الكليات لكي يستحق هذا اللقب.. وانهم يستحقون هذا اللقب بمعنى انهم اقتبسوا الكفاءة التي تمكنهم من اشغال بعض الوظائف. 
ومن الملاحظ، ان معيار التحصيل العلمي والجامعي، هو معيار رئيسي سائد في الكثير من التعاريف. فمثلاً يعرف جلينر المثقفين بانهم فئة متفككة، وغير مترابطة، تعبر عن المعتقدات والقيم السائدة في المجتمع، بفضل تحصيلها على التعليم الجامعي. اما بالنسبة للكاتب الامريكي شيلز، فهو يعد واسع الشهرة في هذا المضمار، حيث تعد دراسته عن المثقفين في مجتمعات البلدان النامية نموذجية عند الكثير من الكتاّب.يرى شيلز، بأن المثقفين هم اكثر النخبات اهمية في البلدان النامية، وتعريفهم اوسع واشمل من تعريفهم في الدول المتقدمة، وهذا التعريف يعتمد اساساً على التعليم والمعرفة بالرغم ما في الكلمة من غموض، فالمثقف الحديث يعني الشخص المستقل للثقافة والمعرفة.. فالمهندسون والصحفويون والعاملون في سلك التعليم، وغيرهم يعدون من مثقفي البلدان النامية.. وفي مكان آخر يعرف شيلز المثقفين بانهم كل الاشخاص الذين حصلوا على تعليم حديث ومتطور، غير ان هذا التعريف لا يشمل المثقفين، التقليديين، رغم ما لهم من دور لا ينكر، فدراسة شيلز تتركز على اولئك الذين اصبحوا المحدثين بالتعريف على، والكشف عن مجرى الثقافة الفكرية الحديثة عن طريق الجامعة او الكلية…
لقد كان تأثير، شيلز كبيراً على الكتّاب الذين تناولوا هذا الموضوع، ولم يغفلوا تعريفه بل اكثروا في الاشارة اليه. فبالنسبة للكاتب جون كاوتسكي يعرف المثقفين، بعد ان يستعير الكثير من شيلز، بانهم اولئك الذين تلقوا او هم في عملية تلقي التعليم الحديث المتطور. ويتفق مع شيلز بكون هذا التعريف اوسع واشمل مما هو عليه في البلدان الصناعية…
ويصف اوريم تعريف شيلز للمثقفين، بانه تعريف يتسم بالتبصير والتعقل، ويستعين به لدراسة دور المثقفين في البلدان النامية، ذلك الدور المميز والخاص في بناء الدولة القومية الحديثة.. فالمثقفون عنده هم اولئك الذين تزعموا الجهود لتأسيس شعوب حديثة.. وهم اصحاب الافكار المتفتحين للمعرفة الجديدة لغرض خلق نظام اجتماعي وسياسي جديد لهم ولاتباعهم.. وهم المسؤولون عن خلق، او توضيح الايديولوجيا التي تكون الركن الحاسم في خلق الدولة القومية.اما هاري بندا فشهرته في دراسة دور المثقفين، كنخبة، في البلدان النامية، لم تقل عن شهرة شيلز.. فهو الآخر، يؤكد سعة وشمولية مفهوم المثقفين في هذه البلدان، بحيث يشمل جميع اولئك الذين اكتسبوا بشكل او بآخر نوعاً من المعرفة الحديثة وتلقوا بعض التعليم في الجامعات الاوروبية او هم اولئك الذين تأثروا سواء بشكل مباشر او غير مباشر بالثقافة الغربية، فوقف هذا المعيار ميّز بندا بين المثقفين السابقين لهذه الثقافة، وبين المثقفين الجدد المتأثرين بهذه الثقافة. كما وان معيار اكتساب المعرفة والتعليم، شمل، كإطار عام، معظم المثقفين المدنيين والعسكريين كما شمل المثقفين بالمفهوم الصرف لهذا المعنى.وتأثير دراسة شيلز وبندا عن المثقفين، لم تقتصر على الكتّاب الغربيين فحسب، بل تعدتهم حتى الى الكتّاب الروس الذين تناولوا هذا الموضوع في البلدان النامية. كما ويبدو ان تأثيرها كان واضحاً على بعض كتّاب العرب الذين بحثوا في دور المثقفين في التحولات السياسية والاجتماعية. وهناك العديد من التعاريف التي لا تختلف جوهرياً عما سبق وذكرناه من التعاريف، الا من حيث الصياغة والطرح.. فمثلاً يرى ما نهايم في المثقفين بأنهم منتجو الاشكال الايديولوجية والفكرية، الاكثر اهمية في المجتمع.. في حين يرى البعض الاخر، بانهم اولئك الذين يقع عليهم الجهد والابداع الثقافيين، من علماء وكتاب واساتذة.. الخ. اما شومبير فهو، على الرغم من انه يرفض تعريفهم باولئك الذين لا يمارسون عملاً يدوياً ويرفض حصرهم في مجال القلم والكتاب، الا انه يعود ليعرفهم باولئك الذين يملكون قوة الكلمة المكتوبة والمنطوقة. 
ويرى شومبير، ايضا بان هناك العديد من الاشخاص الذين يملكون نفس ميزات المثقفين الا انه من الصعب ان يكونوا مثقفين حسب مفهومه. فما يميز هؤلاء المثقفين عن غيرهم هو غياب مسؤوليتهم تجاه شؤونهم العملية وكونهم متفرجين وغير مسؤولين.. ان تحليل شومبير هذا عن سوسيولوجية المثقفين يعد تعبيراً حياً وصادقاً عن ازمة الرأسمالية في المرحلة التي عصفت بها الازمات الاقتصادية والاجتماعية مما حدا بالمثقفين الالتحام بالحركات العمالية والثورية. لذلك لا يمكن تعميم هذه الظاهرة، غياب المسؤولية لدى المثقفين، على جميع المثقفين، فالاخيرون شاركوا ويشاركون في ظل الكثير من الانظمة السياسية في عملية البناء المادي والفكري، وحتى في المجتمعات الرأسمالية، المثقفون تحملوا الكثير من المسؤوليات الثقافية والفكرية وساهموا في مهمات التصنيع وبناء الديمقراطية الليبرالية وتنكبوا مسؤوليات ملفتة للنظر، لهذا تعرض مفهوم شومبير حول غياب المسؤولية كعنصر محدد للمثقفين الى نقد شديد من بعض الكّتاب. اما عند بايلز، فالمثقفون يتميزون بكونهم عقل العملية الانتاجية المادية. 
وبنظرة تحليلية الى جميع التعاريف التي اوردناها.. رغم التباين بينها من حيث صياغتها وشكلها، فانها جميعاً تقوم على اساس نظري واحد، على حصر المثقف في مجال الذهن والفكر وتعريفه ضمن النشاطات الفكرية، وما يتعلق بها من الابداع والخلق والابتكار، والمستمد أساسه النظري من مفهوم تقسيم العمل الى ذهني وعضلي، الى فئة اختصت بالعمل الفكري وفئة اختصت بالعمل اليدوي، أياً كان معيار هذا التقسيم، سواء كان على اساس طبقي، كما هو الحال مع الماركسية او على اسس اخرى. مما تقدم يتضح بان الاساس الذي حاول الكتّاب الاعتماد عليه في تعريفهم للمثقف واه ، ولا يمكن الركون اليه. فقد كان المفكر والسياسي الايطالي انطونيو غرامشي، سابقاً لعصره عندما اعتبر تحديد المثقف ضمن النشاطات الفكرية منهجاً خاطئاً، وتعد مناقشته هذه عن ظاهرة المثقفين المحور الاساسي لفكره حيث تطورت بعمق واصالة كبيرين بحيث تعد اوضح ما كتبه في (دفاتر السجن) ذلك لان في هذا المجال كان غرامشي يملك افكاراً واضحة الى اقصى حد من البداية الاولى. فبينما نجد في المجالات الاخرى فروقاً دقيقة، او نجد في المشكلات الاخرى شكوكاً او تذبذبات في فكره، فان غرامشي قد وجد في مجال الثقافة وفي مجال التحليل وظيفة المثقفين من بداية الفكرة التي قدر لها ان تتطور في مسار السنين..
ويتساءل غرامشي في معرض رده لتعريف المثقف ضمن النشاطات الفكرية. ما هي الحدود القصوى لمعنى كلمة “المثقف”؟ اترانا نستطيع الاتفاق على قاعدة موحدة لتعريف جميع الفعاليات الفكرية، على تنوعها وتمايزها –جوهرياً وفي آن معاً- عن فعاليات الفئات الاجتماعية الاخرى؟ يبدو ان الخطأ المنهجي الاكثر شيوعاً هو النظر الى قاعدة التمايز هذه ضمن اطار الفعاليات الفكرية نفسها، بدلا من دراسة مجمل تركيب العلاقات الاجتماعية التي تنتظم هذه الفعاليات وتنتظم بالتالي الفعاليات التي نجدها. ولما كانت ابسط الاعمال اليدوية واعقدها تتطلب جهداً ذهنياً وكل فعالية بشرية يدخلها جهد فكري لذلك يستحيل عزل الانسان الصانع عن الانسان العارف فيمارس كل انسان فعالية ذهنية معينة خارج نطاق اختصاصه المهني، وبالتالي يحق لنا القول ان جميع البشر مثقفون مع الاستدراك بان جميع البشر لا يمارسون وظيفة المثقفين في المجتمع. ومن هذا المنطلق لا يعد معيار الفعاليات الذهنية معياراً ثابتاً لتحديد اطار المثقفين والتعرف عليهم وتمييزهم عن غيرهم مادام كل انسان ازاء مستويات متفاوتة من النشاط الفكري. وهناك العديد من المفكرين الذين رفضوا هذا الاطار الذهني البحت كأساس لتعريف المثقفين، وقد يعد سارتر من هؤلاء المفكرين، فهو يرى بأن الذين يتصورون المثقف ويعرفونه بأنه شخص يمارس العمل الفكري وحده دون غيره، يعد تعريفاً سيئاً ذلك لانه لا يمكن تصور عمل فكري محض كما لا يمكن تصور عمل لا يحتاج الى الفكر، فقد يكون الجراح، على سبيل المثال مثقفاً مع ان عمله يدوي، فالمهنة القائمة على هذا التقسيم لا يمكن ان تحدد وحدها ما يطلق عليه اسم المثقفين. وازاء هذا التساؤلات والمشكلات المطروحة امام تحديد وتعريف المثقف ضمن الاطر الفكرية والذهنية تفرض الضرورة ايجاد معايير اخرى، تملك تلك المقدرة اللازمة للاجابة على مثل هذه التساؤلات وايجاد حلول للمشاكل المطروحة.. معايير يعتد بها لتحديد وتعريف المثقف، لا تدور في الاطار الميكانيكي لتقسيم العمل، بل معايير، مستمدة اساساً من تفاعل جملة عوامل موضوعية وذاتية افرزت ظاهرة المثقفين الجدد، ومن طبيعة التركيب الاجتماعي للمجتمع. ولما كانت الثقافة، بمفهومها الايديولوجي، هي وعي الانسان المتطور دوماً لنفسه وللعالم الذي يحيا ويعمل فيه، فان تعريف المثقف وتحديد دوره، لا يتم الا ضمن الجماعة الاجتماعية –المجتمع- التي يحيا فيها ويعمل ويناضل من اجلها ويعيش بكل حياته ووجدانه وتفكيره معها التي يحيا بداخلها وان تكون له نظرة نقدية لهذه الجماعة، بمعنى الا ينعزل عنها وانما يدخل في حوار مع احداث هذه الجماعة سواء كانت سياسية او اجتماعية او اقتصادية. 
* محددات الانتلجنسيا 
يلفت الغموض عادة مفهوم النخبة المثقفة او ما يعرف الانتلجنسيا Intelligentsia، لرواجه وكثرة توظيفاته وتباين مدلولاته، وخصوصاً انه يتقاطع مع مفاهيم اخرى لمفهوم المثقف والمفكر فيغدو احيانا مرادفاً لها. فالمثقف كمصطلح قد استخدم بصفة اساسية من قبل اولئك الذين كانوا ينادون بالحقوق السياسية، وقد تخلق هذا الاسم من خلال ادباء فرنسا الذين قادوا الحركة التي استهدفت تحرير الوظائف الادبية والكتابية، وهي الحركة التي كانت ترمي اساسا الى الحد من سيادة النزعة العسكرية. اما اصطلاح الانتلجنسيا، فقد استخدم من قبل الاوربيين الشرقيين، وهو اصطلاح يعني المفكرين الذين يهتمون اساساً بنقد السلطة القائمة ويلعبون ادوار رئيسية في الحركات الثورية. 
لا نرى بالضرورة ان يكون المثقف راديكالياً او من ذوي الميول اليسارية، ولكن الكثير من الكتّاب يستخدمون اصطلاحي المثقفين والانتلجنسيا باعتبارهما يعنيان تلك الفئة من المفكرين ذوي النزعة النقدية والتقدمية، ويتخذان موقف الاغتراب والانفصال عن المجتمع، فان المثقفين فئة تقف من المجتمع موقفاً نقدياً انفعالياً، وهذا يستوجب تحديداً لمفهوم المثقف. فالمثقفين، اشخاص يمكن ان ينظر اليهم باعتبارهم تلك الفئة المستغرقة في انتاج الافكار، مثل الباحثين والفنانين والصحفيين والعلماء.. الخ. 
ويمكننا ان نميز المثقفين Intellectuals،  intelligentsia   ،   ونعزو هذا التفريق الى مصطلح الانتلجنسيا الذي استخدم لاول مرة في روسيا، ويقصد به آنذاك اولئك الذين تلقوا تعلمياً جامعياً يؤهلهم للاشتغال بالمهن الفنية العليا. وقد اتسع استخدامه وامتد مدلوله الى كل الذين ينخرطون في مهن غير يدوية. اما المثقفون فهم اولئك الذين يسهمون مباشرة في ابتكار الافكار او نقدها. وتضم هذه الفئة المؤلفين والعلماء والفلاسفة والمفكرين والمتخصصين في النظريات الاجتماعية والمحللين السياسيين. وقد يصعب تعيين حدود هذه الجماعة تماماً، ذلك لان المستويات الدنيا منها تختلط بمهن الطبقة الوسطى، مثل التدريس والصحافة. لكن الخصائص المميزة لها التي تتعلق مباشرة بثقافة المجتمع تظل واضحة وضوحاً كافياً.اما بالنسبة الى الاصول الاجتماعية للمثقفين على العموم، فقد استطاع التعليم ان يساعد ذوي المواهب من الطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا على الحصول على مراكز اجتماعية مهمة الى درجة انهم بدورهم اصبحو نخبة، ويضمون فئات متنورة متعددة، مثل الكتّاب واساتذة الجامعات والمحاميين والصحفيين والعلماء والمهندسين والمدرسين.
المثقف، كان امتداداً طبيعياً لفيلسوف القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، على المستوى المذهبي والايديولوجي، فبروز المثقف ارتبط بالصراع الفكري والسياسي حتى انه احياناً يقصد بالمثقفين الفئة النشيطة والمعارضة للسلطة، او ما يطلق عليهم تمييزاً بالانتلجنسيا. فالمثقف من هذه الفئة هو الفرد الذي يلتزم بإثارة القضايا التي تتعارض مع اي ضغط سياسي، ويشترط فيه ايضا ان يكون مالكاً لرصيد معرفي مهم كما ذكرنا انفاً. 
إن اصل كلمة Intellectuals مشتقة من Intellect التي استخدمت بمعنى مرادف لـ Intelligence وتعني الفكر والذكاء، او ملكة عقلية لاكتساب العلم والمعرفة.. وعلى هذا الاساس فالكلمتان Intellectuals و Intelligentsia مرادفتان لمعنى واحد هو المفكرون او المبدعون في مجال الذهن والنشاطات المتعلقة به. 
ونتيجة لما رافق من تطور في مضمون هذه الكلمة، شملت فئات اجتماعية اخـــــــــرى. لذلك فـــإن استخدام كلمة –المثقفون- بدلاً من –المفكرون- في اللغة العربية، يجنبنا الكثير من الاشكالات التي تنجم من استخـــدام الكلمة الاخيرة، والتي يفهم منها اولئك الذين يعيشون في عالم الفكر دون الممارسة، في حين ان كلمـــــــــــة –المثقفون- أوسع مضموناً، فقد يشير الى اولئك الذين يعملون في مجال الفكر والممارسة ايضاً، بالاضافة الى العناصر الثورية الواعية لحركات التحرر السياسية. 
تشير الموسوعة المقارنة بخصوص الكلمتين Intellectuals و Intelligensia الى ان استخدامها في اللغة الالمانية Intelligenz و Intellektuale كانت تحمل عادة دلالات ايجابية مثل الابداع او الانتقاد، اما في اللغة الانكليزية والفرنسية فان الكلمات Intellectuals و   Les Intellectuals كانت تعكس وتدل على بعض القيم، بسبب كون هذه اللغات لم تستوعب بعد مفهوم الطبقة المحايدة، مثلما كان هذا المفهوم في اللغة الالمانية والروسية. فمثلاً ان كلمة –المثقفون- في اللغة الفرنسية، وان استخدمت في بعض الاحيان، فانها لم تكن تعني تعريفاً او اشارة لطبقة معينة. اما كلمة Intelligentsia الروسية فكان اول من استخدمها هو الروائي المغمور Boborykin عام 1860، وترى هذه الموسوعة، بأن هذه الكلمة ذو اصول لا تينية وليس فرنسية بسبب كون اللغة اللاتينية ذلك الوقت، لغة اجنبية تستخدم عادة من قبل اللاهوتيين الروس. ويستفاد من هذه الكلمة، في دراسة النخبات في البلدان النامية وبمعنى سياسي اكثر مما كان عليه قبل الثورة الروسية. وتؤكد معظم المراجع على اعتبار كلمة Intelligentsia روسية الاصل، حيث استخدمت لاول مرة في منتصف القرن التاسع عشر، لوصف النخبات الصغيرة ذوي الثقافة النامية والتي تلقت تعليما جامعياً على الطراز الاوربي، بالمثقفين الروس Intelligentsia  Russian  .
فهذا التأكيد والاصرار على اصل الكلمة، لا يرتبط برأينا، بالأصل اللغوي بقدر ما يرتبط بالأصل الاجتماعي والسياسي للكلمة.. فشكل الكلمة ومضمونها في علاقة ترابط قوي يعكس احدهما الآخر من خلال هذا الترابط والتفاعل. فاذا كانت كلمة Intelligentsia روسية الاصل ام لاتينية، فهي في الحقيقة، تعكس بالاساس ظاهرة اجتماعية وسياسية ذات ملامح روسية بحتة. الا ان في مراحل تطور مضمون هذه الكلمة وانتقالها الى البلدان الاخرى عكست ظواهر اجتماعية وسياسية اخرى ومختلفة ومقترنة بطبيعة التطورات السياسية والاجتماعية للمجتمعات المختلفة. 
فعندما تشير –الموسوعة المقارنة- الى ان كلمة –المثقفون-، في اللغتين الفرنسية والانكليزية لم يكن القصد منها، في السابق، الاشارة الى طبقة او فئة اجتماعية انما في الحقيقة يرتبط هذا بطبيعة تطور قوى الانتاج وما ترتب عليها من نتائج في الترتيب الطبقي والفئوي عقب الثورة الصناعية الاولى، وعندما اضحت تباشير التطور الاداري والتنظيمي الكبير على عتبة الصناعات الضخمة، وعندما برزت فئات تختص بهذا العمل وبشكل اعمق واوضح، عند ذاك ظهرت كلمة المثقف وبزيادة مطردة في اللغة الانكليزية والفرنسية، وهذا ما يؤكده بعض الكتّاب بان اسم المثقف، لم يظهر في اللغة الفرنسية مثلا، الا في العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر، هذه الظاهرة مرتبطة اساساً ببنية قوى الانتاج التي تتميز في نمط الانتاج الرأسمالي بسمة جوهرية هي تعميق انقسام العمل الى يدوي وفكري، بنقل حركة مزدوجة تقوم بتبضيع العمل الحرفي وبتشديد التخصص فيه تشديداً يستحيل فيه العمل الى درجة عالية من الرتابة. 
وعلى العكس من ذلك، بالنسبة للغتين الالمانية والروسية، فبالنسبة للاولى يرجع ارتباط كلمة Intellektuale بالابداع والانتقاد، اساساً الى غزارة الانتاج الفكري والفلسفي في المانيا من جهة، والى سيادة فلسفة النقد الهيغلي- الماركسي في الفكر الالماني من جهة اخرى، والذي لم يكن هذا الفكر بأي شكل من الاشكال بعيداً عن مجمل العوامل الموضوعية السائدة آنذاك. اما بالنسبة للغة الروسية، فانه لا يهمنا كون كلمة Intelligentsia لغوياً، روسية الاصل ام لاتينية بقدر ما يهمنا، وبالدرجة الاولى، كون جملة عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية افرزت ظاهرة متميزة فريدة من نوعها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. 
ففي محيط متخلف محاط بدياجير الجهل تأثر قسم من الطبقة الوسطى الروسية، وبعض النبلاء، بل وحتى ابناء الفلاحين، بالافكار الاجتماعية والسياسية السائدة في الغرب من جهة، كما وان اثباط عزيمتها وخيبة آمالها وإلجام حريتها في التعبير الفكري من قبل الاوتوقراطية الروسية وخضوعها لنظام مراقبة سياسية صارمة من جهة اخرى، ادت هذه العوامل مجتمعة الى ظهور النواة الاولى للانتلجنسيا الروسية في صفوف محترفي القانون والطب والهندسة والتدريس.. كما شملت فئات اخرى من البيروقراطيين وملاكي الاراضي وضباط الجيش. 
ويفرق برديائيف مؤلف – منابع الشيوعية الروسية ومعناها- بين الانتلجنسيا الروسية التي تمخضت عن هذه الظروف وبين ظاهرة المثقفين في المجتمعات الاخرى، بقوله بأن المثقفين هم الذين يقع عليهم الجهد والابداع الثقافيين من علماء وكتاب واساتذة.. بينما تمثل الانتلجنسيا الروسية تكويناً مختلفاً تمام الاختلاف، فيستطيع الانتماء اليه رجال قد لا تكون اهتماماتهم من النوع الثقافي، وممن لا يكونون اعضاء في صفوفها.. فلها مفهومها عن العالم، لا يستطيع احدها التخلي عنه، ولها طباعها وعاداتها الخاصة، بل لها مظهرها الطبيعي الخاص بها، فكانت الانتلجنسيا، اذن جماعة من الناس ضمتها ايديولوجيا واحدة لا ترتبط افرادها رابطة مهنية او اقتصادية وانما جاء اعضاؤها من مختلف الطبقات الاجتماعية. 
اما بالنسبة ل بوتومور مؤلف –الصفوة والمجتمع- فأنه ميز الانتلجنسيا عن المثقفين باعتبار ان الـ Intelligentsia استخدمت اول ما استخدمت في روسيا خلال القرن التاسع عشر للاشارة الى الذين تلقوا تعليماً جامعياً يؤهلهم للاشتغال بالمهن الفنية العليا، ثم اتسع مدلولها بعد ذلك حينما استخدمت عدد من الكتّاب لكي يشمل كل اولئك الذين ينخرطون في مهن غير يدوية. غير انه من الملاحظ، ان هذا التفريق والتمييز بين الانتلجنسيا والمثقفين كان وارداً وصحيحاً، الا ان الروابط المشتركة الرئيسة التي كانت تجمع الانتلجنسيا الروسية، لم تكن، كما حددها برديائيف، في طباعها وعاداتها الخاصة او مظهرها الطبيعي او الايديولوجي، ولم يكن التعليم الجامعي وما يخص المهن غير اليدوية، كما هو عند بوتومور، ذلك لانه كان هناك الكثير ممن حصلوا على ثقافة عالية وتعليم جامعي يعملون في خدمة النظام القيصري ولم يكونوا، بالتعريف في الانتلجنسيا الروسية، كما كان هناك الكثير ممن ليس لهم اهتمامات ثقافية، هم اعضاء في هذه الجماعة. فالفجوة الكبيرة بين الجماعة التي انعمت بالثقافة الجديدة والتعليم العالي وبين حقائق المجتمع والسلطة السائدة فيه عوامل قوة قادتهم نحو الافكار الثورية ورفض النظام السياسي، فالقاسم المشترك الذي كان يجمع جماعة معينة  لتكون  الانتلجنسيا ، هو خضوعها لظروف القهر والكبت الثقافيين وحرمانها من حرية التعبير الفكري ،  فأضفت عليهم، هذه الظروف، طابع الرفض الثوري لكل النظام السياسي والاجتماعي القيصري مما ادى بهم الى بلورة مواقفهم الفكرية بصورة قوية، ولكن من دون ان تجمعهم ايديولوجية واحدة تعكس مصالح طبقة او فئة اجتماعية متجانسة، فبالرغم من طابع الرفض الثوري كانت هذه الجماعة تضم بين صفوفها مختلف الافكار اليسارية والليبرالية دون ان يكونوا فئة سياسية متوحدة، او حزب او طبقة متميزة، اكثر مما هم ظاهرة اجتماعية وسياسية ضمن ظروف معينة تتمحور حول مفهوم رفض النظام السياسي والاجتماعي. وعلى هذا الاساس، يمكن القول بان كلمة Intelligentsia ظهرت في الواقع الموضوعي قبل ظهورها لغوياً وتبلورها بالشكل الحالي. فالعوامل التي افرزت ظاهرة المثقفين في روسيا القيصرية هي التي ادت الى ان تكون الكلمة شكلاً ومضموناً، لغوياً وسياسياً، وروسية الاصل.
فعندما يشير الملحق الادبي لمجلة Times بأن المهني الحديث لكلمة Intellectual لم يكن شائع الاستعمال قبل سنة 1900 ثم اخذت تحل في الاستعمال محل الكلمة الروسية Intelligentsia، انما في الحقيقة يؤكد دخول هذه الكلمة شكلاً ومضموناً طوراً جديداً مرتبطاً بطبيعة النظم السياسية والاجتماعية المختلفة ومتطبعة بخصائصها المتميزة عن تلك التي كانت سائدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إبان النظام القيصري في روسيا. الا ان انتقال ظاهرة المثقفين من موطنها الاصلي روسيا حملت، في بعض جوانبها، مفهوم رفض النظام السياسي والاجتماعي، وبدرجة متفاوتة من نظام الى آخر، وهذا ما نجده عند الكثير من الكتّاب الذين يربطون المثقفين بوظيفة ممارسة النقد للنظام السياسي السائد..
فمعجم علم الاجتماع الحديث ل ثيودرسون، يعرف الانتلجنسيا بأنهم اعضاء المجتمع الذين ينذرون انفسهم لتطوير افكار اصلية وينهمكون في مساع فكرية خلاقة. اي انهم المفكرون المبدعون او الصفوة الفكرية في المجتمع. وهذا التعريف يبدو انه ضيق المجال. اذ يغفل جوانب اخرى هامة تميز هذه الفئة مثل اتخاذ مواقف انتقادية تجاه الافكار. 
ويعتبر ارنست كلنر، الانتلجنسيا طبقة منفصلة عن معتقدات وقيم مجتمعها بفضل تعليمها الممتاز. وهنا يضيف كلنر الى الجانب الفكري الذي ورد في التعريف السابق، صفة الوقوف بعيداً عن معتقدات وقيم المجتمع، اي بمعنى الانتلجنسيا المحايدة او اللامنتمية اجتماعياً. ولا يهمل كلنر الجانب الانتقادي في ثنايا مناقشته لدور الانتلجنسا، الا ان نظرته الى الانتلجنسيا في اقطارنا العربية لا تشكل بأية حال من الاحوال طبقة بالمعنى السوسيولوجي لهذا المضمون، ولاتكّون حتى مجرد فئة واحدة مثقفة ومنسجمة لاسباب متعددة لعل اهمها تخلف الواقع العربي على مختلف المستويات، وغياب التربية الانتقادية التي كان من الممكن ان تكون عاملاً فكرياً هاماً يربط بينهما ويوحد نظرتها، ووجود الحواجز القطرية التي لا تزال تفصل بينها وتعمق تجزئتها. 
ويؤكد عالم الاجتماع الفرنسي المعروف بييربورديو ايضاً، على صفتي الفكر الابداعي والحياد، حيث ينظر الى المفكر الذي ينتمي الى الانتلجنسيا على انه مفكر مستقل وغير متحيز لأي من المطالب غير تلك المطالب الجوهرية لمشروعه الابداعي، وذلك في معرض تناوله للاستقلال الذاتي نسبياً للحقل الفكري في اوربا. 
والواقع، ان معظم تعريفات الانتلجنسيا السائدة في العلوم الاجتماعية اليوم لا تكاد تخرج كثيراً عما ذكره بالخصوص عالم الاجتماع الالماني المشهور كارل مانهايم خلال الربع الثاني من القرن العشرين. فهو من ابرز العلماء الذين عالجوا موضوع الانتلجنسيا بعمق سوسيولوجي ووضوح. وأثرت كتاباته كثيراً في الكتابات السوسيولوجية عن هذا الموضوع، بما في ذلك بعض الكتابات العربية عن الانتلجنسيا. 
قال مانهايم معرفاً الانتلجنسيا: في كل مجتمع توجد جماعات اجتماعية مهمتها الخاصة تقديم تفسير للعالم لذلك المجتمع، ونحن ندعو هؤلاء بالانتلجنسيا. والانتلجنسيا ليست طبقة بأية حال من الاحوال.. ولا تستطيع تشكيل جماعة ايديولوجية في حد ذاتها ويجب عليها ان تبقى انتقادية لنفسها ولكل الجماعات الاخرى.. وهي غير مرتبطة اجتماعياً.. ومهمتها الرئيسية، السعي المستمر للتقييم والتشخيص والتكهن واكتشاف الاختيارات عند ظهورها وفهم تحديد مختلف وجهات النظر بدلاً من رفضها او تمثلها. اما بالنسبة للوضعية المناسبة لظهور الانتلجنسيا في اعتقاد مانهايم فهي الوضعية التي يسودها التوتر والسخط والاستياء الجماعي. لان هذه الوضعية –على حد تعبيره- تخلق جواً مناسباً وتشكل حافزاً بناءً للانتقاد الاجتماعي الذي يحتاج اليه المجتمع الحيوي ذو الفاعلية المستمرة على المدى الطويل. وهذه الوضعية غير المستقرة تعمل على تقدم الوعي الذاتي الاجتماعي وتساعد على ظهور الانتلجنسيا. والانتلجنسيا في رأي مانهايم، غير قادرة على العمل السياسي معاً باتفاق وانسجام. لان العمل السياسي يعتمد اساساً على المصالح المشتركة التي تفقدها الانتلجنسيا اكثر من اية جماعة اخرى. فهي من التباين بحيث لا يمكن اعتبارها طبقة واحدة، ولكن على اية حال، هناك رابطة سوسيولوجية توحد بين كل جماعات المفكرين، وهي بالتحديد رابطة التعليم التي تربط بينهم بطريقة عجيبة. فالاشتراك في تراث تعليمي مشترك ينحو بطريقة تقدمية نحو طمس فوارق  المولد، والمكانة، والمهنة والثروة، وتوحيد المتعلمين على اساس التعليم الذي تلقوه. وبالاضافة الى المعرفة المشتركة التي تعمل على توحيد اعضاء الانتلجنسيا، فان هناك عاملين آخرين هامين يعملان في نفس الاتجاه هما: 
1. قدرة الانتلجنسيا على السمو فوق طبقاتهم الاصلية المختلفة. 
2. النضال السياسي من اجل تغيير النظام المثير للسخط والاستياء العام. 
وقد أكد مانهايم ذلك في قوله: يتمتع هؤلاء الانتلجنسيون بالقدرة على الحاق انفسهم بطبقات لا ينتمون اليها لانهم يستطيعون تكييف انفسهم لاية وجهة نظر يختارون تبنيها، لانهم وحدهم قادرون على تجاوز حدود وجهة نظر طبقتهم. وهذا القرار الاختياري للانضام الى النضالات السياسية لطبقة معينة يوحدهم فعلاً مع هذه الطبقة اثناء النضال ولكنه لا يحررهم من عدم الثقة فيهم من قبل الاعضاء الاصليين لتلك الطبقة. اما فيما يتعلق بطبيعة الانتلجنسيا فانها –في رأي مانهايم- تتنوع من ثقافة الى اخرى وفقاً للقنوات التيب تتولى من خلالها وظائف رئيسة في المجتمع. وعندما تحتل الانتلجنسيا مكانها اللائق بها فانها تصبح ذات تأثير كبير في الحياة الاجتماعية، حيث تضطلع بمهمة وضع انماط ومعايير اساليب الحياة للنخبة المسيطرة، ومن خلال هذه النخبة لبقية افراد المجتمع.اما عالما الاجتماع المعاصران البارزان بيتر بيركر وتوماس لكمن فيعرفان الانتلجنسيا بانه: خبير غير مرغوب في خبرته من قبل المجتمع ككل. ويشيران الى ان تصورهما للمفكر الانتلجنسي بوصفه خبيراً هاماً من النوع الهامشي اللامنتمي اجتماعياً، لا يختلف كثيراً عن تأكيد مانهايم على حياد او هامشية هذا النوع من المفكرين. والواقع كما يشير هذان المفكران، ان الحياد الاجتماعي للمفكرين الانتلجنسيين قد يفقدهم فعلا التكامل مع الفكر السائد في المجتمع ككل باعتبار ان لهم تصورات خاصة بهم للمجتمع تختلف عما هو عليه في وضعه الراهن.
الا ان السبب الرئيسي، في رأينا، الذي يجعل من خبرة هذه الفئة خبرة غير مرغوب فيها، ليس فقط مرد الانفصال الاجتماعي وعدم التكامل الفكري مع المجتمع ككل، لان ذلك قد لا يضر احداً، وانما لان خبرة الانتلجنسيا وتصوراتها تمثل موقفاً انتقادياً، جزئياً او كلياً، مباشراً او غير مباشر، للنظام القائم والسلطة الحاكمة. ومن ثم تعمل السلطة على محاربة التصورات الناتجة عن هذه الخبرة، وتحاول طمس معالمها، وتهميش اصحابها بمختلف الوسائل والطرق، لانها ترى في ذلك تهديداً مباشراً لوجودها.وعموماً، تبقى افكار وتصورات الانتلجنسيا مصدر قلق وتغيير بالنسبة للوضع العالمي الراهن، الاسن، ومبعث امل في مستقبل افضل بالنسبة للجماهير المقهورة المغلوبة على امرها. 
اما مسألة تغيير المجتمع الى الافضل فهي مرهونة بمدى ما تعانيه فئات الشعب من مآسي الوضع الراهن. ومدى اقتناعها بواقعية وافضلية التصورات المستقبلية التي تصوغها او تشارك في صياغتها الانتلجنسيا الثورية. 
ويعتقد بيركر ولكمن، ان المفكر الانتلجنسي لديه تاريخياً عدد من الاختبارات المفتوحة امامه في وضعيته، فهو يمكنه، الانسحاب الى مجتمع فرعي للمفكرين والانتلجنسيين يكون له بمثابة ملاذ عاطفي يلجأ اليه، ويشعر فيه بالراحة والاطمئنان، والتعاطف والحرية، والاهم من ذلك كله، يكون له بمثابة قاعدة اجتماعية فيها من يؤيده ويعتبر تصوراته للواقع، التي لا يصدقها المجتمع الكبير ويعتبرها منحرفة عديمة الفائدة، تصورات موضوعية وواقعية. اما الاختيار الثاني والمهم جداً فهو الثورة. وهنا يشرع المفكر الانتلجنسي في تحقيق تصوره او تصميمه في داخل المجتمع من اجل المجتمع. وكما ان المفكر المنسحب يحتاج الى اناس اخرين يشدون من ازره ويساعدونه على الاستمرار في المحافظة على تصوراته للواقع، فان المفكر الثوري يحتاج ايضا الى جمهور يؤكد تصوراته ويحيلها الى واقع موضوعي. ويذكر بيركر ولكمن، ان تاريخ الحركات الثورية الحديثة يقدم امثلة عديدة على تحول المفكرين الثوريين الى مبررين شرعيين رسميين اثر انتصار مثل هذه الحركات. مما يدل على تقلبية الاهتمامات الاجتماعية للمفكرين الثوريين. ويبدو ان هذه النتيجة التي توصلا اليها والتي يتحول وفقها المفكر الثوري الى مبرر رسمي للسلطة، هي نتاج عدم تأكيدها على  الموقف الافتقادي للانتلجنسيا ودورها النضالي من اجل حرية الانسان. وهما الموقفان الرئيسيان اللذان يجعلان من الانتلجنسيا فئة متميزة دائمة الاهمية والحضور في اي مجتمع من المجتمعات وفي اية مرحلة من مراحله التاريخية. ويرى فرانز نيومن، احد اعلام مدرسة فرانكفوت واتجاهاتها الثقافية الانتقادية ان المفكر الانتلجنسي الاوربي قد تمتع خلال القرون الوسطى بوضع يحسد عليه، حيث اتيحت له من خلال الصراع الدائر انذاك بين الكنيسة والدولة، فرصة التعبير الحر عن ارائه وحرية المعارضة السياسية. اما عصره الذهبي بوصفه مفكراً منتجاً حراً فقد كان خلال الفترة الليبرالية التحررية، حيث توفرت له الجامعة الحرة، والصحيفة المستقلة، ونظام الاحزاب السياسية المتنافسة. ومع تقدم العلوم في الدول الصناعية المتقدمة، وتطور انظمتها السياسية، ونضج التجارب الديمقراطية فيها، ازدادت حرية المفكر الانتلجنسي، في هذه الدول، في التعبير عن ارائه، وتبني مواقف انتقادية تجاه القرارات المصيرية التي تمس حياته. فازدادت ثقته بنفسه وثقة الاخرين في قدراته، وازدادت ابداعاته الفكرية، مما اثري التجارب الديمقراطية في هذه الدول، وحقق لجماهيرها وعياً متطوراً وقدراً كبيراً من الحرية. فلا تقدم بدون ابداع فكري، ولا ابداع فكري بدون حرية الفكر، ولا حرية للمفكر بدون توفر جو ديمقراطي فعلي يستطيع فيه الانسان التعبير عن رأيه بكل صراحة وحرية، بدون تردد او خوف او وسط تحترم فيه كرامة الانسان. 
* الانتلجنسيا العراقية
ان موضوع الانتلجنسيا العراقية يتسم بنوع من الصعوبة والغموض لتنوع واختلاف الظروف التي يعيشها ويعمل في ظلها المفكرون الانتلجنسيون العراقيون. ولعدم توفر الدراسات المتعمقة المنطلقة اساساً من خصوصيات الانتلجنسيا العراقية، سواء المقيمة داخل العراق او التي هاجرت منه، فان معظم ما كتب عن هذا الموضوع باللغة العربية –وهو قليل جداً- يتسم بنوع من المعالجة الذاتية او الاسقاطية نسبياً، حيث يكتب الانتلجنسيون عن الانتلجنسيا من خلال اوضاعهم ومواقفهم الخاصة بهم بصفتهم جزء لا يتجزأ من موضوع الدراسة، دون التركيز على تحليل علاقات التركيب الاجتماعي السياسي بوضعية ودور المفكر الانتلجنسي.وعلى الرغم من ان تجربة المفكر الشخصية قد تعبر عن واقع معاش مشترك تعبيراً اكثر صدقاً من تصورات المثاليين وافتراضات بعض المحايدين الذين يقفون على بعد من موضوع الدراسة. الا ان هذا الاسلوب يعمل على توسيع مجال الاختلافات والتناقضات في آراء وتصورات المفكرين الانتلجنسيين. سنحاول في هذا الجزء من دراستنا هذه ان نتناول بعض جوانب موضوع الانتلجنسيا العراقية حيث تعتبر اهم جماعة في الفئة الثقافية العراقية، بمقدورها، لو اتيحت لها الظروف الملائمة، ان تؤدي دوراً هاماً فعالاً في حاضر بلدها العراق ومستقبله. الانتلجنسيا العراقية، دلالة على المثقفين الذين يمارسون عملهم الفكري كنقد ثوري للنظام القائم –اي نظام- وكالتزام بهذا النقد وبالمواقف السياسية التي يدعو اليها او تترتب عليه. والمعنى الذي اعنية هنا يشير الى ذلك القطاع من المثقفين الذين يمارسون النقد الفكري للاوضاع والنظام القائم، جزئياً او كلياً، ويلتزمون، على الاقل بقدر مهم، بالنتائج التي تترتب على هذا النقد. الانتلجنسيا هذه –وفق ما تقدم- تعطي ولاءها للافكار، والمعرفة، وتمثل الجانب الخلاق في الفكر الاجتماعي السياسي. انها تراقب، وتدرس، وتتأمل، وتنظر وتحلل، وتنشغل نقدياً بالافكار والقيم والتصورات الايديولوجية التي تتجاوز المشاغل والمقاصد العملية المباشرة. وبذلك تتميز عن المثقفين الآخرين بكونها –كما يقولون في الفرنسية “لا تشكل كلاب حراسة”. لهذه الاوضاع، للنظام القائم، لما هو موجود، بل قوة نضالية لما ليس موجوداً وفي خدمة ما يجب ان يكون. وبهذا تتسم هذه الانتلجنسيا بــ:
1. الوقوف على مسافات بعيدة من النظام، مما يمكن المفكر من تكوين نظرة موضوعية وكأنه ليس جزءاً منه.
2. ينتقد او يرفض هذا النظام جزئياً او كلياً.
3. هذا النقد يتخذ شكل تصورات مستقبلية وينطلق من تحليل العام والشامل. 
ويمكننا من خلال ما تقدم، ان نحدد المقومات الرئيسية التي تفسر دور الانتلجنسيا العراقية الاساس، نوجزها في النقاط التالية:1. الانتلجنسيا كحاملة للوعي التغييري، تعطي ولاءها للافكار والمعرفة، وتمثل الجانب الخلاق في الفكر الاجتماعي السياسي، وتنشغل نقدياً بالافكار والقيم والتصورات الايديولوجية التي تتجاوز المشاغل والمقاصد العلمية المباشرة. وتجد اهميتها التغييرية الاساسية وشرعيتها كقوة طليعية في كونها اداة لهذا الوعي الذي لا يصح بدونه اي عمل ثوري فعال.2. الوعي النقدي الذي تعبر عنه هذه الانتلجنسيا، وتكون اداة له، يدفعها الى صياغته في تصورات مثالية شكل هوية العمل الخلاق التغييري ولا يمكن بدونها العمل السياسي ان يكون عملاً تغييرياً. عندما يتعامل الفكر مع النظام القائم يتعرض الى خسران هذه التصورات او الابعاد النظرية الجامعة والبعيدة الافاق، والانشغال بمشاكل جزئية منفصلة ومحدودة، يضيع فيها. 3. بما ان هذه الانتلجنسيا تعبر عن الوعي او العقل النقدي، وبما ان هذا الوعي يتخذ شكل تصورات ايديولوجية ومفاهيم فكرية تغييرية، فانها تجد نفسها خارج النظام وحتى المجتمع نفسه، اي بعيد عن الممارسة العملية للسياسة. هذا الطلاق مع الواقع السياسي العلمي الحي، او الابتعاد عن الممارسة السياسية التطبيقية، يمكن ان يقود الانتلجنسيا الى تعميق صداميتها التغييرية وحدة هذه الصدامية. 
4. ان السمة المميزة للانتلجنسيا العراقية هي قدرتها على الخروج من المشاغل اليومية وتجاوز الاحداث الجزئية والظواهر الآنية. فهي حساسة بالمشاكل والقضايا الكبرى، وتتطلع الى ادراك موقعها، وموقع الانسان، من المجتمع والتاريخ، والى الكشف عن معنى عام او عقلانية عامة فيها. 5. حالة الاغتراب التي يعانيها كثير من المثقفين العراقيين تعدهم لدور الانتلجنسيا. وهي حالة الشعور بالانفصام عن الوسط او العالم الخارجي او حتى عن الذات نفسها. وحالة الاغتراب ضرورية كتمهيد للعمل الصدامي لانها تعد الانسان للتمرد على النظام الاجتماعي السياسي الايديولوجي القائم كسبب لتعاسته النفسية الاخلاقية، وذلك بغية تغييره او استبداله بنظام آخر. 6. ان التفاوت الاجتماعي الذي تقاسي منه الانتلجنسيا او ما تعتبره ظلماً اجتماعياً لها، والتناقض بين الثقافة التي تملكها وبين تمتعها المحدود الضيق بالنقوذ، يولد فيها تمرداً يدفعها الى مقاومة النظام القائم. 7. ان القدم المفتوح الى مراتب اعلى، والمسدود امام هذه الانتلجنسيا، كان احد اسباب ظهور الانتلجنسيا وتثويرها.8. الضغوط السياسية التي تقمع حرية الفكر وتحد كثيراً منها كانت احد العوامل الاساسية في ظهور الانتلجنسيا العراقية وتثويرها. 9. المثقفون الذين لا يجدون عملاً او يمارسون اعمالاً لا تتناسب مع كفاءاتهم او بعيدة عن اختصاصاتهم، كانوا باستمرار يشكلون قوة من اهم قوى الانتلجنسيا التي يمكن لقوى التغيير اعتمادها في تدمير النظام القائم.ان تحليلنا لمقومات الانتلجنسيا العراقية يلقي مزيداً من الضوء على ماهية الانتلجنسيا ودورها في المجتمع بصفة عامة. خاصة وان المفكرين الذين اشرنا الى ارائهم في معالجتنا لهذا الموضوع، قد تناولوا المقومات التي اوردناها بتحليل متعمق، منطلقين اساساً من تجاربهم النضالية وتجارب مجتمعاتهم، وذلك بقصد فهم وتفسير اوضاعهم الاجتماعية السياسية. فكانت تحليلاتهم وتعميماتهم مطابقة وملائمة الى حد كبير، لواقع مجتمعاتهم ومستوياتهم الحضارية.ولكن هذا لا يعني بأية حال من الاحوال ان نتائج تلك التجارب والتعميمات المستخلصة منها قابلة، بالضرورة، للتعميم او التطبيق على واقع بلدنا العراق ومثقفيه المختلفة عن تلك المجتمعات في تاريخها وتجاربها وفي ثقافتها وحاضرها. ولا اراني في حاجة هنا الى التدليل على مخاطر وثغرات محاولات تطبيق نتائج اتجاهات عربية او شرقية على الواقع العراقي المخالف للواقع الذي تم فيه تطوير تلك الاتجاهات. * المثقف العراقي والسلطةاصبح موضوع خضوع المثقف للسلطة وتبعيته لها، من الموضوعات الشائعة جداً والتي يشتد النقاش حولها في اغلب الكتابات السياسية واهتمامات الصحافة العربية والعالمية عموماً. بينما نحن في العراق لم نتناولها لحد الآن بشكل جدي، ولا سيما علاقة المثقف العراقي بسلطاته التي حكمت العراق منذ تأسيس دولته الدستورية ولحد الآن.. وهي مسألة ترتبط برباط وثيق بالموضوع الذي نحن بصدده.
 كيف كانت عليه علاقة المثقف العراقي بسلطاته الحاكمة، وما هي حدود تلك العلاقة؟
قبل البدء في الحديث عن هذه العلاقة، لا بد من فهم نوعها. فالسلطة كانت عندنا ولا سيما في وعينا الجمعي، هو مفهوم الحاكم الذي يتبعه المحكوم تبعية خضوع وانصياع ويتعصب له عصبية مصالح وليس مفهوم علاقة منبثقة من الاندماج والنشاط المتبادل يكون جميع الاطرف فيها شركاء في اداء مهام وطنية تحكمهم قواعد وسلوك عام.ان مثل هكذا علاقة في عمومها علاقة قهرية تتسم بالعدوانية، تتضح تجلياتها في ابسط صورها واقربها في التبعية والانسحاق، فيها تغتال ذاتية التابع وتصادر حريته وقدرة الابداع لديه، او يعمد صاحب السلطة الى نفي المثقف من جنته لانه فاقد الثقة والوفاء للسلطة، او لانه يعرف اكثر مما ينبغي، او يقحم نفسه فيما لا يعنه، او يتطاول على رئيسه، او لا يملك من قوة الصبر والاحتمال ما يؤهله لان يكون (جرذ) مكتب و (دودة عثة) اوراق رهن اشارة سيده، تنطبق عليه علاقة السيد بحريمه في حال التبعية، وعلاقة العدو بعدوه في حالة الابعاد والتغييب. 
والسلطة، ليست فقط هي السلطة السياسية بل هي انواع عديدة واشكال متنوعة تكتسب خصوصيتها من طبيعة النشاط المنسوب اليها.. فهي سلطة سياسية وسلطة اقتصادية وسلطة اجتماعية وسلطة ثقافية.. وليست المطابقة بين سلطة واخرى حتمية، كما ان التناقض بينها ليس حتمياً هو الآخر. كذلك، فان السلطة الواحدة لها اشكال، فاذا قلنا السلطة السياسية مثلاً يجب الاقرار بان هذه السلطة موزعة افقياً ورأسياً بين عدة انماط فهي السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، وهي ايضا سلطة الرأي العام وسلطة العقيدة الشائعة وسلطة العائلة وسلطة المدرسة.. هكذا.ان جذر المشكلة بعامة، ان المثقف الحق، الحر في تفكيره، لا يأتمر الا بصوت العقل والعلم والمعارف وقواعد العمل، ونحن نعلم ان الاقتصاد وادارة شؤون الدولة وحسن التدبير اصبحت ترتكز على المعارف والمناهج ولا دخل فيها للصدفة والارتجال. ومن ثم فهو خطر بافكاره لا يؤتمن في سلوكه، غير مسؤول غير منضبط في ادائه لمهامه، فسلوكه لا ينسجم مع ما يريده المسؤول وما تقتضيه متطلبات السلطة. وعبارة المسؤول وغير المسؤول اصبحت متداولة حتى لدى العامة، فهي تعني التحفظ والكتمان والموافقة المبدئية والنفاق الاجتماعي او الانفلات والاعتراض والتلكؤ. من ذلك مثلاً: المساس بمقومات الشخصية الوطنية، او مصادر الثوابت الوطنية، او بث النعرات الطائفية والعشائرية والمناطقية، وثقافة الحقد او التأمر على المنظومة التربوية بدعوى الاصلاح والتحديث والعصرنة، او اجهاض مشروع المصالحة الوطنية واستعادة الأمن والاستقرار والثقة. وهي كلها مصائب كرثنا بها من جراء مواقف سلطاتنا المرتجلة وتصرفاتها الهوجاء، ومساندة انصاف المثقفين المتسلقين الذين لا يحسنون قراءة نتائج المواقف السياسية، او من تبلد احساسهم الوطني واعمتهم الانانيات والمصالح الذاتية. والسلطة عندنا –كل السلطات الحاكمة- كانت في جوهرها تقوم على معيار القوة القهرية البوليسية ومدى امكانية استخدامها بالشكل المؤثر في عملية ممارسة الهيمنة او السيطرة على الافراد والجماعات الاخرى، سواء كانت اقتصادية او عسكرية او فكرية، فهي تختلف باختلاف الاتجاهات الفكرية والسياسية. وممارسات هذه السلطة كانت من خلال القوة والنفوذ والهيمنة ليس الغرض منها التأثير في الافعال فحسب بل يكون الغرض منها ايضاً التأثير في الاداء والمعتقدات عن طريق ممارسة النفوذ الفكري، وذلك عن طريق نشر معتقدات وافكار الافراد والطبقات المهيمنة السلطوية لتكون موضع ايمان اجباري عند الافراد والطبقات التابعة لها. لذلك، كنا نرى ونلمس حكم السلطات الجمهورية –حتى الآن- رأياً واحداً سائداً هو رأي السلطة وكل ما سوى ذلك يتهم بالمعارضة والخروج والكفر والخيانة، ولا يكون امام مثقفينا الا السجن او القتل او التعذيب او الهجرة.وقد ادى هذا الامر الى ضيق مجال الديمقراطية بل انعدامها عندنا بشكل لم يسبق له مثيل، نتيجة وجود مثل هذه السلطة الذي يملي والذي لا يدع مجالاً من الحرية للمثقف والمبدع. وبذلك انحصر دور المثقف العراقي القادر على لعب دور سياسي في خيارين محددين: اما ان يكون تابعاً للسلطة يبرر خطواتها أياً كانت تلك الخطوات ويسير في ركاب النظام مؤثراً السلامة ورغد العيش، واما ان يكون مقموعاً خارج اطار السلطة مقذوفاً بكل التهم والنعوت التي تكيلها له كل ادوات إعلام ومؤسسات السلطة عبر اوركسترا متناغمة. وهذا الخيار الصعب اوجد ما يسمى في الحياة السياسية العراقية بالانتهازية السياسية والفكرية، حيث ازداد عدد اولئك المثقفين الذين تساقطوا يومياً وعلى امتداد العقود الخمسين الاخيرة. 
انه بجانب هذا التقسيم للمثقفين، بأنهم اما تابع للسلطة اما معارض، ارى ان هناك بعداً ثالثاً وهو الاغتراب واللامبالاة الذي كان سائداً وأخذ يسود لدى عدد من المثقفين ممن كانوا يشعرون ولا يزالون باللاانتماء بسبب ما انتابهم من قرف لطبيعة العمل السياسي والفكري المطروح، الذي يعارضهم لسبب او لآخر مما جعلهم كأفراد لا يقدمون على التضحية، فهؤلاء المعارضين لما كان واقعاً غالباً ما عملوا تحت الارض بسبب انسداد ابواب القنوات الاخرى امامهم. 
ان المثقف العراقي الملتزم مطالب اليوم ان يكون صادقاً مع نفسه، متمثلاً عدداً من القيم الاساسية، مستعداً للتضحية، واعياً لدوره التاريخي، بمعنى واعياً ان تضحياته الراهنة ستقوده الى مكاسب شعبية عامة في المستقبل. ومن هنا، يستوجب عليه ان يحمل هموم مجتمعه، ويلتزم بضميره وبالتحديات التي تواجهه، وان تكون علاقته بالسلطة –أية سلطة- علاقة استقلال، وهذه في غاية الصعوبة، خاصة في عراقنا العزيز، حيث كانت السلطة فيه لا يمكن ان ترضى من المثقف ان يشكك في اطروحاتها الفكرية وتصرفاتها. 
ان مهمة استقلال المثقف عن السلطة، هدف مطلوب وغاية لا بد ان يحرص عليها ويسعى اليها. لكن هذا الاستقلال هل بالاستطاعة تحقيقه بشكل كامل وبشكل مطلق؟ تلك مشكلة المثقف الذي يعي ضرورة حريته ويشعر بها، والذي يعي حدود هذه الحرية وتؤرقه هذه الحدود المفروضة عليه، عليه ان يواجه هذه السلطة التي غالباً ما تسير في خط معاكس لكل ما يمثله المثقف. ولما كانت السلطة عندنا في غالب الاحيان هي سلطة قمعية، لم يبق للمثقف الا المواجهة وربما الاستشهاد. ولا اعني هنا الاستشهاد بالمعنى الحرفي. 
ولا شك، ان سلوكاً كهذا، اي سلوك السلطة، يقابله النفور والرفض من جانب المثقفين الفاعلين المنتجين، والنتيجة لهذه العلاقة القهرية او التصادمية، إعاقة النهوض وإطالة عمر التخلف وتعاقب المشاكل، واليأس من الاصلاح وتصحيح المسار، والهجرة الداخلية والخارجية، والسلبية والارتجالية في المواقف والخطاب السياسي واهدار الامكانات البشرية والمادية.. ونحن في زمن تنضب فيه مواردنا الاقتصادية والطبيعية وتزداد حدة النمو الديموغرافي ومتطلبات الحياة بمتوالية هندسية، فأنى لنا ان نوقف هذا الانهيار؟ولكن، حتى لا نجانب الموضوعية، ولكي ننصف جميع الاطراف: هل المثقف محق  ومصيب في كل مواقفه وسلوكياته واطروحاته دائما، في مقابل تخلف الحاكم المسؤول وجهله وغطرسته وضيق نظرته وانانيته؟ ألسنا اليوم مطالبين بأن ننظر الى هذه العلاقة غير المتوازنة وغير العادلة من زوايا اخرى قد تلغي كل الاحكام المسبقة نحو هذا الطرف او ذاك، وتسفه رؤيتنا المنحازة المحكومة بتجاربنا الفردية المزاجية الفقيرة، وعجزنا عن التأثير في الآخر، والتفاعل معه وترقية قدراتنا المعرفية والعلمية في التسيير والانتاج ونجاح الاداء الى بقاع الاستبصار ومرتجيات المستقبل؟ أليس السؤال حول اهمية النخبة المثقفة الفاعلة الموجهة التي تضطلع بالبناء والتنمية، وبالتالي التي تمتلك الحقيقة وتنتجها، هو سؤال مشروع؟ 
ان مهمة مثقفنا العراقي في الظرف الراهن، هي ان يكون الفدائي الجديد!! الذي يواجه السلطة التي قد تنتهي به الى الموت اغتيالاً. وانا لا ابالغ هنا، فقد كانت نتيجة مواجهة بعض المثقفين العراقيين للسلطة، ان انتبهوا الى الاستشهاد الفعلي. ان دور المثقف في تحديث المجتمع، يتعارض في اغلب الاحيان مع السلطة، سواء كانت ثيوقراطية ام دكتاتورية او رجعية ام تتستر بالتقدمية ام خاضعة ام مسيرة من قبل قوى كبرى.. فاغلب هذه السلطات استفادت من الحداثة والتكنولوجيا المتقدمة بوجه خاص، وسخرتها في اغراض خاصة. فالتكنولوجيا هي بالدرجة الاولى عند هذه السلطة كانت اداة لخدمة مصالحها، وهي اضافة الى ذلك، اداة للقمع وللتجسس وللضغط على المثقفين. فهي تستفيد من التكنولوجيا ليس من اجل تحديث المجتمع بل من اجل محاربة رواد التحديث والتجديد والتغيير ورواد التقدم والتطور بمعناه الحقيقي وقمعهم جميعاً، خاصة قمع المثقف الذي يقود الجماهير او يؤثر فيها. 
ان عملية القمع التي مورست ضد اغلب مثقفينا، كانت لا تتم فقط على يد السلطة وحدها، بل كانت تأتي في اثواب اخرى ومن مؤسسات ثقافية تقليدية، فقد اتت من مؤسسات ثقافية معارضة للحداثة ذات اغراض سياسية معادية لمصلحة المثقف الفعال ودوره، وقد اتى القمع ايضا من مؤسسات اجتماعية واقتصادية. 
لذا، كان صوت مثقفنا المتمرد الرافض على الانخراط في لعبة السلطة –اية سلطة كما اسلفنا- المتمثلة بالقتل والعمالة وتقسيم الوطن والناس والتاريخ. قد خفت، فهو صوت الضد، الموقف الضد. ومن الطبيعي جداً الا يلتفت اليه احد من ازلام السلطة صناع القرار السياسي والثقافي، ولا من المؤسسات السائدة، فهو على نقيضها التي ترى انها المسؤولة الاساسية عن كل ما يجري من خراب لمقدرات العراق، فمن الطبيعي اذن الا يلتفت اولئك الذين نصبوا انفسهم زورا قادة وصناع قرار.. وهم في الواقع خدام العدو، بل اكثر من الطبيعي ان يحارب هؤلاء القادة الازلام محاربة ضارية تلك الاصوات، من خلال فرض مناخ حديدي من الارهاب والتعسف. ان مثقفين كثيرين ما عادوا يتحملون مناخ الارهاب والجريمة والقتل الذي فرضه اولئك النفر عبر احزابهم ومؤسساتهم وتنظيماتهم.. فقد رحلوا وهاجروا، والاصح انهم هجروا الى خارج الوطن. لذلك لم يبرز في صفوف مثقفينا مثقف واحد بمستوى القيادة/ المواجهة يرفع الصوت عالياً. فالمثقف –بصورة عامة- ليس حزباً ولا تنظيماً ولا مؤسسة، والقيادة التي تنظم الناس لا يمكن ان تكون الا ضمن مؤسسة، اي ضمن عمل سياسي مستمر ومنظم ويتمتع بامكانيات كبيرة لا تتوفر عند المثقف. 
إنني اعتقد ان الدور الاقوى والاكثر فاعلية للمثقف العراقي اليوم ان يكون جزءاً من حركة منظمة شريطة ان يكون صبوراً ومستعداً لتحميل كثير من احباطات العمل اليومي والابتعاد عن المثاليات والحلول السريعة. 
* تحديد المواقف وتفعيل الادوار
ان الثقافة في العصر الحاضر قد اصبحت ذات قيمة، واسواق هذه السلعة: الجامعات والتجمعات الادبية والمنابر الاعلامية بكافة اشكالها، وحلقات المناقشة من مؤتمرات وغيرها.. وذلك بحثاً في ما يمكن ان يقدمه المتعلمون للمجتمع من حلول لمشكلاتهم وما يثيرونه من مناقشات في المجامع الثقافية.. ومن هنا تتحدد هوية المثقف.
اننا لا نتجاوز الحقيقة اذا اكدنا، ان المثقف في المجتمعات الحرة وخصوصاً انهم قد قدموا ادواراً ممتازة في الحياة السياسية، رغم كونهم في واقع المجتمعات الاستبدادية، لعبوا ادواراً احتجاجية حاسمة. لذلك، فان السؤال الملح: 
ما الموقع الذي يمثله المثقفون في مجتمعنا العراقي؟ 
ان اختلاف الاجتهادات حول هوية او ماهية المثقف العراقي وانماط تعاملاته.. يرى البعض وجوب انخراطه في حركة اجتماعية منظمة او ان يتولى القيادة الفكرية في احدى مجالات الحياة العامة، والبعض الآخر يرى ان المثقف لا بد من ان يكون بمثابة فيلسوف، فتكون له مواقف ايديولوجية واضحة، الا ان البعض الآخر يرى ان يقتصر على انتاج الافكار المجردة المفصولة عن الشؤون الثقافية العامة ولا يرى ضرورة لكل ما ذكر آنفاً، فالعادة في الاحاديث الجارية عن المثقفين لا تشترط فيهم هذه الشروط، وان كانت تعطي لهم مكانة اجتماعية خاصة. ويرى ايضاً ان اثراء اوساط المثقفين والقادة المفكرين والفلاسفة امر يتغير حسب الظروف العديدة.لقد بات من المألوف القول، اننا بعد التغيير السياسي الذي حصل في 9/ نيسان/ 2003، بتنا نعيش اوضاعاً أمست تحفز كل مثقف حقيقي على تحديد مواقفه وتعيين خياره في المواجهة. وبما ان معركة خلاص الوطن هي معركة خلاص الذات بعيداً عن اية خطابة او ممارسة جوفاء. فمن غير المعقول ان يبقى المثقف العراقي منقطعاً عن تفعيل دوره اليوم مهما ادعى القدرة على كسح المثبطات التي تجتاحه.على الضد من ذلك، اننا نرى انه كلما تأزمت الامور وتعقدت، كلما تبلورت قيمة ان يكشف هذا المثقف حقيقة وعيه للثقافة اصلاً. فالموقف الثقافي الصميمي انما يكون لحظته التاريخية، ولا معنى له خارج هذه اللحظة. وتأسيساً على ما تقدم.. يمكننا ان نحدد ما المقصود بالمثقف العراقي، ونقول: انه ذلك الشخص الذي حاز على درجة عليا من العلوم المعاصرة وغير المعاصرة.. على ان يكون له اهتمام بالشأن الوطني وقضايا المجتمع، ويتجسد هذا الاهتمام في ما يكتبه من اراء عبر وسائل التعبير المتاحة، كالكتب والدوريات ووسائل الاعلام المسموعة والمرئية. وتعريف المثقف العراقي ليس حصراً على ذوي التكوين العلمي المعاصر بل يتعدى ذلك الى المؤهلين شرعياً بشرط ان يكون لهم اهتمام واضح في الشأن العام، كما انهم لا يرفضون المستجدات النافعة والتسليم بالتحاور والمحاورة مع الآخر دون ان يكون ذلك شرطاً في التسليم له، ولكنه للاستفادة منه والتأثير فيه. ان المثقف في مجتمعنا العراقي بدأ يستحضر مقولات التنظيمات الوطنية والشرعية والادبيات التنموية، وهذا الاستحضار للمقولات الوافدة عمق فيه حالة من الوعي المنفصم الذي فيه يتمزق بين طرفي نقيض او تتجاذبه من ناحية رغبة في الانخراط ضمن تيار الحداثة والعقلانية الغربية والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحديثة، ومن ناحية ثانية رغبة في المحافظة على الذات ودعم الهوية وتجنب الهيمنة الحضارية، وبذلك استقرت في وعي المثقف العراقي هاتان الرغبتان المتعارضتان. والمتتبع لانتاج المثقفين العراقيين يدرك ان بعض المثقفين العراقيين حاولوا ان يكون لهم دور في مسار التنمية وادارة الشأن العام، الا ان ذلك انحضر في المستوى النظري او الاداء الروتيني من خلال الانخراط في الاجهزة الحكومية بصفتها المجال الوحيد الذي يحقق له الهيبة والجاه والتطلعات الشخصية للحراك الصاعد.
ولم تضعف ثقافته على الابداع والمهارة وسرعة الانجاز بل عادة ما انحنى لتوجهاتها وراعى مزاجها بتنازله عن دوره كمثقف مجتمع مكتفياً بأن يكون موظف نمطي ينشغل يومياً بملفات روتينية، وذلك ما قلص لديه حتى خلق الفرص او حذف ادارة التنمية وفق ما يحقق اهداف المجتمع بل في كثير من الاحيان ينهج مسالك البيروقراطية الفاسدة نفسها التي يفترض ان يعاديها او يغير من اسلوبها. 
ان احدى محن المثقف العراقي المزمنة تتمثل في شكواه من حالة الخنق الدائمة التي لا تمكنه من التنفس بحرية، ومرد ذلك الى عوامل سياسية ودينية، وضيق في المجتمع المدني الى حد الغياب احياناً. وذلك ما حد من قدرة مثقفنا على توثيق الصلة بشرائح المجتمع وفئاته التي يتحدث بخطابه لها وباسمها ونيابة عنها. وفي واقع الحال، فأن مطالب المثقفين العراقيين ما زالت محدودة، ومطلب التعبير عنها قد يفوق اهمية عن تحقيق الباقي منها. من هنا، نجد ضرورة ربط دور المثقف العراقي بقضايا مجتمعه الذي يحتضنه ونؤثره مناضلاً في صفوف الجماهير على الانعزال في غيبوبة صوفية بحثاً عن ترف عقلي، ذلك ان المثقف بصورة عامة بحكم وضعه في مجتمع نامي مطالب بالالتحام به اكثر مما ألفته الحياة في مجتمع متقدم. ومجتمعنا العراقي يحتاج الى التوعية في مجالات شتى، وهذه التوعية لن تكون منسقة وموصلة للهدف ما لم تكن لها نخبة مثقفة رائدة تحميها بتجاربها  وتغذيها بعلمها. فالمثقف يجب ان ينقل ثقافته الى محيطه الاجتماعي بقصد التغيير والتأثير وتفعيل من يتعامل معهم بحيث يكونون قادرين على الاسهام في احداث تغييرات في مجتمعاتهم يرتفع بها الى الاحسن.المثقفون العراقيون عموماً، اما ان يمتلكوا وعياً ومكانة يسمحان لهم بصنع قدر مجتمعاتهم باعتبارهم فاعلاً قادراً على تحفيز الجماهير وتعبئتها للبناء انطلاقاً من فهمهم للتناقضات التي تحكم نسق المنظومة الاجتماعية وتحويل الصراعات والتناقضات في المجتمع الى قوة دمج وصهر وذوبان ليصبح الوطن كله نسيجاً واحداً همه تحديد الاهداف والسير بها الى خيار المصلحة المشتركة والمنفعة المجتمعية فيستثمر المثقفون قوة زادهم المعرفي لتضييق زاوية الانحراف مجتمعاً وقيادة. وبهذا يصبح المثقفون القدوة التي تهدي المجتمع لكونهم مثالاً يحتذى به ومن دون ذلك سيتحولون الى مجرد افراد محتوين من قبل القوة الفاعلة في المجتمع سواء القوة السياسية او المالية، مشغولون بتبرير الممارسة السائدة من خلال المدح والاطراء والتبجيل او موظفين من قبل الفاعلين في الدولة وممجوجين من قبل الجماهير.وعندما يدرك المثقفون هذه الحقيقة فانه يتحتم عليهم اما ان يكونوا احد مفردات البيروقراطية القادرة على توفير المعاش الاجتماعي لهم من خلال ما يتلقونه من راتب الوظيفة الشهري وباقي الامتيازات الاخرى العديدة او ان يطوعوا معرفتهم من اجل عامة المواطنين الذين لا يقبلونهم الا اذا وظفوا ذلك الزاد في الدفاع عن مصالحهم. لكن ما ان يصبح المثقف غير ذي نفع لبيروقراطية المركز حتى تستبدله الاخيرة بغيره.. وهكذا تتابعاً.. وذلك من استراتيجيات البيروقراطية في لعبها مع المثقف او اي فاعل آخر.ان الفئة الاولى من المثقفين، فأعتقد انها الاكثر في عراقنا، واما الفئة الثانية فهي الاندر. من هنا، نستطيع ان نقر ان في امكان المثقف في حالة الولاء والخضوع والتبعية، ادراك المناصب العليا في الدولة خصوصاً اذا اضاف لزاده المعرفي مكانته الاجتماعية الصادرة عن العائلة او الشلة او الزمالة او المنطقة او المصاهرة.. ولهذه العوامل مجتمعة قد يتنازل المثقف عن مطالب الاحتجاج كشكل من اشكال المقايضة. 
من هنا، فانه لا بد من فك الاشتباك بغرض معرفة المقصود بمثقف في السياق العراقي لنصل الى المعنى الذي نفضله للمثقف، ذلك المعنى الذي يرتبط بالتفاعل والفاعلية وتجاوز الواقع في تفكيره، لذلك اعتبره سارتر (الضمير الشقي)، لانه لا يرتاح للأمر الواقع ويسعى لتفسيره وتغييره، اذ لا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي بل يتسع ليشمل الاهتمام بكل ما هو وطني وانساني وبالتالي لا يرضى ولا يقتنع بالامر الواقع.
المثقف بتكوينه وادراكه يفترض فيه صعوبة التكيف ولكن الحياة الواقعية تفرض عليه في كثير من الحالات الملموسة  قدراً من التنازلات والحلول الوسط.
المثقفون في المجتمع العراقي يتطلب منهم ضمنياً ومن خلال السنن الثقافية وعبر مقاولاتهم وبحوثهم وندواتهم ومشاركاتهم في المؤتمرات وتحاليلهم الموثوقة تقديم النصح والمشورة والرؤية لصانع القرار ولعموم فئات المجتمع، وذلك لما يتميزون به عن غيرهم من استشعارهم لثقل الهم الاجتماعي بواسطة ما يماثل الرادار او المجس الوطني القادر على التقاط الذبذبات من محيط المجتمع وصياغتها في افكار قيمة تجسر المسافة بين المواطن والمسؤول لتعميق الثقة والشعور المتبادلين بصفتهما متميزين بالقدرة على عرض قضايا وهموم ومشاكل وشجون مجتمعها، سواء ما كان منها ظاهراً للعيان او خافياً كامناً في عمق خفايا المجتمع. فالمثقف مطلوب منه ان يكون ضمير الدولة ووجدان المواطن،  اذا ما التزم الصراحة والجرأة العلمية ليدركها المشرع ويتفهمها المنفذ، ويطمئن المواطن الى ان قضاياها ومطالبه تعالجان معالجة علمية ومعمولة لدى المعنيين بالامر. واذا تأكدت له هذه الحقيقة فانه لن يلجأ الى السراديب المظلمة ولن تغريه الاشاعة وربما لن يصدقها طالما ان قضايا المجتمع مطروحة للمناقشة امام الرأي العام ومعلومة من قبل الجهات الرسمية. 
ففي كل المجتمعات التي تحررت وتقدمت كان المثقف هو رائد الطليعة التي تمهد وتبشر لا تثير الحزن ولكن تبشر بالامل والخلاص، ولذلك تعنينا كثيراً قضيته وموقفه لانه هو الذي يصحح المسار. فموقفه بالذات هو الذي يعنينا، تعنينا خيبة امله، خيانته للمجتمع، سقوطه وتراجعه، ترديه واستسلامه، ووقوعه في تخبطات كثيرة. 
وعليه، ارى ان القضية الاساسية التي تشغل بال اي مثقف ملتزم في هذه المرحلة بالذات هي الازمة التي يمر بها العراق، وهذه الازمة تتبلور عند الذين يحسون بالآخرين او ان قضية التعبير عن طموحات الآخرين هي قضيتهم. 
لا مراء لي ان مئات المثقفين في كل المجتمعات الانسانية اتخذت مواقفاً متباينة من قضايا مجتمعاتها واوطانها، بل تقوم القرائن على دورها الريادي في معظم التحولات والمنعطفات التي بصمت مسار التاريخ الوطني. وفي العراق، فقد قسمت هذه المواقف مثقفينا الى فئات متباينة هي: 
– فئة التزمت بتبرير سياسة السلطةهذه الفئة التي يسميها بعض المفكرين (وعاظ السلاطين)، تسخر معرفتها وامكانياتها العلمية لخدمة السلطة المسيطرة، وتقديم المشورة لها، تؤطر لايديولوجيتها او سياستها، وترسخ مفاهيمها، وتشرف على تنفيذ خططها، وتحاول اضفاء الشرعية على نظامها. هدفها الرئيسي خدمة مصالحها، وكسب رضاء السلطان ورجال دولته البارزين، تأتمر بأوامرهم وتبرز نواهيهم. وتسعى هذه الفئة بكل جهودها وبشتى الطرق الى المحافظة على النظام القائم مهما كان نوعه، لان مكانتها الاجتماعية،ـ ومكاسبها الاقتصادية، وامتيازاتها السياسية مرتبطة بالنظام السياسي المنخرطة فيه. 
وبحكم هذه الوضعية لا يجرؤ افراد هذه الفئة على النظر الى مجريات الامور نظرة موضوعية غير متحيزة، ولا تحليل اوضاع النظام تحليلاً علمياً سليماً لانهم جزء متحيز منه. ولا تروق لهم انتقاد النظام حتى ولو كانت من اجل تطويره لا تغييره. لان مثل هذه المحاولات تقلق راحتهم وتثير غضب السلطان، الذي يعتقد انه بفضل حكمته ومشورة هؤلاء من حوله قد توصل الى وضع مثالي لا يقبل اي انتقاد او تعديل او تغيير. 
ويتنافس هؤلاء على اسماع السلطان ما يجب ان يسمع. ولا يتورع بعضهم، في سبيل التقرب الى السلطان، عن تشوية سمعة بعض زملائهم لديه، وكتابة التقارير السرية ضدهم، لانهم يخالفونهم الرأي، ويرون في السجود لغير الله مذلة، او لانهم ملتزمون بواجبهم الانتقادي العلمي تجاه مجتمعهم من اجل تقدمه، ومؤمنون بان حرية الانسان وحفظ كرامته فوق كل اعتبار. حرية الانسان التي هي معيار مدى صلاحية اي نظام سياسي، مصدر الابداع الفكري والتطور الثقافي. 
وفي غياب السلطة الفعلية لمؤسسات الدولة وانفراد السلطة العليا باتخاذ القرارات الهامة وانخفاض مستوى وعي غالبية افراد شعبنا العراقي، يتحول هذا النوع من المثقفين من معبرين عن آمال وطموحات الشعب خارج السلطة في بداية تكوين النظام السياسي الى ناطقين رسميين باسم السلطة الحاكمة، ومدافعين عنها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لمجرد حصولهم على مراكز عليا في الدولة، حتى لو تحول النظام الى وسيلة قهر وظلم للجماهير ونقد مصداقية وشرعية وجوده. 
وفي سبيل المحافظة على اوضاعهم لا يتردد هؤلاء الوعاظ في تغيير آرائهم ومواقفهم بين عشية وضحاها وفق التغيرات التي تطرأ على الخطاب السياسي المتقلب المتناقض. فإذا نادى السلطان بالوحدة الوطنية مثلا سارع هؤلاء الى تدبيج المقالات وتأليف الكتب مكبرين ومهللين لهذه الوحدة، واذا نأى بوجهه عنها اطلقوا ألسنتهم وسخروا أقلامهم للعن المنادين بها، وارتدوا الى طائفية مقيتة حتى العظم، وهلم جرا…
وعندما يحاول مثقفوا هذه الفئة معالجة مشكلة من مشكلات المجتمع التي تثير اهتمام رجال السلطة، فانهم يتعاملون معها من زاوية العمل على استقرار النظام والمحافظة عليه، وليس من وجهة نظر الشعب الذي ينتظر منهم حلولاً مما يعاني من ويلات. وتشمل هذه الفئة ايضاً اولئك الذين ينسلون الى موائد السلاطين من كل حدب وصوب ويسخرون ألسنتهم واقلامهم لمدح كل نظام يجزل لهم العطاء يظهرون الباطل حقاً، والظلم والجبروت عدلاً، كذباً ونفاقاً وتزلفاً. يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون ما لا يبطنون. لا يعرفون الثبات على مبدأ، ولا يعبرون القيم الاخلاقية واظهار الحقيقة اي اهتمام. 
ان هذه الفئة من المثقفين في العراق، رغم الامكانات المتوفرة لديها، والفرص المتاحة لها لاصلاح بعض ما فسد على الاقل، وتوجيه المسؤولين الوجهة الصحيحة، والرفع من شأن العلم والعلماء،ـ والمساهمة في تحسين الاوضاع المتردية في بلدهم العراق، او على الاقل نقل الحقائق الى من بيده الامر والنهي، انغمست كاملاً في محاولة تبرير الاوضاع الراهنة، واضفاء الشرعية على قرارات وانظمة معظمها استبدادية، قهرية.. هدفها الرئيسي الحفاظ على استمرار سلاطينها وسدنتهم في مؤسسات السلطة حتى الممات. فابتعدوا بذلك عن النظرة العلمية الى الامور، وفقدوا التزامهم بالتحليل الموضوعي وكشف الحقائق.- فئة التزمت الموضوعية العلمية
تنظر هذه الفئة الى المعرفة العلمية بوصفها معرفة محايدة تنطلق اساساً من الواقع الموضوعي. معتقدة بأن مناهج البحث العلمي المحايد تبعدها عن تأثير العوامل الذاتية والتحيز، وتحميها من مغبة الانزلاق في الصراعات السياسية والايديولوجية. فالابحاث المتعمقة التي يقوم بها بعض الملتزمين بالموضوعية والحياد تدفع المعرفة العلمية الى مستويات افضل، وتساعد على التراكم المعرفي الذي هو اساس تطور المجتمع الانساني. كما ان الدراسات العلمية المكثفة لبعض المشكلات الاجتماعية مثلاً قد تساعد فعلاً النظام القائم (السلطة) على تلافي بعض نواحي قصوره، والاطالة في عمره، ولكنها في نفس الوقت ايضاً تلفت الانتباه الى المشكلات التي يعاني منها الشعب، وتظهر بكل وضوح – عن قصد او غير قصد- عدم صلاحية النظام السياسي، وتكشف عن اسباب فشله في مواجهة المشكلات اليومية التي يعانيها الشعب. 
اما السبب الرئيسي الذي يكمن خلف التزام كثير من مثقفي هذه الفئة في العراق بالموضوعية والحياد العلمي، واتخاذ موقف الحياد من النظام السياسي والايديولوجيات المتصارعة على الساحة العراقية، هو محاولة لابتعاد عن المحظور وتجنب مغبة التعرض لأي تهم سياسية قد تؤدي بحياتهم، خاصة وان بعض التيارات والايديولوجيات الدينية والسياسية متناقضة، متعصبة، لا تحترم حرية الفكر، ولا تقبل اي رأي مخالف لما تدعو اليه. وفي مثل هذه الظروف غير الملائمة لتحليل الخطاب السياسي والديني تحليلاً علمياً دقيقاً وممارسة الانتقاد العلمي للنظام (السلطة)، يصبح الالتزام بالموضوعية والحياد العلمي، والابتعاد عن السياسية والصراعات الايديولوجية، وتجنب اتخاذ المواقف ازاءها، ولو من الناحية الشكلية، افضل طريقة مأمونة العواقب، في نظر اصحاب هذا الاتجاه، تضمن لهم لقمة العيش، واستمرارية رواج انتاجهم في ظل اي نظام سياسي، مهما كان نوعه، ومهما كانت توجهاته الايديولوجية. وامعاناً في الحيطة والحذر من سوء فهم وتأؤيل مراهقي السياسة لمضامين الابحاث العلمية، يلجأ معظم الملتزمين بمبدأ الحياد العلمي في العراق الى البحوث المحدودة النطاق المركزة على طرق البحث وتقنياتها التي تلقى قبولاً وتشجيعاً من قبل السلطة الحاكمة ومؤسساتها. وحتى في هذا النوع من البحوث لا يكاد معظم هؤلاء الباحثين يرتقون عن ادنى مستويات البحث العلمي، وهو مستوى وصف الظاهرة او الواقعة وتصنيف بياناتها، مركزين كل اهتماماتهم على تقصي صفات المبحوثين وبيئتهم الاجتماعية، وقياس اتجاهاتهم في قضايا جانبية، متجاهلين تجاهلاً يكاد يكون كاملاً لأي اسباب تتعلق بالنظام الحاكم الذي قد يكون في واقع الامر المتسبب الرئيسي في ظهور المشكلة او الظاهرة المطروحة للبحث ومعاناة المبحوثين من جرائها. ومع كل ذلك، فأن هذا النوع من البحوث والدراسات الوصفية –رغم نواقصه المتعددة- افضل وأجدى بكثير، في ظل الظروف العراقية الراهنة، من الدراسات العامة. 
– فئة التزمت النقد العلمي
ان هذه الفئة من المثقفين تدعى بالانتلجنسيا، هي اهم الفئات واكثرها قدرة على التأثير في المجتمع، اذا توفرت لها الظروف المناسبة. وتتميز هذه الفئة بصفات متعددة لا يجمعها تعريف واحد، من اهمها: التعليم الرفيع المستوى، والتعامل بعمق مع الافكار المجردة وتوليدها والتوليف بينها، والحياد الاجتماعي، والابداع، وفهم مختلف وجهات النظر، والالتزام بالقيم الرفيعة، وتبني المواقف الانتقادية تجاه افكارها وافكار مختلف الجماعات في المجتمع من اجل تحقيق المثل العليا والكشف عن مدى تحقيق المجتمع لحرية الانسان. ويختلف المثقفون في تأكيداتهم على بعض هذه الصفات دون الاخرى في تعريفاتهم للانتلجنسيا وفق اوضاعهم وآرائهم ومواقفهم الشخصية، باعتبارهم المعنيين بها ايضاً في المقام الاول. 
ان امكانية تطبيق مواصفات الانتلجنسيا في العراق بعيدة جداً. لأن الانتلجنسيا في العراق لا تشكل بأية حال من الاحوال طبقة بالمعنى السوسيولوجي لهذا المفهوم، ولا تكون حتى مجرد فئة واحدة مثقفة ومنسجمة، لاسباب متعددة لعل من اهمها تخلف الواقع العراقي على مختلف المستويات، وغياب التربية الانتقادية لذا اغفلنا تناول هذه الفئة لانعدام وجودها ضمن الواقع الثقافي العراقي. ان مجتمعنا العراقي اليوم يعاني القحط الثقافي خصوصاً في مجال المضمون الواعي والهادف، فقد تحولت منابر الاعلام وخطب المسؤولين في الكثير منها الى المدح الممجوج والاغنية الهابطة والمقالة الارتزاقية. فحتى منابر المساجد تحولت فيها خطب ايام الجمع والاعياد الى مجرد بيانات كلامية فضفاضة غافلة او متغافلة عن طرح مضامين تعالج المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع العراقي. فحتى المسائل العبادية لفقه النفس والمعاملات من تقوى وتوبة واستقامة وطمأنينة وتعامل يفضي الى حسن المعاملة وقضاء حوائج افراد المسلمين من قبل الموظف العام في المجتمع ظلت غائبة فضلاً عن تناول القضايا السياسية وفضح ممارسة المكلفين في الادارة البيروقراطية. وهذا ما دفع الى تجريد هذه الخطب الوعظية من مظمونها، فغدا ذلك قناعة لدى كل الافراد.
ان المثقف سابقاً وراهناً، انشغل وما زال ينشغل بالاطروحات النظرية اكثر من العملية، وترديد مقولات تراثية او احياء افكار استنفذها التاريخ. فهو (يجتر) مقولات سبق ان قيلت في بقية المجتمعات العربية او المجتمعات الليبرالية الاخرى دون ابتكار او تجديد. فلم تنشغل المؤسسة الدينية لاستنباط حلول للمستجدات المتزامنة والمستحدثات القادمة، ولا الانتلجنسيا لابداع الرؤى الفكرية الموجهة او تحديد المسارات نحو اهداف واضحة. 
كل ذلك كان يدفعنا الى الاعتقاد في تقصير المثقف العراقي في تلمس القضايا الاجتماعية والاقتصادية والادارية والسياسية لمجتمعه، واستبصار احتياجات الوطن حتى في ابسط الخدمات الإنسانية والاجتماعية، فخلت الساحة من صحافة وإعلام وتأليف ومؤسسات معنية بالأدب والفن من اي مضمون جاد، مما ادى الى تكريس تلك المنابر للاعلام الرياضي المقتصر على كرة القدم والشعر الشعبي والاغنية الغزلية المبتذلة الركيكة والمسرح البائس، دون ان ننسى الاستثناءات النادرة التي جلت بوضوح صبر المثقف العراقي وهدئه في زمن التشنج والتوتر. والامثلة كثيرة بدأت تتنامى وتهمس من حين الى آخر فيسمع صوتها. ان اغلب مثقفينا للأسف لم يؤدوا دورهم الحقيقي كاملاً في توضيح الصورة الحقيقية للأوضاع التي جرت في عراقنا العزيز لاسباب عديدة، كحالة الجزر التي يعيشها الوعي العراقي، وقصور نظرة بعض المثقفين لهوية هذه الاوضاع، اذ نظروا اليها على انها مجرد صراعات دولية ونزاعات ايديولوجية ظرفية، في حين انها قضايا وطنية. 
ان اشد ما يتطلبه الواقع العراقي الآن، هو دور المثقف فيه، هذا الدور النهضوي المؤثر الذي ينبغي له ان يتأكد ويستمر ليشمل كل ما تشهده الساحة العراقية، فلا ينبغي للمثقف العراقي اليوم ان يكون محايداً فيما يشهده العراق بل تقع على عاتقه تحمل مسؤولية تاريخية خطيرة. 
التضحية اذن مطلوبة، وعلى المثقف العراقي اعادة حساباته وتأمل مواضيع قدمه وطبيعة علاقاته بما يحيط به ويتقاطع معه ويصوغ مكونات خطابه وملامح تجربته الفكرية والفنية ليستطيع بعدها ان يحدد وظيفته الجديدة في ضوء المتغيرات الواقعية المحيطة به والمتقاطعة معه في آن واحد. اذ ليس من الطبيعي ولا المعقول ان يتماثل دور هذا المثقف وتتخذ وظيفته شكلاً واحداً وثابتاً في اوقات متباينة ومراحل متناقضة، كما في الحرب والسلام او الازمات والانفراجات. 
انها بالتأكيد ليست مهمة سهلة ولكنها مطلوبة الآن اكثر من اي وقت مضى، والمطالبة بها ليست وليدة حاجة آنية وظرفية بل هي مشروع وطني مرتبط بالعراق في صيرورته وفي امتثالها لقيم التحرر والدفاع عن التراب الوطني. 
ان المثقف العراقي الفعال يتحدد حسب قدرته الفكرية والابداعية على المساهمة في خلق ثقافة عراقية متميزة جديدة ترتكز على العقلانية والعلمية والحرية واحترام حقوق الاختلاف والابتكار والابداع، فالثقافة العراقية كانت مقيدة بكثير من الممنوعات والمحرمات التي تفقدها القدرة على المغامرة واقتحام الجديد، وهذا ما ولد المثقف المدجن او الخائف. فوجد الحواجز الكثيرة التي علمت المثقف الحذر والشك، وفي بعض الاحيان الانتهازية والنفاق، لكي يتماشى مع الواقع عوضاً عن تغييره. فالمثقف الذي يمكن ان يقوم بدور فعال لا بد ان يكون قادراً على تحمل الصعاب والتضحيات او ما يمكن ان يسمى “المثقف الشهيد” فهو يناضل على جبهات عديدة على مستوى الدولة والمجتمع والافراد، وبالتالي اكثر من دور في الواقع، نظراً لعدم وجود تقسيم عمل واضح في مجتمعه التقليدي او الانتقالي. وعليه، فانه لا ينبغي ان يكون المثقف المعني محايداً فيما يشهده العراق الان. ان عليه دوراً كبيراً يستطيع من خلاله نقل الفكر الى الحياة، وان يحدد معالم المستقبل العراقي انطلاقاً من حاجة وطنه على كل الصعد، وهو بذلك يشكل النواة التي تدور حولها معطيات الحاضر والمستقبل. 
لقد مرت بالعراق ازمات عديدة، والذين استطاعوا ان يحفظوا توازنهم من مثقفيه هم قلة، والذين في هوة عميقة هم بالعشرات، وانا ارى ان بعض المثقفين الان يخونون عراقيتهم ورسالتهم بارادتهم، فعندما نقارن بين ادوارهم في الخمسينيات والستينيات وما بعد 17/ تموز/ 1968، حتى بعد 9/ نيسان/ 2003، نجد ان الفترة الاخيرة شهدت سقوط اكثر، وهذا لا يحزننا كثيراً، فالفرد ينتهي ولكن الفكر الاصيل باق. لكننا عند استقراء التاريخ نجد كل شيء واضح في تشخيص ظاهرة ان المثقف هو الخط المعارض، فاذا تحول الى خط التبرير وخلط بين كونه مفكراً سياسياً يقيم حساب التوازنات، سنجد هناك الذين التزموا بقيم ومعايير ومبادى ثابتة، وهناك الذين سقطوا مرغمين او طائعين او اعتقدوا ان تلك عقلانية. 
المثقف العراقي اليوم يبحث عن دوره الضائع او المنحسر ضمن ظروف صعبة وشديدة التعقيد والحساسية، ولا نستطيع ان نقول ان هذا المثقف فاعل في التحولات او منفعل بها، لانه ذو نظرة جزئية وانتقائية تعمل في عالم يتجه صوب كونية شاملة تسقط كثيراً من الحدود والحواجز الروحية والثقافية. 
وهنا يبرز سؤال: هل ينتج المجتمع مثقفه المتخلف؟ اي بمعنى انه محكوم بشروط مراحل تطور المجتمع وبالتالي تصعب ان لم تكن مستحيلة مهمة المثقف كأداة للتغيير. وهنا ستظهر معضلات عديدة في دور المثقف العراقي الذي قد يكون تقدمياً او اصلاحياً على مستوى الافكار، وتبقى الممارسة متخلفة. 
شخصيــــــــــاً، لا اختلف حـــــــــــــــول الوضع الهش للمثقف العراقي داخل محيطه الاجتماعي وحتى المهني -خاصة المثقف الفعال الحقيقي- الذي ما زال ينظر اليه نظرة الريبة والحذر ويحتاط منه ويتعامل معه على انه نوع من الخطر القائم الذي يهدد بعض الاشياء التي ينبغي لها ان تكرس داخل اي مجتمع ما زال لم يستوعب بعد الشروط الاساسية لتوظيف الثقافة والفن داخل قنواتها الصحيحة. وهذا المفهوم الخاطئ هو الذي جعل ويجعل العديد من المثقفين الملتزمين يعيشون حالة من الحصار المضروب عليهم، ومن التهميش الذي يفقد المجتمع او المؤسسة الثقافية نفسها في كل ما يمكن ان يستفاد منه لو وضع هذا المثقف في محله الصحيح.
بينما في الثورات الاوربية النهضوية على سبيل المثال، كان للمثقفين الدور الاساس في انبعاثها واستشراق مستقبلها. فقدم المثقفون تضحيات عظيمة، حتى الذين يحلمون فقد كانوا يضحون من اجل هذا الحلم، وفي ثورات النهضة العراقية، كان المثقفون هم الذين يضعون ايديهم على الصواب ويبعثون الحلم في المجتمع. 
انه التزام بقضية وبمثل عليا وبقيم، فمثل هذا الالتزام يحرر المثقف من الاوهام والقيود في آن معاً، ويطلق الابداع كعملية نابعة من قلب المعاناة وموجهة لمعالجة اسبابها وجذرها، ولا يحده اي اعتبار الا اعتبار الصدق والذي هو اساسا شرط رئيس من شروط الابداع.ان السبيل الى ان يأخذ المثقف العراقي دوره، هو تحريك الوضع الثقافي للمجتمع في مراجعة كل تصوراته اولا عن الثقافة، وعن الدور الذي يفترض ان تلعبه الثقافة في التوجه، ويوم يستطيع هذا المجتمع ان يصل الى التصور الصحيح الذي ينبغي له حمله عن الثقافة فسيتقدم حتماً. 
* السياسي/ المثقف 
 جدلية التقريب والاستبعاد
تميل البيروقراطية عادة الى قتل المواهب الصاعدة في المجتمع والى اعتراض طريق الناجحين منهم لانها لا تقبل بحكم موقعها دخول العناصر المثقفة الواعية في المجتمع داخل صفوفها وحتى اذا ما حصل ذلك فانها لا تضعها في مكانها الصحيح والملائم لمؤهلاتها وطاقاتها.
وفي مقابل هذا الاستبعاد والاقصاء الممارس من طرف السلطة السياسية تجاه الصفوة المثقفة، كانت ممانعة هذه الاخيرة عن تبرير ممارسات النظام الحاكم الاجرائية والقيمية (ماضياً وراهناً) فكانت الهجرة الداخلية والانغلاق على الذات من طرف المثقفين فهم موجودون في بلادهم وغير موجودين، بأجسامهم وبعملهم الروتيني ومشاكل حياتهم اليومية الصغيرة ولكنهم غير موجودين بعقولهم ولا بقدرتهم وطاقاتهم الحقيقية. فهم متفرجون سلبيون، يشاهدون الاحداث تجري امامهم ولا يساهمون فيها، وربما رأوا بلادهم كلها تتعثر امامهم، ولكنهم عاجزون عن المحاولة او إبداء الرأي او مشيحون بوجوههم عن الامر كله، يعيشون في مجردات ومطلقات لا صلة لها بضجيج الحياة من حولهم. 
لقد مثلت نهاية القرن العشرين ولادة جديدة للعالم، حيث ان قيما كبرى اجبرت على الانسحاب من التداول، في حين بدأت قواعد جديدة تفرض نفسها على التواصل، ومع ذلك، وعلى الرغم من الانعكاسات والتأثيرات الكبيرة والحاسمة لهذا التجديد في القضايا الوطنية فان الاعتزاز بالمصلحة الخاصة وعلو الشأن الشخصي والفردي على التقدير الوطني قد بلغ شأوا اصبحت معه المواطنة معيارا شكليا يستثمر في اطار اداري خالص يؤمن لصاحبه شروط الفائدة والمصلحة الفردية. 
لذلك فالشك والتناقض اللذان ميزا العلاقة بين السلطة السياسية والصفوة المثقفة لا يزالان قائمين في مسارات الحياة السياسية للبلدان التي لا تعرف تقاليد ديمقراطية ولا تعترف بمكانة المثقف ودوره في حياتها العامة.
كما ان الاعتقاد السائد هو ان المواصفات التي تميز الحاكم او السياسي هي صفات خاصة لا تتوفر عادة للمفكر او المثقف او الفنان وان اعظم فيلسوف قد يعجز عن ادارة قوية صغيرة وبالتالي فليس من نواميس المنطق البرغماتي ان يتبادل الطرفان مكانيهما. وازاء هذا الاختلاف بين طبيعتي المثقف والسياسي تتعمق روح المعاداة بين الاثنين وتزداد الفجوة بينهما اتساعاً حيث يزدري صاحب القرار السياسي حديث المفكرين والمختصين ويعاديهم بينما ينطوي اصحاب الفكر والعلم على انفسهم او يطلبون السلامة بالسكوت ويصبحون بذلك معارضين ايجابيين في منظور السلطة لانهم يقومون بما قام به مثقفو القرون الوسطى حيث يشترون سلامتهم في الاستسلام الفكري لغير ما يؤمنون به ويعتقدون فيه وبذلك يتم اغتيال العقل.
فرجال الثقافة والسياسة يحرص كلٌ منهم على ان يكون لهم رأي وحضور في قضايا الشأن العام وفي مجالاته الا ان السياسي ينكر كل الطاقات والفئات والطبقات الاجتماعية المختلفة حق وواجب بعث البلد. فالسياسي وحده يملك القوة التي لا غنى عنها لتجديد النهضة الوطنية. 
وعليه فاستحواذ السياسي على قضايا الشأن العام كان وراء تعميق الفجوة وتباعد بين المثقفين والسلطة السياسية وحيازته تلك لأجهزة السلطة لا يمكن ان تتسع لكل ذلك الاختلاف والتنوع الداخلي في البلد. 
وبصورة عامة لم تعد نظرة السلطة الرسمية المتمتعة بالسيادة والفعل الى المثقفين كطليعة المجتمع بل تنظر اليهم كأدوات للحكم في عمليات التبرير لممارساته اي ان يكونوا دعاة للنظام لاظفاء الشرعية على سياساته والترويج لها والبحث لها عن المبررات السياسية والتأصيلات الفكرية. 
وكل نظام سياسي تنطبق عليه هذه المواصفات يعتبر نظاماً فريداً من نوعه فهو نظام يعلو على التاريخ العام وعلى تطور الحركة الوطنية والفكرية بل يعلو على المجتمع ككل وبذلك فهو نظام يرتفع فوق المصالح السياسية للطبقات الاجتماعية ويرتبط بمصالح الاوليغارشية المدنية والعسكرية. 
ان الفئة المثقفة العراقية تقف اليوم حذرة منطوية على نفسها، مشتتة منعزلة عما يدور ويجري في الحياة السياسية، في شبه عجز عن بذل المجهود المطلوب للاستفادة من قيم ومنجزات العصرنة والحداثة في العالم المعاصر، وذلك من جراء ما يشوب العلاقة بين السلطة السياسية والمثقفين من مظاهر الشك وعدم الثقة، بل التناقض والعداء في الكثير من الاحيان. وهي من دون شك، علاقة تنطوي على خسارة كبيرة للبلد في انجاز المهام التاريخية، ومنها تأسيس الحرية على نحو جديد، وفي صيغها المختلفة، وتحقيق الديمقراطية التمثيلية، وكذلك المشاركة في جهود التنمية الشاملة والمستديمة باعمال الادوات العلمية والثقافية للتخفيف من عبء المكان والزمان. 
اذن فأزمة المثقفين تتشكل في تمظهرات القطيعة السياسية والثقافية مع السلطة السياسية التي غالباً ما تلجأ في سعيها لتحقيق غاياتها الى اهل الثقة بدل اهل الخبرة والمعرفة وتعمل على تعيين اولئك في وظائف ومناصب لا يحتمل غير المتخصصين في اعمالها بل في المراكز الحساسة لصنع القرار على المستويات الوطني والاقليمي وحتى الدولي. 
وفي سياق استراتيجية الاستبعاد ذاته، طغت على صورة العلاقات بين مجمع السلطة والصفوة الثقافية مظاهر عدم الثقة واستنكاف هذه الصفوة من المشاركة في استثمار العلم والثقافة للتفكير والتخطيط لقضايا الدولة والمجتمع. 
ولكن مع التقدم السريع والهائل في كافة مجالات الحياة السياسية الداخلية والدولية صارت الامور المطروحة على السلطة كثيرة ومتنوعة الى ابعد الحدود فصار من المستحيل على صانعي القرار اتخاذ القرارات الملائمة في كل هذه المجالات دون الاستناد الى دراسات واراء الطبقة المثقفة والعالمة في تلك القضايا. 
وبسبب تشعب وتعقد ما يواجه السلطة من نوازل فان حاجتها الى التخصصات المختلفة علمياً والخلفيات المتنوعة ثقافياً كان وراء استنجاد السلطة السياسية بالمثقفين وبخاصة بعد تيار العولمة الجارف من اجل مواجهة مجمل التحولات المتبادلة الحاصلة بين ما هو دولي وما هو وطني وتداخلهما. وليس معنى هذا تحويل المفكرين الى موظفين مستكنين في دواليب اجهزة الدولة بل الاستفادة من خبرتهم وعلمهم بواسطة اللجان المؤقتة التي تتشكل من اهل الفكر والخبرة في المجالات المختلفة لدراسة قضية معينة ثم تنتهي مهمتهم بانتهاء مهمة اللجنة واستنفاد موضوع تلك الدراسة. 
وهذه الممارسات ذاتها هي التي تدفع بالمثقفين الى الاختلاط بمشاكل الحياة السياسية كما تدفع بأصحاب القرار السياسي ايضاً الى تنمية اهتماماتهم العلمية والثقافية وتكون السلطة السياسية بذلك قد عمدت الى آلية استقطاب المثقفين وادماجهم في انجاز المشروعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والوطنية. 
ان المراحل الانتقالية عادة ما تحفل بالعديد من العيوب والاخطاء لان كثيراً من احلام المثقفين لم تتحقق بل ان الكثير من مظاهر القديم الذي كان عليه ان يختفي ما زال مستمراً بالحيلة او بالقوة في حين لا يبدو الجديد واضحاً تماماً وهذا بالذات يصل الانفصام السياسي الى مداه حيث التمزق بين الواقع والمثال واذ ذاك تصبح السلطة هي الصواب المطلق والحقيقة الاجتماعية هي الخطأ المطلق. 
وهكذا يتم الطلاق النهائي بين الفكر والسلوك حينما تغدو السلطة السياسية معياراً للحركة الاجتماعية والفكرية في خطأها وصوابها، مع كل ذلك فقد استطاعت الصفوة المثقفة ان تشب عن هذا الطوق وتؤثر في التفكير العام لبلادها متحدية مختلف الضغوط القديمة منها والجديدة. 
وعندما تعلو اصوات بعض المثقفين فهم لا يدركون ان اصواتهم تلك تمثل صورة خطاب سياسي مسكون بنبرة انتقادية معارضة لواقع سياسي راكد وهي في الآن نفسه مهووسة بضرورة التحديث المؤسسي والفكري حيث تدعو هذه الاصوات الى طرح مفهوم النضال الثقافي/ السياسي في اطار رؤية مشتركة ذات حمولات اجتماعية يحددها الوعي بقيمة الوجود الانساني في مجتمع التمايز اولاً، ولانها اصوات مؤهلة لتنمية الوعي وتعميقه بمجمل المؤسسات التي يتشكل منها المجتمع، وبتحديد وظيفة كل مؤسسة بل بانشاء شبكة من العلاقات الجديدة في المجتمع ثانياً. 
ان فعل وتأثير هذا المركب الثقافي/ السياسي بكل ابعاده مؤهل لكي يعيد ترميم وظائف ومؤسسات المجتمعين المدني والسياسي كما انه مؤهل ليرد الاعتبار لادوار المدرسة والجامعة والحزب السياسي والنقابة والاذاعة والتلفزة والصحف والمجلات والكتب في سياق العولمة الجارفة.. فكل هذه المستويات لها تأثيرها اليومي والتاريخي في الحياة السياسية، لذا فان غياب اي تخطيط علمي او تفكير منهجي يجعل آلية التغيير السياسي والمجتمعي تفقد طابعها الانتقالي ووجهتها السليمة فاسحة في المجال للتغيير العشوائي والفجائي. لذلك فحضور المثقف سيعمد الى ابتكار منظومة قيمية مركبة من الاخلاق والمنطق والعلم والفن لانها هي التي تحدد المجال والمناخ العام للانشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لانه من الصعب تصور بناء اختبارات سياسية ذات بعد استراتيجي داخلياً او دولياً من دون امتلاك المجتمع لمنظومة فكرية وتاريخية تكون مرشداً للعمل وآلية لاضفاء الشرعية على الممارسات السياسية للنظام. 
وهنا يثار التساؤل الجوهري عن العلاقة بين الثقافة والسياسة وهي مما لا شك فيه علاقة عضوية ولذلك فان انتماء المثقف سياسياً وسواء أكان مجرد محطة لفهم ما يجري ام مشاركة في تحمل المسؤولية السياسية في اطار التداول على السلطة فان المثقف وفعله الثقافي يظلان نبراساً للسبيل السياسي وآلية لمراقبة سير دواليب الدولة التي عادة ما تنزع بحكم تموقعها السلطوي الى ممارسة الهيمنة. 
والمثقف وهو ينخرط في العمل السياسي عليه ان يختار موقع المعارضة السياسية وليس الممانعة الثقافية ويقوم بمراقبة الجهاز الذي ينتمي اليه او يشغل فيه كما ان عليه ان يتساءل في كل لحظة عن مدى فعالية ما يقوم به وما ينتجه وان يستوعب مجمل التحولات الوطنية والدولية ويسخرها لتحقيق اقصى قدر من التنمية الشاملة والمستديمة لبلده. 
ومن البديهي ان الدولة والمجتمع في سعيها لتحقيق متطلب الرفاه الاقتصادي والنمو السياسي يفسحان في المجال في مؤسسات المجتمع المدني والسياسي لكل الطاقات العارفة والعالمة بغض النظر عن التنوع الفكري والانقسام السياسي لها، لما في ذلك من فوائد لتحسين اداء الوسيط السياسي (الحزب) بين الحاكم والمحكوم او لخلق المناخ الملائم والطبيعي للتنافس بين مختلف مكونات المجتمع، لئلا يفقد هذا الاخير قدرته على خلق القيم والمعايير المشتركة التي تعتبر قاعدة وحدته واتساقه. 
كما يجب ربط كل ذلك بالاختيارات الاستراتيجية للمجتمع والقائمة على تدعيم الديمقراطية وتأسيس الحرية حيث يمكن للمثقف ان يساهم بفعالية في تجسيد هذه الاختيارات وتنمية الوعي بها في المجتمع وداخل الهيئات المدنية والسياسية والثقافية والمثل الاعلى للمثقف السياسي هو قيامه بابراز القيم المحورية والتعبير عنها ومواكبة تجسيدها. ولقد كان المثال المحتذى، المثقف في البلدان النامية متمثلاً في ملاحقة الفعل السياسي/ الليبرالي/ الاجتماعي والدستوري لسلطات الدولة ومؤسساتها.
ولتحقيق انخراط المثقف في استراتيجية التنمية الاقتصادية والسياسية بشكل مؤسسي، لا بد من ادخال بعض التغيرات البنيوية على الحياة العامة، ومنها تغير النظام الانتخابي واعتماد الانتخابات باللائحة، حتى يتسنى للوسط السياسي (الحزب) ان يعيد تنظيم نفسه اولاً، وان يدمج في لوائحه مثقفي الحزب او الثقافة ثانياً، وهذا ما سيخرج المثقف من براثن عزلته وانزوائه وادماجه في الحياة الحزبية والمؤسسية في سياق اختيارات الديمقراطية التمثيلية. 
* اوهام المثقف العراقي
هناك اوهام عدة طالما وقع المثقف العراقي اسير احدها او اسيرها جميعاً، في مراحل متعاقبة، فتضاءل انفعاله بالتحولات وانعدام فعله او تلاشى ازاءها. وفي ضوء ذلك نشير الى وهمين، الاول: هو شعور هذا المثقف بضآلة التأثير وصولاً الى الاحساس بالعجز المطلق عن اي فعل في مجريات الامور التي تدور حوله، مما يقوده الى الانغلاق الكامل والتوقع في دوائر ضيقة، والتحول الى السلبية المطلقة المحفوفة بتشاؤمية مبالغ فيها في نظرته الى الامور. ووراء هذا الوهم دون شك جملة اسباب تتصل بالظروف الذاتية للمثقف ذاته واحياناً بالظروف الموضوعية او العامة المحيطة. والوهم الثاني: والذي كثير ما يتداخل في حياة المثقف مع الوهم الاول بل يقوده اليه في كثير من الاحيان، وهو ذلك الاحساس المبالغ فيه الذي يقع المثقف فريسة له، وهو انه قادر بكلمة او خطبة او موقف او اطلالة اعلامية او قصيدة ملتهبة ان يغير مجرى تاريخ في بلده، انه احساس بدور رسالي او تاريخي او استثنائي انتدبته العناية الالهية او القدر للاضطلاع به، انه تداخل الاسطورة بالبنية النفسية التي لم تحتك بالواقع الحقيقي فيصلها، وتدرك تعقيداته فتستمد من معالجتها خبرة، وقوة وتحيط بقوانينه وتتمرس بتحدياته فتصبح اكثر نضجاً. 
ان المثقف العراقي للأسف يعيش على وهم انه ينتمي الى النخبة المستنيرة القادرة على قيادة المجتمع وتغيير البنيات والذهنيات الجامدة وبناء المجتمع الجديد، مجتمع العقلانية والحرية والعدل والديمقراطية والحداثة، بينما رجل السلطة الذي يحتكر القرار والسطوة، وبالتالي الديمقراطية، لا يهمه الا احتكار السلطة وجمع الثروة من اي وجه او مصدر كان. 
وفي تقديري، ان اكثر مثقفينا يتصورون الامر على هذا الشكل او قريبا منه، ولكننا لم نصنع مثقفا واحداً ولا طبقة متجانسة فاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية، متفاعلة مع العالم تمتلك من الجرأة العلمية، واستقالة الرأي، وسعة الافق، ورصانة المشروع الفكري ما يؤهلها لان تحدث تأثيرها المنشود في القرار السياسي. 
ان هذين الوهمين اللذين تجاذبا العديد من المثقفين العراقيين، على رغم تناقضهما الظاهري يشتركان في كونهما نابعين من مصادر متقاربة الى حد كبير. فكلا الوهمين ناشئ عن ابتعاد هؤلاء المثقفين عن معايشة الواقع الحي بكل تعقيداته وتدخلاته، سواء المضيء منه الذي يبعث على الامل او الظلم الذي يقود الى القنوط. وكلا الوهمين ناشئ ايضاً عن ضعف فكرة الالتزام لدى هذا المثقف. والمقصود بالضعف هنا ليس قلة عدد الملتزمين من المثقفين بل المقصود به بالدرجة الاولى تلك التشويشات الشائعة العالقة بمفهوم الالتزام. فالمقصود ليس الالتزام العقائدي الضيق او السياسي المباشر، فيرتبط الالتزام بالتعصب والضيق بالرأي الآخر بل ويصبح مناقضاً للحرية التي هي اول شروط الابداع وانما المقصود هو الالتزام الحقيقي، فهو اوسع من تلك المفاهيم بكثير. انه التزام بقضية وبمثل عليا وبقيم، فمثل هذا الالتزام يحرر المثقف من الاوهام والقيود في ان معاً، ويطلق الابداع كعملية نابعة من قلب المعاناة، وموجهة لمعالجة اسبابها وجذورها ولا يحده اي اعتبار الا اعتبار الصدق الذي هو اساساً شرط رئيسي من شروط الابداع. 
إن عرض هذه الاوهام بتجلياتها واسبابها ومصادرها الفكرية والاجتماعية يلخص في الوقت ذاته مظاهر ازمة الفعل لدى المثقف العراقي امام الهجمة الفكرية والاقتصادية المرافقة للغزو/ الاحتلال العسكري والسياسي،   وما اعقبه … وبالتالي لا بد ان يكون فاعلاً ازاء التحولات القادمة المرتقبة، واحياناً يقلص مساحات انفعالاته بالتحولات، فيرى لفرط بأسه غير معني بها وغير آبه بانعكاساتها، والتحرر من هذه الاوهام بالخروج من ازمة الفعل والتأثير يتطلب تميزاً بين اصناف المثقفين العراقيين وبالتالي بين وسائل قدرتهم على التأثير والفعل ازاء التحولات..
كما ان هناك شأن آخر كان وما يزال اكثر ايلاما، هو طريقة تعامل مسؤولي مؤسساتنا الاعلامية والثقافية مع هذا المثقف، ولدت احباط له. فالعديد من هؤلاء كان ينظر اليه نظرة ملؤها الشك والحذر والريبة، اما بسبب مركبات النقص التي تلفهم تجاه مثل هكذا مثقف او بسبب الطبيعة التسلطية التي تجعلهم ينظرون الى المثقف الحر الفعال كمشروع معارض او متمرد او ثائر عليهم وعلى مؤسساتهم، فاما ان يخضعونه بالاغراء او يسعون الى شطبه بالتهديد والحجر. فمثل هكذا مثقف الذي غالباً ما يواجه من قبل هؤلاء بالازدراء او الحذر يشعر بالقلق والخوف والشعور بالعجز. فيسارع الى الانكفاء والانزواء والانصراف الى تدبير امور حياته اليومية خوفا من عواقب الالتزام المبدئي. 
* مرتجيات مؤجلة
ان كان لا بد للمفكر/ المثقف العراقي من ان يعيش تحت وطأة نظام اجتماعي سياسي يسعى بكل السبل لتسخيره لخدمة اهدافه، سواء اشتغل في مؤسسة رسمية او في عمل حر، وان ايدي سلطة اي نظام سياسي يتعرض له بالانتقاد قادرة على ان تطاله في اي بقعة من هذه الارض، فان اعتماده على مجرد حسن نوايا السلطة وقدراته الفكرية للتأثير في احداث مجتمعه يبدو في الواقع قليل الجدوى في وسط تسوده الامية، ويغلب عليه التخلف وغياب الحوار الديمقراطي الحر والانتقاد البناء. 
ولا يبدو ان الانتلجنسيا المنفصلة عن الواقع العلمي التي تتشكل من افراد مثقفين متقدمين حالياً قادرة هي ايضاً على تغيير الاوضاع المتردية في العراق. ولا المحاولات التلفيقية التي يتبناها مثقفو السلطة تحت شعار محاولة التكيف وتقديم الاستشارات لانقاذ ما يمكن انقاذه، ادت الى اي تحسن يذكر في الاوضاع الراهنة. 
ولذلك يبقى الامل معقوداً على عمل قلة من المفكرين الانتقاديين الملتزمين الذين ينطلقون في تفكيرهم اساساً من دراسة وفهم واقع الجماهير المغلوبة على امرها، من اجل ايقاظ الجماهير المنومة التي ما زالت تغط في سبات عميق، رغم الاخطار المحدقة بها من كل جانب. وهذا يتطلب من هؤلاء المفكرين الاهتمام بالهموم اليومية لهذه الجماهير ومخاطبتها مباشرة فيما يكتبون وما يقولون. فالمثقفون بصورة عامة ما زالوا يكتبون لانفسهم ويخاطبون بعضهم بعضاً بلغة لا يفهمها الا القليلون غيرهم. يستوي في ذلك المهتمون بالقضايا الجزائية القطرية العراقية او القضايا الكلية العربية. ولذلك بقيت كتاباتهم ضرباً من الترف الفكري، لم تتأثر بها الجماهير، ومن ثم لم تثر اهتمام السلطة ايضاً ما دامت لم تحرك ساكناً. وبقي اصحابها وحدهم بما لديهم فرحون. ان مهمة التغيير الى الافضل تتطلب تضافر جهود كل المفكرين/ المثقفين العراقيين، المؤمنين بفاعلية الفكر الخلاق والانتقاد البناء، سواء المتهمين بالواقع الخاص او بالتصورات المستقبلية العامة المكملة له. وانطلاق ابحاثهم من واقع مجتمعهم وتجاربه التاريخية، ودراسة تركيباته الاجتماعية والسياسية دراسة مكثفة وتحليل اوضاعه تحليلاً علمياً انتقادياً دقيقاً، وتفسير النتائج في اطار الثقافة العربية التي هي اهم اساس موحد للمجتمعات العربية كافة، التي تشكل منطقة ثقافية واحدة رغم ما بها من تنوع داخلي. والبحث المستمر عن الحقيقة بغض النظر عن طرق البحث التي تستعمل في سبيل الوصول اليها. لان البحث عن الحقيقة في حد ذاته يعتبر منطلقاً اساسياً للثورة المستمرة ضد الباطل. على ان يكون الهدف الاساسي من وراء كل ذلك هو تحرير الانسان الذي هو اساس كل ابداع وتقدم، والسعي الى تحقيق مجتمع عراقي افضل نحترم فيه شخصية الانسان، وتصان كرامته في ظل نظام ديمقراطي عادل يوفر له الحرية والامن والاطمئنان. ومجتمعنا العراقي لا تعوزه الامكانيات البشرية والمادية والفكرية لتحقيق ذلك. 
التوثيق :
بعض المراجع التي استعنا بها اعتمدناها للمراجعة والتوكيد والاستقراء لما ورد في الدراسة .
1- احمد سالم الاحمر – المثقف العربي واقعه ودوره، مجلة دراسات عربية (بيروت/ باريس)، العدد 7، السنة 26 (ايار/ 1990). 2- افرام داود شبيرا –دور المثقفين في التحولات الاجتماعية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية القانون والسياسة، جامعة بغداد، 1979.
3- أمين البرت الريحاني – اقاليم النفس المتمادية، في نقد الادب والثقافة، ط1، دار الجديد، بيروت، 1996. 
4- عبد المالك ابراهيمي – قبل كل شيء.. الجزائر في حاجة الى الحوار، مجلة العربي (الكويت)، العدد 541 (كانون الاول/ 2003).
5- غالي شكري – لا مفر للأديب من المؤسسة، مجلة الوطن العربي (باريس)، العدد (؟).
6- محمد بن صينيان – النخب السعودية، دراسة التحولات والاخفاقات، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004. 7- مجموعة من الباحثين – المثقف العربي.. همومه وعطاؤه، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001. 
8- مجموعة من الباحثين – الثقافة والمثقفين في الوطن العربي، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002.               
 [email protected]